المتن:
الشرح:
500 قوله: «وَمَعَنَا عُكَّازَةٌ، أَوْ عَصًا، أَوْ عَنَزَةٌ» ، فكان النبي ﷺ تُحمل له العُكَّازة والعصا والعَنَزة فيركزها ويصلي أمامها، ففيه مشروعية الصلاة إلى السترة، وهذا هو الشاهد للترجمة.
قوله: «نَاوَلْنَاهُ الإِْدَاوَةَ» ؛ الإداوة: إناء صغير مصنوع من جلد، يوضع فيه الماء لِيُتوضأ ويستنجى به.
وكان النبي ﷺ يستنجي بالماء، وربما اكتفى بالحجارة ـ ولو مع وجود الماء ـ فهي كافية إذا كانت من حجر أو خشب أو طين متحجر أو ورق منق بشرط أن تكون ثلاث مسحات فأكثر، ولم يتجاوز الخارج موضع العادة، ويسن القطع على وتر. وربما جمع بين الحجارة والماء، وهذا أفضل.
المتن:
باب السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا
501 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْهَاجِرَةِ فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَنَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةً وَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ.
الشرح:
قوله: «بَاب السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا» ، يعني: لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة للمصلي، وهذا للرد على من قال: إن مكة مستثناة، وإنه لا تشرع فيها السترة.
فيشرع للمصلي أن يتخذ السترة في مكة وغير مكة، لكن في المسجد الحرام خاصة دون سائر بقاع مكة في حال اشتداد الزحام يعفى عن المرور ولا يشرع وضع السترة؛ لأن الإنسان لا يتمكن من وضع السترة في المسجد الحرام، ولا سيما في موسم الحج أو في رمضان، وعليه ففي هذه الحالة لا يؤثر المرور بين يدي المصلي على الصحيح، ولا يقطع الصلاة مرور المرأة؛ لأنه مظنة الزحام، وكذلك كل موضع يكون فيه زحام ـ كالمسجد النبوي وغيره ـ لا يشرع فيه وضع السترة؛ لقول الله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البَقَرَة: 286]، وقوله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحَجّ: 78].
501 وفي حديث الباب ـ حديث أبي جحيفة ـ أن النبي ﷺ خرج بالهاجرة ـ يعني وسط النهار ـ «فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ» ؛ يعني: بطحاء مكة، وهي مسيل الوادي بين مكة ومنى، أي الذي يجري فيه السيل، وهي المكان المسمى الآن العزيزية. والبطحاء: حصا صغار.
فكان النبي ﷺ ينزل ويصلي بالبطحاء في حجه، ولا يدخل المسجد الحرام، بل ينزل بالبطحاء فتنصب له خيمة ويصلي فيه الأوقات كلها حتى يجيء اليوم الثامن من ذي الحجة، ثم يدفع إلى منى.
قوله: «وَنَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةً» ؛ هذا هو الشاهد للترجمة، فالنبي ﷺ وضعت له السترة وهو في بطحاء مكة، فدل على أن مكة كغيرها لابد فيها من السترة، ولا يستثنى إلا المسجد الحرام خاصة؛ لاشتداد الزحام، فـ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ، وإذا خف الزحام في غير أوقات المواسم فيشرع للإنسان أن يتخذ السترة. وعليه فالقول بأن مكة مستثناة لا وجه له.
وقوله: «فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ» ؛ أي: جعلوا يأخذون القطرات التي تتقاطر من وضوئه ﷺ ويتمسحون بها، فيمسحون وجوههم وأجسادهم؛ لما جعل الله في جسمه وشعره ﷺ من البركة، وهذا خاص به ﷺ. فكان ﷺ إذا تنخم سقطت في يد واحد فدلك بها جسمه ووجهه، ولما حلق رأسه في حجة الوداع أعطاه أبا طلحة ليوزعه على الناس، فيعطيهم الشعرة والشعرتين يتبركون بها[(1193)]، ولما نام عند أم سليم ـ وكان بينه وبينها محرمية ـ وعرق في القائلة، سلتت عرقه وجعلته في قارورة، وجعلته مع طيبها وقالت: إنه لأطيب الطيب[(1194)].
وهذا من خصوصياته ﷺ، أما غيره فلا يقاس عليه، فلا يتبرك بغيره؛ لأن الصحابة لم يتبركوا بأبي بكر ولا عمر ولا غيرهما، فهذا خاص به ﷺ؛ لما جعل الله في فضلاته وما مس جسده من البركة.
والبخاري رحمه الله في هذه الترجمة، وهي قوله: «بَاب السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا» ؛ أراد أن يبين أنه لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، وأن الحديث الوارد في أن النبي ﷺ صلى وليس بينه وبين الكعبة سترة[(1195)] حديث ضعيف معلول، وهو الذي استنبط منه بعض العلماء أن مكة ليس لها سترة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال ابن المنير: إنما خص مكة بالذكر دفعًا لتوهم من يتوهم أن السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا الكعبة، فلا يحتاج فيها إلى سترة. انتهى».
والصواب: أن مقصود المؤلف أن يبين أن الحديث الوارد في أن مكة مستثناة حديث ضعيف.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والذي أظنه أنه أراد أن ينكت على ما ترجم به عبدالرزاق حيث قال: باب لا يقطع الصلاة بمكة شيء، ثم أخرج عن ابن جُريج عن كثير بن كثير بن المطلب عن أبيه عن جده قال: رأيت النبي ﷺ يصلي في المسجد الحرام ليس بينه وبينهم ـ أي الناس ـ سترة[(1196)]، وأخرجه من هذا الوجه أيضًا أصحاب السنن[(1197)]، ورجاله موثقون إلا أنه معلول؛ فقد رواه أبو داود[(1198)] عن أحمد عن ابن عيينة قال: كان ابن جريج أخبرنا به هكذا، فلقيت كثيرًا فقال: ليس من أبي سمعته ولكن عن بعض أهلي عن جدي.
فأراد البخاري رحمه الله التنبيه على ضعف هذا الحديث وأن لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة، واستدل على ذلك بحديث أبي جحيفة، وقد قدمنا وجه الدلالة منه».
فحديث أبي جحيفة من أصح الأحاديث، وفيه أن النبي ﷺ صلى في بطحاء مكة ومع ذلك جعلت العَنَزة أمامه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهذا هو المعروف عند الشافعية، وأن لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها».
وهذا هو الصواب، لكن يعفى عن المرور إذا اشتد الزحام في المسجد الحرام؛ فهذا من باب الضرورة، ولاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة».
فالصواب: أن مرور الطائفين لا يقطع الصلاة؛ لأن النبي ﷺ كان يصلي والطائفون يمرون من بين يديه، ولأن الطائفين حقهم مقدم، فهذا مكان الطائف، فلا يقال له: قف حتى لا تمر بين يدي المصلي، والممنوع غير الطائفين.
ثم قال رحمه الله: «وعن بعض الحنابلة جواز ذلك في جميع مكة».
وهذا ضعيف كما سبق؛ لأن النبي ﷺ كان يصلي ـ كما في حديث أبي جحيفة ـ في بطحاء مكة ومع ذلك جعلت أمامه العَنَزة.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقد اختلف العلماء في حكم مكة في السترة: هل حكمها كحكم سائر البلدان، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أن حكمها في سترة الصلاة حكم سائر البلدان، وهو اختيار البخاري وقول الشافعي، وحكي رواية عن أحمد.
وروي نحوه عن ابن عمر، قال أبو نعيم الفضل بن دكين في كتاب الصلاة: ثنا جعفر بن برقان، عن يزيد الفقير، قال: كنت أصلي إلى جنب ابن عمر بمكة، فلم أر رجلاً أكره أن يُمر بين يديه منه. ثنا عبد العزيز الماجشون، عن صالح بن كيسان، قال: رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة، فلا يدع أحدًا يمر بين يديه يبادره، قال: يرده. وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن يحيى بن أبي كثير، قال: رأيت أنس بن مالك في المسجد الحرام قد نصب عصا يصلي إليها.
القول الثاني: أن مكة تجوز الصلاة فيها إلى غير سترة، والمرور بين يدي المصلي من غير كراهة في ذلك، وهو قول طاوس وعطاء وأحمد، نص عليه في رواية ابن الحكم وغيره.
وكان محمد بن الحنفية يصلي بمسجد منى، والناس يمرون بين يديه، فجاء فتى من أهله، فجلس بين يديه. وروى ابن جريج، عن ابن أبي عمار قال: رأيت ابن الزبير طاف بالبيت، ثم جاء فصلى، والطُّوَّاف بينه وبين القبلة، قال: تمر بين يديه المرأة فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدميها. واستدل الإمام أحمد بحديث المطلب بن أبي وداعة، وقد خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية ابن جريج، عن كثير بن كثير، عن أبيه، عن المطلب بن أبي وداعة، قال: رأيت النبي ﷺ إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحاذي بالركن، فيصلي ركعتين في حاشية المطاف، وليس بينه وبين الطُّوَّاف أحد[(1199)].
وخرجه الإمام أحمد ـ أيضًا ـ عن ابن عيينة، قال: حدثني كثير بن كثير بن أبي وداعة، سمع بعض أهله يحدث عن جده أنه رأى النبي ﷺ يصلي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه ليس بينهم سترة[(1200)].
قال ابن عيينة: وكان ابن جريج أخبرنا عنه، فقال: ثنا كثير، عن أبيه، فسألته، فقال: ليس من أبي سمعته ولكن من بعض أهلي، عن جدي، أن النبي ﷺ صلى مما يلي باب بني سهم، ليس بينه وبين الطُّوَّاف سترة.
وخرجه أبو داود عن الإمام أحمد[(1201)].
وقد تبين برواية ابن عيينة هذه أنها أصح من رواية ابن جريج، ولكن يصير في إسنادها من لا يعرف.
وقد رواه غير واحد عن كثير بن كثير كما رواه عنه ابن جريج. وصلاة النبي ﷺ بالأبطح إلى العَنَزة لا يعارض حديث المطلب؛ لأن حديث المطلب دل على جواز الصلاة بمكة إلى غير سترة، وحديث أبي جحيفة دل على جواز الصلاة بمكة إلى سترة، وقد نص أحمد على أن مكة مخصوصة من بين البلدان بذلك.
ومن أصحابنا من قال: إن حكم الحرم كله كذلك، ولو قيل: إن الصلاة إلى غير سترة مختص بالمسجد الحرام وحده دون بقاع مكة والحرم لكان جمعًا بين الحديثين متوجهًا».
يعني: لم يقل به أحد، ولو قيل لكان جمعًا.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وكلام القاضي أبي يعلى في كتابه الجامع الكبير يدل عليه، وصرح به غيره من أصحابنا».
والصواب: أنه لا يستثنى الحرم إلا في الضرورة إذا اشتد الزحام خاصة، أما إذا لم يشتد الزحام فحكمه كحكم غيره؛ لأن النبي ﷺ صلى في البطحاء وجعل السترة أمامه.
المتن:
باب الصَّلاَةِ إِلَى الأُْسْطُوَانَةِ
وَقَالَ عُمَرُ: الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنْ الْمُتَحَدِّثِينَ إِلَيْهَا.
وَرَأَى عُمَرُ رَجُلاً يُصَلِّي بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ فَأَدْنَاهُ إِلَى سَارِيَةٍ فَقَالَ: صَلِّ إِلَيْهَا.
502 حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ فَيُصَلِّي عِنْدَ الأُْسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلاَةَ عِنْدَ هَذِهِ الأُْسْطُوَانَةِ؟ قَالَ: فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَتَحَرَّى الصَّلاَةَ عِنْدَهَا.
الشرح:
قوله: «إِلَى الأُْسْطُوَانَةِ» ؛ الأسطوانة هي: السارية أو العمود الذي يكون في المسجد، والصلاة إلى الأسطوانة أبلغ من السترة؛ لأنه جدار قائم؛ ولهذا قال عمر: «الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنْ الْمُتَحَدِّثِينَ إِلَيْهَا» ، أي: إذا كان هناك جماعة يتحدثون عند السارية فالمصلي أحق بها منهم.
قوله: «ورأى ابن عمر رجلاً يصلي بين أسطوانتين فأدناه إلى سارية فقال: صل إليها» ، أي: كان يصلي بين عمودين، فأخره ابن عمر رضي الله عنهما إلى سارية وجعلها أمامه؛ سترة له.
ويؤخذ من فعل ابن عمر جواز أن يُكلم المصلي إذا كان لحاجة، ولكن لا يشرع للمصلي أن يرد.
وأما ما ورد من النهي عن الصلاة بين السواري[(1202)]، فهذا في صلاة الفريضة في الجماعة، لا يصلون بين السواري؛ لما فيه من قطع الصفوف، إلا إذا امتلأ المسجد واحتاج الناس لهذه الأماكن لكثرة المصلين فلا بأس، أما إذا كان هناك سعة فلا يصلون بين السواري.
502 في الحديث: مشروعية الصلاة إلى العمود وإلى السارية.
المتن:
503 حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ كِبَارَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ.
وَزَادَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَنَسٍ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ ﷺ
الشرح:
503 في الحديث فائدتان:
الفائدة الأولى: مشروعية الصلاة إلى السارية واتخاذها سترة.
الفائدة الثانية: مشروعية صلاة ركعتين بعد أذان المغرب وقبل الصلاة، وأنها مستحبة؛ خلافًا لمن كره ذلك، واحتج بأن المغرب وقته قصير لا يتسع إلا لمقدار ثلاث ركعات، وأنه ينبغي إقامة الصلاة بمجرد أن ينتهي المؤذن، وهذا غلط؛ لأنه أولاً ينبغي له أن يراعي الجماعة، وثانيًا لأنه خالف السنة، فالنبي ﷺ لم يكن يفعل ذلك، بل كان ينتظر بعض الشيء حتى إن الناس يبتدرون السواري فيصلون ركعتين ثم يذهبون إلى الصف.
وظاهر الحديث أن كل واحد من الصحابة كان يبتدر سارية يصلي أمامها، فإذا انتهى ذهب إلى الصف، فدل على أن وقت المغرب وقت متسع، وأنه يشرع للإنسان أن يصلي ركعتين بين الأذان والإقامة، ويدل على ذلك أيضًا الحديث الآخر، أن النبي ﷺ قال: صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ المَغْرِبِ؛ ثم قال في الثالثة: لِمَنْ شَاءَ؛ كراهية أن تتخذ سنة[(1203)]؛ أي: لئلا يُظن أنها واجبة؛ فالأصل في الأمر الوجوب؛ فلو لم يقل: لِمَنْ شَاءَ؛ لأخذ من ذلك الوجوب، فلما قال: لِمَنْ شَاءَ؛ صرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب.
وفي الحديث: مشروعية الصلاة إلى السترة والسارية؛ فالسارية أشد سترة من الحربة.
وفيه: الرد على من أنكر صلاة ركعتين قبل المغرب.
المتن:
باب الصَّلاَةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ
504 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْبَيْتَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَبِلاَلٌ فَأَطَالَ ثُمَّ خَرَجَ؛ وَكُنْتُ أَوَّلَ النَّاسِ دَخَلَ عَلَى أَثَرِهِ فَسَأَلْتُ بِلاَلاً أَيْنَ صَلَّى؟ قَالَ: بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ.
الشرح:
504 استدل المؤلف بهذا رحمه الله الحديث على جواز الصلاة بين السواري إذا لم يكن هناك جماعة، أي: يجوز له أن يصلي بين عمودين إذا كان منفردًا، لكن الأفضل والمستحب الصلاة إلى السترة.
وأُخذ من هذا الحديث ـ حديث ابن عمر ـ أن النبي ﷺ دخل البيت ـ يعني الكعبة ـ وهذا في غزوة الفتح، ودخل معه أسامة بن زيد؛ لأنه كان ملازمًا له، وعثمان بن طلحة الحجبي؛ لأنه سادن الكعبة، وبلال، فكانوا أربعة، فأغلقوا عليهم الباب وأطالوا، ووقف ابن عمر أمام الباب يتمنى الدخول؛ لحرصه على معرفة السنة، لكن لم يتيسر له ذلك فوقف أمام الباب، وصلى النبي ﷺ بين ساريتين؛ لأن الكعبة كانت تقوم على ستة أعمدة، وسيأتي في الحديث الذي بعده وصف المكان الذي صلى فيه.
واستدل المؤلف رحمه الله بهذا الحديث على جواز الصلاة بين الساريتين في غير الجماعة، وأن النهي عن الصلاة بين السواري إنما هو في حال الجماعة، أما المنفرد فلا بأس أن يصلي بين الساريتين.
المتن:
505 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلاَلٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ، وَمَكَثَ فِيهَا فَسَأَلْتُ بِلاَلاً حِينَ خَرَجَ مَا صَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَثَلاَثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ ثُمَّ صَلَّى.
وَقَالَ لَنَا إِسْمَاعِيلُ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ وَقَالَ: عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ.
الشرح:
505 في الحديث: وصف المكان الذي صلى فيه النبي ﷺ لما دخل الكعبة ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي، فالكعبة كانت تقوم على ستة أعمدة، ثلاثة أعمدة من الأمام، وثلاثة من الخلف، والنبي ﷺ جعل عمودين عن يمينه، وعمودًا عن يساره، وثلاثة أعمدة خلفه، وكذلك خلفه باب الكعبة، وجعل بينه وبين الجدار الغربي مقدار ثلاثة أذرع، وصلى في هذا المكان، وهذا وصف بلال لابن عمر. وأخذ العلماء من هذا أن مسافة السترة تكون ثلاثة أذرع؛ لأن النبي ﷺ جعل بينه وبين الجدار الغربي ثلاثة أذرع، فدل على أنه إذا لم يتخذ المرء سترة فلا بأس بمرور المار فوق الثلاثة الأذرع؛ يعني أن هذا هو الحد الأعلى.
والشاهد: أن النبي ﷺ صلى بين السواري؛ وذلك لأنه منفرد، والمنفرد لا بأس أن يصلي بين السواري، والأفضل أن يجعل السارية سترة له، أما الجماعة فلا يصفون بين السواري خلف الإمام؛ لما فيه من قطع الصفوف، إلا إذا احتاجوا إلى ذلك لامتلاء المسجد وكثرة المصلين فإن الكراهة تزول.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «إنما قيدها بغير الجماعة؛ لأن ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوب. قال الرافعي في شرح المسند: احتج البخاري بهذا الحديث ـ أي حديث ابن عمر عن بلال ـ على أنه لا بأس بالصلاة بين الساريتين إذا لم يكن في جماعة، وأشار إلى أن الأولى للمنفرد أن يصلي إلى السارية، ومع هذه الأولوية فلا كراهة في الوقوف بينهما أي للمنفرد، وأما في الجماعة فالوقوف بين الساريتين كالصلاة إلى السارية انتهى كلامه. وفيه نظر لورود النهي الخاص عن الصلاة بين السواري، كما رواه الحاكم من حديث أنس بإسناد صحيح، وهو في السنن الثلاثة وحسنه الترمذي[(1204)]».
والمقصود: أن النهي إنما هو للجماعة، أما الواحد فلا حرج أن يقف بين الساريتين.
المتن:
الشرح:
506 في حديث ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا دخل الكعبة مشى قِبَلَ وجهه وجعل الباب قِبَلَ ظهره، حتى يكون بينه وبين الجدار الغربي ثلاثة أذرع، أي يتحرى المكان الذي صلى فيه النبي ﷺ؛ لأن بلالاً أخبره أن النبي ﷺ جعل بينه وبين الجدار الغربي ثلاثة أذرع، وجعل باب الكعبة خلفه.
قوله: «وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِنَا بَأْسٌ إِنْ صَلَّى فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ» أي: ليس هناك موضع مخصص للصلاة داخل البيت؛ فكل نواحي البيت قبلة، فلك أن تجعل باب الكعبة خلفك، أو عن يمينك أو عن شمالك، فتصلي إلى أي ناحية من نواحي البيت، أما ابن عمر رضي الله عنهما فكان يتحرى المكان الذي صلى فيه النبي ﷺ.
ولا تستحب صلاة الجماعة بين السواري، سواء أكانت نافلة أم فريضة؛ لما فيه من قطع الصفوف، إلا إذا كان هناك ازدحام في المسجد واحتيج إلى الصلاة بين السواري فلا كراهة، فيصلَّى عندئذٍ بين السواري ولو قطعت السواري الصفوف، أما إذا كان منفردًا فله أن يصلي بين السواري، ويجعل أمامه سترة.
والمشهور عند العلماء أن صلاة الفريضة لا تصح داخل الكعبة ولا فوقها، وقالوا: العلة في هذا أنه لا يستقبل الكعبة كلها إنما يستقبل بعضها، فلا يصح داخل الكعبة أو فوقها إلا النافلة.
ولكن القاعدة: إذا صحت النافلة صحت الفريضة إلا بدليل.
المتن:
باب الصَّلاَةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ وَالشَّجَرِ وَالرَّحْلِ
507 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ إِذَا هَبَّتْ الرِّكَابُ قَالَ: كَانَ يَأْخُذُ هَذَا الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ فَيُصَلِّي إِلَى آخِرَتِهِ أَوْ قَالَ: مُؤَخَّرِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.
الشرح:
507 في الحديث: أن النبي ﷺ كان يُعِّرِض راحلته ويصلي إليها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يعرِّض بتشديد الراء، أي: يجعلها عرضًا».
ولعل هذا من باب السماع، وإلا فالقاعدة التخفيف من عَرَض يعرِض.
قوله: «بَاب الصَّلاَةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ » هذا الباب تابع للأبواب التي فيها بيان أنه ينبغي للمصلي أن يصلي إلى سترة. والسترة مستحبة عند جمهور العلماء، وذهب بعض العلماء إلى وجوبها، والسترة هي شيء قائم كالعمود والسارية والحربة والعَنَزة والشجرة، وكذلك الراحلة والبعير، أي يُعَرِّض راحلته أو بعيره ويصلي إليه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب الصَّلاَةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ» ، قال الجوهري: الراحلة الناقة التي تصلح لأن يوضع الرحل عليها. وقال الأزهري: الراحلة المركوب النجيب ذكرًا كان أو أنثى، والهاء فيها للمبالغة، والبعير يقال لما دخل في الخامسة».
يعني: الراحلة هي الناقة التي تصلح لأن يوضع عليها الرَّحْل حتى ولو لم تدخل في الخامسة، ولا يسمى بعيرًا إلا إذا دخل في الخامسة.
وقال الحافظ أيضا: «قوله: «وَالشَّجَرِ وَالرَّحْلِ» المذكور في حديث الباب: الراحلة والرحل، فكأنه ألحق البعير بالراحلة بالمعنى الجامع بينهما، ويحتمل أن يكون أشار إلى ما ورد في بعض طرقه؛ فقد رواه أبو خالد الأحمر عن عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ: كان يصلي إلى بعيره[(1205)]. انتهى.
فإن كان هذا حديثًا آخر حصل المقصود، وإن كان مختصرًا من الأول كأن يكون المراد يصلي إلى مُؤْخِرة رَحْل بعيره اتجه الاحتمال الأول، ويؤيد الاحتمال الثاني ما أخرجه عبد الرزاق أن ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى بعير إلا وعليه رحل، وسأذكره بعد.
وألحق الشجر بالرَّحْل بطريق الأولوية، ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى حديث علي قال: لقد رأيتنا يوم بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله ﷺ؛ فإنه كان يصلي لشجرة يدعو حتى يصبح. رواه النسائي بإسناد حسن[(1206)]».
والمقصود: أن هذه أمثلة لما يتخذه المصلي سترة، وهي الأشياء المستقرة القائمة.
وكونه يصلي إلى الراحلة أو إلى البعير لا ينافي النهي عن الصلاة في معاطن الإبل ومباركها؛ فإن معاطن الإبل هي المكان الذي تقيم فيه مدة عند الماء أو عند المراح، أما المكان الذي يقيم فيه البعير إقامة عارضة فلا يشمله النهي؛ لأنه لا يسمى معطنًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال القرطبي: في هذا الحديث دليل على جواز التستر بما يستقر من الحيوان، ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطن الإبل؛ لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء، وكراهة الصلاة حينئذ عندها إما لشدة نتنها، وإما لأنهم كانوا يتخَلَّون بينها مستترين بها. انتهى. وقال غيره: علة النهي عن ذلك كون الإبل خلقت من الشياطين، وقد تقدم ذلك، فيحمل ما وقع منه في السفر من الصلاة إليها على حالة الضرورة».
والصواب: أنه ليس في حالة ضرورة؛ لأن هذا لا يسمى معطنًا؛ فهذا شيء عارض.
وفي الحديث: دليل على أن كل شيء مستقر يصلح أن يكون سترة للمصلي، مثل الدابة والبعير والراحلة والرَّحْل، حتى ولو إلى ظهر إنسان.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «اعتبر الفقهاء مؤخرة الرَّحْل في مقدار أقل السترة، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك، فقيل: ذراع، وقيل: ثلثا ذراع، وهو أشهر. لكن في مصنف عبد الرزاق عن نافع أن مُؤْخِرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع».
والمشهور أنها ثلثا ذراع، ومُؤْخِرة الرحل هي: العُود الذي في مُؤْخِرة الرَّحْل، وهذا أقل ما تكون عليه السترة، وهو الذي جاء في حديث أبي ذر في صحيح مسلم: يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل مُؤْخِرة الرحل ـ يعني مقدار ثلثي ذراع ـ المرأة والحمار والكلب.[(1207)].
المتن:
باب الصَّلاَةِ إِلَى السَّرِيرِ
508 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الأَْسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَعَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ، فَيَجِيءُ النَّبِيُّ ﷺ فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ فَيُصَلِّي؛ فَأَكْرَهُ أَنْ أُسَنِّحَهُ فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ السَّرِيرِ؛ حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي.
الشرح:
قوله: «بَاب الصَّلاَةِ إِلَى السَّرِيرِ» يعني: ما حكم الصلاة إلى السرير إذا كان عليه نائم ـ رجل أو امرأة ـ هل يقطع الصلاة أو لا يقطع؟
ولم يجزم المؤلف رحمه الله فيها بالحكم؛ لأن المسألة فيها خلاف، وهو خلاف قوي.
508 قوله: «أُسَنِّحَهُ» ، يعني: أظهر من قدامه. وهذا قالته عائشة رضي الله عنها إنكارًا على من قال: إن المرأة تقطع صلاة المصلي.
وفي الحديث: دليل على جواز الصلاة إلى السرير، ولو كان عليه نائم؛ سواء كان رجلاً أو امرأة.
وعائشة رضي الله عنها ترى أن مرور المرأة لا يقطع الصلاة؛ ولهذا قالت: «أَعَدَلْتُمُونَا بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ» وهو استفهام إنكار لمن قال بحضرتها: يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل مُؤْخِرة الرَّحْل الكلب والحمار والمرأة [(1208)]، وإنما قالت ذلك استدلالاً بصلاة النبي ﷺ متوسطًا للسرير الذي أمامه وهي مضطجعة عليه، وفهمت من انسلالها من السرير أنه مرور، وهذا ليس بمرور في الحقيقة، إنما المرور هو المجيء من جانب إلى جانب، وعائشة رضي الله عنها ـ مع أنها أفقه النساء ـ فإن لها أوهامًا، وهذا من أوهامها رضي الله عنها. ومن أوهامها أيضًا اعتقادها جواز زيارة المرأة للقبر.
وقد وافق الجمهور عائشة رضي الله عنها، فذهبوا إلى أن مرور المرأة والحمار والكلب لا يقطع الصلاة، وتأولوا الحديث: يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل مُؤْخِرة الرَّحْل... [(1209)] على قطع الثواب، واستدلوا بحديث: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ [(1210)]، لكنه حديث ضعيف عند أهل العلم.
وذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة يقطعها الكلب فقط، وهو رواية عن الإمام أحمد[(1211)]؛ لأن المرأة وجد فيها حديث عائشة هذا، وهو يدل على أن المرأة لا تقطع الصلاة، والحمار وجد فيه حديث ابن عباس في قصة الأتان[(1212)]، حينما كان راكبًا لأتان ومر بين يدي بعض الصف والنبي ﷺ يصلي بالناس في منى ولم ينكر عليه أحد، فقالوا: هذا يدل على أن الحمار لا يقطع الصلاة، وبقي الكلب؛ ولهذا قالوا: لا يقطع الصلاة إلا الكلب.
والصواب: أن المصلي إذا مر بين يديه أحد الثلاثة: المرأة أو الحمار أو الكلب ـ أي إذا مروا بينه وبين السترة، أو إذا لم يكن له سترة ومروا قريبًا منه أقل من ثلاثة أذرع ـ، فإنها تبطل الصلاة ويعيدها؛ لهذا الحديث: يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل: المرأة والحمار والكلب [(1213)].
أما حديث: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ فهو حديث ضعيف عند أهل العلم وإن ذهب إليه الجمهور؛ فالمعول على الدليل.
لكن المرأة والكلب لا يقطعان الصلاة إلا بشروط، فالمرأة لابد أن تكون بالغًا، كما جاء في الحديث تقييدها بالمرأة الحائض[(1214)]؛ ولذا فالصغيرة لا تقطع الصلاة، والكلب لابد أن يكون أسود، كما جاء تقييده في حديث أبي ذر أنه لما قال: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ؛ فسأله سائل قال: ما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؟ قال: سألت النبي ﷺ فقال: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ[(1215)].
وهذا خفي على عائشة رضي الله عنها وهي من أفقه النساء.
المتن:
باب يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ
وَرَدَّ ابْنُ عُمَرَ فِي التَّشَهُّدِ وَفِي الْكَعْبَةِ وَقَالَ: إِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ تُقَاتِلَهُ فَقَاتِلْهُ.
الشرح:
قوله: «بَاب يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» هذه من التراجم التي جزم فيها المؤلف بالحكم؛ لأن الحديث واضح في الدلالة على الحكم.
وابن عمر كان ممن يشدد في هذا، ويرد من يمر بين يديه في التشهد وفي الكعبة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: « «وَرَدَّ ابْنُ عُمَرَ فِي التَّشَهُّدِ» ، أي: رد المار بين يديه في حال التشهد، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق. وعندهما أن المار المذكور هو عمرو بن دينار.
قوله: «وَفِي الْكَعْبَةِ» قال ابن قرقول: وقع في بعض الروايات: «وفي الركعة» ، وهو أشبه بالمعنى.
قلت: ورواية الجمهور متجهة، وتخصيص الكعبة بالذكر لئلا يتخيل أنه يغتفر فيها المرور؛ لكونها محل المزاحمة، وقد وصل الأثر المذكور ـ بذكر الكعبة فيه ـ أبو نعيم ـ شيخ البخاري ـ في كتاب «الصلاة» له من طريق صالح بن كيسان قال: رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة فلا يدع أحدًا يمر بين يديه يبادره، قال: أي يرده».
يعني: أن ابن عمر كان يشدد في هذا، فلا يدع أحدًا يمر بين يديه، حتى وهو يصلي في الكعبة مع أنه مظنة الزحام وكثرة الطائفين والمصلين، وهذا على عادة ابن عمر في حرصه على اتباع السنة وتشدده في ذلك. والصواب قول من قال: إنه يغتفر المرور في المسجد الحرام في وقت الزحام، وكذا كل مكان يزدحم فيه الناس، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، والدليل على هذا قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التّغَابُن: 16]، وقول الله : لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البَقَرَة: 286]، وقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحَجّ: 78]، وقوله ﷺ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ [(1216)].
المتن:
509 حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَر قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
وحَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ المُغِيرَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ ابْنُ هِلاَلٍ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ يُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ أَبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلاَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ أَشَدَّ مِنْ الأُْولَى فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ: مَالَكَ وَلاِبْنِ أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ.
الشرح:
509 قوله: «ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ» ؛ هو مروان بن الحكم، وكان أمير المدينة لمعاوية بن أبي سفيان.
قوله: فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ، وفي لفظ لمسلم من حديث ابن عمر: فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ [(1217)]، والمراد بالمقاتلة المدافعة الشديدة، وليس المراد بها المضاربة بالعصي أو السكاكين، وهذا على الصحيح، وإن كان بعضهم قال: أراد به القتال ولو بالسلاح، لكن هذا قول ضعيف؛ لأن هذا يفضي إلى مفسدة أكبر، ويؤدي إلى التشويش في الصلاة والانشغال عنها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: فَلْيَدْفَعْهُ ولمسلم: فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ [(1218)]، قال القرطبي: أي بالإشارة ولطيف المنع.
وقوله: فَلْيُقَاتِلْه، أي: يزيد في دفعه الثاني أشد من الأول».
كما فعل أبو سعيد ، فإنه دفع الشاب في الأول، ثم لما اجتاز مرة ثانية دفعه أشد من الأولى.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال: وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح؛ لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة والاشتغال بها والخشوع فيها. وأطلق جماعة من الشافعية أن له أن يقاتله حقيقة، واستبعد ابن العربي ذلك في القبس».
وهذا حقيق بأن يستبعد، فليس المقصود أن يقاتله حقيقة، وإنما المقصود ـ كما قال القرطبي ـ أن ينبهه بالإشارة ولطيف المنع وإلا دفعه، أما المقاتلة بالسلاح فإنها تفضي إلى مفسدة أكبر.
قال الحافظ: «وقال: المراد بالمقاتلة المدافعة. وأغرب الباجي فقال: يحتمل أن يكون المراد بالمقاتلة اللعن أو التعنيف، وتعقب بأنه يستلزم التكلم في الصلاة، وهو مبطل بخلاف الفعل اليسير».
وتفسير المقاتلة باللعن في الصلاة لا وجه له.
قال الحافظ: «ويمكن أن يكون أراد أنه يلعنه داعيًا لا مخاطبًا، لكن فعل الصحابي يخالفه وهو أدرى بالمراد».
والصواب أنها المدافعة الخفيفة المعروفة.
المتن:
باب إِثْمِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي
510 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ: مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي؟ فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ؛ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لاَ أَدْرِي أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً.
الشرح:
510 في حديث الباب: دليل على عظم إثم المار بين يدي المصلي؛ ولهذا قال النبي ﷺ: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، يعني: ماذا عليه من الإثم لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، ولا يُدرى أقصد أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة؟
وهذا فيه: دليل على الخطورة وعظم الأمر، وأنه يحرم على الإنسان أن يمر بين يدي المصلي إلا للضرورة ـ أي إذا لم يجد مساغًا ـ كأن يكون في مكان فيه زحام ـ كالمسجد الحرام في وقت الموسم ـ فيغتفر المرور في هذا للضرورة، وإلا فليس لأحد أن يمر بين يدي المصلي.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: مَاذَا عَلَيْهِ، زاد الكشميهني: مِنَ الْإِثْمِ. وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات عند غيره، والحديث في الموطأ بدونها، وقال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في شيء منه، وكذا رواه باقي الستة وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها، ولم أرها في شيء من الروايات مطلقًا، لكن في مصنف ابن أبي شيبة: «يعني من الإثم» [(1219)] فيحتمل أن تكون ذكرت في أصل البخاري حاشية، فظنها الكشميهني أصلاً؛ لأنه لم يكن من أهل العلم ولا من الحفاظ، بل كان راوية، وقد عزاها المحب الطبري في «الأحكام» للبخاري وأطلق، فعيب ذلك عليه وعلى صاحب «العمدة» في إيهامه أنها في «الصحيحين». وأنكر ابن الصلاح في «مشكل الوسيط» على من أثبتها في الخبر فقال: لفظ الْإِثْمِ ليس في الحديث صريحًا. ولما ذكره النووي في «شرح المهذب» دونها قال: وفي رواية رويناها في «الأربعين» لعبدالقادر الهروي: مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ.
والحافظ رحمه الله هنا استفرغ وسعه في بيان أنها لم تثبت، ومع ذلك فالحافظ نفسه وقع في هذا الوهم فأثبت هذه اللفظة في بلوغ المرام، وكأنه نسي رحمه الله والكمال لله وحده، فمهما بلغ الإنسان من الحفظ والعلم من الممكن أن يقع في الوهم، كما أن شيخ الإسلام رحمه الله وابن القيم ـ مع إمامتهما وعلمهما العظيم ـ خفي عليهما أنه ورد الجمع بين محمد وآل محمد وإبراهيم وآل إبراهيم في التشهد، وهو قد جاء في «صحيح البخاري»؛ في كتاب الأنبياء: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [(1220)].
المتن:
باب اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ أَوْ غَيْرَهُ فِي صَلاَتِهِ وَهُوَ يُصَلِّي
وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُسْتَقْبَلَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُصَلِّي وَإِنَّمَا هَذَا إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ.
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَغِلْ فَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَالَيْتُ إِنَّ الرَّجُلَ لاَ يَقْطَعُ صَلاَةَ الرَّجُلِ.
511 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ يَعْنِي ابْنَ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ، فَقَالُوا: يَقْطَعُهَا الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، قَالَتْ: لَقَدْ جَعَلْتُمُونَا كِلاَبًا، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي وَإِنِّي لَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ فَتَكُونُ لِي الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَسْتَقْبِلَهُ فَأَنْسَلُّ انْسِلاَلاً.
وَعَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَْسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ.
الشرح:
هذا التفصيل في الترجمة من فقه البخاري رحمه الله، فإن فقه البخاري رحمه الله في تراجمه التي فاق بها غيره، وهذه الترجمة من تفقهه وجمعه بين النصوص، فهو رحمه الله أراد أن يوضح أن استقبال المصلي للرجل أمامه فيه تفصيل؛ فإن كان ينشغل به فلا يصلي وهو أمامه، وإن كان لا ينشغل فيصلي ولا يضره، فالمدار على الانشغال؛ ولهذا تأول كراهة عثمان في قوله: «وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُسْتَقْبَلَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُصَلِّي» بأنها في حال الانشغال به، فقال: «هَذَا إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَغِلْ فَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَالَيْتُ إِنَّ الرَّجُلَ لاَ يَقْطَعُ صَلاَةَ الرَّجُلِ» .
وتأوُّل البخاري رحمه الله كراهة عثمان بأنها في حال الانشغال. والجامع بينه وبين حديث عائشة الآتي أن النبي ﷺ كان يصلي وهي بينه وبين القبلة.
511 قوله: «لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي وَإِنِّي لَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ» ، فيه: دليل على أنه لا بأس أن يصلي الإنسان إلى شخص أمامه جالس أو نائم سواء كان رجلاً أو امرأة إذا لم يشتغل به ولم يشوش عليه؛ ولهذا كان النبي ﷺ يصلي وعائشة أمامه مضطجعة على السرير، فتبدو لها الحاجة فتنسل انسلالاً من جانبي السرير، ولا يعتبر هذا من المرور، فالمرور هو المجيء من جانب إلى جانب.
المتن:
بابا الصَّلاَةِ خَلْفَ النَّائِمِ
512 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَت: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ.
الشرح:
512 في حديث الباب: جواز الصلاة خلف النائم، أي: أنه لا بأس أن يصلي المرء وأمامه نائم.
القول الثاني: ذهب بعض العلماء إلى كراهة ذلك، فقد روي عن مجاهد وطاوس ومالك[(1221)] كراهة الصلاة إلى نائم أمامه؛ خشية أن يبدو منه ما يلهيه عن الصلاة، وكأنهم احتجوا بحديث ضعيف ورد في النهي عن الصلاة إلى النائم[(1222)]، فأراد البخاري رحمه الله أن يبين أن هذا الحديث لا يعول عليه، وأن حديث عائشة أصح منه؛ لأن حديث عائشة في «الصحيحين».
وفيه: أن النبي ﷺ كان يصلي وعائشة نائمة أمامه.
وفيه: أن النبي ﷺ كان إذا أراد أن يوتر أيقظ عائشة فأوترت، فعلى المرء أن يوقظ أهله للوتر؛ لأن هذا من التعاون على الخير، ولقول الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه: 132]، فينبغي على الإنسان أن يحث أهله على الصلاة، فيوقظهم للفريضة، وكذلك يوقظهم لصلاة الليل، فإن لم يمكن فعلى الأقل يوقظهم للوتر.
والوتر أقله ركعة واحدة، ووقتها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وأدنى الكمال ثلاث ركعات، بسلامين، أو يسردها سردًا بسلام واحد، وإذا أوتر بخمس أو سبع أو تسع أو إحدى عشرة فحسن، وقد كان النبي ﷺ في الغالب يوتر بإحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة ـ وصلاة الليل تسمى وترًا ـ قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي ﷺ يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، كان يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا[(1223)]، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ أوتر بثلاث عشرة ركعة[(1224)]، لكن النبي ﷺ كان يطيل الصلاة، فيصلي صلاة طويلة، يطيل فيها الركوع والسجود، فكان ركوعه وسجوده قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية[(1225)].
وفي حديث حذيفة أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ في ركعة واحدة بالبقرة وآل عمران والنساء، لا يمر بآية فيها رحمة إلا وقف يسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف يتعوذ، ولا بآية تسبيح إلا وقف يسبح مع الترتيل، قال: ثم ركع فكان ركوعه قريبًا من قيامه، ثم قال: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثم سجد فكان سجوده قريبًا من قيامه[(1226)]، فمن يستطيع أن يفعل ذلك؟!
وليس هناك حد لصلاة الليل على الصحيح، ويدل على هذا حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى[(1227)].
ومن استيقظ بعد الأذان فقد انتهت في حقه صلاة الليل وله أن يقضيها في الضحى وتراً، لكن شفعًا، فإذا كان يوتر بإحدى عشرة ركعة صلى اثنتي عشرة ركعة، وإذا كان يوتر بثلاث يزيد رابعة، فتكون أربعًا بسلامين، وإذا كان يوتر بخمس يزيد ركعة، وهكذا؛ لقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي ﷺ يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا غلبه نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة[(1228)] يعني: يشفعها بركعة.
المتن:
باب التَّطَوُّعِ خَلْفَ الْمَرْأَةِ
513 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ.
الشرح:
حديث الباب كرره البخاري رحمه الله ليستنبط منه الأحكام، وهذا من دقة تفقه البخاري رحمه الله، فهذا الحديث هو نفس الحديث الذي أورده في الأبواب السابقة، وجاء به في عدة تراجم ليستنبط منه أحكامًا متنوعة؛ فجاء به في باب: «الصَّلاَةِ إِلَى السَّرِيرِ» ، وباب: «بَاب اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ أَوْ غَيْرَهُ فِي صَلاَتِهِ وَهُوَ يُصَلِّي» ، وباب: «الصَّلاَةِ خَلْفَ النَّائِمِ» ، وجاء به هنا في باب: «التطوع خلف المرأة» أي: المرأة النائمة.
513 قوله: «كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا» ظاهره: أن الغرفة كانت صغيرة، ويدل هذا على: أن النبي ﷺ كانت له حُجَر لكنها ليست واسعة، ويدل أيضًا على أن النبي ﷺ كانت صلاته طويلة.
قوله: «فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي» ؛ فيه: أن مس الرجل لامرأته وهو في الصلاة لا ينقض الوضوء؛ لأن النبي ﷺ مسها بيده فقبضت رجليها.
ومس الرجل لامرأته أو غير امرأته ـ بشهوة أو بغير شهوة ـ وهو في الصلاة لا ينقض الوضوء على الصحيح، إلا إذا خرج منه شيء من مذي أو غيره.
وللعلماء في مس الرجل المرأة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن مس الرجل المرأة ـ بدون حائل ـ ينقض مطلقًا بشهوة أو بغير شهوة، وهو قول الشافعية[(1229)].
وهذا فيه: مشقة وحرج ولا سيما في هذا الزمان، واختلاط الناس في المسجد الحرام، وتزاحم الرجال والنساء عند الأبواب، فكيف يتحرز المرء من هذا، إلا أن يقال: يجعل القفازين على يديه، وهذا فيه مشقة وحرج.
القول الثاني: أن مس الرجل المرأة لا ينقض إلا إذا كان بشهوة، وهذا مذهب الحنابلة[(1230)]، وهو قول أحمد وجماعة.
القول الثالث: أن مس الرجل المرأة لا ينقض مطلقًا بشهوة أو بغير شهوة، إلا إذا خرج منه شيء، وهذا هو الصواب.
وأما قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المَائدة: 6]، فقوله: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ هذا هو الحدث الأصغر، وقوله: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ، هذا الحدث الأكبر، وقوله: فَتَيَمَّمُوا، أي للحدث الأكبر والأصغر.
وقول عائشة رضي الله عنها: «وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ» اعتذار منها رضي الله عنها، فهي تمد رجليها ولا تعلم بسجود النبي ﷺ حتى يغمزها فتكفهما، ولو كان هناك مصباح لعلمت أن النبي ﷺ أراد أن يسجد فكفت رجليها من دون غمز.
وفيه: الرد على من قال: إن للنبي ﷺ نورًا حسيًّا، وإنه يضيء في البيت، فهناك بعض الغلاة الذين يقولون: الرسول نور، ولو كان كذلك لقالت عائشة: وكان ينير لنا البيت، ولكنها قالت: «وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ» ، فالنبي ﷺ نور معنوي بما أعطاه الله تعالى من العلم والهدى، وليس نورًا حسيًّا، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزَاب: 45-46]، أي: سراج معنوي لا حسي، ينير للناس طريق الحق بما أعطاه الله من العلم والهدى، لكنه بشر كسائر البشر عليه الصلاة والسلام.
المتن:
باب مَنْ قَالَ: لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ
514 حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الأَْسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ.
قَالَ الأَْعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ فَقَالَتْ: شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلاَبِ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً فَتَبْدُو لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ فَأُوذِيَ النَّبِيَّ ﷺ فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ قَالَ: لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ» ، يعني: شيء من فعل غير المصلي، وهذه هي الترجمة الخامسة التي يكرر فيها البخاري حديث عائشة رضي الله عنها، وهذا يدل على دقة فقهه رحمه الله.
وهذه الترجمة تتمشى مع مذهب الجمهور الذين يقولون: إن الصلاة لا يقطعها شيء، لا المرأة ولا الحمار ولا الكلب، واستدل الجمهور بحديث: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ [(1231)]، لكنه حديث ضعيف عند أهل العلم.
514 ظاهر الحديث: أن عائشة رضي الله عنها لا ترى أن مرور المرأة يقطع الصلاة؛ استدلالاً بانسلالها من عند رجلي النبي ﷺ، وهذا من أوهامها رضي الله عنها ـ كما سبق بيانه ـ فإن الانسلال ليس مرورًا، وإنما المرور هو الإتيان من جانب إلى جانب، وقد ثبت في «صحيح مسلم» من حديث أبي ذر[(1232)] وحديث أبي هريرة[(1233)]، وعند النسائي من حديث ابن عباس[(1234)] أن مرور المرأة والكلب والحمار بين يدي المصلي من غير سترة يقطع الصلاة، ولفظ حديث أبي ذر: يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل مُؤْخِرة الرَّحْل المرأة والحمار والكلب [(1235)]، ولكن ورد تقييد المرأة بالحائض[(1236)] ـ يعني البالغ ـ وورد تقييد الكلب بالأسود[(1237)].
وذهب جمهور العلماء إلى أن الصلاة لا يقطعها شيء، وتأولوا هذه الأحاديث بأنها محمولة على قطع الثواب. وذهب الإمام أحمد في رواية[(1238)] وجماعة إلى أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود، أما المرأة فلا تقطع الصلاة لحديث عائشة هذا، والحمار لا يقطع الصلاة لحديث ابن عباس في قصة مجيئه راكبًا الأتان ـ وهي الأنثى من الحُمُر ـ ومروره بين يدي الصفوف والنبي ﷺ يصلي بالناس بمنى[(1239)].
والصواب: القول بأن هذه الثلاثة تقطع الصلاة، وهو ظاهر الحديث، أما ما استدل به الجمهور من قوله ﷺ: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ [(1240)] فهو حديث ضعيف، وكذلك الاستدلال بحديث عائشة ليس بظاهر، فعائشة رضي الله عنها ظنت أن هذا مرور، وانسلالها بين يدي السرير ليس بمرور، فلا يضر المرء كونه يصلي وأمامه نائم ـ امرأة أو رجل ـ ولا يعتبر الانسلال مرورًا.
وقولها رضي الله عنها: «شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلاَبِ» ظاهره أنها رضي الله عنها لم يبلغها حديث أبي ذر الذي فيه أن مرور المرأة والكلب والحمار يقطع الصلاة، ويحتمل أن عائشة رضي الله عنها تأولت الحديث كما تأوله الجمهور على أن المراد قطع الثواب، لكن الظاهر من حالها أنه لم يبلغها النص، وعلى كل حال فالسنة مقدمة على اجتهاد الصحابة، فالكتاب والسنة هما المرجع، وهما الحاكم على كل أحد من الصحابة وغيرهم.
المتن:
الشرح:
515 في هذا الحديث: هو نفس حديث عائشة رضي الله عنها، كرره المؤلف رحمه الله.
وقوله: «لاَ يَقْطَعُهَا شَيْءٌ» هذا وهم من الزهري ، فقد خفيت عليه السنة كما خفيت على عائشة، والصواب أن مرور المرأة البالغ بين يدي المصلي الذي ليس له سترة يقطع الصلاة؛ لحديث أبي ذر[(1241)] وأبي هريرة[(1242)] وابن عباس[(1243)] ، وأما اعتراض عائشة بين النبي ﷺ وبين القبلة فليس مرورًا، وإنما المرور هو المجيء من جانب إلى جانب.
المتن:
باب إِذَا حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِهِ فِي الصَّلاَةِ
516 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَْنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلأَِبِي الْعَاصِ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا.
الشرح:
516 قوله: «ابْنِ رَبِيعَةَ» كذا رواه الجمهور عن مالك، ورواه جماعة عن مالك فقال: «ابن الربيع» ؛ أي: أبوالعاص بن الربيع، وهذا هو الصواب، والمخالفة فيه إنما هي من مالك لا من البخاري، والمعنى: أن هذه البنت ـ وهي أمامة بنت زينب بنت النبي ﷺ ـ جدها النبي ﷺ لأمها، وهي بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس وكان النبي ﷺ يحملها على رقبته وهو يصلي بالناس، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
فإذا كان حملها في الصلاة لا يضر، فمرورها بين يديه لا يضر من باب أولى، وهذا هو وجه مناسبة الحديث للتراجم؛ لأن التراجم في المرور، وإن كان هذا مقيدًا بالصغيرة.
وفي الحديث: دليل على أن العمل القليل لا يؤثر في الصلاة، وكذلك العمل الكثير إذا كان متفرقًا، كحمله ﷺ أمامة ووضعها، ومثل صلاته ﷺ على المنبر ليعلِّم الناس، قال النبي ﷺ: إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي [(1244)] فقد كان ﷺ يصلي على المنبر، فإذا أراد أن يسجد تأخر وسجد على الأرض، فإذا قام صعد المنبر.
قال العلماء: هذا فعل قليل، مثل تقدمه في صلاة الكسوف وتأخره، ومثل فتحه ﷺ الباب لعائشة وهو يصلي، فهذه أعمال قليلة، والعمل القليل لا يؤثر في الصلاة، وكذلك إذا كان كثيرًا ومتفرقًا.
أما إذا كثر العمل وكان متواليًا فإنه يبطل الصلاة عند أهل العلم، وحدده بعضهم بثلاث حركات، والصواب: أنه ليس فيه تحديد.
وفي الحديث: تواضع النبي ﷺ، وشفقته على الأطفال، وإكرامه لهم، وحمله إياهم.
وفيه: أن حمل الطفل في الصلاة فرضًا أو نفلاً لا يؤثر في الصلاة مطلقًا؛ لأن النبي ﷺ حملها وهو يصلي بالناس الفريضة، ولا يقال: إن ثياب الطفل نجسة؛ لأن الأصل فيها ـ إذا كانت يابسة ـ الطهارة، ومثله كذلك أن النبي ﷺ كان يصلي ويمس ثوبه ثوب الحائض حال حيضها ولا يضر.
المتن:
باب إِذَا صَلَّى إِلَى فِرَاشٍ فِيهِ حَائِضٌ
517 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي خَالَتِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ قَالَت: كَانَ فِرَاشِي حِيَالَ مُصَلَّى النَّبِيِّ ﷺ، فَرُبَّمَا وَقَعَ ثَوْبُهُ عَلَيَّ وَأَنَا عَلَى فِرَاشِي.
518 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ تَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ نَائِمَةٌ، فَإِذَا سَجَدَ أَصَابَنِي ثَوْبُهُ وَأَنَا حَائِضٌ.
وَزَادَ مُسَدَّدٌ عَنْ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ وَأَنَا حَائِضٌ.
الشرح:
517 قوله: «حِيَالَ» بكسر المهملة أي: بجنبه.
518 قوله: «أَصَابَنِي ثَوْبُهُ وَأَنَا حَائِضٌ» ، فيه: دليل على أن المصلي إذا صلى إلى جنب حائض صحت صلاته، ولو أصابتها ثيابه؛ وذلك لأن النجاسة إنما هي في الدم، فلو أصاب ثوبه دم حائض أو غيره في حال صلاته لزم خلع ما أصابه إذا كان الدم رطبًا إن أمكن ـ أي: إن كان عليه ثوبان ـ فيخلع الثوب المصاب ويستمر في صلاته؛ لما ورد عن النبي ﷺ أنه صلى مرة بنعليه والصحابة خلفه يصلون بنعالهم، فجاءه الوحي وأخبره جبرائيل أن في نعليه أذى، فخلع نعليه في الصلاة واستمر في صلاته، فخلع الصحابة نعالهم، فسألهم النبي ﷺ بعد الصلاة: لماذا خلعتم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: أخبرني جبريل أن فيهما أذى [(1245)] فدل هذا على أن المصلي إذا تذكر أن في ثوبه نجاسة فإنه يخلع الثوب إذا كان عليه ثوب آخر، فإن لم يمكن قطعَ الصلاة ولبس ثوبًا آخر أو طهَّر الثوب النجس، ولو كانت النجاسة في منديل رماه، أو قلنسوة رماها؛ وذلك لأن النجاسة تختص بموضع الدم، ونظير هذا الحديث حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ ـ والخُمْرة هي السجادة الصغيرة من سَعَف النخل بقدر الوجه والكفين ـ قالت: إني حائض، قال: إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ [(1246)].