المتن:
(9) كِتَاب مَوَاقِيتِ الْصَّلاَة
باب مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ وَفَضْلِهَا
وَقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النِّسَاء: 103] مُوَقَّتًا وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ
521 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا وَهُوَ بِالْعِرَاقِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيُّ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْعَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ ﷺ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَالَ: بِهَذَا أُمِرْتُ فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ أَوَأَنَّ جِبْرِيلَ هُوَ أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقْتَ الصَّلاَةِ.
قَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ.
الشرح:
كتاب مواقيت الصلاة تحته أبواب، أولها «بَاب مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ وَفَضْلِهَا».
وقد ذكر فيه المؤلف رحمه الله الآية والحديث، يقول تعالى: ، وقد فسرها المؤلف رحمه الله بقوله: «مُوَقَّتًا وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ» ، يعني: محددًا، وقيل: معنى: كِتَابًا مَوْقُوتًا مفروضًا في الأوقات.
وهذه الآية فيها دليل على أن الصلاة مفروضة وموقتة في أوقات محددة؛ فليس للإنسان أن يتقدم هذه الأوقات فيصليها قبل الوقت، وليس له أن يؤخرها.
521 في حديث الباب: أن الصلاة يجب أن تؤدى في أوقاتها، كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا .
وفي هذا الحديث أن عمر بن عبدالعزيز أخَّر الصلاة حين كان أميرًا على المدينة للوليد بن عبدالملك، وذلك على عادة بني أمية في تأخيرهم للصلاة عن وقتها، فأنكر عليه عروة بن الزبير، ثم بعد ذلك لما نُصح وبينت له السُّنة صلح واستقامت حاله صار لا يؤخر الصلاة عن وقتها.
وكان سبب تأخير بني أمية للصلاة كثرة أعمالهم وانشغالهم، وهذا أحسن ما يحمل عليه فعلهم.
وقال بعضهم: كانوا يؤخرونها عن وقتها المستحب، وهذا ليس بظاهر؛ لأن تأخيرها عن وقتها المستحب لا يضر ما دامت تصلى في الوقت، وإن كانت الصلاة في أول وقتها ففيها فضل عظيم.
وفيه أيضًا: أنه يُنكَر على من أخَّر الصلاة عن وقتها.
وفيه: أن العلماء عليهم أن ينصحوا الأمراء ويوجهوهم إلى الخير وينكروا عليهم المنكر ومخالفتهم للسنة بالخطاب المناسب؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، فعروة بن الزبير أنكر على عمر بن عبدالعزيز لما أخر الصلاة عن وقتها، دخل عليه وأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يومًا وهو بالعراق حين كان أميرًا على الكوفة من قِبل معاوية بن أبي سفيان فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فأنكر عليه، وقال: «مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ» يعني: ما هذا التأخير؟ «أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ ﷺ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» ، أي: خمسة أوقات.
وفيه: استحباب التثبت من الأخبار؛ ولهذا قال عمر لعروة: «اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ أَوَ أَنَّ جِبْرِيلَ هُوَ أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقْتَ الصَّلاَةِ؟» ، وهو أقامها بوحي من الله، كما أن حدود الحرم حددها جبرائيل بوحي من الله.
وجاء في الحديث الآخر أن جبريل أمَّ النبي ﷺ في الصلوات الخمس في يومين متواليين، وأنه في اليوم الأول أمَّه في أول وقت الصلوات، فأمَّه لصلاة الظهر عند زوال الشمس، وللعصر حين صار ظل كل شيء مثله، وللمغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، وللعشاء حين غاب الشفق، وللفجر حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب على الصائم. ثم جاءه في اليوم الثاني فأمَّه لصلاة الظهر قرب وقت العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وأمَّه لصلاة العصر قبيل اصفرار الشمس حين صار ظل كل شيء مثليه، وأمَّه لصلاة المغرب قبيل مغيب الشفق، وأمَّه لصلاة العشاء قرب نصف الليل، وأمَّه لصلاة الفجر حين أسفرت الأرض، ثم قال: الصلاة ما بين هذين الوقتين. [(1)].
المتن:
الشرح:
522 أما قول عائشة رضي الله عنها: «كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا» ففيه: دليل على أن النبي ﷺ كان يبكِّر بصلاة العصر فيصليها والشمس مرتفعة.
وفيه: دليل على استحباب أداء الصلاة في أول وقتها.
المتن:
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ [الروم: 31]
523 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ هُوَ ابْنُ عَبَّادٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: إِنَّا مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَمُرْنَا بِشَيْءٍ نَأْخُذْهُ عَنْكَ وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا فَقَالَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ: عَنْ أَرْبَعٍ الإِْيمَانِ بِاللَّهِ ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَى عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُقَيَّرِ وَالنَّقِيرِ.
الشرح:
هذه الترجمة، وهي قوله: «بَاب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ [الروم: 31] هي آية من سورة الروم، وهي قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الرُّوم: 30-31].
فقوله: مُنِيبِينَ يعني: تائبين، فالإنابة هي التوبة والرجوع إلى الله.
ومفهوم الآية أن ترك الصلاة من أفعال المشركين؛ ولهذا قال: وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ ؛ يعني: لا تكونوا من المشركين الذين لا يقيمون الصلاة، ولذا فهي من أدلة من قال: إن ترك الصلاة كفر؛ فقد قرن إثبات التوحيد ونفي الشرك بإقامة الصلاة.
وهذه الترجمة مناسبتها لمواقيت الصلاة بيان أن أداء الصلاة إنما هو فعلٌ من أفعال المؤمنين، وأن المؤمنين هم الذين يقيمون الصلاة.
523 قوله: «إِنَّا مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنْ رَبِيعَةَ» على خلاف الأصل، فالأصل في العربية أن يقول: إنا من هذا الحي.
قوله: «نَأْخُذْهُ عَنْكَ» ، نأخذْهُ: فعل مضارع في جواب الأمر مجزوم، مثل تأمَّلْ تجدْ.
وفي حديث وفد عبد القيس تفسير للإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، فقرن إثبات التوحيد بإقامة الصلاة؛ فدل على أن إقامة الصلاة توحيد، حيث قال: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة؛ وعليه فمن أدى الصلاة في أوقاتها فهو موحِّد، ومن لم يقم الصلاة فهو مشرك. وأيضًا لقوله تعالى: وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ فهذه الآية فيها نفي للشرك عمن أقام الصلاة.
وعبد القيس كانوا يسكنون في الأحساء في المنطقة الشرقية التي يقال لها: منطقة البحرين، وقد أسلموا قديمًا، وأول جمعة جُمّعت بعد التي في مسجد النبي ﷺ كانت بجُوَاثَا بالأحساء.
قوله: «وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ» ؛ يعني: لا نستطيع المجيء إليك إلا في الشهر الحرام؛ لأن الحروب بين العرب كانت مستمرة في الجاهلية حتى ظهر الإسلام، فكانوا لا يستطيعون أن يأتوا إلى النبي ﷺ إلا في الشهر الحرام؛ لأنه في الأشهر الحرم تضع الحرب أوزارها.
والأشهر الحرم ثلاث متوالية وهي: ذو القَعْدة وذو الحجة والمحرم، والرابع رجب، فكانوا ينتظرون الشهر الحرام لتقف الحرب ويستطيعوا أن يأتوا النبي ﷺ؛ ولذا قالوا: «وَلَسْنَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ» ، وفي اللفظ الآخر: «وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمرٍ فصل نخبر به من وراءنا» [(2)] فأعطاهم النبي ﷺ جوامع الكلم، فقال: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الإِْيمَانِ بِاللَّهِ، ثم فسر الإيمان بأقوال وأعمال فقال: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ؛ فدل على أن الإيمان قول وعمل.
وفي اللفظ الآخر أنه قال: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة [(3)] وفي لفظ: وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَتُعْطُوا الخُمُسَ مِنَ المَغْنَمِ [(4)] ففسر الإيمان بالأقوال والأعمال؛ فدل على أن الأعمال داخلةٌ في مسمى الإيمان، وهذا فيه الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، سواء أكانوا مرجئة محضة كالجهمية وغيرهم الذين يرون أن الأعمال ليست مطلوبة وليست داخلة في مسمى الإيمان، أم مرجئة الفقهاء كأبي حنيفة وأصحابه الذين يرون أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، والعمل مطلوب لكن ليس من الإيمان.
وهذا الحديث ـ حديث وفد عبد القيس ـ من أقوى الأدلة في الرد على المرجئة؛ حيث أمر النبي ﷺ الوفد بالإيمان، ثم فسره لهم بالأقوال والأعمال؛ فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.
ومن الأدلة أيضًا في الرد على المرجئة حديث شعب الإيمان، حيث قال: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعلاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ، وهذه رواية مسلم[(5)]، وفي رواية البخاري: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً [(6)] فشعب الإيمان إذن متعددة، أعلى هذه الشعب كلمة التوحيد، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة، منها ما يقرب من شعبة الشهادة، ومنها ما يقرب من شعبة الإماطة.
فإقام الصلاة شعبة، والزكاة شعبة، والصوم شعبة، والحج شعبة؛ حتى إن البيهقي رحمه الله ألف كتابًا سماه: «شعب الإيمان»، عدد فيه هذه الشعب حتى أوصلها إلى تسع وسبعين شعبة، أي: إلى نهاية البضع، فالنبي ﷺ قال: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، والبضع من ثلاثة إلى تسعة.
قوله: وَأَنْهَى عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُقَيَّرِ وَالنَّقِيرِ يعني: أنهاكم عن الانتباذ فيها.
والدباء هو القرع، والحنتم جرار من طين مطبوخ، والنقير جذع النخل ينقر، والمقير هو المطلي بالقار، والمعنى: أن العرب كانوا ينتبذون فيها ـ أي: يستعملونها للنبيذ، من التمر أو العنب أو الشعير أو غير ذلك ـ فكانوا إذا وضعوا النبيذ في هذه الآنية الصلبة يتخمر من شدة الحر ويقذف الزبد، وقذفه للزبد معناه أنه تخمر وصار مسكرًا حرامًا؛ ولهذا جاء عن النبي ﷺ أنه كان ينتبذ له النبيذ فيشربه اليوم والغد، فإذا كان اليوم الثالث صبه؛ خشية أن يكون قد تخمر من شدة الحر، وفي الحديث: «حتى إذا كان في اليوم الثالث أهراقه أو سقاه الخادم» [(7)]؛ لأنهم لم يكن عندهم مبردات تمنع الأشربة من التخمر، أما الآن فإذا وضع العصير في المبرِّد زال الحكم؛ لأنه يجلس مدة طويلة دون أن يتخمر.
فالنبي ﷺ نهاهم أن ينتبذوا في هذه الأشياء الصلبة، وقال: انْتَبِذُوا فِي الْأَسْقِيَةِ [(8)] أي: المصنوعة من الجلد؛ لأنها إذا تخمر فيها النبيذ تشققت فعرف الناس ذلك واجتنبوه، أما الأشياء الصلبة فيتخمر فيها الشراب دون أن يشعروا به؛ ولهذا نهاهم النبي ﷺ عن الانتباذ فيها.
وكان هذا الحكم في أول الإسلام ـ أي: نهي النبي ﷺ عن الانتباذ في هذه الأربع خشية أن يتخمر فيها الشراب فيشربوا مسكرًا وهم لا يشعرون ـ ثم بعد ذلك لما استقرت الشريعة وعرفوا أن المسكر محرم رخص النبي ﷺ في ذلك فقال: كنت نهيتكم عن الانتباذ فيها فانتبذوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرًا [(9)].
المتن:
باب الْبَيْعَةِ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ
524 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
الشرح:
كان النبي ﷺ يبايع الصحابة على أشياء من الدين، فقد بايع جرير بن عبدالله البجَلي ـ وكان سيدًا مطاعًا في قومه ـ على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصيحة لكل مسلم.
524 في حديث الباب: أهمية النصيحة؛ حتى إن النبي ﷺ كان يبايع عليها مع إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والمبايعة معناها المعاهدة.
وقد بايع النبي ﷺ الرجال كما بايع النساء، وقد بيَّن الله تعالى مبايعة النساء في سورة الممتحنة فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ [المُمتَحنَة: 12]، فالنبي ﷺ بايع النساء على ألا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان.
وفي حديث عبادة أن النبي ﷺ بايع الرجال على ما بايع عليه النساء، فقال: أبايعكم على ألا تشركوا بالله شيئًا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تأتوا ببهتان، ثم قال: فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن اقترف شيئًا من ذلك فأُخذ كان كفارة له، يعني: من أقيم عليه الحد فيكون ذلك له كفارة، ومن فعل شيئًا من ذلك فستره الله فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه [(10)].
والمبايعة للرجال تكون بالكلام والمصافحة باليد، أما مبايعة النساء فبالكلام فقط دون مصافحة؛ لأن المرأة الأجنبية لا يجوز مصافحتها ولا مس يدها؛ ولهذا لما مدت امرأة يدها للنبي ﷺ لم يمد يده وقال: إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ [(11)] ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «والله ما مست يد النبي ﷺ يد امرأة قط ـ يعني: أجنبية ـ ما كان يبايعهن إلا بالكلام»[(12)].
وفي حديث الباب: وجوب النصيحة لكل مسلم، وأن هذا من الإيمان، فمن لم ينصح للمسلم نقص إيمانه؛ ولهذا بايع النبي ﷺ جرير بن عبدالله البجلي على النصيحة لكل مسلم، وهذا ليس خاصًّا بجرير بل هو عام.
وفي معنى هذا الحديث أحاديث أخرى، منها:
1- قوله ﷺ: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ [(13)] فمن لم يحب لأخيه ما يحبه لنفسه لم يأت بالإيمان الواجب، فلا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومن لم يفعل ذلك نقص إيمانه.
2- قوله ﷺ: المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ [(14)].
3- قوله ﷺ: من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتوه [(15)] أي: فليعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به.
ويفهم من هذا الحديث: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا داخل في النصيحة بصورة عامة؛ كما في حديث تميم الداري: الدِّينُ النَّصِيحَةُ [(16)] ومن النصيحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومناسبة الحديث لمواقيت الصلاة: أن أداء الصلوات في أوقاتها من إقامة الصلاة.; الصَّلاَةُ كَفَّارَةٌ
المتن:
الشرح:
525 حديث الباب الأول فيه فضل الصلاة، وأنها كفارة للصغائر من الذنوب؛ أما الكبائر فلابد لها من توبة.
وأصح ما قيل في تعريف الكبيرة: أنها ما ترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة بالنار أو اللعنة، أو الغضب.
فما ترتب فيه حد في الدنيا مثل السرقة؛ فيها قطع اليد، والزنا فيه الجلد أو الرجم، وهكذا.
وما ترتب عليه وعيد في الآخرة بالنار، أو اللعنة، أو الغضب كأكل مال اليتيم، توعد عليه بالنار.
والقذف توعد عليه باللعنة والغضب، وهكذا.
وألحق بعضهم ما نُفي عن صاحبه الإيمان، فقيل فيه: لَيْسَ مِنَّا، أو برئ منه النبي ﷺ، كقوله: أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة [(17)].
والكبائر لا تكفرها الصلاة والصوم والحج، بل لابد من التوبة، يقول الله : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النِّسَاء: 31] فالصلاة وباقي الأعمال إنما تكفر الصغائر؛ فقول الإمام البخاري: «بَاب الصَّلاَةُ كَفَّارَةٌ» ، يعني: تكفر الصغائر. وكما في الحديث: الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ [(18)].
وهنا قد ذكر المؤلف رحمه الله حديث حذيفة من رواية شقيق، قال: «سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ:» ، فالقائل هو عمر ، «أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْفِتْنَةِ؟» يعني: يخاطب الصحابة، فقال حذيفة: «قُلْتُ: أَنَا كَمَا قَالَهُ» ، يعني: أحفظ الحديث في الفتنة كما قاله النبي ﷺ لا أزيد ولا أنقص، «قَالَ:» يعني: عمر «إِنَّكَ» ـ يخاطب حذيفة ـ «عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ» ، «إنك عليه» يعني: على النبي ﷺ، «أو عليها» أي: على الفتنة، ثم قال حذيفة: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ، وَالصَّوْمُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالأَْمْرُ، وَالنَّهْيُ، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة؛ أن الصلاة كفارة.
وفتنة الرجل في أهله يعني: ما يحصل بين الإنسان وبين أهله من الكلام، والأخذ والرد، فهذه فتنة، وهي من الصغائر. فإذا صلى كفرت الصلاة ما حصل بينه وبين أهله من اللغط.
وفتنة الرجل في ماله، أي: ما يحصِّله من المال، ومن الغفلة بسبب المال.
قال عمر: «لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ» ، أي: لا أريد الفتنة التي تكون للرجل في أهله، وماله وولده، «وَلَكِنْ الْفِتْنَةُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ» ، يعني: فتنة القتال والحروب والشبهات والشهوات واختلال الأمن. أما الفتنة التي تكون في الأهل، والمال، والولد، فأمرها سهل؛ فهي من الصغائر التي تكفرها الفرائض والأعمال الصالحة. «قَالَ:» القائل حذيفة، «لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا» يعني: أنت سالم من هذه الفتنة؛ «إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا» ؛ الخطاب لعمر «قَالَ» أي عمر: «أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ؟» ، قال حذيفة: «يُكْسَرُ» ، قال عمر: «إِذًا لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا» ؛ لأن الشيء الذي يفتح من الممكن أن يغلق مرة ثانية، أما الذي يكسر فلا يغلق أبدًا.
«قُلْنَا» القائل شقيق: «أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا أَنَّ دُونَ الْغَدِ اللَّيْلَةَ» أي: كما أنه يعلم أن الليلة فاصلة بين اليوم والغد، فكذلك يعلم هذا الباب.
قال شقيق: «فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ» ، أي: نسأله عن الباب، «فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ» ، يعني: إذا قتل عمر جاءت الفتن التي تموج كموج البحر؛ ولهذا قال حذيفة: «إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا» ؛ لأن الباب هو عمر نفسه.
وقد وقع هذا، فبعد قتل عمر وقعت الفتن، فخرج بعض السفهاء على أمير المؤمنين عثمان بقيادة عبد الله بن سبأ اليهودي الحميري، وتجمع السفهاء من مصر، والشام، والكوفة، وغيرها، وأحاطوا بأمير المؤمنين في بيته حتى قتلوه، ثم بعد ذلك خرجت الخوارج، واختلف أهل الشام وأهل العراق، وصارت الحروب بين علي ومعاوية، واستمرت الفتن إلى يومنا هذا.
فتبين بهذا أن عمر كان بابًا في وجه الفتن.
والشاهد من الحديث: أن الصلاة كفارة، فهي تكفر ما يحصل بين الإنسان وأهله، وجاره وولده وماله من الفتن والمخالفات.
المتن:
الشرح:
526 في حديث ابن مسعود : أن القُبلة من الصغائر، وأن فعل الحسنات مكفر للصغائر.
وهذا الرجل لم يعاقبه النبي ﷺ، ولم يعزره؛ لأنه جاء تائبًا، مع أنه أصاب من امرأة قبلة حرامًا، وهذا يؤخذ منه أن من فعل الصغيرة وتاب لا يعزر، أما من لم يتب فإنه يستحق التعزير ولو على صغيرة؛ فالكبيرة فيها الحد، والصغيرة فيها التعزير؛ ولهذا جاء في أحد روايات الحديث أن النبي ﷺ قال له: اشْهَد الصلاة معنا، فشهد الصلاة؛ فأنزل الله: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هُود: 114]، فقال: هل هذا خاص بي؟ يعني: بتوبتي، قال: لا، بل لأمتي عامة [(19)] وهذا فضلٌ من الله وإحسان.
والشاهد من الحديث للترجمة: أن الصلاة مع النبي ﷺ كفر الله بها هذه الصغيرة التي حصلت من هذا الرجل، وهي القبلة؛ وعليه فالصلاة كفارة.
والإصرار على الصغائر والاستمرار عليها قد يوصلها إلى الكبيرة، كما أن الكبيرة إذا قارنها الخجل والحياء من الله قد تنزل إلى مرتبة الصغيرة؛ ولهذا يقول العلماء: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
وقد ذكر الشارح أن المرجئة احتجوا بهذين الحديثين على أن أفعال الخير مكفرة للكبائر والصغائر؛ لكن جمهور أهل العلم حملوهما على تكفير الصغائر؛ عملاً بحمل المطلق على المقيد؛ لأن الكبائر لابد لها من توبة، كما ورد في الحديث: الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ [(20)] وفي الآية: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النِّسَاء: 31]
المتن:
باب فَضْلِ الصَّلاَةِ لِوَقْتِهَا
527 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْعَيْزَارِ: أَخْبَرَنِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
الشرح:
527 حديث الباب فيه فضل الصلاة على وقتها، وأنها من أفضل الأعمال.
قوله: الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا، كلمة «على» للاستعلاء، أي: مستعلية على وقتها، وهو إيقاعها في أول وقتها.
وفي الحديث: أن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله، ويؤيده ما جاء أن رجلاً سأل النبي ﷺ عن الجهاد، فقال: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟، قال: نعم، قال: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ [(21)].
وهذا في حالة ما إذا كان الجهاد مستحبًّا، أو فرض كفاية، يكون بر الوالدين مقدمًا عليه؛ لأن بر الوالدين فرض، والجهاد في هذه الحالة نفل مستحب، أو فرض كفاية. ومعلوم أن الفرض مقدم على المستحب؛ أما إذا كان الجهاد فرض عين فيقدم على طاعة الوالدين، كما إذا دهم العدو بلدًا من بلاد المسلمين صار الجهاد فرض عين على كل من يستطيع من اهل البلد، وليس للوالدين ولا غيرهما أن يمنعوه، بل يصير الجهاد فرضًا على الرجال والنساء، وكما إذا استنفر الإمام واحدًا معينًا وجب عليه الجهاد، وكذلك إذا وقف في الصف صار الجهاد في حقه فرضًا؛ فليس له أن ينهزم ولا أن يفر، ففي هذه الثلاث يصير الجهاد فرض عين، وما عداها يكون مستحبًّا.
وجاءت أحاديث أخرى فيها أن النبي ﷺ قدم الجهاد، فقد سئل ﷺ: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصَّلاَةُ قيل: ثم أي؟ قال: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [(22)]، فاختلفت إجابة النبي ﷺ على حسب اختلاف أحوال السائلين، أو لاختلاف الأوقات والأعمال.
والشاهد من الحديث: إظهار فضل أداء الصلاة على وقتها، وأنها من أفضل وأحب الأعمال إلى الله، وأنها مقدمة على بر الوالدين وعلى الجهاد.
المتن:
باب الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَةٌ
528 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا مَا تَقُولُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟ قَالُوا: لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا قَالَ: فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا.
الشرح:
هذه الترجمة جزم فيها المؤلف رحمه الله بالحكم؛ لوضوح الدليل، فالمؤلف رحمه الله لا يجزم بالحكم إلا إذا كان الدليل واضحًا؛ ولهذا قال: «بَاب الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَةٌ» بالجزم، يعني: كفارة لصغائر الذنوب، أما الكبائر فتحتاج إلى توبة.
528 في حديث الباب: أن النبي ﷺ شبه الصلوات الخمس بالنهر الجاري، فهي تنظف الذنوب والخطايا كما ينظف الماءُ الوسخَ الذي على الجسد.
وفيه: التعليم بضرب الأمثال، والله ضرب الأمثال في كتابه، قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العَنكبوت: 43]. وكذلك النبي ﷺ كان يضرب الأمثال ليُفهم عنه.
فإذا كان نهرٌ جار على باب إنسان يغتسل منه خمس مرات، فإنه لا يبقى في جسمه وسخ؛ فكذلك الصلوات الخمس يكفر الله بها الخطايا فلا تبقي شيئًا من وسخ الذنوب.
وهذا المحو للخطايا في الحديث مقيد باجتناب الكبائر. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «جاء من حديث أبي سعيد الخدري التصريح بذلك، وهو فيما أخرجه البزار والطبراني بإسنادٍ لا بأس به من طريق عطاء بن يسارٍ، أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: أرأيت لو أن رجلاً كان له معتمل، وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار، فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله، فأصابه وسخٌ أو عرق، فكلما مر بنهرٍ اغتسل منه الحديث[(23)]. ولهذا قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب وهو مشكل؛ لكن روى مسلم قبله حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر [(24)] وعلى هذا المقيد يحمل ما أطلق في غيره.
فائدة:
قال ابن بزيزة في «شرح الأحكام»: يتوجه على حديث العلاء إشكال يصعب التخلص منه؛ وذلك أن الصغائر بنص القرآن مكفَّرة باجتناب الكبائر، وإذا كان كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ انتهى. وقد أجاب عنه شيخنا الإمام البلقيني بأن السؤال غير وارد؛ لأن مراد الله: إِنْ تَجْتَنِبُوا، أي: في جميع العمر، ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها ـ أي في يومها ـ إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فعلى هذا لا تعارض بين الآية والحديث، انتهى. وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص منه بحمد الله سهل؛ وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس؛ فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبًا للكبائر؛ لأن تركها من الكبائر، فوقف التكفير على فعلها، والله أعلم».
ثم تابع الحافظ قائلاً: «وقد فصل شيخنا الإمام البلقيني أحوال الإنسان بالنسبة إلى ما يصدر منه من صغيرة وكبيرة، فقال: تنحصر في خمسة:
أحدها: أن لا يصدر منه شيءٌ البتة، فهذا يعاوض برفع الدرجات.
ثانيها: يأتي بصغائر بلا إصرار فهذه تكفر عنه جزمًا.
ثالثها: مثله، لكن مع الإصرار فلا تكفر؛ إذا قلنا: إن الإصرار، على الصغائر كبيرة.
رابعها: أن يأتي بكبيرةٍ واحدةٍ وصغائر.
خامسها: أن يأتي بكبائر وصغائر، وهذا فيه نظر، يحتمل إذا لم يجتنب الكبائر ألا تكفر الكبائر، بل تكفر الصغائر، ويحتمل ألا تكفر شيئًا أصلاً.
والثاني أرجح؛ لأن مفهوم المخالفة إذا لم تتعين جهته لا يعمل به، فهنا لا تكفر شيئًا؛ إما لاختلاط الكبائر والصغائر، أو لتمحض الكبائر، أو تكفر الصغائر.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «واستدل بذلك بعض من يقول: إن الصلاة تكفر الكبائر والصغائر؛ لكن الجمهور قائلون بأن الكبائر لا يكفرها مجرد الصلاة بدون توبة، يقولون: هذا العموم خص منه الكبائر بما خرجه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ [(25)] وفيه أيضًا: عن عثمان عن النبي ﷺ قال: مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا، إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ [(26)]. وَخَرَّجَ النسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي ﷺ قال: والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل له: ادخل بسلام [(27)] وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب عن النبي ﷺ بمعناه[(28)]، قال ابن مسعود: «الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر»؛ وروي عنه مرفوعًا، والموقوف أصح؛ قال سلمان: «من حافظ على الصلوات الخمس، فإنهن كفارة لهذه الجراح ما لم تصب المقتلة» ، وقد حكى ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك، وأن الكبائر لا تكفر بمجرد الصلوات الخمس، وإنما تكفر الصلوات الخمس الصغائر خاصة. وقد ذهب طائفة من العلماء منهم أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا إلى أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الصلوات الصغائرَ، فإن لم تجتنب الكبائر لم تكفر الصلوات شيئًا من الصغائر، وحكاه ابن عطية في «تفسيره» عن جمهور أهل السنة، وظاهر قوله: مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ.
والصحيح الذي ذهب إليه كثير من العلماء، ورجحه ابن عطية وحكاه عن الحذاق أن ذلك ليس بشرط، وأن الصلوات تكفر الصغائر مطلقًا إذا لم يصر عليها؛ فإنها بالإصرار عليها تصير من الكبائر، وحديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب وغيره من الأحاديث يدل على ذلك، وقد ذكر البخاري في تبويبه عليه أن صلاتهن في وقتهن شرط لتكفير الخطايا، وأخذ ذلك من قول النبي ﷺ: يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، وهذا يدل على تفريق الصلوات خمس مرار في كل يوم وليلة، ومن جمع بينهما في وقت واحد أو في وقتين أو ثلاثة بغير عذر لم يحصل منه هذا التفريق ولا تكرير الاغتسال، وهو بمنزلة من اغتسل مرة أو مرتين أو ثلاثًا، وحديث عثمان الذي خرجه مسلم[(29)] يدل على أن كل صلاة تكفر ذنوب ما بينها وبين الصلاة الأخرى خاصة، وقد ورد مصرحًا بذلك في أحاديث كثيرة».
وحاصل هذا أن العلماء اختلفوا على قولين:
القول الأول: أن الصغائر لا تكفر إلا باجتناب الكبائر.
القول الثاني: أن الكبائر هي التي تحتاج إلى توبة، أما الصغائر فإنها تكفرها الصلاة كما في هذا الحديث، وهو اختيار البخاري.
المتن:
باب تَضْيِيعِ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا
529 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ عَنْ غَيْلاَنَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ قِيلَ: الصَّلاَةُ قَالَ: أَلَيْسَ ضَيَّعْتُمْ مَا ضَيَّعْتُمْ فِيهَا.
530 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ أَخِي عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ ضُيِّعَتْ.
وَقَالَ بَكْرٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ نَحْوَهُ.
الشرح:
529 دليل على أن الصلاة قد ضيعت ودخلها الخلل منذ دهر طويل؛ فإن أنسًا قال هذا في أواخر عهد الصحابة. وأنس طالت حياته فمات في العشر الأخيرة من القرن الأول للهجرة، فأدرك أمراء بني أمية ورآهم وهم يؤخرون الصلاة عن وقتها؛ لانشغالهم بأعمالهم؛ ولهذا قال : «مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ قِيلَ: الصَّلاَةُ، قَالَ: أَلَيْسَ ضَيَّعْتُمْ مَا ضَيَّعْتُمْ فِيهَا» ، أي: من تأخيركم لها عن وقتها.
قال الإمام أحمد رحمه الله: «إني صليت في مائة مسجد فما وجدت أحدًا يقيم الصلاة كما كان الرسول ﷺ يصليها وأصحابه»[(30)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ويؤيد الأول ما ذكرته آنفًا من رواية عثمان وسعد، وما رواه الترمذي من طريق أبي عمران الجوني عن أنس، فذكر نحو هذا الحديث وقال في آخره: أوَلم يصنعوا في الصلاة ما قد علمتم؟».
530 في الحديث: أن الزهري دخل على أنس وهو يبكي فقال: «مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ ضُيِّعَتْ» ، أي: أخرت عن وقتها، ودخلها الخلل، وعدم الطمأنينة، ومسابقة الإمام، وغيرها، فإذا كان أنس يقول هذا في أواخر عهد الصحابة ـ أي: في القرن الأول ـ فكيف لو رأى القرن الثالث عشر والرابع عشر، والخامس عشر؟!
المتن:
باب الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ
531 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى يُنَاجِي رَبَّهُ فَلاَ يَتْفِلَنَّ عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.
وَقَالَ سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ لاَ يَتْفِلُ قُدَّامَهُ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: لاَ يَبْزُقُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ.
وَقَالَ حُمَيْدٌ: عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ لاَ يَبْزُقْ فِي الْقِبْلَةِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ.
الشرح:
531 هذا الحديث سبق في أبواب المساجد، وفيه أن المصلي يناجي ربه فينبغي له استحضار ذلك.
وقوله: فَلاَ يَتْفِلَنَّ عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى، هذا إذا كان يصلي خارج المسجد ـ كما لو صلى في الصحراء وغيرها ـ فإنه يبصق عن يساره أو تحت قدمه، أما إذا كان في المسجد فليس له أن يبصق لا عن يساره ولا عن يمينه؛ لأن البصاق في المسجد خطيئة، قال رسول الله ﷺ: الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا [(31)]، والدفن في حالة ما إذا كان المسجد فيه تراب، وإلا وجب حكّها أو غسلها، ولكن يبصق في ثوبه أو في مِنديل ويرد بعضه إلى بعض، كما جاء في الحديث: يقول هكذا ثم يتفل في ثوبه ثم يرد بعضه إلى بعض [(32)].
المتن:
الشرح:
532 قوله: اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، فيه: أن على الإنسان أن يسجد سجودًا معتدلاً، فيجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه، ويرفع ذراعيه ولا يبسطهما بسط الكلب.
وفيه أيضًا: أنه لا يجوز للمصلي أن يبصق بين يديه ـ يعني: أمامه ـ ولا عن يمينه؛ لأنه يناجي ربه، وفي الحديث الآخر: فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا [(33)].
المتن:
بابالإِْبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ
533، 534 حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: حَدَّثَنَا الأَْعْرَجُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلاَةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.
الشرح:
هذه الترجمة قصد بها المؤلف رحمه الله بيان حكم الإبراد بصلاة الظهر، والإبراد معناه تأخير صلاة الظهر حتى تنكسر حرارة الشمس؛ لأنها تشتد في وقت الزوال، فإذا أخر الصلاة بعض الشيء ـ ساعة أو قريبًا من ذلك ـ فإن حرارة الشمس تخف وتنكسر، وليس المراد أنه تذهب الحرارة بالكلية.
والإبراد مستحب في أصح قولي العلماء، وقيل: واجب.
533، 534 في الحديث مشروعية الإبراد بالظهر عند شدة الحر، فقوله ﷺ: «فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلاَةِ» أمر، وهو للاستحباب، والذي صرفه عن الوجوب إلى الاستحباب ما جاء أن النبي ﷺ أمر بالصلاة في أول وقتها.
وقال بعض العلماء: إنه للوجوب للعلة، والعلة في الإبراد قوله ﷺ: فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ. وجهنم في الأرض السابعة السفلى، وتبرز يوم القيامة، كما جاء في الكتاب العزيز: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى [النَّازعَات: 36]، أما الجنة ففي أعلى عليين، وجاء في الحديث أنه: يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ وَلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا [(34)] فتبرز وتكون على وجه الأرض، وتسجر البحار، وتكون جزءًا منها.
وفي هذا الحديث: أن شدة الحر من فيح جهنم؛ وجاء في الحديث الآخر لما اشتكت النار لربها: فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ [(35)] فدل على أن النار فيها البرودة الشديدة والحرارة الشديدة.
وقدم المؤلف رحمه الله باب الإبراد على باب وقت الظهر، وكان الأظهر أن يقدم وقت الظهر؛ لأن الإبراد يكون بعد دخول وقت الظهر، ووقت الظهر إذا زالت الشمس.
مسألة:
إذا صلى المرء في البيت، أو كانوا جماعة يصلون في مكان مظلل أو في المكيفات ـ كما هو الآن ـ فلا حاجة إلى الإبراد؛ لأن المقصود من الإبراد انكسار شدة الحر؛ حتى يؤدي الإنسان الصلاة بطمأنينة وحضور قلب؛ ولهذا قال العلماء: تكره الصلاة في مكان بارد شديد البرودة، أو مكان حار شديد الحرارة، وعليه فإذا لم يكن هناك حر زالت العلة. وقال بعض العلماء: يبقى الإبراد سنة باقية.
وقوله: فَأَبْرِدُوا، يقال: أَبْرَدَ: إذا دخل في البرد ـ كأظهر إذا دخل في الظهيرة، وأنجد إذا دخل نجدًا، وأتهم إذا دخل تهامة ـ والأمر للاستحباب وهذا هو المعتمد، وقيل: أمر للإرشاد، وقيل: للوجوب. لكن جمهور العلماء على أنه مستحب، وهذا هو الصواب، وعليه فلا تُترك الجماعة من أجل الإبراد، فإذا صُلِّيَت الجماعة في أول الوقت في شدة الحر صلى المرء معهم ولا يترك الجماعة؛ لأن الجماعة واجبة.
ويبدأ الإبراد إذا انكسرت حرارة الشمس وذهب جزء من الوقت ـ ساعة أو ساعة إلا ربع تقريبًا ـ إلى آخر وقت الظهر، لكن لا ينبغي التأخير إلى آخر الوقت.
قوله: مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، هي جهنم حقيقة، كما في الحديث: أن الله أَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، والقول بأن المعنى مجازي لا وجه له.
وإذا كان هذا من نفس جهنم فكيف بمن ألقي في جهنم! جاء في الحديث: إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، ولولا أنها ضربت في البحر مرتين لما انتفعتم منها بشيء [(36)].
المتن:
الشرح:
535 قوله: «أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ ﷺ» ، وفي الحديث الآخر أنه أراد أن يؤذن للظهر فقال له النبي ﷺ: أَبْرِدْ، وجمع بينهما الشارح رحمه الله بأن معنى «أَذَّنَ» يعني: بدأ في الأذان، فلما بدأ في الأذان قال له النبي ﷺ: أَبْرِدْ، فترك الأذان.
وقوله: أَبْرِدْ أَبْرِدْ، يعني لما أراد المؤذن أن يستمر ـ يعني: يكمل الأذان ـ قال له النبي ﷺ: أَبْرِدْ أَبْرِدْ، والتكرار للتأكيد.
قوله: «حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ» ، يعني: حتى صار للجدران ظل.
المتن:
الشرح:
536، قوله: فَأَبْرِدُوا، أمر؛ وأصل الأمر أنه للوجوب، لكن صرفه عن الوجوب الأحاديث التي فيها المبادرة بالصلاة أول الوقت، كحديث: سئل النبي ﷺ: أي العمل أفضل؟ قال: الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا [(37)] وهذا يدل على أن الأمر للاستحباب، وهذا الذي ذهب إليه جمهور العلماء؛ وقال بعض أهل العلم: إنه للوجوب.
المتن:
الشرح:
وفي هذا الحديث: أن النار اشتدت وأكل بعضها بعضًا، فأرادت أن تتنفس، فأذن الله لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فنفس الشتاء وهو أشد ما يجد الناس من الزمهرير، ونفس الصيف هو أشد ما يجد الناس من الحر، فهذا دال على أن النار قسمان: قسم حار, وقسم بارد.
المتن:
538 حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.
تَابَعَهُ سُفْيَانُ وَيَحْيَى وَأَبُو عَوَانَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ.
الشرح:
538 قوله: أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ سبق أنه أمرٌ مصروف من الوجوب إلى الاستحباب، كما ذهب إلى ذلك جمهور أهل العلم.
المتن:
باب الإِْبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي السَّفَرِ
539 حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُهَاجِرٌ أَبُو الْحَسَنِ مَوْلَى لِبَنِي تَيْمِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَبْرِدْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ: أَبْرِدْ حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَتَفَيَّأُ: تَتَمَيَّلُ.
الشرح:
539 قوله: «التُّلُولِ» : جمع تل، وهو كل ما ارتفع من الأرض وكان له ظل من تراب، وجدار وغير ذلك.
وفي هذا الحديث: أن وقت الإبراد حين يسقط الظل الشاخص، ويكون الذاهب والراجع يستظل بظل التلول.
وفيه: أنه يشرع الإبراد في السفر كما يشرع في الحضر؛ إذ إنه يجوز له أن يجمع بين وقتين فيؤخَّر الظهر مع العصر.