وبين عظم أجر هذه الأمة، وأنه مضاعف باستمرارهم على الإيمان.
فالحديث الأول منهما فيه: أن المؤمنين من أهل الكتاب أجرهم أقل من أجر هذه الأمة وعملهم أكثر من عملها، فهذه الأمة أقل عملاً وأكثر أجرًا.
والحديث الثاني منهما فيه: مثلٌ لمن لم يؤمن من اليهود والنصارى حيث قالوا: لاَ حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ.
ووجه مطابقة الحديثين للترجمة: «بَاب مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ» ـ كما قال المهلب ـ أنه قد يستحق بعمل البعض أجر الكل، فالذي أُعطي من العصر إلى الليل أجر النهار كله، هو نظير من يُعطى أجر الصلاة كلها ولم يدرك إلا ركعة. فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
وهذا من دقائق فقه البخاري رحمه الله، الذي امتاز بتراجمه حتى صارت تراجمه فقهًا، حيرت العلماء وأعجزت كثيرًا من الشراح.
والحديث الأول الذي يقول فيه النبي ﷺ: إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنْ الأُْمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فيه: بيان الزمن الذي تبقى فيه هذه الأمة بالنسبة إلى الزمن الذي مضت فيه الأمم، يعني ما مضى قبل مجيء محمد ﷺ من طلوع الشمس إلى العصر، وهذه الأمة زمنها من العصر إلى الغروب، يعني من بعثة محمد ﷺ إلى قيام الساعة نسبته كنسبة الوقت من العصر إلى المغرب بالنسبة للنهار.
وقد مضت أمم كثيرة بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، أي: ما يقارب ألف سنة، ثم بعث الله نوحًا فمكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ثم بعث هودًا ثم صالحًا ، ومضت مدة تقارب الألف سنة، ثم بعث الله إبراهيم الخليل ، ثم بعث موسى ، وبين موسى وعيسى ما يقارب ألف سنة، ثم الفترة بين عيسى ومحمد ﷺ ستمائة سنة، ثم إذا نسبت المدة من بعثة محمد ﷺ إلى قيام الساعة فنسبتها من صلاة العصر إلى الغروب بالنسبة إلى ما مضى من اليوم، يعني ربع اليوم تقريبًا، فيكون بقاء هذه الأمة في الدنيا بمقدار ربع الدنيا؛ ولهذا قال النبي ﷺ: إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنْ الأُْمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وقوله: أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وهذا للمؤمنين منهم، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِْنْجِيلِ الإِْنْجِيلَ فَعَمِلُوا إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا، أي: عملوا من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبَّنَا، أي: حرف نداء؛ يعني: يا ربنا أَعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلاً!، يعني: قال أهل التوراة: عملنا من الفجر إلى الظهر وما أعطينا إلا قيراطًا؛ فنحن أكثر عملاً؛ وقال أهل الإنجيل: نحن عملنا من الظهر إلى العصر، وهو أطول من العصر إلى المغرب، وأعطينا قيراطًا قيراطًا؛ وهؤلاء عملوا من العصر إلى المغرب، وأعطوا قيراطين قيراطين! فقال الرب : هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: لاَ قَالَ: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ.
فللمرء أن يستأجر عاملاً من الصبح إلى الظهر بمائة ريال، ويستأجر آخر بمائتين، ويعملان معًا، فإذا طالب الأول فقال: لابد أن أُعطى مائتين مثل هذا فيقول له: اتفقت أنا وأنت على مائة، فهل نقصتك من حقك شيئًا؟! فهذا فضلي أوتيه من أشاء.
والحديث الثاني فيه: مثل لمن لم يؤمن من أهل الكتاب؛ ولهذا قال النبي ﷺ مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أما في الحديث الأول فقال: أَهْلُ الإِْنْجِيلِ و أَهْلُ التَّوْرَاة أي: مثَّل للمؤمنين منهم.
وقوله: كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلاً إِلَى اللَّيْلِ فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ فَقَالُوا: لاَ حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ، فيه: أن من لم يؤمن ولم يعمل فهو بلسان حاله يقول: لا حاجة لي إلى الأجر.
وقوله: فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَلَكُمْ الَّذِي شَرَطْتُ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلاَةِ الْعَصْرِ قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا، يعني: لا نبغي منك أجرًا.
وقوله: فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ أي: أخذوا أجر هؤلاء وأجر هؤلاء. فهذا مثل هذه الأمة.
ويستنبط من الحديث أن من استؤجر على عمل ثم لم يتمه فإنه لا يستحق الأجرة، وهذا من القواعد الفقهية.
وظهر في هذا وجه مطابقة الحديثين للترجمة، وأنه قد يستحق الإنسان بعمل البعض أجر الكل؛ ولهذا عملت هذه الأمة بقية اليوم وأخذوا أجر الفريقين، فمثل الذي أعطي من العصر إلى الليل أجر النهار كله، كمثل من يعطى أجر الصلاة كلها ولو لم يدرك إلا ركعة واحدة.
المتن:
باب وَقْتُ الْمَغْرِبِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجْمَعُ الْمَرِيضُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
559 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّجَاشِيِّ صُهَيْبٌ مَوْلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ.
الشرح:
قوله في ترجمة الباب: «يَجْمَعُ الْمَرِيضُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» فيه: دليل على أن وقت المغرب يمتد إلى العشاء، وهذا هو الصواب، فوقت المغرب طويل يقارب ساعة أو ساعة وعشر دقائق أو ساعة وربع، خلافًا لقول بعضهم: إن وقت المغرب قصير لا يمتد وهو بمقدار صلاة ثلاث ركعات، وهذا قول ضعيف لا وجه له، والصواب أنه ممتد وواسع، ولو كان وقتها مضيقًا لما جمعت مع العشاء تقديمًا أو تأخيرًا.
559 قوله: «كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ» ، يعني : من النور.
وكان الصحابة يبتدرون السواري بعد أذان المغرب ويصلون ركعتين، ويقرهم النبي ﷺ على ذلك، وقال: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ، صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ، صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ. ثم قال: لِمَنْ شَاءَ [(90)] فدل على أن وقتها يتأخر بعض الشيء، وهذا حتى يفرغ المتوضئ من وضوئه، والآكل من أكله، ومن يريد أن يصلي ركعتين؛ وما يفعله بعض الناس من كونه يبادر مبادرة شديدة ـ فيقف مع المؤذن حتى إذا هلل المؤذن أقام ـ فغلط ينافي حديث النبي ﷺ: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وجاء في الحديث الآخر: اجعل بين ذلك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والمتوضئ من وضوئه [(91)].
المتن:
الشرح:
560 في هذا الحديث: بيان الأوقات، والسبب في هذا أن الحجاج بن يوسف الثقفي قدم المدينة سنة أربع وسبعين عقب قتله ابن الزبير، وقد أمّره عبدالملك بن مروان على الحرمين وما حولها، ثم نقله بعد ذلك إلى العراق وجعله أميرًا عليها، فلما كان الحجاج أميرًا على المدينة كان يؤخر الصلاة عن وقتها، فسئل جابر بن عبدالله الصحابي الجليل عن وقت الصلوات فقال : «كُانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ» ، والهاجرة يعني: وقت الزوال، وهي وسط النهار، «وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ» ، يعني: يبكر فيها، كما سبق في الأحاديث أن عائشة كانت تقول «إن النبي ﷺ كان يصلي العصر والشمس في حجرتها» [(92)]، وفي حديث آخر: «كان أحدنا يصلي ويذهب إلى رحله والشمس حية» [(93)]، وفي رواية: «يذهب إلى العوالي»[(94)].
وقوله: «وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ» ، يعني: إذا غابت الشمس، والمراد بالوجوب سقوط قرص الشمس الذي يدخل به وقت المغرب، وفاعل «وَجَبَتْ» ضمير مستتر تقديره هي، أي: وجبت الشمس، وليس المراد أنه يبادر فيها ولا يمكن الناس من صلاة النافلة، بل الأحاديث يضم بعضها إلى بعض؛ فالمراد أنه لا يتأخر كثيرًا؛ وقد قال ﷺ: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وكان الصحابة يبتدرون السواري يصلون قبل المغرب، ثم بعد ذلك يقيم ﷺ ولا يتأخر كثيرًا مثل الصلوات الأخرى كالعشاء والظهر والعصر.
وقد قرأ النبي ﷺ في المغرب بالطور وبالنجم واقتربت الساعة والمرسلات، كما قرأ فيها مرة بالأعراف، وهذا مما يدل على بطلان قول من يقول: إن وقت المغرب وقت ضيق لا يتسع إلا بمقدار ثلاث ركعات.
لكن النبي ﷺ قرأ الاعراف مرة واحدة فلا ينبغي على الإنسان أن يشق على الناس ـ لأن هناك من الناس في هذا الزمان من لا يتحمل هذا ـ إلا إذا اتفقوا على هذا، بأن أخبرهم الإمام أنه سيقرأ الأعراف على السّنة، وكانوا عددًا محدودًا فلا بأس.
وقوله: «وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا إِذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَوْا أَخَّرَ وَالصُّبْحَ كَانُوا أَوْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ» ، الغلس هو اختلاط ظلمة الليل بضياء الصبح، يعني يبكر بها في أول الصبح، وبعض الناس لا يصلي الفجر إلا بعد الإسفار جدًّا، وهذا خلاف الأفضل، والأفضل أن تصلى بغلس، لكن لابد من التحقق من طلوع الفجر، كما في الحديث الآخر: كان النبي ﷺ يصلي الفجر ويصلي معه نساء متلفعات بمروطهن وثم ينقلبن إلى بيوتهن حيث يقضين الصلاة ما يعرفهن أحد من الغلس[(95)].
المتن:
الشرح:
561 قوله: «إِذَا تَوَارَتْ» يعني: استترت، والمراد الشمس، وفيه دليل على التبكير بصلاة المغرب، يعني أنه يبكر فيها أكثر من غيرها من الصلوات الأخرى، لكن ليس المراد أنه يقيم من حين يؤذن المؤذن، بل يتأخر بعض الشيء.
وهذا الحديث من ثلاثيات البخاري رحمه الله، فبين البخاري وبين النبي ﷺ ثلاثة: شيخه المكي بن إبراهيم، ثم بعده التابعي يزيد بن أبي عبيد، ثم الصحابي سلمة بن الأكوع .
المتن:
الشرح:
562 قوله: «سَبْعًا جَمِيعًا وَثَمَانِيًا جَمِيعًا» ، يعني : المغرب والعشاء، والظهر والعصر، حيث إن النبي ﷺ جمع بينهما في غير خوف ولا مطر[(96)]، وسبق أن أجيب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنه جمع صوري، وجاء هذا في حديث رواه النسائي[(97)]، وذلك أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها، وعجل العصر في أول وقتها، وأخر المغرب إلى آخر وقتها قرب مغيب الشفق، وقدم العشاء في أول وقتها، ففي الصورة أنه جمع، لكن في الواقع كل صلاة في وقتها.
الجواب الثاني: أنه جمع لمشقة عارضة من مرض أو برد شديد أو دحض أو مطر فهو لعذر؛ وذلك لأن أحاديث توقيت الصلاة محكمة، وهي الأصل، وأما هذا الحديث فهو مشتبه، ولا يَتعلق بالمشتبه ويترك المحكم إلا أهل الزيغ، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عِمرَان: 7].
والشاهد من الحديث أن وقت المغرب واسع ممتد، يمتد إلى العشاء، ولو كان لا يمتد لما جمع بينهما؛ وفيه الرد على من قال: إن المغرب وقته ضيق لا يتسع إلا لمقدار ثلاث ركعات.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وهذا الحديث والذي قبله يدلان على أن مجرد غيبوبة القرص يدخل به وقت صلاة المغرب، كما يفطر الصائم بذلك، وهذا إجماع من أهل العلم حكاه ابن المنذر وغيره. قال أصحابنا والشافعية وغيرهم: ولا عبرة ببقاء الحمرة الشديدة في السماء بعد سقوط قرص الشمس وغيبوبته عن الأبصار. ومنهم من حكى رواية عن أحمد باعتبار غيبوبة هذه الحمرة، وبه قال الماوردي من الشافعية. ولا يصح ذلك. وأما إن بقي شيء من شعاعها على الجدران أو تلك الجبال فلابد من ذهابه. وحكى الطحاوي عن قوم أنهم اعتبروا مع مغيب الشمس طلوع النجم، ولم يسمهم. والظاهر أنه قول طائفة من أهل البدع كالروافض ونحوهم».
أي: فهذا قول الروافض الذين لا يصلون إلا عند اشتباك النجوم.
المتن:
باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ لِلْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ
563 حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لاَ تَغْلِبَنَّكُمْ الأَْعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاَتِكُمْ الْمَغْرِبِ قَالَ الأَْعْرَابُ: وَتَقُولُ هِيَ الْعِشَاءُ.
الشرح:
563 والمراد بالنهي في حديث الباب الغلبة في التسمية بأن يغلب عليه أن يسمي المغرب العشاء، ولا مانع من تسميتها بالعشاء أحيانًا كما ورد هذا في بعض النصوص فلا يشمل النهي تسمية المغرب بالعشاء إلا على سبيل الغلبة، كما لو قيل: صليت العشاءين؛ فهذا لا يدل على الغلبة.
أما أن تسمى المغرب دائما بالعشاء فهذا منهي عنه؛ لكيلا تلتبس صلاة المغرب بصلاة العشاء، ولئلا يدخل اسم المغرب في اسم العشاء؛ ولهذا قال ﷺ: لاَ تَغْلِبَنَّكُمْ الأَْعْرَاب. فمفهومه أنه إذا لم يكن هناك غلبة فلا حرج في تسمية المغرب عشاء، وكذلك أيضًا إذا قيدها فقال: العشاء الأولى والعشاء الآخرة.
المتن:
باب ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَثْقَلُ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ
وَقَالَ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ
قَالَ أَبُو عَبْداللَّهِ: وَالاِخْتِيَارُ أَنْ يَقُولَ الْعِشَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ [النُّور: 58]
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ فَأَعْتَمَ بِهَا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْعِشَاءِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنْ عَائِشَةَ أَعْتَمَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْعَتَمَةِ
وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الْعِشَاءَ
وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ
وَقَالَ أَنَسٌ: أَخَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو أَيُّوبَ وَابْنُ عَبَّاسٍ : صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ.
564 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَالِمٌ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ.
الشرح:
قوله: «بَاب ذِكْرِ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا» يعني: رأى الأمر واسعًا.
فلا بأس أن تسمى العشاء بالعتمة أحيانًا، إلا أن الأكثر تسميتها بالعشاء؛ لهذه النصوص التي سيذكرها المؤلف رحمه الله.
قوله: «قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَثْقَلُ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ، فسماها العشاء.
قوله: وَقَالَ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالْفَجْرِ فسمى العشاء العتمة.
وقوله: «قَالَ أَبُو عَبْداللَّهِ» ، هو البخاري رحمه الله، «وَالاِخْتِيَارُ أَنْ يَقُولَ الْعِشَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ [النُّور: 58]، أي: المختار للإنسان أن يقول: العشاء، لأن الله سماها العشاء.
قوله: «وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ فَأَعْتَمَ بِهَا» يعني: أخرها.
وقوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْعِشَاءِ» ، يعني: أخرها.
قوله: «وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنْ عَائِشَةَ أَعْتَمَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْعَتَمَةِ» ، أي: سماها العتمة.
قوله: «وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الْعِشَاءَ» ، سماها العشاء.
قوله: «وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ» ، سماها العشاء.
قوله: «وَقَالَ أَنَسٌ: أَخَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ» ، سماها العشاء.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو أَيُّوبَ وَابْنُ عَبَّاسٍ : صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ» ، سموها العشاء.
وهذه النصوص التي ذكرها المؤلف رحمه الله فيها الدليل على جواز تسمية العشاء بالعتمة، إلا أنه ينبغي أن يكون الأكثر تسميتها بالعشاء، وهو الأفضل، ولا مانع بتسميتها العتمة أحيانًا.
564 قوله في حديث الباب: «صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ» ، سماها العشاء وسماها العتمة.
وقوله: أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ، المعنى أن بعد مائة سنة سينتهي جيل هذا القرن ويأتي جيل جديد.
واستُدل بهذا الحديث في الرد على من قال: إن الخضر ما زال حيًّا.
ولو كان حيًّا لجاء إلى النبي ﷺ وآمن به؛ لأنه نبي ـ على الراجح ـ ولا يمكن أن يكون هناك نبي موجود ولا يأتي إلى النبي ﷺ. والصواب أنه مات.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قولان في «مجموع الفتاوى»: قول بأنه مازال موجودًا[(98)]، وقول بأنه مات[(99)]، وهو أصح القولين، ولعله رجع الأول.
وقول ابن تيمية: إنه ما زال موجودًا، خُرِّج على أنه ليس في الأرض ولكنه في البحر ولا يدخل في قوله ﷺ: عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ.
مسألة:
يعارض حديث الباب حديثُ فاطمة بنت قيس في «صحيح مسلم» في الدجال، فإنها ذكرت عن تميم الداري أنه ركب البحر ولعب بهم الموج شهرًا، وأنهم نزلوا في جزيرة من جزر البحر، واستقبلتهم دابة أهلب لا يعرف قبله من دبره، فخافوا منها، وقالت: ائتوا إلى ذلك الدير، قال: فأتينا إلى رجل في ذلك الدير عظيم قد شدت يداه إلى عنقه بالحديد، وسألهم أسئلة وسألوه، وأخبرهم أنه الدجال[(100)]. فكيف يُجمع بينهما؟
قال بعض أهل العلم المعاصرين: إن الحديث وإن كان في صحيح مسلم إلا أنه ضعيف، وشكك في الحديث.
والحديث ـ والحمد لله ـ صحيح ثابت ولا إشكال فيه، والجواب أن نقول: هو مخصص لعموم هذا الحديث، فيكون مستثنى، والقاعدة أن الخاص يقضي على العام ويخصصه، فهذا عام يستثنى منه الدجال؛ وبذا يزول الإشكال.
المتن:
باب وَقْتِ الْعِشَاءِ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أَوْ تَأَخَّرُوا
565 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ صَلاَةِ النَّبِيِّ ﷺ؟ فَقَالَ: كُانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ وَالْعِشَاءَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ وَالصُّبْحَ بِغَلَسٍ.
الشرح:
هذه الترجمة فيها بيان أن العشاء تسمى العشاء سواء قدمت أو أخرت.
565 أراد المؤلف رحمه الله بحديث الباب: الرد على من قال: إنها إذا أخرت سميت العتمة، وإذا قدمت سميت العشاء، وسبق أنه لا بأس بتسميتها بالعتمة في بعض الأحيان، لكن ينبغي أن يكون الغالب تسميتها بالعشاء، وقد ورد في الحديث: أعتم النبي ﷺ بالعشاء[(101)] وفي حديث آخر: التي يسمونها الناس العتمة[(102)] وقال ﷺ أيضًا: لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمُ الْعِشَاءِ فإِنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ [(103)]، وكذلك المغرب تسمى العشاء أحيانًا، فإذا جمعت المغرب مع العشاء قيل: العشاءين تغليبًا، وسميت المغرب بالعشاء الأولى.
فالمنهي عنه إنما هو الغلبة، أي: إذا غلبت التسمية، أما إذا لم تغلب التسمية فلا بأس.
المتن:
باب فَضْلِ الْعِشَاءِ
566 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةً بِالْعِشَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الإِْسْلاَمُ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قَالَ عُمَرُ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَخَرَجَ فَقَالَ لأَِهْلِ الْمَسْجِدِ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَْرْضِ غَيْرَكُمْ.
الشرح:
قوله: «بَاب فَضْلِ الْعِشَاءِ» هذا الفضل إنما هو لتأخير العشاء وانتظار صلاتها.
566 قوله: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَْرْضِ غَيْرَكُمْ، يعني أن الإسلام لم يفش، فليس هناك إلا أفراد يصلون خلف النبي ﷺ ليقتدوا به ويتعلموا منه، وهذا اجتهاد عائشة رضي الله عنها، والأقرب أن يقال: إن رسول الله ﷺ قال هذا بوحي من الله ، وأن كل من أسلموا صلوا العشاء في تلك الليلة مبكرين، وما بقي إلا هم في مسجد النبي ﷺ فقال: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَْرْضِ غَيْرَكُمْ، وفي اللفظ الآخر: إن هذا من نعمة الله عليكم أنه ما ينتظرها غيركم [(104)] يعني: فلكم هذا الفضل حينما تنتظرونها؛ لأن المنتظر للصلاة في حكم المصلي، والملائكة تصلي عليه ما دام ينتظرها، فتقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه؛ ولهذا بوب المؤلف رحمه الله: «بَاب فَضْلِ الْعِشَاءِ» ، وكأن التقدير: باب فضل انتظار صلاة العشاء إذا أخرت؛ فإذا أخرت وانتظرها زاد الأجر والثواب للمنتظر من صلاة الملائكة، ولأنه في حكم المصلي، وسيأتي في الحديث الذي بعده أنهم فرحوا بذلك.
يقول العيني رحمه الله: «مطابقته للترجمة من حيث إن العشاء عبادة قد اختصت بالانتظار لها من بين سائر الصلوات؛ وبهذا ظهر فضلها، فحسن قوله: «بَاب فَضْلِ الْعِشَاءِ» .
وهذا نفس كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ لأن العيني رحمه الله يأخذ عنه كثيرًا.
والانتظار فيه فضيلة؛ لأن العشاء يستحب تأخيرها إلى ثلث الليل؛ ولهذا ذهب العلماء كالحافظ ابن حجر وغيره إلى أن الأفضل تأخيرها إلى ثلث الليل إن سهل ولم يكن هناك مشقة على المأمومين، كجماعة يصلون في الصحراء، أو في مزرعة، أو في قرية، وليس هناك أحد غيرهم، واتفقوا على تأخيرها؛ أما في المدن والقرى فلا ينبغي تأخيرها؛ لأن هذا فيه مشقة على الناس، فقد يكون الإنسان مريضًا، أو صاحب حاجة، وكذلك يشق على من يريد النوم مبكرًا.
المتن:
الشرح:
567 قوله: «كُنْتُ أَنَا وَأَصْحَابِي الَّذِينَ قَدِمُوا مَعِي فِي السَّفِينَةِ» ، هي: السفينة التي ركبوا فيها إلى الحبشة في الهجرة الثانية، وقدموا في السنة السابعة من الهجرة ومعهم جعفر بن أبي طالب، فوافقوا النبي ﷺ وهو في فتح خيبر، ففرح النبي ﷺ بهم وقال: ما أدري أيهما أفرح به [(105)] أيّ الأمرين أفرح به، هل بفتح خيبر، أو بقدوم جعفر وأصحابه؟
وأسهم لهم النبي ﷺ، وكان معهم أيضًا أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وكانت امرأة جعفر بن أبي طالب ، ولما قال بعض الناس: إننا أفضل منكم يا أصحاب السفينة غضبت وقالت: والله لا آكل حتى أسأل النبي ﷺ، وقالت: أنتم عند رسول الله ﷺ يلاحظكم، ويطعم جائعكم، ونحن في دار البعداء، والبغضاء، كيف تكونون أفضل منا؟! فسألت النبي ﷺ فقال: وَلَكُمْ أَنْتُمْ - أَهْلَ السَّفِينَةِ - هِجْرَتَانِ [(106)] فجعل الصحابة يأتون أسماء يسألونها فرحًا بهذا.
وهذا الحديث فيه: أن أصحاب السفينة نزلوا في بطحان ـ وهو مكان معروف ـ وصاروا يتناوبون للصلاة مع النبي ﷺ، والاقتداء به، وتعلم العلم منه، وتحصيل الفائدة، فالذي يذهب يأتي ويخبر أصحابه بصلاة النبي ﷺ وبالفائدة وبالعلم الذي تعلمه، ثم يأتي الآخر وهكذا، وقال عمر : كان لي جار من الأنصار نتناوب، فينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلت أتيته بخبر ذلك اليوم، وإذا نزل هو أتاني بخبر ذلك اليوم. وهكذا كان حرص الصحابة على الخير وعلى تعلم العلم.
قوله: «فَكَانَ يَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ كُلَّ لَيْلَةٍ نَفَرٌ مِنْهُمْ فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ ﷺ أَنَا وَأَصْحَابِي وَلَهُ بَعْضُ الشُّغْلِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ» ، أي: في تلك الليلة نزل أبو موسى فوافق النبي ﷺ في بعض الشغل.
قوله: «فَأَعْتَمَ بِالصَّلاَةِ» ، يعني: أخر العشاء؛ وفيه: دليل على جواز تسمية العشاء بالعتمة.
قوله: «حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ» ، يعني: انتصف، أو كاد أن ينتصف.
وفيه دليل: على أن النبي ﷺ أخر العشاء للشغل حتى انتصف الليل أو قرب انتصاف الليل جمعًا بينه وبين حديث عبدالله بن عمرو: «والعشاء إلى نصف الليل» [(107)] فهو لم يؤخرها إلى نصف الليل ﷺ إلا لأنها عبادة تداخلت بعبادة أخرى وهي الجهاد؛ لأنه انشغل بتجهيز الجيش ـ مثل ما كان عمر يصلي ويجهز الجيش وهو في الصلاة ـ ولأن هذا التأخير في حدود الوقت، وتأخير صلاة العشاء أفضل.
قوله: عَلَى رِسْلِكُمْ، يعني على مهلكم.
وقوله: أَبْشِرُوا إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ، فيه: مشروعية تبشير المؤمن بالخير.
وفيه: دليل على أنه ﷺ قاله بوحي من الله ؛ لأنه تأخر تلك الليلة إلى قريب من نصف الليل.
قوله: أَوْ قَالَ: مَا صَلَّى هَذِهِ السَّاعَةَ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ لاَ يَدْرِي أَيَّ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ:» ، يعني: الراوي عن أبي موسى، فأبو بردة لا يدري هل قال أبو موسى: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ، أو: مَا صَلَّى هَذِهِ السَّاعَةَ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ، والمعنى واحد، لكن هذا من تحري الراوي في اللفظ.
قوله: «قَالَ أَبُو مُوسَى: فَرَجَعْنَا فَفَرِحْنَا بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» ، وهذا الفرح ـ فرح أبي موسى وأصحابه ـ ليس من فرح الأشر والبطر، وإنما هو من الفرح بفضل الله ورحمته، فهو داخل في قول الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يُونس: 58].
أما فرح الأشر والبطر فهذا هو المذموم، وهو الذي كان عليه قارون، إذ نصحه قومه فقالوا: لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القَصَص: 76]، وقال الله تعالى عن أهل النار: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ [غَافر: 75].
وفي الحديث: دليل على فضل انتظار صلاة العشاء لمن أخرها، وأنه على خير عظيم وعلى أجر، والملائكة تصلي عليه وتدعو له: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، وهو في حكم المصلي.
المتن:
باب مَا يُكْرَهُ مِنْ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ
568 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا.
الشرح:
568 قوله في حديث الباب: «كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها» هذه الكراهة كراهة تنزيه، وورود الكراهة في الكتاب والسنة للتنزيه قليل، والأكثر والغالب أن الكراهة إذا جاءت في الكتاب والسنة فالمراد بها التحريم؛ لأن الله تعالى قال ـ بعد أن ذكر المحرمات ـ الشرك، وعقوق الوالدين، وعدم الإنفاق، وقبض اليد، والزنا، والمشي في الأرض مرحًا، والقتل: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسرَاء: 38]، يعني: محرمًا. وقال ﷺ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ [(108)] وهذه محرمات، فـ كَرِهَ يعني: حرم. وكذلك أيضًا إذا جاءت الكراهة على لسان العلماء المتقدمين فيريدون بها كراهة التحريم، أما المتأخرون فيريدون بها كراهة التنزيه، وهو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله.
والحكمة في هذه الكراهة أن ما بين العشاءين وقت قصير، فإذا نام فربما فوّت صلاة العشاء.
وأما الحديث بعد العشاء فربما امتد حتى يتأخر الإنسان إلى آخر الليل فيتأخر عن تهجده إذا كان يتهجد، أو يتأخر عن القيام لصلاة الصبح، ويستثنى من هذا ما ورد استثناؤه ـ كما جاء في النصوص ـ مثل السمر في طلب العلم أو مع الأهل، أو مع الضيف، ومثل سمر ولاة الأمور في مصالح المسلمين، وسمر رجال الحسبة على وجه لا يكون سببًا في إضاعة صلاة الفجر، وما عدا ذلك فيكون مكروهًا.
ومن هنا يتبين أن أكثر جلسات الناس بعد العشاء الآن مكروهة؛ لأن أكثرها في القيل والقال، وإضاعة الوقت؛ وقد يكون فيها محرمات، كالغيبة، والنميمة، أو مشاهدة الأفلام الخليعة، أو سماع الغناء؛ وإذا سلمت من هذا كله فهي سهر طويل مكروه؛ وما اشتمل على محرم صار محرمًا، وإن كان يؤدي إلى تأخير صلاة الفجر صار التحريم مضاعفًا.
المتن:
باب النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ لِمَنْ غُلِبَ
569 حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْعِشَاءِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ الصَّلاَةَ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَخَرَجَ فَقَالَ: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَْرْضِ غَيْرُكُمْ قَالَ: ولاَ يُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إِلاَّ بِالْمَدِينَةِ وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأَْوَّلِ.
الشرح:
هذه الترجمة من فقه البخاري العظيم.
وهذه الترجمة مستثناة من الترجمة السابقة، وفيها أن من نام عن صلاة العشاء ليس متعمدًا ولا مختارًا، ولكن غلبه النوم، فإنه مستثنى من الكراهة.
569 قوله: «حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ الصَّلاَةَ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ» ، أي: أن النبي ﷺ أخرها فنام النساء والصبيان عن غير اختيارهم، ولكن غلبهم النوم فناموا، فمن غلبه النوم قبل صلاة العشاء ولم يتعاطاه اختيارًا فإنه معذور، وتكون الكراهة مختصة بمن تعاطى النوم مختارًا، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان ينام قبل العشاء، وهذا محمول على أن النوم قد غلبه، وأنه قد جعل أسبابًا توقظه.
قوله: مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَْرْضِ غَيْرُكُمْ، يعني: من جميع أهل الأرض، وهذا فيه دليل على أنه بوحي من الله .
وقوله: «ولاَ يُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إِلاَّ بِالْمَدِينَةِ» يعني: أنه لا يصلى صلاة الجماعة إلا بالمدينة، أما في مكة وغيرها فيصلون أفرادًا في أماكن متعددة؛ لأنهم مستضعفون، هذا اجتهاد من الراوي.
وقالت عائشة رضي الله عنها في رواية أخرى: «وذلك قبل أن يفشو الإسلام» [(109)] يعني: في أول الإسلام، حيث لم يسلم إلا قليل من أهل المدينة، أما المستضعفون في مكة فيصلون أفرادًا. فهكذا فهمت عائشة رضي الله عنها وهو اجتهاد منها.
ولكن هذا ليس بظاهر؛ لأن الجماعة كانت تقام في المدينة وفي غيرها، فكان بنو عبد القيس يصلون جماعة؛ حيث أسلموا قديمًا وصلوا أول جمعة في جواثا في الأحساء التي تسمى سابقا البحرين.
المتن:
الشرح:
570 قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً فَأَخَّرَهَا حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا ثُمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا» ؛ المراد بالنوم والرقاد هنا النعاس.
وقوله: «ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَْرْضِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ غَيْرُكُمْ، أي: لم ينكر عليهم كونهم نعسوا واستيقظوا؛ لأنهم غلبوا.
قوله: «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يُبَالِي أَقَدَّمَهَا أَمْ أَخَّرَهَا إِذَا كَانَ لاَ يَخْشَى أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ عَنْ وَقْتِهَا» ، لأن وقتها طويل إلى نصف الليل، والتأخير أفضل لمن لا يشق عليه، أما إذا كانت هناك مشقة فلا تؤخر.
وقوله: «وَكَانَ يَرْقُدُ قَبْلَهَا» محمول على ما إذا غلبه النوم، أو أنه كان لا يخشى أن يغلبه النوم عن وقتها؛ فقد جاء ما يدل على أنه كان له من يوقظه.
وهذا الحديث إعادة للحديث السابق، وفيه: أنه يستثنى من كراهة النوم قبل العشاء من نام مغلوبًا، وليس باختياره.
المتن
الشرح:
571 قوله: «فَخَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ الآْنَ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ» ، أي: أن النبي ﷺ تأخر بسبب تجهيز الجيش، فجاء يقطر رأسه من ماء الوضوء؛ حيث توضأ بسرعة وأتاهم.
قوله: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا هَكَذَا، يعني: لولا المشقة لكانت صلاتها في هذا الوقت المتأخر أفضل.
وهذا فيه رأفته ﷺ بأمته، ورحمته بهم، وعنايته بترك ما يشق عليهم.
والشاهد من هذا أن من غلبه النوم مستثنى من الكراهة، ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: «حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا ثُمَّ رَقَدْنَا ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا» ، وفي الحديث السابق قال عمر: «نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ» ، فهذا ليس تعمدًا، وإنما غلبهم النوم من طول الانتظار.
قوله: «فَاسْتَثْبَتُّ عَطَاءً» : القائل ابن جريج.
قوله: «فَبَدَّدَ لِي عَطَاءٌ بَيْنَ أَصَابِعِهِ شَيْئًا مِنْ تَبْدِيدٍ ثُمَّ وَضَعَ أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ عَلَى قَرْنِ الرَّأْسِ ثُمَّ ضَمَّهَا يُمِرُّهَا كَذَلِكَ عَلَى الرَّأْسِ حَتَّى مَسَّتْ إِبْهَامُهُ طَرَفَ الأُْذُنِ مِمَّا يَلِي الْوَجْهَ عَلَى الصُّدْغِ» . بدد أصابعه يعني فرقها، ثم ضمها ومر بها على جانب الرأس حتى الصدغ، حتى مست الإبهام طرف الأذن.
فهذا وصف عطاء لابن جريج، وعطاء وصفه له ابن عباس رضي الله عنهما.
أما في الغسل فإنه ثبت أن النبي ﷺ جعل ينفض الماء بيديه، فجاءته ميمونة بخرقة فلم يُرِدْها[(110)]، أما الوضوء فمسكوت عنه.
ولهذا قال العلماء: تنشيف أعضائه بعد الوضوء من باب الإباحة وليس سنة.
المتن:
باب وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ
وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَحِبُّ تَأْخِيرَهَا
572 حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَخَّرَ النَّبِيُّ ﷺ صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ صَلَّى ثُمَّ قَالَ: قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا.
وَزَادَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَسَاً كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ لَيْلَتَئِذٍ.
الشرح:
جزم المؤلف رحمه الله بالترجمة هنا لوضوح الدليل في حديث أبي برزة المتقدم، والمؤلف رحمه الله لا يجزم بالحكم في الترجمة إلا إذا كان الأمر واضحًا، ومن ذلك:
أنه جزم بأن طلاق الحائض يقع، والمسألة خلافية، وجماهير العلماء على أنه يقع، وهناك من رأى أنه لا يقع الطلاق.
وكذلك أيضًا جزم بأن صلاة الجمعة بعد زوال الشمس، وجماهير العلماء على أنه لا تصح الجمعة إلا إذا دخل الوقت، فلا ينبغي أن يتقدم لصلاة الجمعة، بل يكون أذان الجمعة هو أذان الظهر؛ لأن الأحاديث صريحة في هذا.
قوله: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَحِبُّ تَأْخِيرَهَا» ، يعني: صلاة العشاء.
572 قوله في حديث الباب: «أَخَّرَ النَّبِيُّ ﷺ صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ» ؛ المراد: إلى قرب نصف الليل؛ لأن وقتها ينتهي بمضي نصف الليل، فإذا انتصف الليل خرج الوقت؛ ولا يمكن أن يؤخرها النبي ﷺ إلى ما بعد خروج الوقت.
قوله: «ثُمَّ صَلَّى» ، يعني: صلى بالناس.
قوله: قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا؛ هذا لأن الناس صلوا في كل مكان، وهم ينتظرون الصلاة، والأجر العظيم في هذا الانتظار الطويل؛ فهم في حكم المصلي؛ ومعلوم أن المصلي مثاب، وثوابه عظيم، وأجره كبير، والملائكة تستغفر له، وتدعو له.
وفيه: دليل على أن منتظر الصلاة في حكم المصلي، وقد جاء في حديث آخر أن المسلم إذا كان ينتظر الصلاة لا يشبك بين أصابعه، فإنه في صلاة[(111)].
قوله: «يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ سَمِعَ أَنَسَاً» ؛ في هذا السند تصريح حميد بأنه سمع من أنس، وفي السند الأول عنعن حميد عن أنس؛ لأن حميدًا قد يدلس أحيانًا؛ فلذلك أتى بالتعليق ليبين أن حميدًا صرح بالسماع من أنس.
وقوله: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ لَيْلَتَئِذٍ» ؛ هذا من باب التأكيد، يعني: صلى بنا وأنا أنظر إلى لمعان وبريق الخاتم.
وهو خاتم اتخذه النبي ﷺ أخيرًا لما كتب لأمراء القبائل والعشائر، فقيل له: إنهم لا يقبلون الكتاب إلا مختومًا بخاتم، فاتخذ النبي ﷺ خاتمًا، وكتب به محمد رسول الله ثلاثة أسطر: محمد ﷺ سطر، ورسول سطر، والله سطر، وكان ﷺ يختم به الكتب.
وعلى هذا فالخاتم مباح؛ أما القول بأن الخاتم سنة فيحتاج إلى دليل.
المتن:
باب فَضْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ
573 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ لِي جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لاَ تُضَامُّونَ أَوْ لاَ تُضَاهُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَالَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا.
الشرح:
قوله: «بَاب فَضْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ» .
573 قوله: أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لاَ تُضَامُّونَ أَوْ لاَ تُضَاهُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا؛ وهما صلاة الفجر وصلاة العصر، وهذا فيه دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب دخول الجنة، ومن أسباب النظر إلى وجه الله الكريم.
وليس المراد أنه لا بأس بتضييع بقية الصلوات، بل من صلاهما عن إيمان فلابد أن إيمانه الذي دفعه على المحافظة على هاتين الصلاتين يدفعه إلى المحافظة على بقية الصلوات.
أما من صلى العصر والفجر وترك بقية الصلوات فلا يفيده؛ لأن النصوص يضم بعضها إلى بعض، بل يكون مرتدًّا بترك صلاة واحدة على الصحيح، ـ والعياذ بالله ـ.
ومعنى المحافظة على هاتين الصلاتين شدة العناية بهما، والمحافظة عليهما أكثر من غيرهما؛ لأن صلاة الفجر تقع بعد النوم والراحة، فيتساهل فيها كثير من الكسالى، أما المؤمن فلا يغلبه الكسل ولا يغلبه النوم، بل يكبح جماح نفسه بما لديه من الإيمان الذي وقر في قلبه، فهو يدفعه إلى العناية بأسباب اليقظة: من النوم المبكر واتخاذ مَن يوقظه؛ وكذلك صلاة العصر فإنها تقع بعد العمل لكثير من الموظفين وأصحاب الأعمال التجارية وغيرها، فالذي لا يبالي، ومن ضعف إيمانه، يضيع هذه الصلاة؛ أما المؤمن فلا؛ لأنه يتكيف مع الوقت الذي يتناسب مع الصلاة، فيجعل أعماله وراحته تابعة للصلاة، وليس العكس كالكسالى، إن نام مبكرًا استيقظ لصلاة الفجر، وإن نام متأخرًا نام ولا يبالي.
فعلى من يعلم من نفسه أنه إذا نام لا يستيقظ للصلاة أن لا ينام حتى يؤدي الصلاة، ومن يغالبه النوم عن الفريضة يعالج نفسه، فإن الصلاة مقدمة.
وأما ما جاء في الحديث الآخر: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ [(112)] فهذا في صلاة الليل؛ لئلا يستغفر فيسب نفسه؛ لأن صلاة الليل طويلة، فإذا نعس الإنسان رقد حتى يأخذ راحته ويصلي، أما في صلاة الفريضة فليس له أن يرقد، بل يعالج نفسه؛ لأنها صلاة غير طويلة.
وأما الذي ينام عن الصلاة متعمدًا فيخشى عليه؛ فقد أفتى جمع من أهل العلم بأنه من لم يصل إلا بعد الشروق باستمرار يكون مرتدًّا، وتترتب عليه أحكام الكفر؛ لأنه يعتبر تاركًا للصلاة كلها، ولا تفيده الصلاة التي صلاها؛ لأن النبي ﷺ قال: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ [(113)] وتأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر ليس عليه أمر الله ورسوله ﷺ، ويكون مردودًا على صاحبه.