شعار الموقع

شرح كتاب مواقيت الصلاة من صحيح البخاري (9-4) تابع بَابُ فَضْلِ صَلاَةِ الفَجْرِ - إلى بَاب قَضَاءِ الصَّلاَةِ الأُْولَى فَالأُْولَى.

00:00
00:00
تحميل
134

وقال آخرون من أهل العلم: إن هناك فرقًا بين من يصلي ومن لا يصلي، فمن أخر الصلاة ثم صلاها لا يكفر، ومن تركها كفر كفرًا أصغر، ويكون أكبر من ذنب الزاني والسارق وشارب الخمر والمرابي والعاق لوالديه وقاطع الرحم وأعظم من جميع المعاصي.

فليس لأحد تأخير الصلاة إلا لعذر، كأن كان مسافرًا أو مريضًا؛ لأن أوقات الصلوات محكمة محددة.

المتن:

574 حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ.

وَقَالَ ابْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ أَخْبَرَهُ بِهَذَا حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ.

الشرح:

574 قوله: مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ البردان: الصبح والعصر، سميا بردين لأنهما يقعان في طرفي النهار حين يطيب الهواء وتذهب سَوْرة الحر، وهذا فيه أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب دخول الجنة، يعني مع إيمانه بالله ورسوله ﷺ وتوحيده، فالنصوص يضم بعضها إلى بعض، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ [(114)].

وأما المشرك فالجنة عليه حرام، فالمراد مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ من المؤمنين الموحدين دخل الجنة، ومن حافظ عليهما فإنه لابد أن يحافظ على بقية الصلوات، فإيمانه الذي دفعه إلى صلاة البردين والعناية بهما يدفعه إلى أن يؤدي بقية الصلوات في أوقاتها مع الجماعة.

المتن:

باب وَقْتِ الْفَجْرِ

575 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ يَعْنِي آيَةً ح.

576 حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ سمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى قُلْنَا لأَِنَسٍ كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً.

575 قوله: «قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ» ، فيه: أن النبي ﷺ كان يبكر بصلاة الفجر.

الشرح:

576 قوله: «قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً» ، وفي رواية: «بين الأذان والإقامة قدر خمسين آية» [(119)] وهذا يختلف على حسب الآيات الطوال والقصار، وعلى حسب قراءة القارئ؛ لأن القارئ قد يرتل وقد يسرع، والآيات بعضها طويلة؛ وبعضها قصيرة، والمراد أن النبي ﷺ كان يبكر بصلاة الفجر، كما جاء في الحديث: «والصبح كان النبي ﷺ يصليها بغلس» [(120)] يعني: إذا انشق الفجر وطلع صلى ﷺ ركعتي الفجر ـ السنة الراتبة ـ ثم صلى بالناس في وقت اختلاط الصبح بظلام الليل، ولا يتأخر حتى يسفر جدًّا.

577 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَخِيهِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي ثُمَّ يَكُونُ سُرْعَةٌ بِي أَنْ أُدْرِكَ صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

577 قوله: «كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي ثُمَّ يَكُونُ سُرْعَةٌ» ، أي: يتسحر مع أهله في رمضان ثم يسرع حتى يدرك صلاة الفجر مع النبي ﷺ، حتى لا تفوته؛ لأنه يبكر بها ﷺ في أول وقتها بعد تحقق طلوع الفجر وانشقاقه وظهور الصبح، ولا يتأخر حتى يسفر جدًّا.

وبعض الناس يتأخر حتى يسفر الصبح جدًّا، وهذا خلاف الأفضل، بل ينبغي أن تكون الصلاة في أول وقتها والظلمة باقية.

ويحتمل أن أهل سهل بن سعد كان بينهم وبين المسجد مسافة؛ فإذا تسحر في أهله احتاج إلى وقت بعد الأذان ليمشي إلى المسجد.

المتن:

578 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَلاَةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاَةَ لاَ يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ.

الشرح:

578 قولها: «كُنَّ نِسَاءُ» ، جمع بين المضمر والظاهر على اللغة القليلة، لغة أكلوني البراغيث؛ ومنه قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبيَاء: 3]، وفي اللغة الكثيرة نقول: وأسر النجوى.

وفيه: أن النساء كن يصلين مع النبي ﷺ في الغالب جميع الصلوات، فلا بأس للمرأة أن تصلي مع الرجال في المسجد إذا خرجت متعففة، ليست متطيبة، ولا متبرجة، ولا يخشى عليها فتنة، ولا ريبة؛ كما ورد في «صحيح مسلم»، أن المرأة لا تمنع من الصلاة في المسجد، فقال ﷺ: لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ [(121)] ولما قال ابن لعبدالله بن عمر رضي الله عنهما: والله لنمنعهن، فسبَّه عبدالله سبًّا سيِّئًا؛ لأنه عارض السنة.

 قوله: «مُتَلَفِّعَات» أي: مستترات، قوله: «بِمُرُوطِهِنَّ» ، المروط، جمع مِرط وهو ثوب مخطط، أو فيه شيء من خطوط.

قوله: «لاَ يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ» ، فيه: دليل على التبكير بصلاة الفجر، وأن النبي ﷺ كان يصليها بغلس في أول وقتها، وهو اختلاط ضوء الصبح بظلام الليل، ولا يتأخر حتى تزول الظلمة.

  وفيه: دليل على أن وقت الصبح طلوع الفجر؛ لأنه الوقت الذي يحرم فيه الطعام والشراب على الصائم، وانصراف النساء اللاتي يصلين مع النبي ﷺ بغلس يدل على التبكير.

قال المؤلف رحمه الله: «بَاب وَقْتِ الْفَجْرِ» ، ولم يبين، ولم يجزم بالحكم، فلم يقل: باب وقت الفجر بغلس؛ لأن المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فذهب بعض الأحناف[(115)] إلى أن صلاة الفجر تتأخر للإسفار؛ لحديث: أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ [(116)]؛ ولو صح هذا الحديث فإنه يحمل الإسفار على تحقق طلوع الفجر وانشقاقه ووضوحه، ولا يلزم من هذا أنه الإسفار الذي تزول معه الظلمة.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «الأفضل: هل هو التغليس بها في أول وقتها، أم الإسفار بها؟ وفيه قولان: أحدهما: أن التغليس بها أفضل، وروي التغليس بها عن أبي بكر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وابن عمر، وابن الزبير، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، ومعاوية، وعمر بن عبدالعزيز ؛ وهو قول الليث، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وإسحاق، وأبي ثور، وداود.

وقد ذكرنا في هذا الباب عامة أحاديث التغليس بالفجر.

وذهب آخرون إلى أن الإسفار بها أفضل، وروي الإسفار بها عن عثمان، وعلي، وابن مسعود ».

والصواب من القولين أن التبكير بها يستحب، وأن الصلاة في أول وقتها هو الأفضل، وهو فعل النبي ﷺ كما في هذه الأحاديث، فالفجر لا يسفر إسفارًا شديدًا حتى ولو أطال الإمام؛ لأن النبي ﷺ كان يطيل ومع ذلك ينصرف معه النساء متلفعات ما يعرفهن أحد من الغلس[(117)].

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «واستدل من رأى الإسفار بما روى عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، عن النبي ﷺ، قال: أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ؛ خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وخرجه ابن حبان في صحيحه[(118)].

وقال العقيلي: إسناده جيد.

قال الأثرم: ليس في أحاديث هذا الباب أثبت منه».

ويحتاج تحسين الترمذي رحمه الله إلى نظر؛ لأنه رحمه الله يتساهل في التحسين، لكن لو صح يحمل على أن المراد تحقق طلوع الفجر ووضوحه مع بقاء الظلمة.

المتن:

باب مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْفَجْرِ رَكْعَةً

579 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ وَعَنْ الأَْعْرَجِ يُحَدِّثُونَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ.

الشرح:

لم يجزم المؤلف رحمه الله بالترجمة فقال: مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْفَجْرِ رَكْعَةً وسكت، فحذف جواب الشرط؛ لأنه يحتمل أن يكون إدراكها قضاء أو أداء، والصواب أنه يدركها أداء إذا كان معذورًا، فمن أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة في الوقت إذا كان معذورًا.

أما إذا كان باختياره فليس له أن يؤخرها حتى تطلع الشمس.

579 في الحديث : دليل على أن من أدرك ركعة قبل خروج الوقت فقد أدرك الوقت، فمن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة في وقتها؛ ومن أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس فقد صلى الصلاة في وقتها، لكن لا يجوز له التأخير باختياره؛ فصاحب الضرورة ـ مثل الناسي، أو امرأة طهرت من الحيض، أو النفاس ـ إذا أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج الوقت فقد صلاها في وقتها أداء.

ومفهوم الحديث أنه من لم يدرك ركعة قبل الوقت فإنه لم يدرك الوقت.

المتن:

باب مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصَّلاَةِ رَكْعَةً

580 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ.

الشرح:

هذه الترجمة الفرق بينها وبين الترجمة السابقة أنها في إدراك الصلاة مع الجماعة، فمن أدرك ركعة مع الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك الجماعة، أما الترجمة السابقة ففيمن أدرك ركعة من الوقت قبل أن يخرج الوقت؛ فعلى هذا فالوقت يدرك بإدراك ركعة والجماعة تدرك بإدراك ركعة.

580 قوله في حديث الباب: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ يرى بعض العلماء كالحنابلة[(122)] أنه إذا كبر تكبيرة الإحرام وجلس قبل أن يسلم الإمام أدرك الجماعة، لكن هذا قول ضعيف مرجوح، والصواب ما دل عليه الحديث أن الجماعة تدرك بإدراك ركعة، والركعة لا تحصل إلا بالركوع، فإذا أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام أدرك الجماعة، وإذا أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يخرج الوقت أدرك الصلاة في الوقت.

وقد يقال: إن الذي يتأخر ولا يدرك إلا ركعة إذا كان متعمدًا فهو الذي فوت على نفسه فضيلة الجماعة؛ لأنه يجب عليه أن يجيب النداء، فلما تأخر حُرم من الأجر والثواب.

فلابد للإنسان أن يؤدي الصلاة في وقتها إذا كان غير معذور، أما المعذور فإذا أداها بعد خروج الوقت رفع عنه الحرج، فإن كان نائمًا نومًا يعذر فيه فالوقت في حقه حين يستيقظ، وإذا كان ناسيًا فحين يتذكر؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك [(123)].

المتن:

باب الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ

581 حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ.

582 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي نَاسٌ بِهَذَا.

583 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ تَحَرَّوْا بِصَلاَتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا.

وَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَغِيبَ.

تَابَعَهُ عَبْدَةُ.

الشرح:

لم يجزم المؤلف رحمه الله في هذه الترجمة بالحكم؛ لأن المسألة فيها خلاف بين أهل العلم؛ فهناك الأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، وهناك أحاديث أخرى تدل على جواز الصلاة في أوقات النهي.

581، 582 قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ» ، فيه: النهي عن الصلاة في هذين الوقتين.

583 قوله: لاَ تَحَرَّوْا بِصَلاَتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا؛ التحري بمعنى قصد الصلاة في هذين الوقتين، فالنهي في حق من قصد الصلاة فيهما أشد ممن صلى فيهما بدون قصد.

وكذلك ينهى عن دفن الميت في بعض الأوقات كما في حديث عقبة بن عامر عند مسلم رحمه الله: «ثلاث ساعات من النهار نهى رسول الله ﷺ أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول» [(124)] فهذه أوقات ضيقة قصيرة ينهى فيها عن الصلاة وعن دفن الموتى، أما في الوقتين الطويلين: بعد الصبح وبعد العصر فلا بأس فيهما من دفن الموتى.

والنهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر ورد في الأحاديث المتواترة، لكنه عام مخصوص، فيستثنى منه:

1- من نام عن صلاة، أو نسيها ثم تذكر، أو استيقظ في هذين الوقتين، فإنه يصلي؛ لقول النبي ﷺ: من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك [(125)].

2- صلاة الكسوف، فلو كسفت الشمس بعد العصر صُليت؛ لأنها صلاة لها سبب وهو الكسوف.

3- تحية المسجد تصلى على الصحيح؛ لحديث أبي قتادة : إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ [(126)].

4- إعادة الجماعة، كأن يصلي إنسان في المسجد العصر ثم جاء إلى مسجد آخر فيه حلقة علم ووجدهم يصلون، فيصلي معهم ويعيد الجماعة، ولو كان وقت نهي، وكذلك لو صلى الفجر في المسجد ثم جاء إلى مسجد آخر وهم يصلون فإنه يصلي ولا يجلس، وتكون الصلاة الثانية نافلة؛ لأنه لما صلى النبي ﷺ الفجر في منى وسلم رأى وراءه رجلين جالسين فقال: ما لكما لم تصليا معنا؟ قالا: إنا صلينا في رحالنا يا رسول الله، فقال: إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ [(127)].

5- ركعتا الطواف لمن طاف بعد العصر أو بعد الفجر.

6- سنة الوضوء.

فكل ذلك يستثنى، وهذا هو الصواب الذي عليه المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(128)]، وجماعة؛ حيث يرون أن هذه الأحاديث مخصوصة بذوات الأسباب، مثل صلاة الفائتة، وصلاة الكسوف، وركعتي الطواف، وسنة الوضوء، وإعادة الجماعة؛ وبعضهم ألحق بها السنة الراتبة الفائتة؛ لكن الصواب أن السنة الفائتة لا تصلى في وقت النهي.

القول الثاني : لا تفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وإنما تقدم أحاديث النهي؛ لأنها أصح وأكثر.

وإلى هذا ذهب الجمهور، فلا تصلى تحية المسجد بعد العصر أو بعد الفجر، ولا سنة الوضوء، ولا غيرها من ذوات الأسباب؛ لكن يرد عليهم أن إعادة الجماعة، وصلاة الكسوف فيهما نص؛ فالصواب أنه تُصلى في أوقات النهي ذوات الأسباب؛وهذا الذي عليه المحققون من أهل العلم؛ وهذا ما تقتضيه القاعدة الأصولية: أنه إذا تعارض دليلان ـ يعني: في الظاهر ـ وأمكن الجمع بينهما فإنه لا يعدل عن الجمع؛ لأن فيه عملاً بالحديثين جميعًا.

ومن دخل المسجد في وقت كراهة فجلس ولم يركع ركعتين لا ينكر عليه؛ لأن المسألة فيها خلاف، والجمهور يرون أنه يجوز، لكن يقال له: لو صليت فهو أفضل؛ لقول الرسول ﷺ: «\إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ [(129)] فإذا كان طالب علم ويرى ما يراه الجمهور فلا لوم عليه.

وذهب الظاهرية إلى وجوب تحية المسجد، وهو قول قوي؛ لقول النبي ﷺ للذي جلس وهو يخطب: أَصَلَّيْتَ؟ قال: لا، قال: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا [(130)].

قوله: إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، يعني: عند شروقها.

وقوله: فَأَخِّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ؛ لأنه وقتٌ ضيِّق.

وقوله: وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَغِيبَ، يعني: إذا شرعت في الغروب حتى يتم غروبها.

وهذا الحديث فيه النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند شروعها في الغروب وتضيفها حتى تغرب، وهذان الوقتان للنهي قصيران غير الوقتين الطويلين في الحديث الأول: لَا صَلاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلا صَلاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ [(131)].

المتن:

584 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَعَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ صَلاَتَيْنِ نَهَى عَنْ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَعَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَعَنْ الاِحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِي بِفَرْجِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَنْ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلاَمَسَةِ.

الشرح:

584 في هذا الحديث: النهي عن بيعتين، ولبستين، وصلاتين.

أما البيعتان ففسرهما في آخر الحديث وهما: المنابذة والملامسة.

واللبستان فسرهما باشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد.

وأما الصلاتان فسرهما في هذا الحديث بالصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس.

قوله: «اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ» : هو أن يشتمل بثوب واحد ـ أي: قطعة واحدة ـ ليس عليه غيره، كأن يشتمل برداء على جسمه وليس دونه إزار ولا سروال، وليس له منفذ؛ بحيث لو حرك يده أو غيرها انكشفت العورة، أما لو كان عليه سروال فلا محذور فيه؛ لأن العورة مأمون انكشافها.

وكان العرب يتساهلون في هذا؛ لقلة ثيابهم، فكانوا يشتملون بثوب واحد.

وأما اللبسة الثانية فهي: الاحتباء في ثوب واحد، وهو أن يأتي بثوب يربطه على ظهره وعلى ساقيه من غير سروال؛ فإذا اتكأ كان في الظاهر مستورًا، أما من الأمام فيكون مكشوفًا، فلو وقف إنسان أمامه لشاهد عورته. ولكن إذا كان عليه سروال فليس فيه محذور.

وهذا يفعله بعض الناس، ولاسيما إذا كانت الجلسة طويلة يوم الجمعة، فبعض الناس يحضر حبلاً ويضعه على ظهره وعلى رجليه ويربطه حتى يكون كأنه معتمد عليه، فلو وقف إنسان عليه لشاهد عورته، فنهي عنه لما فيه من التساهل في كشف العورة، أما إذا كان عليه إزار أو سروال فلا حرج في ذلك.

- وأما البيعتان فهما: الملامسة والمنابذة، والملامسة هي أن يقول: أي ثوب لمسته من هذه الثياب فهو عليك بمائة! فمن الممكن أن يلمس ثوبًا يساوي خمسمائة ويمكن أن يلمس ثوبًا لا يساوي إلا عشرة، وهذا فيه غرر محرم، وإنما إذا أراد ثوبًا اختاره وقلبه ونظر إليه، ثم يسأل عن ثمنه.

والمنابذة أن يقول: أي ثوب نبذته ـ أي: طرحته ـ إليك أو طرحته أنت فهو عليك بمائة، فيمكن أن يأخذ ثوبًا يساوي مائة ويمكن أن يأخذ ثوبًا لا يساوي إلا عشرة، فهذا فيه غرر محرم، وإنما إذا أراد أن يشتري نظر في الثوب وقلبه، ثم يخبره بالقيمة.

ولذلك نهى الشارع عن هاتين البيعتين؛ لما فيهما من الغرر، ولأنهما يفضيان إلى الشحناء والضغينة والقطيعة.

أما ما يفعله بائعو الماشية؛ حيث إنهم يقولون لمن أراد أن يشتري خمسين رأسًا مثلا: الخمسون التي تخرجها أولا هي لك؛ ففيه تفصيل: إذا كانت متساوية أو متقاربة فلا بأس؛ لأنه معلوم قيمتها، وإذا أراد أن يبيعها كلها بثمن واحد فلا بأس، أما إذا كانت مختلفة متفاوتة في الثمن، بعضها يباع بخمسمائة وبعضها بثلاثمائة وبعضها بمائتين فلا؛ لأن هذا فيه غرر.

وللمشتري الخيار في المجلس فينظر ويتأمل، فإن وافق واستحسن وإلا ترك فله أن يعرض عن البيع ما داما في المجلس إذا لم يتفرقا.

- وأما عن الصلاتين فهما: الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس.

واختلف الفقهاء في ذلك؛ فالجمهور يرون تقديم أحاديث النهي، والظاهرية يرون أنها منسوخة، وأنه يجوز الصلاة في وقت النهي، وبعض العلماء يرى أن ذوات الأسباب تُصلى في أوقات النهي، وهذا هو الصواب؛ لما فيه من الجمع بين الأحاديث.

المتن:

باب لاَ يَتَحَرَّى الصَّلاَةُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ

585 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لا يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ عِنْدَ غُرُوبِهَا.

الشرح:

هذه الترجمة داخلة في الترجمة التي قبلها، وقد ترجم المؤلف رحمه الله هنا بالتحري على لفظ الحديث من باب التأكيد للنهي عن الصلاة في هذا الوقت الوارد في مثل حديث: لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ [(132)].

585 قوله: لاَ يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ عِنْدَ غُرُوبِهَا، مفهومه أنه لا بأس بالصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وهذا المفهوم ألغاه حديث: لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ [(133)].

وفي الحديث تأكيد النهي عن الصلاة في هذا الوقت؛ لكونه وقتًا ضيقًا وقصيرًا.

وبعض العلماء استدل بهذا الحديث على أنه لا بأس بالصلاة بعد العصر وبعد الفجر، وإنما ينهى عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ فتكون المذاهب في هذا أربعة:

المذهب الأول: مذهب الجمهور أنه لا يصلى بعد العصر وبعد الفجر.

المذهب الثاني: مذهب الظاهرية أنه يصلى مطلقًا، وأن أحاديث النهي منسوخة.

المذهب الثالث: أنه لا بأس بالصلاة بعد الفجر وبعد العصر، وإنما ينهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لهذا الحديث.

المذهب الرابع: مذهب المحققين: أن الصلاة منهي عنها بعد العصر وبعد الفجر في أوقات النهي القصيرة والطويلة، إلا ذوات الأسباب فإنها مستثناة.

المتن:

586 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ الْجُنْدَعِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ.

الشرح:

586 في هذا الحديث : النهي عن الصلاة في هذين الوقتين، والأحاديث متواترة في هذا؛ ولهذا قدم الجمهور أحاديث النهي وقالوا: إنها أصح وأكثر.

المتن:

587 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ يُحَدِّثُ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلاَةً لَقَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهَا وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ.

الشرح:

587 قول معاوية : «فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهَا» ، أي: النبي ﷺ. لكن أثبت غيره كعائشة رضي الله عنها أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين، قالت عائشة رضي الله عنها: ما دخل النبي ﷺ بيتي بعد العصر إلا صلى ركعتين[(134)]، والمثبت مقدم على النافي، فمعاوية خفي عليه، وعائشة رضي الله عنها أثبتت أن النبي ﷺ كان يصلي ركعتين بعد العصر ويداوم عليهما؛ وذلك أنه شغله وفد عبدالقيس عن الراتبة بعد الظهر حتى جاء وقت العصر، فلما صلى العصر قضاهما، ولما قضاهما داوم عليهما؛ لأنه ﷺ كان إذا عمل عملاً داوم عليه.

وبعض العلماء يصلي بعد العصر ركعتين اقتداء بالنبي ﷺ، وقال آخرون من أهل العلم: إن هذا خاص به، وهذا هو الصواب، وقال آخرون من أهل العلم: الخصوصية إنما هي للمداومة على الركعتين بعد العصر، أما الصلاة بعد العصر فلا بأس بها، فإذا فاتت الإنسان الركعتان بعد الظهر صلاهما بعد العصر اقتداء بالنبي ﷺ.

والصواب أن الأمرين كليهما من خصائص النبي ﷺ: قضاؤه للركعتين بعد العصر من خصائصه، والمداومة عليهما من خصائصه، كما جاء في «الصحيح» أن أم سلمة رضي الله عنها أرسلت جارية للنبي ﷺ فقالت لها: سليه فقولي له: يا رسول الله إنك تنهى عن الصلاة بعد العصر وقد رأيتك تصلي، فإذا قال لك استأخري فاستأخري، فلما جاءت إليه أشار إليها أن استأخري فاستأخرت، فلما سلم ناداها: يا بنت أبي أمية تسألين عن الصلاة بعد العصر، إنه شغلني وفد عبد القيس، فهما هاتان [(135)] وفي رواية لأحمد رحمه الله أنها قالت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا [(136)] فدل على أن ذلك من خصائصه ﷺ.

وإن كان بعضهم ضعف هذه الرواية، إلا أن الصواب أنها ليست ضعيفة، بل ثابتة؛ فيكون قضاء الركعتين بعد العصر والمداومة عليهما من خصائصه ﷺ.

أما الفريضة فإذا فاتت فلا بأس أن تقضى في أوقات النهي.

المتن:

588 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ.

الشرح:

588 في هذا الحديث: ذكر الوقتين المنهي عن الصلاة فيهما، وهما: عند طلوع الشمس، وعند غروبها. وقد سبق بيان هذا.

المتن:

 بَاب مَنْ لَمْ يَكْرَهْ الصَّلاَةَ إِلاَّ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ

رَوَاهُ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ.

589 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُصَلِّي كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يُصَلُّونَ لاَ أَنْهَى أَحَدًا يُصَلِّي بِلَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ مَا شَاءَ غَيْرَ أَنْ لاَ تَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا.

الشرح:

سبق ذكر روايات عمر وابن عمر وأبي سعيد وأبي هريرة .

589 قوله في حديث الباب: «لاَ أَنْهَى أَحَدًا يُصَلِّي بِلَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ مَا شَاءَ غَيْرَ أَنْ لاَ تَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا» ، فيه: دليل على أن من الأوقات التي تكره الصلاة فيها: عند طلوع الشمس، وعند غروبها.

فيكون البخاري رحمه الله قد ذكر في تراجمه موضعين للنهي: بعد العصر حتى تغرب الشمس، والوقت الضيق من شروعها للغروب حتى تتم، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس، وعند طلوعها حتى يتم.

ولم يذكر الوقت الثالث من أوقات النهي، وهو وقت استواء الشمس عند قيامها حتى تزول، وهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، ولكنه ليس على شرط البخاري رحمه الله؛ ولذلك لم يذكره، وعادة البخاري رحمه الله أن ما لم يثبت على شرطه يشير إليه في الترجمة، فما ذهب إليه البخاري رحمه الله من الاقتصار في ذكر أوقات النهي على وقتين بعد الفجر وبعد العصر مذهب ضعيف ـ وهو اختيار مالك رحمه الله[(137)] ـ ولم يذكر الوقت الثالث، وهو عند قيامها حتى تزول.

والصواب: أن أوقات النهي ثلاثة: بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وعند قيام الشمس حتى تزول.

ويوم الجمعة مستثنى من وقت النهي؛ لأن النبي ﷺ سن لمن جاء مبكرًا أن يصلي حتى يخرج الإمام، وهذا يستلزم أن يصلي عند زوال الشمس حتى يخرج الإمام بعد الزوال، كما جاء في الحديث: وصلى ما كتب له حتى يخرج الإمام [(138)].

وأوقات النهي ثلاثة، هذا على سبيل الاختصار، وعلى سبيل البسط فأوقات النهي خمسة: بعد العصر حتى تتضيف للغروب، وعند تضيفها حتى تتم، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس، وعند طلوعها حتى ترتفع، وعند قيامها حتى تزول.

وفي حديث عقبة بن عامر في «صحيح مسلم» ذكر الوقت الثالث، فقال: «ثلاث ساعات نهانا رسول الله ﷺ أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة، وحين تشرع في الغروب، وحين يقوم قائم الظهيرة» [(139)]، لكن هذا الحديث لم يصح عند البخاري رحمه الله؛ لأنه ليس على شرطه، فترجم على نفيه واقتصر على وقتين بعد العصر وبعد الفجر، فقال: «بَاب مَنْ لَمْ يَكْرَهْ الصَّلاَةَ إِلاَّ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ» ، وكذلك لم يصح عنده حديث عمرو بن عبسة عند مسلم رحمه الله، وفيه أنه ذكر: «إذا قام قائم الظهيرة حتى تزول» [(140)].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وبقي خامس وهو الصلاة وقت استواء الشمس، وكأنه لم يصح عند المؤلف رحمه الله على شرطه، فترجم على نفيه، وفيه أربعة أحاديث».

يعني: في ثبوته أربعة أحاديث ثابتة.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «حديث عقبة بن عامر، وهو عند مسلم رحمه الله ولفظه: «وحين يقوم قائم الظهيرة حتى ترتفع [(141)]، وحديث عمرو بن عبسة، وهو عند مسلم رحمه الله أيضًا، ولفظه: حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ [(142)]، وفي لفظ لأبي داود رحمه الله: حَتَّى يَعْدِلَ الرُّمْحُ ظِلَّهُ [(143)] وحديث أبي هريرة وهو عند ابن ماجه والبيهقي، ولفظه: حَتَّى تَسْتَوِيَ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِكَ كَالرُّمْحِ [(144)] وحديث الصنابحي وهو في «الموطأ»، ولفظه: ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، وفي آخره: ونهى رسول الله ﷺ عن الصلاة في تلك الساعات، وهو حديث مرسل مع قوة رجاله[(145)]. وفي الباب أحاديث أخر ضعيفة، وبهذه الزيادة قال عمر بن الخطاب ؛ فنهى عن الصلاة نصف النهار. وعن ابن مسعود قال: كنا ننهى عن ذلك. وعن أبي سعيد المقبري رحمه الله قال: أدركت الناس وهم يتقون ذلك، وهو مذهب الأئمة الثلاثة والجمهور».

ومالك رحمه الله ذهب إلى ما ذهب إليه البخاري رحمه الله من أن وقت استواء الشمس ليس وقتًا للنهي.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وخالف مالك رحمه الله فقال: ما أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار. وقال ابن عبدالبر رحمه الله: وقد روى مالك رحمه الله حديث الصنابحي، فإما أنه لم يصح عنده، وإما أنه رده بالعمل الذي ذكره. انتهى. وقد استثنى الشافعي ومن وافقه من ذلك يوم الجمعة، وحجتهم أنه ﷺ ندب الناس إلى التبكير يوم الجمعة، ورغب في الصلاة إلى خروج الإمام ـ كما سيأتي في بابه ـ وجعل الغاية خروج الإمام، وهو لا يخرج إلا بعد الزوال، فدل على عدم الكراهة».

وهذا فيه: دليل على أنه ينبغي للإمام يوم الجمعة ألا يخرج إلا بعد الزوال، ولا يبكر كما يفعل بعض الأئمة يبكرون قبل الزوال؛ ولهذا ترجم البخاري ـ كما سيأتي في الجمعة ـ فجزم في الترجمة بأن وقت الجمعة بعد زوال الشمس؛ لقوة الدليل في هذا ـ وإن كان الصواب أنه تصح الجمعة قبل الزوال ـ ولهذا ذكر الإمام البخاري رحمه الله أن النبي ﷺ كان يصلي بعد انتصاف النهار، وكان أبو بكر وعمر وعثمان يصلون إذا انتصف النهار وبعد انتصاف النهار[(146)].

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقد روي عن ليث عن ابن سابط عن أخي أبي أمامة عن النبي ﷺ. وروى ابن وهب، أخبرني عياض بن عبدالله، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة ، أن رجلاً سأل النبي ﷺ: أمن ساعات الليل والنهار ساعة تأمرني أن لا أصلي فيها؟ فذكر الحديث بطوله، وفيه: فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس؛ فإنه حينئذ تسعر جهنم، وشدة الحر من فيح جهنم. فإذا مالت الشمس فالصلاة محضورة مشهودة متقبلة حتى تصلي العصر. وذكر الحديث»[(147)].

وهذا من أحاديث إثبات أدلة النهي.

المتن:

باب  مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ الْفَوَائِتِ وَنَحْوِهَا

وَقَالَ: كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ

وَقَالَ: شَغَلَنِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ

الشرح:

هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان ما يصلى بعد العصر من الفوائت، وظاهر هذه الترجمة جواز قضاء الفوائت بعد العصر من الفرائض والسنن الرواتب.

وهذا الإطلاق غير صحيح، أما الفرائض فإنها تقضى من دون إشكال؛ لحديث: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها [(148)] وأما السنن الرواتب فلا تقضى بعد العصر؛ لحديثي عائشة وأم سلمة رضي الله عنها في النهي عن قضاء راتبة الظهر بعد العصر، وهما يدلان على أن قضاء النبي ﷺ راتبة الظهر بعد العصر من خصائصه، وكذا مواظبته عليها من خصائصه ﷺ.

قول أم سلمة رضي الله عنها: «صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ» ، هذا مما خفي على معاوية ، ففي الحديث السابق أن معاوية قال: إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله ﷺ فما رأيناه يصليهما! ولقد نهى عنهما ـ يعني: الركعتين بعد العصر[(149)] ـ وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أثبتتا هذا، ومعاوية نفاه، والمثبت مقدم على النافي.

المتن:

590 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ وَمَا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى ثَقُلَ عَنْ الصَّلاَةِ وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاَتِهِ قَاعِدًا تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّيهِمَا وَلاَ يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ.

الشرح:

590 قول عائشة رضي الله عنها: «وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ» ، يعني: بعدما توفي ﷺ قالت هذا، فحلفت بالله الذي ذهب بنفسه ﷺ وأماته أنه ما ترك الركعتين بعد العصر حتى لقي الله .

وهذا فيه: دليل على أنه كان يصليهما بعد العصر، وفيه دليل على أن هذا خفي على معاوية حيث أنكره.

المتن:

591 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَتْ عَائِشَةُ ابْنَ أُخْتِي مَا تَرَكَ النَّبِيُّ ﷺ السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ.

الشرح:

591 قول عائشة رضي الله عنها: «السَّجْدَتَيْنِ» ، يعني: الركعتين، سميت الركعتان سجدتين؛ لأن السجدة أهم أركان الركعة.

المتن:

592 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَْسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلاَ عَلاَنِيَةً رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ.

الشرح:

592 قولها رضي الله عنها: «رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ» ، هذه هي السنة الراتبة، وأما الركعتان بعد العصر فقضاء للركعتين بعد الظهر، ثم داوم عليهما؛ لأنه ﷺ إذا عمل عملاً أثبته، فلما قضاهما مرة أثبت العمل، ثم كان هذا من خصائصه ﷺ.

وأما عن قضاء النوافل في غير أوقات النهي فلا بأس بأن تُقضى في الوقت، فإذا فاتت راتبة الظهر تقضيها بعد الظهر إلى دخول وقت العصر، وراتبة المغرب تقضيها إلى مغيب الشفق، وراتبة العشاء تقضيها إلى نصف الليل، وراتبة الفجر جاء ما يدل على أنك تقضيها بعد طلوع الشمس، أو تقضيها بعد الصلاة مباشرة، وأنت في هذا مخير؛ لأنه لما رأى النبي ﷺ رجلاً يصلي بعد الصبح قال: الصُّبْحَ أَرْبَعًا [(150)] فذكر أنه لم يصل الراتبة فسكت عنه، وجاء في حديث آخر أن الصلاة بعد ارتفاع الشمس[(151)].

أما إذا استيقظ الإنسان بعد صلاة الصبح ولم يبق من وقت خروجها إلا مقدار ما يصلي الفريضة فإنه يصلي الراتبة؛ لأن النائم يكون الوقت في حقه من حين انتباهه، يقول النبي ﷺ: من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها؛ لا كفارة لها إلا ذلك [(152)].

المتن:

593 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: رَأَيْتُ الأَْسْوَدَ وَمَسْرُوقًا شَهِدَا عَلَى عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِينِي فِي يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

الشرح:

593 قولها رضي الله عنها: «مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِينِي فِي يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «تمسك بهذه الروايات من أجاز التنفل بعد العصر مطلقًا ما لم يقصد الصلاة عند غروب الشمس، وقد تقدم نقل المذاهب في ذلك، وأجاب عنه من أطلق الكراهة بأن فعله هذا يدل على جواز استدراك ما فات من الرواتب من غير كراهة، وأما مواظبته ﷺ على ذلك فهو من خصائصه».

والصواب أن المواظبة من خصائصه، وكذلك القضاء بعد العصر من خصائصه؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها، وهو حديث حسن أخرجه أحمد بإسناد جيد[(153)]، وهو حجة كما قال الطحاوي رحمه الله، خلافًا للبيهقي رحمه الله، الذي ضعف الحديث؛ والصواب أنه جيد، وحسن، وليس بضعيف.

ولحديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود رحمه الله من رواية ذكوان مولاها أن النبي ﷺ كان يصلي بعد العصر، وينهى عنها[(154)].

والموجود في البخاري رحمه الله ظاهره جواز قضاء الفوائت من الرواتب ونحوها بعد العصر، لكن هذا الإطلاق ليس بصحيح، فإن الفرائض تقضى بعد العصر للحديث، أما السنن الرواتب فلا؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها، وحديث عائشة رضي الله عنها المذكورين.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأما مواظبته ﷺ على ذلك فهو من خصائصه ﷺ، والدليل عليه رواية ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها أنها حدثته أنه ﷺ كان يصلي بعد العصر وينهى عنها، ويواصل وينهى عن الوصال، رواه أبو داود، ورواية أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها في نحو هذه القصة، وفي آخره: وكان إذا صلى صلاة أثبتها، رواه مسلم[(155)]، قال البيهقي رحمه الله: الذي اختص به ﷺ المداومة على ذلك لا أصل القضاء، وأما ما روي عن ذكوان عن أم سلمة في هذه القصة أنها قالت: فقلت: يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتتا؟ فقال: لا [(156)]. فهي رواية ضعيفة لا تقوم بها حجة».

هذا كلام البيهقي رحمه الله، والصواب: أنها ليست ضعيفة، بل السند جيد.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قلت: أخرجها الطحاوي[(157)] واحتج بها على أن ذلك كان من خصائصه ﷺ وفيه ما فيه».

وقال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «ليس الأمر كما قال البيهقي بل حديث أم سلمة رضي الله عنها المذكور حديث حسن أخرجه أحمد في المسند بإسناد جيد، وهو حجة على أن قضاء سنة الظهر بعد العصر من خصائصه ﷺ كما قال الطحاوي رحمه الله، والله أعلم»[(158)].

المتن:

التَّبْكِيرِ بِالصَّلاَةِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ

594 حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَّ أَبَا الْمَلِيحِ حَدَّثَهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ فَقَالَ: بَكِّرُوا بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ.

الشرح:

594 قوله في حديث الباب: «بَكِّرُوا» ، يعني: بادروا بالصلاة في أول وقتها، والحديث من أوضح الأدلة على كفر تارك الصلاة كسلاً وتهاونًا؛ لأن النبي ﷺ أخبر أن من ترك صلاة العصر حبط عمله، والذي يحبط عمله هو الكافر، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المَائدة: 5]، وقال : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعَام: 88]، وقال تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البَقَرَة: 217].

ولحديث كحديث: بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ [(159)]وحديث: العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ [(160)].

قوله: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ، هذا مثال، فقد مثل ﷺ بصلاة العصر لعظم شأنها، وإلا فبقية الصلوات حكمها كذلك؛ فمن ترك صلاة العصر حبط عمله، ومن ترك صلاة الظهر حبط عمله، وكذلك لو ترك صلاة الفجر، أو صلاة المغرب، أو صلاة العشاء، فإن الحكم واحد.

والمعنى: تَرْكُها بالكلية، أما تركها حتى يخرج وقتها فهذا محل الخلاف ـ أي: إن تركها تهاونًا وتكاسلاً ـ فقال بعض العلماء: إنه لا يكفر، وقال آخرون: إنه يكفر، ولا ينفعه صلاتها بعد الوقت؛ لأنه ليس عليه أمر الله ورسوله ﷺ، وعليه أن يجدد إسلامه من جديد، ويتوب.

أما من تركها جاحدًا لوجوبها، فهذا كافر بإجماع المسلمين، ليس فيه خلاف.

المتن:

باب الأَْذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ

595 حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةً فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنْ الصَّلاَةِ قَالَ بِلاَلٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ فَاضْطَجَعُوا وَأَسْنَدَ بِلاَلٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَالَ: يَا بِلاَلُ أَيْنَ مَا قُلْتَ؟ قَالَ: مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ يَا بِلاَلُ قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلاَةِ فَتَوَضَّأَ فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ وَابْيَاضَّتْ قَامَ فَصَلَّى.

الشرح:

595 قوله في حديث الباب: «فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ» ، التعريس: نزول المسافر في آخر الليل للاستراحة والنوم.

وفي الحديث: أن من نام متأخرًا في آخر الليل فعليه أن يعتني بالأسباب التي توقظه للصلاة ـ مثل منبه يؤكده على الوقت، أو بعض الأهل والأصحاب، أو الجيران ليوقظوه ـ لأن النبي ﷺ لم ينم آخر الليل حتى التزم بلال بإيقاظه، فلما قال النبي ﷺ: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنْ الصَّلاَةِ قَالَ بِلاَلٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ» [(161)] فلما التزم بأن يوقظهم نام النبي ﷺ؛ وفي بعض الروايات أن النبي ﷺ قال: من يكلأ لنا الصبح [(162)]، يعني: يرقب الصبح، ولما نام النبي ﷺ ألقى الله على بلال نومة ما ألقي عليه مثلها حتى ضربتهم الشمس، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده؛ لتشريع هذا الحكم للأمة.

وقد حصل هذا النوم للنبي ﷺ مرات، وفي بعضها أنهم ما استيقظوا حتى ضربتهم الشمس ـ وكان النبي ﷺ لا يوقظ؛ لأن الصحابة كانوا يخشون أنه قد يوحى إليه ـ فلما استيقظ عمر جعل يكبر: الله أكبر الله أكبر حتى استيقظ النبي ﷺ، فأمرهم أن يقتادوا رواحلهم، قال: هذا واد حضرنا فيه شيطان [(163)] ثم نزلوا قريبًا، ثم أمر بلالاً فأذن على العادة، وتوضأ الناس، ثم صلى الراتبة، ثم أقام بلال وصلى الفريضة، فدل ذلك على أن الراتبة تقضى ولو بعد فوات الوقت.

وفيه: مشروعية الأذان للصلاة الفائتة بعد ذهاب الوقت، وهذا هو الشاهد للترجمة «بَاب الأَْذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ» ؛ لأن النبي ﷺ قال لبلال : قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلاَةِ.

والأذان لا يختص بالجماعة، فالواحد إذا كان مسافرًا أو في مزرعة أو في برية يؤذن ويرفع صوته، أما في بيته فيؤذن بصوت غير مرتفع لأنه في البلد، وحتى لا يشوش، وإذا اكتفى بأذان الناس فلا حرج.

قوله: «فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ وَابْيَاضَّتْ» ؛ هذا التأخير للصلاة حتى ابياضت الشمس من غير قصد، بل إنهم لما توضئوا وانتهوا ابياضت الشمس، فالتأخير بسبب الشغل لقضاء حوائجهم ووضوئهم لا لخروج وقت الكراهة، ويدل عليه رواية المصنف رحمه الله في كتاب التوحيد من طريق هشيم عن حصين: «فقضوا حوائجهم، فتوضئوا إلى أن طلعت الشمس» [(164)].

وفيه: جواز التأخر عن الصلاة بعض الوقت لانتظار الناس حتى يصلوا جماعة.

المتن:

باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ

596 حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ وَتَوَضَّأْنَا لَهَا فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ.

الشرح:

هذه التراجم تدل على دقة فقه البخاري رحمه الله، ففي الترجمة الأولى قال: «بَاب الأَْذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ» ، وفي هذه الترجمة قال: «بَاب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ» ؛ وهذا فيه: إشارة إلى أن الصلاة تكون في جماعة حتى بعد خروج الوقت؛ فلا يقول الإنسان: أنا تأخرت عن الفجر فيتوضأ ويصلي وحده، والثاني يصلي وحده، وهكذا؛ بل ينتظرون حتى يتوضؤوا جميعًا ويصلون جماعة؛ فالجماعة واجبة في الحضر وفي السفر، إلا إذا لم يجد الجماعة، فليس له إلا أن يصلي وحده.

596 في حديث الباب: مشروعية صلاة الفائتة بعد ذهاب الوقت جماعة، وهذا هو الشاهد للترجمة.

وفي الحديث: ترتيب الفوائت؛ ولهذا صلى النبي ﷺ العصر ثم صلى المغرب، وكان هذا في غزوة الأحزاب؛ وفي بعض الأحاديث أنه فاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب، وفي بعضها أنه صلى أربع صلوات: صلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء، لكن العشاء لم يخرج وقتها، فوقتها باق؛ فهذا يدل على ترتيب الفوائت.

 مسألة:

اختلف العلماء في سبب تأخيره لصلاة العصر حتى غربت الشمس في يوم الأحزاب.

الجواب: القول الأول: مذهب جمهور العلماء أن ذلك قبل أن تشرع صلاة الخوف، فلما شرعت صلاة الخوف نسخ هذا الحكم، وكان النبي ﷺ بعد ذلك يصلي الصلاة في وقتها على أحد الوجوه التي جاءت عنه ﷺ، ولا يؤخرها عن وقتها؛ لأنه لا يجوز التأخير بعد شرعية صلاة الخوف؛ لكون الحكم منسوخًا.

وكان النبي ﷺ يصلي صلاة الخوف إذا كان العدو تجاه القبلة إلى جهة القبلة، وإذا كان العدو في جهة أخرى صلى تجاه العدو وسقط استقبال القبلة.

قال الإمام أحمد رحمه الله: ثبتت صلاة الخوف عن النبي ﷺ من ستة أوجه، أو سبعة أوجه، كلها جائزة، وأنا أختار صلاة ذات الرقاع[(165)].

ومن وجوه صلاة الخوف أن النبي ﷺ صف أصحابه صفين وجعلهم تجاه العدو، وأخذوا سلاحهم معهم، فكبر تكبيرة الإحرام، فكبر الصف الأول والصف الثاني، ثم ركع وركع الصف الأول والثاني، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وبقي الصف الثاني يحرس معهم السلاح؛ لئلا يهجم عليهم العدو؛ لأنهم لو سجدوا كلهم هجم عليهم العدو، ثم لما قام للركعة الثانية تأخر الصف الأول وتقدم الصف الثاني فركع بهم جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وبقي الصف الثاني يحرس، والصف الثاني هو الذي كان الصف الأول في الركعة الأولى، ثم تشهد ﷺ وسلم وظل ثابتًا بنفسه، ثم قامت كل طائفة فصلت لنفسها ركعة، ثم سلم بهم.

وفي بعض وجوه صلاة الخوف أنه صلى بطائفة ركعتين، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، يعني صلى بهؤلاء ركعتين له فريضة، ثم صلى بالطائفة الثانية ركعتين له نافلة ولهم فريضة.

ولهذا قال جمهور العلماء إن فعل النبي ﷺ هذا ـ أي: تأخيره الصلاة ـ كان قبل شرعية صلاة الخوف.

القول الثاني: أنه يجوز التأخير ولو بعد شرعية صلاة الخوف إن لم يتمكن أن يأتي بها على وجه من الوجوه الثابتة عن النبي ﷺ في صلاة الخوف؛ ليتمكن من أدائها بطمأنينة وراحة.

وقالوا: يدل على هذا أن الصحابة لما فتحوا تستر عند ضوء الفجر، وبعض الصحابة على الأسوار، وبعضهم على الأبواب وخافوا إن صلوا أن يهجم العدو عليهم، ولا يتم الفتح، أخروها وصلوها ضحى بعد أن تم الفتح. وقال أنس : ما يسرني أني صليتها في وقتها.

وقد فعل الصحابة هذا بعد وفاة النبي ﷺ، فدل على أنه إن تمكن المسلمون من أن يصلوا صلاة الخوف على أحد الوجوه صلوها، وإن لم يتمكنوا أخروها حتى يصلوها بطمأنينة كما كان الصحابة يؤخرونها حتى يتم الفتح ثم يصلونها بطمأنينة، وهم أخروها لله، وفي الله ؛ وهذا هو الصواب، وهو اختيار البخاري رحمه الله، وجماعة من أهل العلم.

 مسألة:

متى شرعت صلاة الخوف؟

الجواب:

القول الأول: في غزوة ذات الرقاع.

القول الثاني: بعد الخندق.

وظاهره أنه بعد الخندق، والخندق في السنة الخامسة.

وصلاة الخوف ركعتان، ففيها قصر النبي ﷺ الرباعية ركعتين؛ لأنها سفر وجهاد، وقد عقد المؤلف لها بابًا بين فيه كلام أهل العلم، وأن صلاة السفر ركعتان، وصلاة الخوف ركعة، حتى قال بعضهم: إن عند المسايفة وعند التقاتل بالسيف تكبيرة واحدة، وسيأتي هذا الكلام إن شاء الله في صلاة الخوف.

والفوائت إذا تراكمت استحب الترتيب إلا إذا خاف خروج وقت الحاضرة، ولو فاتت الجماعة؛ فالترتيب مقدم على الجماعة، أو يصلي مع الجماعة بنية الفائتة ثم يصلي الوقت، إذا كانت الفائتة الظهر فلا بأس أن يدخل معهم في العصر لأنهما متساويتان في عدد الركعات.

مسألة:

وإذا كانت المغرب هي الفائتة.

الجواب:

القول الأول: أنه يصلي معهم العشاء بنية المغرب ويجلس إذا قام الإمام في الرابعة حتى يسلم ثم يدركهم.

القول الثاني: أن الصلاة مختلفة هنا؛ فهذه رباعية وهذه ثلاثية وعليه فلا يجوز أن يصلي معهم، بل يصلي معهم نافلة ثم يصلي بعد ذلك المغرب ثم يصلي بعد ذلك العشاء، أو يصلي المغرب وحده ثم يدخل معهم في العشاء.

والإنسان إذا فاتته أكثر من صلاة يصليها بالترتيب بأذان واحد، ولكل صلاة إقامة.

المتن:

باب مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَ وَلاَ يُعِيدُ إِلاَّ تِلْكَ الصَّلاَةَ

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ تَرَكَ صَلاَةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إِلاَّ تِلْكَ الصَّلاَةَ الْوَاحِدَةَ.

597 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالاَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا لاَ كَفَّارَةَ لَهَا إِلاَّ ذَلِكَ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي قَالَ مُوسَى: قَالَ هَمَّامٌ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدُ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لذِّكْرِى وَقَالَ حَبَّانُ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها بيان أن من نسي صلاة صلاها إذا ذكرها وأنه لا إثم عليه؛ لأن النسيان لا حيلة  فيه، وكفارتها أن يصليها متى تذكر؛ لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك [(166)]، ولا يقضي إلا تلك الصلاة، واستدل على هذا بالآثار التي ذكرها العلماء.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَ وَلاَ يُعِيدُ إِلاَّ تِلْكَ الصَّلاَةَ» قال علي بن المنير: صرح البخاري رحمه الله بإثبات هذا الحكم مع كونه مما اختلف فيه؛ لقوة دليله، ولكونه على وفق القياس؛ إذ الواجب خمس صلوات لا أكثر فمن قضى الفائتة كمل العدد المأمور به، ولكونه على مقتضى ظاهر الخطاب؛ لقول الشارع ﷺ: فَلْيُصَلِّها إِذَا ذَكَرَهَا لاَ كَفَّارَةَ لَهَا إِلاَّ ذَلِكَ ولم يذكر زيادة، فاستفيد من هذا الحصر أنه لا يجب غيرها. وذهب مالك رحمه الله إلى أن من ذكر بعد أن صلى صلاة أنه لم يصل التي قبلها فإنه يصلي التي ذكر ثم يصلي التي كان صلاها مراعاة للترتيب انتهى».

يعني: أن مالكًا رحمه الله يرى أنه إذا ذكر أنه نسي صلاة الظهر بعد المغرب يصلي الظهر ويصلي العصر ثم المغرب فيرتب[(167)]، وهذا ضعيف مرجوح.

والصواب: أنه إذا تذكر أنه نسي صلاة الظهر بعد المغرب يقضي صلاة الظهر وحدها وصلاة العصر وصلاة المغرب صحيحة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ويحتمل أن يكون البخاري أشار بقوله: «وَلاَ يُعِيدُ إِلاَّ تِلْكَ الصَّلاَةَ» إلى تضعيف ما وقع في بعض طرق حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن الصلاة، حيث قال: فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا [(168)] فإن بعضهم زعم أن ظاهره إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وعند حضور مثلها من الوقت الآتي، ولكن اللفظ المذكور ليس نصًّا في ذلك؛ لأنه يحتمل أن يريد بقوله فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا أي الصلاة التي تحضر، لا أنه يريد أن يعيد التي صلاها بعد خروج وقتها».

والقول بأنه يصليها، وإذا جاء الوقت من الغد صلاها مرة أخرى لا وجه له والصواب أنه لا يقضي إلا تلك الصلاة فقط.

قوله: «وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ تَرَكَ صَلاَةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إِلاَّ تِلْكَ الصَّلاَةَ الْوَاحِدَةَ» ، يعني: ولا يعيد ما بعدها من الصلوات.

597 قوله في حديث الباب: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، هذا عام يشمل جميع الأوقات حتى أوقات النهي: بعد الصبح وبعد العصر، فإذا ذكر صلاة الظهر بعد العصر صلاها، وإذا ذكرها بعد الفجر صلاها، ولا كفارة لها إلا ذلك، واستدل بهذه الآية: « وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي [طه: 14]» وفي قراءة: ُ ح خ للذِّكْرَى، وهذا هو الصواب أنه لا يعيد إلا تلك الصلاة.

المتن:

بَاب قَضَاءِ الصَّلاَةِ الأُْولَى فَالأُْولَى.

598 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى الْقَطَّانُ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَعَلَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَسُبُّ كُفَّارَهُمْ وَقَالَ: مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتْ قَالَ: فَنَزَلْنَا بُطْحَانَ فَصَلَّى بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ.

الشرح:

598 قوله في حديث الباب: «هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ» للتوضيح.

وقوله: «يَوْمَ الْخَنْدَقِ» ، أي: أيام الأحزاب.

قوله: «مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتْ» يعني أن عمر تذكر أنه لم يصل العصر فصلاها بعدما غربت الشمس.

وفي الحديث الآخر قال النبي ﷺ: ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا، شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر [(169)].

وفي الرواية الأخرى: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، ثم قال: يا رسول الله، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب ـ يعني نسيت حتى كادت الشمس تغرب ـ فقال النبي ﷺ: وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا، فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب[(170)] فهذا قاله النبي ﷺ بعد غروب الشمس.

وفي الحديث: أن المسلم إذا كان عليه فوائت فإنه يرتبها الأولى فالأولى، وفي غير الصحيحين أن النبي ﷺ صلى أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء مرتبة، وفي بعض الروايات أنها ثلاث صلوات: الظهر ثم العصر ثم المغرب.

ويحمل ما جاء في الروايات من اختلاف عدد الصلوات التى قضاها النبي ﷺ والصحابة على أنها قضايا متعددة، ففي بعضها: فاتته العصر والمغرب، وفي بعضها: فاتته الظهر والعصر والمغرب؛ للانشغال ولأنه كان وقت حرب فالأمر فيه شديد، وقد أبان الله عن شدة الأمر إذ ذاك في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ۝ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ۝ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزَاب: 9-11]، فقوله: إِذْ جَاءُوكُمْ يعني: الكفار، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزَاب: 12]؛ هكذا ظهر النفاق بقولهم هذا:

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد