المتن:
(11) كِتَاب الجُمُعَة
باب فَرْضِ الْجُمُعَةِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
الشرح:
هذا الكتاب عقده المؤلف رحمه الله لبيان أحكام يوم الجمعة، وذكر الشارح رحمه الله الاختلاف في تسمية اليوم بالجمعة وأنه كان يسمى في الجاهلية «العَرُوبة»، وكذلك اختُلف في أول من جَمَّع.
وقيل سبب تسميته بيوم الجمعة أن كمال الخلائق جمع فيه، أو لأن خلق آدم جمع فيه ـ وهذا أقوى ـ أو لأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه ويذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم، أو لأن قصيًّا كان هو الذي يجمعهم، أو سُمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه، كما قال ابن حزم رحمه الله: إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية[(729)].
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» [(730)] أن ليوم الجمعة خصائص، منها: أنه يوم عيد، ولا يصام منفردًا، وفي صبيحتها قراءة: الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ وقراءة الجمعة والمنافقون أو سبح والغاشية في صلاة الجمعة، والغسل لها، والطيب، والسواك، ولبس أحسن الثياب، وتبخير المسجد، والتبكير، والاشتغال بالعبادة حتى يخرج الخطيب، والخطبة، والإنصات، وقراءة الكهف، ونفي كراهية النافلة وقت الاستواء ـ يعني: لا تكره صلاة النافلة ولو عند وقوف الشمس، فيوم الجمعة مستثنى، ومنع السفر قبلها، وتضعيف أجر الذاهب إليها كل خطوة بأجر سنة، وأن جهنم لا تسجر في يومها، وفيها ساعة الاستجابة وتكفير الآثام، وأنه يوم المزيد، والشاهد المدخر لهذه الأمة، وخير أيام الأسبوع، وأنه تجتمع فيه الأرواح إن ثبت الخبر فيه.
وذكر ابن القيم رحمه الله أشياء غير ذلك مما يطول ذكرها.
والباب الأول تحت هذا الكتاب استدل فيه المؤلف رحمه الله على فرضية الجمعة بآية سورة الجمعة، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجُمُعَة: 9].
جاء في نسخ صحيح البخاري قوله: «فَاسْعَوْا فامضوا» ليس المراد بالسعي: الركض ـ وهو الإسراع في المشي ـ وإنما المراد بالسعي هنا: المضي؛ أي: امضوا إلى الجمعة، وهذا أمر، والأمر للوجوب فيدل على فرضية الجمعة.
أما الإسراع فمنهي عنه، كما في الحديث: إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا [(733)] وفي لفظ: فاقضوا [(734)] وفي اللفظ الآخر: فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون [(735)].
المتن:
الشرح:
876 قوله: نَحْنُ الآْخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يعني: نحن الآخرون في الزمن، السابقون يوم القيامة، وفيه فضل هذه الأمة.
وقوله: ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: المراد باليوم يوم الجمعة، والمراد بالفرض فرض التعظيم، وهذا هو الشاهد للترجمة: «باب فرض الجمعة» .
وقوله: فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ يعني: أنه لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، ومعناه أن الله تعالى هدانا لهذا اليوم وأضلهم فاختلفوا فيه فأخطئوا. وفيه أن الهداية والإضلال من الله كما قال تعالى: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النّحل: 93] ـ لا كما يقول المعتزلة بأن الهداية والإضلال من العبد؛ وأن العبد هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، ويقولون: معنى يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ أي: يسميه مهتديًا ويسميه ضالًّا من باب التسمية.
وهذا باطل؛ لقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحُجرَات: 7-8] فهذه نعمة دينية خص الله بها المؤمن وهداه، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف: 17].
فالهداية بيد الله ، يهدي من يشاء فضلاً منه ومنةً، ويضل من يشاء عدلاً منه وحكمةً، فهو الذي يعلم المحل الذي يصلح لغرس الكرامة، والمحل الذي لا يصلح، والهداية والإضلال ملك لله ، وليس هذا ظلمًا ـ كما تزعم المعتزلة ـ فالظلم وضع الشيء في غير موضعه، كأن يمنع أحدًا من حقه، أو يمنع أحدًا من ثواب حسناته، أو يحمِّله أوزار غيره.
فالمعتزلة حين يقيسون الله بخلقه يقولون: كل ما كان ظلمًا وقبيحًا من العبد فهو ظلم من الله وقبيح لو فعله، نعوذ بالله .
أما الجبرية فيقولون: الظلم ممتنع ومستحيل وليس تحت القدرة، وكل شيء داخل تحت القدرة فليس ظلمًا.
وبناء على ما قالوا فلا يكون هناك معنى للظلم الذي نزه الله نفسه منه وحرمه على نفسه، والصواب أن الظلم ممكن، ولكن الله نزه منه نفسه وحرمه، ولو كان لا يمكن وقوعه لما أمَّن الله عباده من الخوف، قال تعالى: لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ [الأعرَاف: 49]، لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ [غَافر: 17]، فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبيَاء: 47]، ولما حرمه على نفسه قال في الحديث القدسي: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي [(736)]؛ لأن من حرم على نفسه شيئًا فهو قادر عليه، لكنه حرمه على نفسه فضلاً وإحسانًا وتكرمًا منه على عباده؛ لكماله .
هذا وقد فرضت صلاة الجمعة في المدينة لا مكة، لكن فرضت الصلاة إجمالاً ليلة المعراج، أما مواقيت الصلوات ففي المدينة، والأذان في المدينة، والجمعة كذلك من باب أولى.
فالزكاة والصوم والحج والحدود والجهاد فرضت كلها في المدينة، أما في مكة فكانت الدعوة إلى التوحيد وإلى خلع الأوثان وترك الشرك.
وأول جمعة جُمِّعت في مسجد النبي ﷺ، وقيل: إن أول جمعة جُمِّعت قبل بناء مسجد النبي ﷺ، ثم الجمعة الثانية في جُوَاثا ـ قرية من قرى عبد القيس ـ في الأحساء وتسمى البحرين ـ بمسجد البحرين، فوفد بني عبدالقيس أسلموا قديمًا وجَمَّعوا ـ كما سيأتي ـ فهي الجمعة الثانية.
وأول أيام الأسبوع الجمعة، ثم السبت، ثم الأحد، ثم الإثنين، ثم الثلاثاء، ثم الأربعاء، ثم الخميس.
وكذلك كان في يوم الجمعة خَلْق المخلوقات؛ لأن آدم خُلق في آخر ساعة من يوم الجمعة.
يقول ابن بطال رحمه الله: «وقوله: «هَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ» ليس فيه دليل على أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يترك فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل ـ والله أعلم ـ أنه فُرض عليهم يومٌ من الأسبوع وُكِلَ إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أيّ الأيام يكون ذلك اليوم، ولم يهدهم الله إلى يوم الجمعة، وذخره لهذه الأمة، وهداهم له تفضلاً منه عليها؛ ففضلت به على سائر الأمم». وكلام ابن بطال هذا لا يوافق عليه.
المتن:
باب فَضْلِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهَلْ عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ عَلَى النِّسَاءِ
877 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ.
878 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الأَْوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ قَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ: والْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ.
الشرح:
877 استدل بعض العلماء بحديث ابن عمر رضي الله عنهما وحديث أبي سعيد الذي بعده على وجوب الغسل.
قوله: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ ظاهره أن كل من جاء إلى الجمعة عليه أن يغتسل، لكن هل على المرأة غسل إذا جاءت الجمعة؟ الأقرب أن عليها غسلاً، والمراد بالأمر أن يأتي الإنسان بصورة حسنة ورائحة طيبة لا يؤذي من حوله، فإذا صلت المرأة ستكون مع النساء، فينبغي لها أن تكون متنظفة مثل النساء حتى لا تؤذي من حولها.
وسيأتي الكلام في أنه في كل سبعة أيام يجب على الإنسان أن يغتسل.
878 قوله: «عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الأَْوَّلِينَ» هذا الرجل الداخل هو عثمان بن عفان كما جاء مفسرًا في الحديث الآخر.
قوله: «فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟» يعني: تأخرت عن الجمعة! وفيه دليل على أن الخطيب له أن يكلم من يشاء من الجماعة، وكذلك أيضًا إذا أراد أحد أن يكلم الخطيب فله ذلك، كما دخل الرجل وكلم النبي ﷺ وهو يخطب، قال: يا رسول الله، هلكت الأنعام...[(739)] وشكا الجدب، وإنما الممنوع أن يكلم أحد مَن بجواره والإمام يخطب، كما في الحديث: مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [(740)] وفي الحديث الآخر أنه: لا جُمُعَةَ لَهُ [(741)].
لكن إذا كان يكلم الإمام وقال مثلاً: استسقِ لنا فلا بأس. فإن عمر كلم عثمان .
قوله: «إِنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ» أي: قال عثمان : انشغلت ولم أرجع إليهم حتى سمعت المؤذن ـ ولم يكن في زمان عمر إلا المؤذن الذي بين يدي الخطيب.
قوله: «فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ: والْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ» ، يعني: ما اغتسلتَ؟! وهذا فيه تأكيد الغسل للجمعة، وأنه ينبغي للمسلم ألا يتركه.
وفيه: اهتمام عمر وعنايته بالرعية، وفيه أنه ينبغي على العلماء والأعيان والأخيار أن يكونوا قدوةً للناس في التقدم إلى الجمعة، ولهذا أنكر عمر على عثمان تأخره.
المتن:
الشرح:
879 قوله: غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ المراد بالمحتلم البالغ، واستدل بهذا الحديث طائفة من العلماء على وجوب الغسل يوم الجمعة، وأنه يجب على كل من أراد أن يذهب إلى الجمعة أن يغتسل، فإن لم يغتسل فإنه يكون آثمًا؛ لأن الحديث صريح، وكذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ فالأمر للوجوب، والأصل في الأمر الوجوب، وكذلك إنكار عمر على عثمان لما ترك الغسل.
وترك الغسل لا يخل بالجمعة فالجمعة صحيحة، لكن ينكر على من تركه؛ لأنه ترك الواجب عند من يقولون بالوجوب، وترك سنة مؤكدة عند من يقولون بالاستحباب.
فهكذا ذهبت طائفة من العلماء إلى وجوب الغسل يوم الجمعة، وهو قول قوي وأدلته قوية.
القول الثاني: أن الغسل مستحب وليس بواجب، فلو لم يغتسل فقد ترك المستحب، وليس عليه إثم.
واستدلوا بحديث سَمُرَة : مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ [(743)] لكن الحديث من رواية الحسن عن سمرة، والحسن لم يسمع من سمرة؛ فيكون منقطعًا.
ويؤيده الحديث الآخر عن أبي هريرة ـ كما سيأتي ـ الذي فيه أن من اغتسل يوم الجمعة فجاء في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، وفي الثانية بقرة، وفي الثالثة كبشًا، وفي الرابعة دجاجة، وفي الخامسة بيضة[(744)] وهذا قول جمهور العلماء.
وأجابوا عن المراد بقول في الحديث: «وَاجِبٌ» أنه لا يدل على الوجوب، وإنما هو على عادة العرب يقول الواحد منهم: حقك عليَّ واجب؛ يعني: متأكد؛ فحملوا الوجوب في هذا الحديث على تأكيد الاستحباب، وقالوا: إن غسل الجمعة واجب؛ يعني: متأكد.
القول الثالث: إن غسل الجمعة واجب على أهل المهن والعمال، فهؤلاء يكون لهم روائح كريهة؛ فيجب عليهم الغسل.
واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان أصحاب رسول الله ﷺ عمّال أنفسهم وكان يكون لهم أرواحٌ فقيل لهم لو اغتسلتم» [(745)].
فدل هذا على أن الغسل واجب على أهل المهن والعمال ومن لهم روائح كريهة، وأما عامة الناس فيستحب في حقهم.
قوله: «وَهَلْ عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ عَلَى النِّسَاءِ؟» مراده: هل يجب على الصبيان والنساء شهود يوم الجمعة؟ فهذا ليس بواجب، فالصبي لا يجب عليه شهود الجمعة، ولا تجب عليه صلاة الجماعة ولا الجمعة، لكن إذا شهدها من باب التدريب فخير، وعليه أن يغتسل ويشهد الجمعة كما يشهد الجماعة أيضًا.
والمرأة إذا استأذنت أن تصلي فلا تمنع؛ إلا إذا كان هناك مانع كما سبق، فإن خرجت غير متبرجة وغير متطيبة وغير مختلطة بالرجال وليس عليها فتنة صلت الجمعة مع الناس، فتسمع الخطبة وتصليها جمعة لا ظهرًا.
فللنساء أن يصلين في المساجد وفي البيوت، وبيوتهن خير لهن، قال ﷺ: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ [(737)]، وفي رواية: وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ [(738)]، حتى لو كانت في مكة مطلقًا، كما أن النوافل في البيت أفضل ولو كانت في مكة أو في المدينة؛ لأن النبي ﷺ أمر بأن تصلى النوافل في البيوت، وهو في المدينة ﷺ، ومعلوم بأن الصلاة في مسجد النبي ﷺ بألف صلاة، ومع ذلك كان يصلي ﷺ النوافل في بيته ويأمر الناس بأن يصلوا في بيوتهم، فالسنة أن تصلى النوافل في البيت.
ولا تمنع المرأة من المسجد إلا لسبب شرعي حتى وإن قال بعض الناس: أنا رجل غيور ولا أطيق أن تخرج زوجتي وأرغب أن تصلي في بيتها؛ لأن هذا حدث لعمر وكان رجلاً غيورًا، وكانت زوجته تقول له: أريد أن أخرج للمسجد وتمنعني؟! فلا يمنعها تأدبًا مع النبي ﷺ. وعلى كل حال فينبغي للإنسان ألا يمنع المرأة إذا لم يكن هناك مانع تأدبًا مع النص.
وفي الحديث أيضًا: دليل على أنه يُنكَر على من ترك السنن، كما ثبت في «الصحيح» أن عبدالله بن مسعود لما قيل له: إن عثمان قد أتم الصلاة في منى أربع ركعات ـ استرجع، ثم قال: صليت مع رسول الله ﷺ بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان[(742)].
فدل على أن ترك السنن من المصائب التي يسترجع عندها.
وقد يستدل به من قال: إن الغسل واجب؛ لأن عمر أنكر على عثمان فدل على أنه واجب.
ويستدل بهذا من يقول بالوجوب.
والإسرار في النصيحة هو الأصل، لكن إذا ترتب على الإعلام مصلحة فينبغي الإعلام، وقد استفاد الناس كلهم مما فعله عمر ؛ لأنه أعلن هذا وهو في الخطبة حتى يعلم الناس أنه أنكر عليه تأخره وأنكر عليه أيضًا عدم الغسل.
أما الجمهور فيقولون: إنها سنة مؤكدة، فيكون أنكر عليه ترك السنة المؤكدة.
والخلاف له ثمرة، فمن قال: إنه واجب يقول: إنه يأثم بترك الواجب ويكون فيه عصيان للنبي ﷺ وعليه التوبة والاستغفار من هذا العمل، وعلى قول الجمهور فقد ترك مستحبًّا وفاته خير كثير وليس عليه إثم.
ووقت غسل الجمعة يبدأ بدخول يوم الجمعة، من طلوع الفجر أو بعد طلوع الفجر؛ لأنه لا يدخل اليوم إلا بعد طلوع الفجر، وإذا اغتسل في الليل فلا يعتبر غسل يوم الجمعة، وكونه بعد طلوع الشمس أفضل، وكلما تأخر يكون أفضل، وإذا أخر الغسل إلى وقت ذهابه إلى الجمعة فهذا هو الأفضل، وإن قدمه فلا حرج لكن في نفس اليوم.
أما السفر في يوم الجمعة فمكروه عند العلماء، فإذا زالت الشمس حرم عليه السفر حتى يصلي الجمعة، وأما قبل الزوال فهو مكروه.
ومن كان عليه جنابة إذا نوى غسل الجمعة ترتفع عنه الجنابة بهذا الغسل أيضًا لأنه غسل مشروع.
المتن:
باب الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ
880 حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَكرِ بْنِ الْمُنكَدِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الأَْنْصَارِيُّ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَأَنْ يَسْتَنَّ وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ.
قَالَ عَمْرٌو: أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَمَّا الاِسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لاَ وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: هُوَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَلَمْ يُسَمَّ أَبُو بَكْرٍ هَذَا رَوَاهُ عَنْهُ بُكَيْرُ بْنُ الأَْشَجِّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلاَلٍ وَعِدَّةٌ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ يُكْنَى بِأَبِي بَكْرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ.
الشرح:
هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان حكم الطيب للجمعة.
880 قوله: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ فيه: التصريح بوجوبه.
وقوله: وَأَنْ يَسْتَنَّ الاستنان: الاستياك بالسواك.
وقوله: «أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَمَّا الاِسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لاَ» هذا قول عمرو بن سليم الأنصاري، جزم فيه بوجوب الغسل دون غيره، وهذا يدل على ورع عمرو؛ لأن النبي ﷺ صرح بأنه واجب، أما السواك والطيب فوكل العلم فيهما إلى الله ، وهذا هو الواجب على العالم، أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم.
والجمهور استدلوا على أن الغسل ليس بواجب بأنه قرنه بالسواك والطيب، وهما ليسا بواجبين؛ فدل على أن الغسل ليس بواجب، والدليل على ذلك قوله ﷺ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ [(746)] وفي رواية: مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ [(747)].
وبكل حال فالقول بوجوب الغسل قول قوي.
المتن:
باب فَضْلِ الْجُمُعَةِ
881 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الإِْمَامُ حَضَرَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ.
الشرح:
881 قوله: فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً أي: من جاء في الساعة الأولى فكأنما تقرب إلى الله بذبح بعير.
وفي الساعة السادسة يخرج الإمام بعد خمس ساعات، وهو دليل على أن خروج الإمام بعد الزوال، وهو دليل على أن الجمعة تصلى بعد الزوال، وهو مذهب الجمهور.
وستأتي الأحاديث في أن النبي ﷺ كان يصلي الجمعة بعد الزوال قرب انتصاف النهار، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وسيأتي جزم المؤلف رحمه الله بأن الجمعة وقتها بعد الزوال.
والأحاديث واضحة في هذا؛ فصلاة النبي ﷺ وصلاة أبي بكر وعمر وعثمان كلها بعد الزوال.
وهذه الساعات تبدأ إما بعد صلاة الفجر، أو بعد طلوع الشمس وارتفاعها، قولان لأهل العلم، وأرجحهما بعد طلوع الشمس، ويؤيده حديث الترغيب لمن صلى الفجر أن يبقى في مكانه حتى طلوع الشمس[(748)].
وهذه الساعات تطول وتقصر، فتكون طويلة في الصيف وقصيرة في الشتاء، والمراد بالساعة الجزء من الزمن، وقد تكون الساعة في الصيف ساعة وعشرًا أو ساعة وربعًا وفي الشتاء تكون ساعة إلا عشرًا، وهذا هو الذي عليه الجماهير إلا من شذ من بعض العلماء.
وروي عن مالك رحمه الله أن المراد بالساعات اللحظات، أي لحظات متتابعة بعد الزوال، اللحظة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة بعد الزوال، فإذا زالت الشمس بدأت هذه اللحظات، لحظة بعد لحظة بعد لحظة، خمس لحظات ثم يخرج الإمام[(749)].
وهذا من الغرائب، والصواب أن هذه الساعات ليست بعد الزوال، وإنما هي بعد طلوع الشمس أو بعد طلوع الفجر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «استدل به على أن الجمعة تصح قبل الزوال كما سيأتي نقل الخلاف فيه بعد أبواب ووجه الدلالة منه تقسيم الساعة إلى خمس ثم عقب بخروج الإمام وخروجه عند أول وقت الجمعة فيقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة وهي قبل الزوال. والجواب أنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية؛ فهي أُولى بالنسبة للمجيء، ثانيةٌ بالنسبة للنهار، وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال فيرتفع الإشكال، وإلى هذا أشار الصيدلاني شارح «المختصر» حيث قال: إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار وهو أول الضحى وهو أول الهاجرة، ويؤيده الحث على التهجير إلى الجمعة. ولغيره من الشافعية في ذلك وجهان اختلف فيهما الترجيح فقيل: أول التبكير طلوع الشمس وقيل: طلوع الفجر، ورجحه جمع وفيه نظر؛ إذ يلزم منه أن يكون التأهب قبل طلوع الفجر، وقد قال الشافعي رحمه الله: يجزئ الغسل إذا كان بعد الفجر فأشعر بأن الأولى أن يقع بعد ذلك، ويحتمل أن يكون ذكر الساعة السادسة لم يذكره الراوي وقد وقع في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي من طريق الليث عنه زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة وهي العصفور[(750)]، وتابعه صفوان بن عيسى عن ابن عجلان أخرجه محمد بن عبدالسلام الخشني، وله شاهد من حديث أبي سعيد أخرجه حميد بن زنجويه في «الترغيب» له بلفظ: فَكَمُهْدِي الْبَدَنَةِ إِلَى الْبَقَرَةِ إِلَى الشَّاةِ إِلَى عِلْيَةِ الطَّيْرِ إِلَى الْعُصْفُورِ [(751)] الحديث، ونحوه في مرسل طاوس عند سعيد بن منصور ووقع عند النسائي أيضًا في حديث الزهري من رواية عبدالأعلى عن معمر زيادة البطة بين الكبش والدجاجة[(752)]، لكن خالفه عبدالرزاق وهو أثبت منه في معمر فلم يذكرها، وعلى هذا فخروج الإمام يكون عند انتهاء السادسة، وهذا كله مبني على أن المراد بالساعات ما يتبادر الذهن إليه من العرف فيها، وفيه نظر؛ إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الأمر في اليوم الشاتي والصائف؛ لأن النهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات وفي الطول إلى أربع عشرة. وهذا الإشكال للقفال وأجاب عنه القاضي حسين بأن المراد بالساعات ما لا يختلف عدده بالطول والقصر، فالنهار اثنتا عشرة ساعة لكن يزيد كل منها وينقص والليل كذلك وهذه تسمى الساعات الآفاقية عند أهل الميقات وتلك التعديلية، وقد روى أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعًا: يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً [(753)]» قلت هذا الحديث سنده جيد.
ثم قال الحافظ رحمه الله: «وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات، وقيل: المراد بالساعات بيان مراتب المبكرين من أول النهار إلى الزوال وأنها تنقسم إلى خمس، وتجاسر الغزالي رحمه الله فقسمها برأيه فقال: الأولى من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والثانية إلى ارتفاعها والثالثة إلى انبساطها والرابعة إلى أن ترمض الأقدام والخامسة إلى الزوال، واعترضه ابن دقيق العيد رحمه الله بأن الرد إلى الساعات المعروفة أولى وإلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى؛ لأن المراتب متفاوتة جدًّا وأولى الأجوبة الأول إن لم تكن زيادة ابن عجلان محفوظة وإلا فهي المعتمدة. وانفصل المالكية إلا قليلاً منهم وبعض الشافعية عن الإشكال بأن المراد بالساعات الخمس لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر».
وهو القول بأن الساعات تبدأ بعد الزوال فإذا زالت الشمس بدأت لحظات في الساعة الأولى دقيقتان وفي الثانية دقيقتان وفي الثالثة دقيقتان وفي الرابعة دقيقتان حتى الخامسة أو السادسة إذا قعد الإمام على المنبر، وهو قول ضعيف؛ إذ لو دخل الإمام قبل الزوال أين تكون الساعات على هذا؟! لا توجد.
ثم قال الحافظ رحمه الله: «واستدلوا على ذلك بأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود تقول: جئت ساعة كذا وبأن قوله في الحديث: «ثم راح» يدل على أن أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال؛ لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار والغدو من أوله إلى الزوال.
قال المازري: تمسك مالك رحمه الله بحقيقة الرواح وتجوز في الساعة وعكس غيره انتهى، وقد أنكر الأزهري على من زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، ونقل أن العرب تقول: راح في جميع الأوقات بمعنى ذهب».
وكلام الأزهري كلام جيد، وإنكاره في محله حيث أنكر على من زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال فالرواح يكون قبل الزوال وبعده.
ثم قال الحافظ رحمه الله: «قال: وهي لغة أهل الحجاز، ونقل أبو عبيد في «الغريبين» نحوه، قلت: وفيه رد على الزين ابن المنير حيث أطلق أن الرواح لا يستعمل في المضي في أول النهار بوجه وحيث قال: إن استعمال الرواح بمعنى الغدو لم يسمع ولا ثبت ما يدل عليه، ثم إني لم أر التعبير بالرواح في شيء من طرق هذا الحديث إلا في رواية مالك هذه عن سمي، وقد رواه ابن جريج عن سمي بلفظ: غَدًا [(754)] ورواه أبو سلمة عن أبي هريرة بلفظ: الْمُتَعَجِّلُ إِلَى الْجُمُعَة كالمهدي بَدَنَة الحديث[(755)]، وصححه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة : «ضرب رسول الله ﷺ مثل الجمعة في التبكير كناحر البدنة...» الحديث، أخرجه ابن ماجه[(756)] ولأبي داود من حديث علي مرفوعًا: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ غَدَتِ الشَّيَاطِينُ بِرَايَاتِهَا إِلَى الْأَسْوَاقِ وَتَغْدُو الْمَلَائِكَةُ فَتَجْلِسُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَتَكْتُبُ الرَّجُلُ مِنْ سَاعَةٍ وَالرَّجُلُ مِنْ سَاعَتَيْنِ الحديث[(757)]. فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب، وقيل: النكتة في التعبير بالرواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال فيسمى الذاهب إلى الجمعة رائحًا وإن لم يجئ وقت الرواح كما سمي القاصد إلى مكة حاجًّا، وقد اشتد إنكار أحمد وابن حبيب من المالكية على ما نقل عن مالك رحمه الله من كراهية التبكير إلى الجمعة، وقال أحمد رحمه الله: هذا خلاف حديث رسول الله ﷺ، واحتج بعض المالكية أيضًا بقوله في رواية الزهري: مَثَلُ الْمُهَجِّرِ [(758)] لأنه مشتق من التهجر، وهو السير في وقت الهاجرة، وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت.
وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون مشتقًّا من الهِجّير بالكسر وتشديد الجيم وهو ملازمة ذكر الشيء وقيل: هو من هجر المنزل وهو ضعيف؛ لأن مصدره الهجر لا التهجير. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة وهو السير وقت الحر وهو صالح لما قبل الزوال وبعده فلا حجة فيه لمالك رحمه الله، وقال التُّوربُشتي: جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليبًا بخلاف ما بعد زوال الشمس فإن الحر يأخذ في الانحطاط، ومما يدل على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض العرب:
تهجرون تهجير الفجر
واحتجوا أيضًا بأن الساعة لو لم تطل للزم تساوي الآتين فيها، والأدلة تقتضي رجحان السابق».
وقول الحافظ رحمه الله: «رجحان السابق» يعني إلى الجمعة فالإنسان يأتي في الساعة الأولى ثم في الثانية، أما من قال إنها لحظات بعد الزوال فلا يكون هناك سابق، فكلها لحظات لحظة تليها لحظة يعني كلها لا تتجاوز الخمس دقائق، وقد يقال: إنها دقيقة واحدة خمس لحظات في دقيقة.
ثم قال الحافظ رحمه الله: «بخلاف ما إذا قلنا: إنها لحظة لطيفة، والجواب ما قاله النووي رحمه الله فى «شرح المهذب» تبعًا لغيره أن التساوي وقع في مسمى البدنة والتفاوت في صفاتها، ويؤيده أن في رواية ابن عجلان تكرير كل من المتقرب به مرتين حيث قال: كَرَجُلٍ قَدَّمَ بَدَنَةً وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَدَنَةً الحديث[(759)] ولا يرد على هذا أن في رواية ابن جريج: وَأَوَّلُ السَّاعَةِ وَآخِرُهَا سَوَاءٌ [(760)] لأن هذه التسوية بالنسبة إلى البدنة كما تقرر واحتج من كره التبكير أيضًا بأنه يستلزم تخطي الرقاب في الرجوع لمن عرضت له حاجة فخرج لها ثم رجع».
ثم قال الحافظ رحمه الله: «وتعقب بأنه لا حرج عليه في هذه الحالة لأنه قاصد للوصول لحقه، وإنما الحرج على من تأخر عن المجيء ثم جاء فتخطى، والله أعلم».
وفي هذا الحديث فضل يوم الجمعة، وهو من أدلة الجمهور على أن الغسل ليس بواجب، قالوا: لأنه رتب عليه هذا الفضل، وفيه فضل التعجيل إلى صلاة الجمعة.
المتن:
باب
882 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنْ الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلاَّ سَمِعْتُ النِّدَاءَ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ.
الشرح:
882 سبق هذا الحديث، واستدل به المؤلف رحمه الله على فضل الغسل يوم الجمعة.
وقوله: «فَقَالَ الرَّجُلُ:» هذا الرجل هو عثمان .
المتن:
باب الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ
883 حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ ابْنِ وَدِيعَةَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ وَيَدَّهِنُ مِنْدُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِْمَامُ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُْخْرَى.
الشرح:
883 فيه: مشروعية الدهن للجمعة، والمراد بالدهن: الطيب. وفيه مشروعية الغسل، ومشروعية التبكير.
وفيه: أن المسلم إذا أتى إلى الجمعة بهذه الشروط فإنه يغفر له ما بين هذه الجمعة والجمعة الأخرى، وفي اللفظ الآخر: وَزِيَادَةٌ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ [(761)] لأن الحسنة بعشر أمثالها، ولكن بالشروط التالية:
أولاً: يغتسل.
ثانيًا: يدهن من دهنه أو يتطيب.
ثالثًا: يخرج مبكرًا.
رابعًا: لا يفرق بين اثنين ولا يتخطى رقاب الناس ثم يصلي ما كتب له.
خامسًا: ينصت للخطبة.
وقوله: وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ زيادة إيضاح، تكلم عليها الشارح رحمه الله وذكر أن ذلك مبالغة في التنظيف.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «إذا اغتسل تطهر مبالغة في النظافة».
وأما استعمال الشامبو في الغسل الكامل أو أن يجعل شيئًا آخر معه فلا بأس به، والمهم أنه يعمم بدنه في الغسل.
المتن:
الشرح:
884 ثبت عن ابن مسعود كما في «صحيح البخاري» أنه قال: «إذا سئل أحدكم عن شيء لا يعلمه فليقل: لا أدري فإن الله قال لنبيه ﷺ: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86]».
فلا يتكلف الإنسان، فإذا سئل عن شيء لا يعلمه فيقول: لا أدري، أو يقول: الله أعلم، فابن عباس الذي دعا له النبي ﷺ بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل لما سئل عن الغسل وعن الطيب قال: «أما الغسل فنعم، وأما الطيب فلا أدري» . وقد خفي ذلك عن ابن عباس، وحفظه غيره.
والطيب سنة للجمعة كما سبق في حديث سلمان وحديث أبي سعيد، وليس بواجب، لكن ابن عباس أشكل عليه الأمر لما سأله طاوس بن كيسان وهو من أجلاء التابعين، عن قول النبي ﷺ: اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُءُوسَكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا وَأَصِيبُوا مِنْ الطِّيبِ فقال ابن عباس: «أَمَّا الْغُسْلُ فَنَعَمْ وَأَمَّا الطِّيبُ فَلاَ أَدْرِي» .
المتن:
الشرح:
قوله: غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُْخْرَى هذا مقيد عند أهل العلم إذا اجتنب الكبائر، أما إذا كان يفعل الكبائر فإن الجمعة لا تغفر له ذنوبه، بل ترفع عنه الصغائر دون الكبائر، وليس هذا خاصًّا بالجمعة فقط، بل الصلوات الخمس يكفر الله بهن الخطايا إذا اجتنبت الكبائر، ورمضان إلى رمضان يكفر الله به الخطايا إذا اجتنبت الكبائر، قال ﷺ في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم: الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ [(762)].
قال الحافظ رحمه الله: «في رواية قاسم بن يزيد: حُطَّ عَنْهُ ذُنُوبُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى والمراد بـ «الأخرى» التي مضت؛ بينه الليث عن ابن عجلان في روايته عند ابن خزيمة، ولفظه: غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا [(763)] ولابن حبان من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة : غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا وهذه الزيادة أيضًا في رواية سعيد عن عمارة عن سلمان ، لكن لم يقل: مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا [(764)] وأصله عند مسلم[(765)] من حديث أبي هريرة باختصار.