شعار الموقع

شرح كتاب الجمعة من صحيح البخاري (11-2) تابع بَابُ الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ - إلى باب وَقْتُ الْجُمُعَةِ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ

00:00
00:00
تحميل
126

وزاد ابن ماجه في رواية أخرى عن أبي هريرة : مَا لَمْ يَغْشَ الْكَبَائِرَ [(766)] ونحوه لمسلم[(767)].

وفي هذا الحديث من الفوائد أيضًا: كراهة التخطي يوم الجمعة؛ قال الشافعي: أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك. اهـ. وهذا يدخل فيه الإمام، ومن يريد وصل الصف المنقطع إن أبى السابق ذلك، ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام منه لضرورة، كما تقدم، واستثنى المتولي من الشافعية من يكون معظمًا لدينه أو علمه أو ألف مكانًا يجلس فيه أنه لا كراهة في حقه، وفيه نظر، وكان مالك رحمه الله يقول: لا يكره التخطي إلا إذا كان الإمام على المنبر».

ثم قال: «ودل التقييد بعدم غشيان الكبائر على أن الذي يكفر من الذنوب هو الصغائر، فتحمل المطلقات كلها على هذا المقيد، وذلك أن معنى قوله: مَا لَمْ يَغْشَ الْكَبَائِرَ أي فإنها إذا غشيت لا تكفر، وليس المراد أن تكفير الصغائر شرطه اجتناب الكبائر؛ إذ اجتناب الكبائر بمجرده يكفرها كما نطق به القرآن».

قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: «هذا فيه نظر، وظاهر الحديث المذكور أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الصغائر، ويدل عليه ما ثبت في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة مرفوعًا: الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ [(768)] والله أعلم»[(769)].

وإذا اغتسل ونوى الوضوء، فهل يكفي غسل الجمعة عن الوضوء؟ في هذا خلاف؛ قال بعض العلماء: إذا نوى رفع الحدثين اندرج الأصغر في الأكبر، وقال بعضهم: لابد أن يتوضأ، فإما أن يتوضأ ويأتي بالغسل الكامل، وإما أن يتوضأ قبل أن يغتسل، فيستنجي ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يبدأ الغسل، فيغسل رأسه، فيصب الماء على رأسه، ثم شقه الأيمن، ثم شقه الأيسر، وإن مس ذكره أو خرج منه ريح يعيد الوضوء، وهذا الغسل هو غسل النبي ﷺ الكامل الذي قاله، وهو الأحوط للمسلم.

ومن اغتسل للجنابة ولم ينوِ غسل الجمعة كفاه غسل الجنابة عن غسل الجمعة ويدخل فيه.

المتن:

باب يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ

886 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا.

الشرح:

هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان استحباب لبس الثياب الجميلة للجمعة، وأنه يستحب للمسلم إذا ذهب إلى الجمعة لبس أحسن ما يجد، ولذا قال: «بَاب يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ» من الثياب النظيفة والجديدة، فكما أنه يشرع له التطيب والاغتسال، فكذلك يشرع له لبس الثياب الجميلة.

886 قوله: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ» حلة سيراء: يعني: حلة فيها سيور من حرير، ومعلوم أن الرجل لا يلبس الحرير، لكن عمر كأنه لم يعلم الحكم في هذا، وكانوا في أول الإسلام يلبسون الحرير، ثم جاء الوحي بالمنع من ذلك بنهي الرجال عن لبس الحرير، وكان النبي ﷺ قد لبس حلة ثم نزعها لما جاء التحريم، وقال: لاَ يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ [(770)].

فعمر رأى حلة حرير عند باب المسجد تباع، فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ» يعني: الحلة الجميلة «فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ.

فالنبي ﷺ أنكر على عمر قوله: «لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ» ولم ينكر عليه قوله: «فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ» .

ووجه الاستدلال من الحديث أنه يشرع للمسلم أن يلبس أحسن ما يجد يوم الجمعة؛ لأن النبي ﷺ أقر عمر على قوله: «فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ» وإنما أنكر عليه كونها من حرير فيشتريها، فلم يقل النبي ﷺ لعمر : لا يلبس للجمعة الثياب الجميلة؛ فدل على أنه يستحب للإنسان أن يلبس الثياب الجميلة للجمعة، وكذلك إذا قابل الوفود في المجتمعات، فلما قال النبي ﷺ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ عرف عمر أن الحرير لا يجوز للرجل أن يلبسه.

قوله : «ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْهَا حُلَلٌ» يعني: بعد ذلك من حرير، فوزعها النبي ﷺ على بعض أصحابه، «فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا» والمعنى: أن النبي ﷺ قال لم أعطك الحلة لكي تلبسها وإنما أعطيتكها لتستفيد منها، إما أن تبيعها وتستفيد بثمنها، وإما أن تكسوها من يجوز له لبسها كالنساء وكالمشركين، فالمشركون لا يلتزمون بالأحكام.

وفي الحديث: دليل على أن إهداء الإنسان لشخص ما شيئًا ممنوعًا من لبسه أو استعماله لا يلزمه لبسه، وله أن يعطيه لغيره ممن يجوز له استعماله، أو يبيعه فينتفع بثمنه، فلو أعطيت إنسانًا سوارًا من ذهب أو ساعة من ذهب هدية، ومعروف أن الرجل لا يلبس الذهب، فليس معناه أن يلبسها، بل يعطيها زوجته تتحلى بها أو تبيعها وتنتفع بثمنها، فكذلك أهدى النبي ﷺ لعمر حلة من حرير، وإنما أراد من ذلك أن يبيعها وينتفع بثمنها أو يعطيها من ينتفع بثمنها أو من يباح له استعمالها كالنساء، ولهذا كساها عمر أخًا له في مكة مشركًا؛ لأن المشركين لا يلتزمون بالأحكام ولو التزم بهذا الحكم ما أفاده وهو على شركه، يعني كون المشرك يمتنع عن لبس الحرير لهذا الحكم فهذا لا يفيده بل عليه أولاً أن يلتزم بالإيمان، فيشهد لله تعالى بالوحدانية ولنبيه ﷺ بالرسالة ويؤمن بالله وبرسوله ﷺ وباليوم الآخر ثم بعد ذلك يلتزم بالأوامر والنواهي.

ولهذا فإن الكافر مثلاً لا تنهه عن شرب الخمر، وإنما تأمره أولاً بالإيمان ثم تنهاه عن شرب الخمر، فإذا امتنع عن شرب الخمر وهو على كفره فلا يفيده، وإنما ينهى عن إعلان شرب الخمر، إذا كان يعلن ذلك في بلاد المسلمين.

وفيه أيضًا: دليل على جواز صلة الأقارب المشركين وبرهم إذا لم يكونوا حربًا للمسلمين، فلا حرج أن تعطيهم شيئًا من المال أو تصلهم، قال الله تعالى: لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۝ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَولَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المُمتَحنَة: 8-9].

فالله تعالى نهانا عن الحربي، أما غير الحربي إذا كان مشركًا وأهديت له أو أعطيته طعامًا أو سقيت له فلا بأس إذا كان قريبًا، حتى الوقف كما ورد هذا عن بعض الصحابة، وقد يكون هذا دعوة له إلى الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح: أن أسماء ل قدمت إليها أمها وهي مشركة على دين قومها في المدينة ترجو رفدها وصلتها، فاستفتت النبي ﷺ هل تصلها وهي مشركة؟ فقال النبي ﷺ: صِلِي أُمَّكِ [(771)].

فدل هذا على أنه لا بأس بصلة القريب المشرك إذا لم يكن حربًا لنا.

المتن:

باب السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: عَنْ النَّبِيِّ ﷺ يَسْتَنُّ

887 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ.

888 حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ.

889 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَحُصَيْنٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ.

الشرح:

هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان مشروعية السواك للجمعة، كما أنه يشرع السواك عند كل صلاة، فكذلك يشرع لصلاة الجمعة.

قوله: «يستن» يعني يتسوك إذا صلى، وهذا عام في كل صلاة.

887 قوله: لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ. دليل على مشروعية السواك يوم الجمعة حيث إن الجمعة تدخل في قوله ﷺ: كُلِّ صَلاَةٍ. فقوله كُلِّ من صيغ العموم التي تشمل جميع الصلوات، فكل صلاة يشرع لها السواك.

ولو قيل: هل يدخل في ذلك صلاة الجنازة؟ فالجواب: نعم؛ لأنها تسمى صلاة فتدخل في العموم.

وفيه فائدة أصولية وهي: هل الأمر إذا أطلق يحمل على الوجوب أم على الاستحباب؟ فيه قولان عند الأصوليين:

القول الأول: أنه للاستحباب.

القول الثاني: أنه للوجوب.

والصواب الذي عليه الجمهور، أن النبي ﷺ إذا أطلق الأمر فيحمل على الوجوب، فإذا تركه المكلف يأثم، إلا إذا وُجد صارفٌ يصرف هذا الأمر عن الوجوب للاستحباب، فإن لم يوجد صارف فهو للوجوب.

والدليل من هذا الحديث على أن الأمر للوجوب من وجهين:

الوجه الأول: أنه نفى الأمر مع ثبوت الندبية، قال: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ يعني: لكني لم آمرهم لوجود المشقة، فهذا تقييد لو لم يكن هناك مشقة لأمر النبي ﷺ بالسواك عند كل صلاة، لكن في ذلك مشقة فلم يأمرهم بالسواك عند كل صلاة.

والمراد بالأمر الإيجاب؛ لأنه نفى الأمر مع ثبوت الندبية فدل على أن الأمر إذا أطلق فهو للوجوب.

الوجه الثاني: أنه جعل الأمر مشقة والمندوب لا مشقة فيه؛ لأن الإنسان يجوز أن يفعله ويجوز أن يتركه، فدل على أن الأمر إذا أطلق فهو للوجوب ما لم يوجد صارف.

ويدل أيضًا على أن الأمر يكون للوجوب قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النُّور: 63] فلولا أن الأمر للوجوب لما توعد الله من خالف الأمر بأن تصيبه فتنة أو عذاب أليم، فدل على أن الأمر للوجوب.

وقد اختار الآمدي من الأصوليين في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» [(772)] أن الأمر للندب وأتى بأدلة كثيرة، ولكنه اختيار ضعيف، والصواب: أن الأمر للوجوب، ومحل بسط هذه المسألة كتب الأصول.

888 قوله: أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ يعني: في كل وقت، ومن ذلك وقت الجمعة.

ففيه: دليل على استحباب السواك للجمعة.

889 قوله: «يشوص فاه» يعني يدلك فاه بالسواك، فإن النبي ﷺ كان يتسوك إذا قام من الليل؛ لأن السواك مستحب لدخوله في عموم قوله ﷺ: «لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة» ووجه الدلالة: أن السواك إذا كان مستحبًّا في صلاة الليل وهي نافلة فاستحبابه لصلاة الجمعة من باب أولى.

وفي أحاديث السواك المتقدمة عدة فوائد:

- الفائدة الأولى: يستحب السواك عند القيام من الليل وإن كان لغير صلاة؛ لأنه مظنة تغير رائحة الفم فيستحب التسوك، ويتأكد الاستحباب إذا قام إلى الصلاة.

- الفائدة الثانية: الحالات التي يتأكد فيها استحباب السواك:

الحالة الأولى : عند الوضوء؛ لقوله ﷺ: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ ؤضُوءٍ. [(773)].

الحالة الثانية: عند كل صلاة، سواء كانت صلاة فريضة أو نافلة؛ للحديث السابق: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ.

الحالة الثالثة: عند دخول البيت، فقد سأل شريح بن هانئ عائشة رضي الله عنها: بأي شيء كان يبدأ النبي ﷺ إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك[(774)].

الحالة الرابعة : عند تغير الفم.

الحالة الخامسة : عند قراءة القرآن.

- الفائدة الثالثة: السواك مستحب في جميع الأوقات؛ لما جاء في الحديث: السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ [(775)].

- الفائدة الرابعة: في السواك فوائد عديدة أوصلها بعض أهل العلم إلى أكثر من مائة فائدة، منها أنه يُذَكِّرُ الشهادة عند الموت.

- الفائدة الخامسة: أفضل السواك ما كان من الأراك، فإن لم يكن فبأي عود رطب، يقول العلماء: بكل عود لين منق لا يجرح اللثة ولا يتفتت، حتى قال بعض الفقهاء: إذا لم يجد شيئًا استاك بأصبعه إذا كانت خشنة.

- الفائدة السادسة: يكره التسوك في بعض الحالات منها:

الحالة الأولى : إذا كان الإنسان في قضاء الحاجة.

الحالة الثانية : أثناء الطعام.

الحالة الثالثة : إذا كان في الصلاة؛ لأن هذا عبث.

الحالة الرابعة : عند سماع خطبة الجمعة؛ فحكم سماع الخطبة في هذه الحالة حكم الصلاة، فإذا بدأ الخطيب خطبة الجمعة لا خطبة العيد ـ أي: الجمعة خاصة ـ لا يجوز للإنسان أن يعبث، ولا يتسوك، ولا يتكلم، ولا يشمت العاطس كالصلاة سواء بسواء، ولا يسلم على الذي عن يمينه أو يساره، وإذا سلم عليه أحد فلا يرد عليه السلام، وإذا مد يده ومددت يدك فلا بأس، وإذا تكلم عندك أحد فلا تتكلم لكن تنظر في عينه ثم تنبهه بعد ذلك.

- الفائدة السابعة: التسوك باليمين فيه خلاف؛ فبعض العلماء يرى أن التسوك باليمين؛ لأنه من باب التكريم، وقال آخرون من أهل العلم: إنه باليسار؛ لأنه من باب إزالة الأذى.

والأقرب أنه باليسار للسبب المذكور أنه من باب التنظيف وإزالة الأذى.

المتن:

باب مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ

890 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ فَأَعْطَانِيهِ فَقَصَمْتُهُ ثُمَّ مَضَغْتُهُ فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَاسْتَنَّ بِهِ وَهُوَ مُسْتَسْنِدٌ إِلَى صَدْرِي.

الشرح:

890 قوله: «يستن به» يعني: يستاك به.

فيه: دليل على أنه لا بأس للإنسان أن يستاك بسواك غيره إذا أعطاه إياه، ويستحب له غسله، فإن عبد الرحمن بن أبي بكر لما جاء ومعه السواك يستن به ودخل على النبي ﷺ وهو في مرض الموت ـ نظر إليه النبي ﷺ كأنه يريده ـ وفي اللفظ الآخر: «قلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم» [(776)] فقالت عائشة رضي الله عنها لعبدالرحمن: «أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ» فأعطاها إياه «فَقَصَمْتُهُ» أي: قطعت طرفه «ثُمَّ مَضَغْتُهُ» أي: لينته بفمها ثم أعطته للنبي ﷺ، وفي اللفظ الآخر: «فتسوك به» [(777)] فدل على أنه لا بأس أن يتسوك الإنسان بسواك غيره بعد تليينه وغسله استحبابًا.

قولها: «فَقَصَمْتُهُ» : بالصاد المهملة المفتوحة أي كسرته أو قطعته، وفي رواية: «فقضمته» بفتح القاف وكسر الضاد المعجمة أي مضغته، وهو الأخذ بطرف الأسنان، وفي رواية: «ففصمته» بالفاء المهملة بعدها صاد مهملة.

المتن:

باب مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

891 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ.

الشرح:

891 هذا الحديث يشتمل على عدة فوائد منها:

الأولى: مشروعية قراءة هاتين السورتين في فجر يوم الجمعة، فيقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسَان: 1].

الثانية: استحباب المداومة على ذلك؛ لما ورد في رواية الطبراني عن ابن مسعود بسند لا بأس به: «ويديم ذلك» [(778)] فالسنة المداومة على قراءة هاتين السورتين فجر يوم الجمعة، ولكن لو تركها بعض الأحيان حتى يعلم الناس أنهما ليستا واجبتين فهذا حسن، وإذا داوم ونبه الناس وعلمهم فحسن أيضًا.

الثالثة: الحكمة في اختصاص يوم الجمعة بقراءة سورة السجدة والإنسان ـ أشار إليها المحققون من العلماء كابن القيم رحمه الله ـ فقد قال: «إن فيهما ذكر المبدأ والمعاد وخلق آدم ودخول الجنة والنار، وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة، فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم؛ تذكيرًا للأمة بحوادث هذا اليوم»[(779)].

المتن:

باب الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ

892 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنْ الْبَحْرَيْنِ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان أن الجمعة تقام في القرى والمدن التي استقر أهلها واستوطنوا بها في بناء واحد، مثل: مكة والمدينة والرياض، وغير ذلك، فهؤلاء تجب في حقهم الجمعة، ولا تقام في البوادي ولا في المخيمات، ولا يقيمها المسافرون؛ لأن المسافرين ليس عليهم جمعة ولو كثروا، مثل الحجاج في منى لا جمعة عليهم.

892 هذا الحديث يشتمل على عدة فوائد منها:

الأولى: أول جمعة جُمّعت في الإسلام كانت في مسجد النبي ﷺ، وقيل: إن أول جمعة جُمّعت كانت قبل مقدم النبي ﷺ، ثم جُمّع النبي ﷺ في مسجده، ثم كانت الجمعة التالية في مسجد عبد القيس بجواثا من البحرين.

قوله: «مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ» بنو عبد القيس أسلموا قديمًا ، فجمعوا وأقاموا الجمعة وكانت جمعتهم ثاني جمعة في الإسلام بعد الجمعة التي كانت في مسجد النبي ﷺ، وإنما جَمّعوا ـ وهم قرية ـ بأمر النبي ﷺ، ولا يقال: إن النبي ﷺ لا يعلم بذلك؛ فهذا بعيد لأنهم مؤمنون، ولا يمكن أن يفعلوا شيئًا ولا أن يقيموا جمعة إلا بأمر النبي ﷺ، ولو قدر أنهم فعلوا ذلك وجَمّعوا بغير أمر النبي ﷺ لنزل الوحي على النبي ﷺ يخبره بذلك، ولو قدر أن النبي ﷺ لم يعلم فالله تعالى يعلم ولا يمكن أن يُقَرُوا على شيء لا يجوز، وقد قال جابر بن عبدالله : «كنا نعزل على عهد رسول الله ﷺ والقرآن ينزل، ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن»[(780)].

قوله: «بِجُوَاثَى مِنْ الْبَحْرَيْنِ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بِجُوَاثَى» ، بضم الجيم وتخفيف الواو وقد تهمز ثم مثلثة خفيفة». وهي إحدى قرى الأحساء وما حولها، وهي موجودة الآن رأيناها وعليها آثار.

أما «الْبَحْرَيْنِ» : فهي كل منطقة ساحل الخليج العربي وتشمل عدة بلاد وتسمى بمجموعها البحرين، فكل دول الخليج قديمًا كانت تسمى البحرين، وليس المراد بالبحرين البلد المعروف الآن فقط في خريطة الجغرافيا.

وسمي البحرين بهذا الاسم؛ لأن البحر يدخل في البر من جانبيه، وهي مجمع البحرين التي التقى فيها موسى عليه الصلاة والسلام بالخضر اللذين قص الله خبرهما في القرآن، لما أخبر الله تعالى موسى أن هناك رجلاً صالحًا أعلم منه، قال: أين أجده يا رب؟ قال: بمجمع البحرين: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف: 60].

الثانية: دليل على مشروعية إقامة الجمعة في القرى والأمصار والمدن، وأما البوادي والمخيمات فليس على أهلها جمعة؛ لأنها خارج البلد، وكذلك المسافرون لا يقيمون الجمعة، وإذا نزلوا المدن أو القرى فلهم أن يحضروا الجمعة ويصلوا مع الناس تبعًا لهم ولا يقيمون الجمعة بأنفسهم وحدهم.

الثالثة: لو قال قائل: ما حكم صلاة أهل البوادي أو المسافرين الجمعة بأنفسهم؟ فالجواب: لا تصح صلاتهم، ويجب إعادتها فيصلونها ظهرًا، فهناك بعض الناس الجهال من المسافرين يقيمون الجمعة في مكة أو في منى، يُجمِّعون المسافرين ويصلون الجمعة فهذا من جهلهم بحكم المسألة.

الرابعة: الجمعة في السجون: إذا كانت هذه السجون في نفس بلد المسجونين فلا بأس في إقامتهم الجمعة إذا اقتضت الحاجة؛ لأنهم في البلد مقيمون وليسوا في البوادي ولا مسافرين، فإذا كانوا كثيرين واحتاجوا أن يقيموا الجمعة وجاء الإذن من الجهة الرسمية ـ وهي الوزارة أو دار الإفتاء ـ فلابد من الإذن في هذه الحال؛ لأنه ليس لأحدهم أن يقيم الجمعة إلا بعد الإذن، ينظر هل هناك حاجة إلى إقامة الجمعة أم ليس هناك حاجة؟

كما أن القرية تقام فيها جمعة واحدة ولا يقام جمعة أخرى إلا بعد الإذن والنظر والتأمل.

المتن:

893 حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ: كَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي الْقُرَى هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ يَعْمَلُهَا وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ السُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَيْلَةَ فَكَتَبَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَنَا أَسْمَعُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُجَمِّعَ يُخْبِرُهُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الإِْمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ: وحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: والرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.

الشرح:

893 هذا الحديث يشتمل على عدة فوائد منها:

الأولى: استدل البخاري رحمه الله بهذا الحديث على مشروعية إقامة الجمعة في القرى ـ وهذا من دقائق استنباطات البخاري ـ ووجه الدلالة: على الترجمة: أن من كان أميرًا فعليه إقامة الأحكام الشرعية ومنها الجمعة، وكان رزيق هذا عاملاً على الطائفة التي ذكرها، على أرض أيلة والتي يعمل فيها جماعة من السودان، وأيلة بلدة في الشام، وكان عليه أن يراعي حقوقهم، ومن جملة حقوقهم إقامة الجمعة.

الثانية: هذا الحديث بعمومه يدل على أن الأمير يقيم الجمعة؛ لأنه يقيم للناس الأحكام الشرعية ومنها الجمعة، فالأمير راع وهو مسؤول يوم القيامة، ينصح لهم ويحوطهم بنصحه ويقيم الحدود ويقيم الجمعة.

الثالثة: في الحديث رد على من قال: إنها لا تقام إلا في المدن الكبار، فإنها تقام في القرى كما أقام أهل جواثا الجمعة في قريتهم.

الرابعة: أن المسئولية تتفاوت، فالإمام الأعظم راع ومسؤول عن رعيته، وأمير البلد راع ومسئول عن رعيته، والرئيس راع، والمدير أيضًا راع ـ مدير القسم أو مدير المدرسة ـ كل هؤلاء رعاة، والرجل في بيته راع ومسؤول عن زوجته وأولاده، والمرأة راعية أيضًا في بيت زوجها على أولاده ومسؤولة عن رعيتها، والخادم أيضًا راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، كل واحد عليه مسؤولية لا يتنصل منها، ولكن هذه المسئولية تختلف من شخص لآخر، فالإنسان مسؤول عن نفسه ومسؤول عن أهل بيته حتى تصل المسؤولية إلى إمام المسلمين، ومن الرعاية التي أوجبها الله على الراعي إقامة الجمعة لمن ولاه الله أمر مدينة أو قرية.

المتن:

باب هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «إِنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ».

894 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ.

895 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ ابْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ.

896 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَحْنُ الآْخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ فَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى فَسَكَتَ.

897 ثُمَّ قَالَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ.

898 رَوَاهُ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقٌّ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا.

899 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ.

900 حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُانَتْ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَقِيلَ لَهَا: لِمَ تَخْرُجِينَ وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ قَالَتْ: وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي؟ قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ.

الشرح:

هذه الترجمة ساقها البخاري رحمه الله على صيغة الاستفهام: «هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ؟» يعني: ومن في حكمهم كالعبد والمسافر والمعذور؛ لأنها أحكام مختلف فيها بين أهل العلم فلم يجزم بالحكم، وهذه عادته رحمه الله أن يترك الحكم مفتوحًا لطالب العلم للتأمل والنظر في الأدلة التي ذكرها ويحكم بنفسه.

وأحاديث الباب التي ذكرها تبين أن من جاء الجمعة يغتسل، وأما الذي لا يأتي الجمعة كالمرأة والصبي والعبد والمسافر والمعذور والمريض فهؤلاء الذين وقع فيهم الخلاف.

وأثر ابن عمر رضي الله عنهما يدل على اختيار البخاري رحمه الله أن من لم يأت الجمعة فليس عليه غسل.

ولكن كما يقول ابن عمر رضي الله عنهما: «إِنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ» ومفهوم الأثر أن من لم تجب عليه الجمعة فلا غسل عليه.

894 قوله ﷺ: مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ هذا تقييد، فيخرج منه من لم يجئ الجمعة؛ فدل على أن الغسل إنما يجب على من جاء الجمعة.

895، 896 قوله ﷺ: غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ التقييد فيه بالمحتلم يخرج الصبي؛ فدل على أن الغسل يجب على البالغ ولا يجب على الصبي.

897 قوله ﷺ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ هذا عام يشمل كل مسلم، فيشمل أيضًا المرأة والصبي والعبد والمسافر، فهو شامل لكل من أتى الجمعة ومن لا يأتي الجمعة.

898 قوله ﷺ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقٌّ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا هذا عام يشمل كل مسلم.

899 قوله ﷺ: ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ التقييد بالليل يخرج الجمعة؛ لأن الجمعة لا تؤتى بالليل فدل على أنها لا تغتسل.

900 هذا الحديث يشتمل على عدة فوائد منها:

الأولى: قوله: «كُانَتْ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ» فيه: دليل على جواز صلاة النساء مع الرجال في كل الصلوات الخمس، فإن النساء كنَّ يصلين مع النبي ﷺ خلف الرجال الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، فإن كان هذا في الصلوات الخمس فكذلك الجمعة.

الثانية: قوله: «يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ فيه: تعظيم عمر للسنة، وأنه مع شدة غيرته ما يستطيع أن يمنعها عملاً بقول النبي ﷺ.

الثالثة: قوله: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ: دليل عام يشمل الجمعة وغيرها.

الرابعة: الخلاف في المسألة والراجح فيها:

هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف رحمه الله في بعضها التقييد بوجوب الغسل بمن جاء إلى الجمعة، وفي بعضها التقييد بوجوب الغسل على المحتلم، وفي بعضها التقييد بالإذن للنساء إلى المساجد بالليل، وفي بعضها الإطلاق في وجوب الغسل على كل مسلم في كل سبعة أيام، والقاعدة في هذا أن يحمل المطلق على المقيد، واختيار البخاري رحمه الله أن الأحاديث المطلقة في وجوب الغسل على كل مسلم تُقَيَّدُ بالأحاديث التي قَيَّدَت ذلك بمن جاء إلى الجمعة، فيكون غسل الجمعة على اختياره خاصًّا بمن وجبت عليه دون من لم تجب عليه من النساء والصبيان والعبيد والمسافرين وغيرهم، لأن الآثار التي يوردها البخاري في التراجم تدل على اختيار ما تضمنته عنده.

وعلى هذا يكون الغسل إنما هو واجب على كل من جاء إلى الجمعة أما الأحاديث المطلقة كقوله ﷺ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، فهذا مطلق يقيد بمن شهد الجمعة وهذا هو اختيار البخاري ولهذا أتى بهذه الترجمة «هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ؟» .

ومن العلماء من قال: إنه يؤخذ على إطلاقه، وعلى كل إنسان أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا، والأفضل أن يكون هذا اليوم يوم الجمعة، ولو كانت امرأة أو كان صبيًّا، لكن القول بالوجوب قول فيه نظر.

وظاهر استدلال البخاري رحمه الله أنه يرى التقييد، وأنه يرى أن الوجوب خاص بمن جاء إلى الجمعة.

والقول في الغسل هل بالوجوب أو الاستحباب؟ فيه خلاف بين العلماء على أقوال:

الأول: أنه واجب على كل من أتى إلى الجمعة، واستدلوا بقوله ﷺ في حديث أبي سعيد هذا غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ.

الثاني: أنه مستحب وليس بواجب وهو قول الجمهور، واستدلوا بحديث الحسن عن سمرة مرفوعًا: مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ [(781)] وقالوا: هذا يصرف قول الواجب إلى الاستحباب.

وفسروا قوله: وَاجِبٌ أي: متأكد، كما تقول العرب: حقي عليك واجب أي متأكد.

والقول بالوجوب دليله أقوى.

وقال آخرون من أهل العلم: إنما يجب الغسل على أهل المهن والحرف الذين تنبعث منهم الروائح فيجب عليهم أن يغتسلوا، أما غير أهل الحرف فلا يجب عليهم وإنما يستحب.

ومن العلماء كالبخاري رحمه الله قال: إنه لا يجب إلا على من أتى إلى الجمعة.

وقال آخرون من أهل العلم: إن كل مسلم عليه أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا عملاً بهذا الحديث، فذلك على من جاء إلى الجمعة ومن لم يأت إليها.

ولأجل هذا الخلاف فإن البخاري رحمه الله لم يجزم بالترجمة، وجاء بها عن طريق الاستفهام قال: «هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ؟» حتى يتأمل طالب العلم ويُعمل فكره وينظر في كلام العلماء وخلافهم في المسألة.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «قد فهم آخرون منه أنه: من أراد إتيان الجمعة فليغتسل، سواء كان إتيانه للجمعة واجبًا عليه أو غير واجبٍ، وأما من لم يرد إتيانها كالمسافر والمريض المنقطع في بيته، ومن لا يريد حضور الجمعة من النساء والصبيان ـ فلم يدل الحديث على غسل أحدٍ منهم.

وقد ذهب إلى أنهم يغتسلون للجمعة طائفةٌ من العلماء، فصارت الأقوال في المسألة ثلاثةٌ».

وهذه الأقوال هي :

الأول: أنه يجب غسل الجمعة على من وجبت عليه الجمعة، أما لو جاء إلى الجمعة مسافر أو صبي أو امرأة فلا يجب عليهم الغسل ولا يستحب.

الثاني: أن كل من أتى إلى الجمعة يجب عليه أن يغتسل أو يستحب، ولو كانت الجمعة لا تجب عليه، فإذا قال مسافر: أنا أريد أن أصلي الجمعة؟ نقول له: اغتسل.

وإذا قال: أنا لا أريد أن أصلي الجمعة فهل علي غسل؟ نقول له: ليس عليك غسل. وإذا أرادت امرأة أن تصلي الجمعة مع الناس نقول لها: اغتسلي.

وإن أرادت أن تصلي في البيت، نقول لها: لا تغتسلي على هذا القول. وإذا أراد الصبي أن يصلي الجمعة نقول له: اغتسل.

فإذا لم يرد صلاة الجمعة لا يغتسل.

الثالث: أن غسل الجمعة عام على كل مسلم حضر الجمعة أو لا؛ عملاً بإطلاق الحديث.

والأرجح ما ذهب إليه البخاري، فالأقرب أن من أتى إلى الجمعة يغتسل وأما من لم يأت الجمعة فلا غسل عليه.

المتن:

باب الرُّخْصَةِ إِنْ لَمْ يَحْضُرْ الْجُمُعَةَ فِي الْمَطَرِ

901 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلاَ تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا قَالَ: فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي إِنَّ الْجُمْعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ.

الشرح:

901 فيه يشتمل على عدة فوائد منها:

الأولى: قوله: «إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلاَ تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ» فيه: مشروعية أن يقول المؤذن في الأذان في المطر: «صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ» أو «صلوا في الرحال» [(782)] بدل «حي على الصلاة»، وفي بعض الروايات يجمع بين «حي على الصلاة»، و «صلوا في رحالكم» [(783)]، وفي بعضها أنه يقولها بعد الانتهاء من الأذان[(784)].

الثانية: قوله: «إِنَّ الْجُمْعَةَ عَزْمَةٌ» أي: واجبة، ففيه دليل على فرضية الجمعة.

الثالثة: قوله: «وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ» بالحاء المهملة، وفي لفظ: «أخرجكم» بالخاء المعجمة، وفيه دليل على حرص الصحابة على العمل بالسنة عند وجود تيسير ورخصة، وتعليمها للناس.

الرابعة: قوله: «فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ» وفي لفظ: «فتجيئون تدوسون الطين إلى ركبكم» [(785)] وفيه: دليل على أن المراد بالمطر في الحديث هو المطر الذي يؤذي ويشق على الإنسان ويبل الثياب فهذا الذي فيه الرخصة في التخلف عن حضور الجمعة والجماعات، وأما ما يتساهل فيه بعض الناس عندما يرى غيومًا ونقطًا يسيرة فليس هذا المراد من الحديث؛ إذ الرخصة لرفع المشقة وهذا اليسير لا مشقة فيه.

وفي الحديث: دليل على أن المطر رخصة في عدم حضور الجمعة، وهذا قول الجمهور وهو الصواب.

وقال بعض أهل العلم: يفرق بين قليل المطر وكثيره، فالكثير عذر والقليل ليس بعذر.

وروي عن الإمام مالك أنه لا يرخص فِي ترك حضور الجمعة بالمطر[(786)]، فتصبح الأقوال ثلاثة.

الخامسة: المتخلف عن الجمعة بسبب العذر لا ينقص ذلك من أجره، فإذا تخلف الإنسان عن حضور الجمعة أو الجماعة لعذر المطر أو المرض أو الخوف أو غيرها من الأعذار الشرعية فإن الله يكتب له مثل أجر من صلى مع الجماعة أو حضر الجمعة، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه كما دلت على ذلك النصوص النبوية الشريفة؛ فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا [(787)] وقوله عليه الصلاة والسلام للمجاهدين في غزوة تبوك: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ [(788)] وفي لفظ: إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ [(789)] وأيضًا: «أن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله ﷺ وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، ومن بني حارثة: عتبة بن زيد، ومن بني مازن بن النجار: أبو ليلى عبدالرحمن بن كعب، ومن بني سلمة: عمرو بن عمرو بن جهام بن الجموح، ومن بني واقف: هرمي بن عمرو، ومن بني مزينة: عبدالله بن معقل، ومن بني فزارة: عرباض بن سارية، فاستحملوا رسول الله ﷺ وكانوا أهل حاجة قال: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [(790)] فهؤلاء عذرهم الله تعالى في القرآن، وشنع على آخرين ليس عندهم عذر في الخروج للجهاد فهم أغنياء، ومع ذلك تخلفوا، فبين أن حقيقة السبب في تخلفهم هو ما في قلوبهم من النفاق، فهذا تحذير للمؤمنين من هذه الصفة، قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ *إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [التّوبَة: 91-93]. فالمقصود أن من ترك شيئًا واجبًا للعذر فإن الله يكتب له ثوابه كما لو أداه تمامًا.

المتن:

باب مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْجُمُعَةُ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ

لِقَوْلِ اللَّهِ : إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجُمُعَة: 9]

وَقَالَ عَطَاءٌ: «إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ فَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ».

وَكَانَ أَنَسٌ فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ وَأَحْيَانًا لاَ يُجَمِّعُ وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ.

902 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِيِّ فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ يُصِيبُهُمْ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُمْ الْعَرَقُ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ وَهُوَ عِنْدِي فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان المسافة التي يجب على الإنسان أن يقطعها ليصل إلى المسجد ويؤدي فيه صلاة الجمعة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «الذي ذهب إليه الجمهور أنها تجب على من سمع النداء، أو كان في قوة السامع سواء كان داخل البلد أو خارجه، ومحله كما صرح به الشافعي ما إذا كان المنادي صيِّتًا والأصوات هادئة والرجل سميعًا». والمراد بالمنادي الصيِّت: صاحب الصوت الطبيعي، أي بدون استعمال أجهزة تكبير الصوت.

قوله: «بَاب مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْجُمُعَةُ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ لِقَوْلِ اللَّهِ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجُمُعَة: 9]» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يعني أن الآية ليست صريحة في وجوب بيان الحكم المذكور، فلذلك أتى في الترجمة بصيغة الاستفهام».

قوله: «وَقَالَ عَطَاءٌ: «إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ فَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ» أي: إذا سمعت النداء أو لم تسمع؛ لأنك إن سمعته فقد علمت، وإن لم تسمع فإنك في قوة السامع ما دمت في البلد.

قوله: «وَكَانَ أَنَسٌ فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ وَأَحْيَانًا لاَ يُجَمِّعُ وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ» وقع في رواية: «كان أنس يكون في أرضه وبينه وبين البصرة ثلاثة أميال فيشهد الجمعة بالبصرة» وهذا ظاهره التعارض؛ لأنه في الرواية الأولى قال: «عَلَى فَرْسَخَيْنِ» ، وفي الثانية قال: «ثلاثة أميال» ، وقد جمع بينهما الحافظ ابن حجر بقوله: «يجمع بأن الأرض المذكورة غير القصر، وبأن أنسًا كان يرى التجميع حتمًا إن كان على فرسخ، ولا يراه حتمًا إذا كان أكثر من ذلك».

وقوله: «بِالزَّاوِيَةِ» مكان بعيد عن البصرة.

902 قولها: «وَالْعَوَالِيِّ» هي القرى المجتمعة البعيدة عن المدينة من جهة نجد، وهي معروفة إلى الآن من أحياء المدينة، وكانت سابقًا خارج البلد، وفيها مزارع.

وتحديد بُعدها عن المدينة جاء في روايات: «والعوالي من المدينة على ثلاثة أميال» ، وفي أخرى: «أربعة أميال أو ثلاثة» ، وفي أخرى: «على ستة أميال» ، في أخرى: «على ميلين أو ثلاثة» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فتحصل من ذلك أن أقرب العوالي من المدينة مسافة ميلين، وأبعدها مسافة ستة أميال - إن كانت رواية الأميال الستة محفوظة».

وفي الحديث: دليل على أن الجمعة تؤتى من مسافة تعادل ما بين المدينة وعواليها، أي فرسخ تقريبًا.

ويقدر الفرسخ بثلاثة أميال، والميل يقارب الكيلومتر والثلثين، يعني أن مسافة الفرسخ تقريبًا تعادل حوالي خمسة كيلو مترات إلا ثلثًا.

مسألة:

هل يجوز له أن ينشئ سفرًا بعد الزوال؟

الجواب:

لا؛ لأنه دخل وقت الجمعة بالزوال، فليس له أن يسافر بعد الزوال حتى يؤدي الجمعة؛ يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الجُمُعَة: 9]، وأما قبل الزوال فيكره السفر يوم الجمعة، والمقصود بقبل الزوال: أي بعد طلوع الشمس يكره السفر؛ لسد ذريعة التحايل على ترك الجمعة، ولئلا يفوته ما في الجمعة من ثواب.

وفيه: حجة لمن قال بأن غسل الجمعة لا يجب إلا على أهل المهن والحرف، وتقدم الخلاف في ذلك.

المتن:

باب وَقْتُ الْجُمُعَةِ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ

وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ .

903 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَمْرَةَ عَنْ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ: لَوْ اغْتَسَلْتُمْ.

904 حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ.

905 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ.

الشرح:

هذه الترجمة من التراجم التي جزم فيها المؤلف رحمه الله بالحكم أن وقت الجمعة إذا زالت الشمس مع أن المسألة فيها خلاف؛ والسبب في هذا الجزم قوة الأحاديث الصريحة المؤيدة لهذا الحكم، كحديث أنس المذكور في هذا الباب، وهذا مذهب الجمهور، وأما أدلة المخالفين كالحنابلة[(791)] وبعض أهل العلم فليست بصريحة وبعضها ضعيف.

لهذا ينبغي على الخطيب ألا يدخل المسجد ويبدأ الخطبة إلا بعد زوال الشمس؛ احتياطًا لهذه العبادة العظيمة وخروجًا من الخلاف.

903 قولها: «رَاحُوا» استدل به البخاري رحمه الله على أن ذلك كان بعد الزوال؛ لأنه حقيقة الرواح عند أكثر أهل اللغة.

وفيه: دليل لمن قال: إن الغسل يجب على أهل المهن.

904 قوله: «تَمِيلُ الشَّمْسُ» أي: تزول الشمس.

905 قوله: «كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ» نبكر أي: نأتي في أول الوقت؛ لأنهم عادة كانوا يقيلون قبل الظهر، وأما يوم الجمعة فيبكرون بالجمعة في أول وقتها إذا زالت الشمس ويؤخرون غداءهم، ثم يقيلون بعد الجمعة.

وكان يُبرد بصلاة الظهر أي تؤخر بعد دخول الوقت حتى ينكسر الحر، أما الجمعة فلا إبراد فيها كما سيأتي بيانه في الترجمة التي بعدها.

والسنة ألا يطيل الخطيب خطبته سواء كان في شدة الحر أو البرد؛ لعموم قول النبي ﷺ: إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ [(792)] فبين أن الخطيب الفقيه هو الذي يقصر الخطبة ويطيل الصلاة.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد