المتن:
(12) أَبَوَاب صَلاَةِ الخَوْف
باب صَلاَةِ الْخَوْفِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِيناً [النِّسَاء: 101-102].
942 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ يَعْنِي صَلاَةَ الْخَوْفِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَا لَهُمْ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي لَنَا فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ تُصَلِّي وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فَجَاءُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ.
الشرح:
ذكر المؤلف رحمه الله صلاة الخوف بعد صلاة الجمعة وبعد صلاة الجماعة؛ لأن صلاة الخوف من جملة الصلوات الخمس إلا أن فيها مخالفة للصلوات الخمس في بعض الأركان وبعض الأفعال فلهذا ذكرها بعدها، وذكرت قبل صلاة العيدين؛ لأن الصلوات الخمس مقدمة؛ لكونها صلاة يومية، وصلاة العيد صلاة سنوية.
والمراد بالخوف: الخوف من العدو، وتصلى صلاة الخوف إذا خاف المسلمون من العدو وواجهوا العدو وقت القتال، وهي ثابتة بالقرآن وبالسنة.
وذكر المؤلف رحمه الله آية النساء في بيان صلاة الخوف، قال الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً [النِّسَاء: 101] وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ يعني: سافرتم، واشترط الله تعالى لقصر الصلاة شرطين:
الأول: الضرب في الأرض، ويقصد به السفر.
الثاني: الخوف، ويقصد به الخوف من العدو.
فإذا وجِد الشرطان جاز القصر، فتقصر الرباعية ركعتين، وأما المغرب والفجر فلا يقصران، فإذا كان مسافرًا وخاف من العدو جاز له القصر، ومفهوم الآية أنه إذا سافر ولم يكن خائفًا من العدو فإنه لا يقصر، لكن جاء في السنة مشروعية القصر للمسافر ولو كان آمنًا، وقد أشكل هذا على عمر بن الخطاب فسأل النبي ﷺ قال: يا رسول الله، إن الله يقول: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ونحن آمنون. فقال ﷺ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ فاقبلوا الصدقة [(834)] يعني: قصر الصلاة مع الأمن، فالقصر في السفر بالخوف ثابت بالقرآن، والقصر في السفر مع الأمن وعدم الخوف ثابت بالسنة، فيقصر المسافر ولو لم يخف.
ثم قال سبحانه: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا يعني: فإذا صلوا وسجدوا وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ أي: يصلون، وفيها أنهم يأخذون السلاح وهم يصلون خشية أن يهجم عليهم العدو وهم في الصلاة، فإذا انتهت الطائفة التي صلت مع الإمام ذهبت وجاءت الطائفة الثانية فصلت مع الإمام.
ثم قال سبحانه: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النِّسَاء: 102] وهذا فيه بيان للمسلمين وهم يقاتلون أن يأخذوا حذرهم لئلا يهجم عليهم العدو إذا كانوا في الصلاة.
ثم قال سبحانه: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِيناً [النِّسَاء: 102] وهذا فيه رفع الحرج عن المسلمين إذا كان يشق عليهم حمل السلاح بسبب مرض أو مطر، فلا بأس من وضع السلاح في الأرض مع أخذ الحذر من العدو بالمراقبة، فإذا هجم العدو أخذوا السلاح.
942 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما، واختاره لأنه شبيه بما ذكر الله في القرآن العزيز؛ لأن صلاة الخوف ثابتة عن النبي ﷺ من وجوه متعددة، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: «صلاة الخوف ثابتة عن النبي ﷺ من ستة أوجه أو سبعة كلها جائز» [(835)]، وهذا الوجه الذي ذكر في الحديث قريب من الوجه الذي ذكر في الآية.
وقول المؤلف: «حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُهُ» أي: إن شعيبًا سأل الزهري: «هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ يَعْنِي صَلاَةَ الْخَوْفِ؟ قَالَ:» أي: الزهري: «أَخْبَرَنِي سَالِمٌ» ، هو ابن عبدالله بن عمر، «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَا لَهُمْ» ، فوازينا العدو يعني: قابلناهم، فلما حضرت الصلاة، «فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي لَنَا» يعني: يصلي بنا، «فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ» أي: تصلي، «وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ» ، فهذا الحديث يشبه ما ذكر الله في الآية، حيث انقسموا قسمين، فقامت طائفة معه ﷺ تصلي وأقبلت طائفة على العدو، حتى إذا هجم دافعوا، «وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» يعني: صلى بالطائفة التي معه ركعة فركع وسجد سجدتين، فلما انتهوا «انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ فَجَاءُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» .
هذه صفة من صفات صلاة الخوف وستأتي صفة أخرى، والصفة التي هنا هي أن الرسول ﷺ صلى بالطائفة الأولى فركع بهم ركعة وسجد سجدتين، فلما انتهت الركعة ذهبوا ـ وهو في الصلاة ـ إلى مكان الطائفة الثانية، وهي حركات تختلف عن الصلاة، وجاءت الطائفة التي تحرس خلف النبي ﷺ، فصلى بهم النبي ﷺ الركعة التي بقيت من صلاته ثم سلم بهم، فلما سلم بهم قاموا فأتَوْا بركعة، وصلى أولئك ركعة، فالنبي ﷺ صلى بكل طائفة ركعة وقضت لنفسها ركعة، وتمت له ﷺ ركعتان؛ لأن صلاة الخوف ركعتان.
والظاهر أن الطائفة الأولى ذهبوا وهو في الصلاة يحرسون ووقفوا حتى سلم النبي ﷺ ثم قضت كل طائفة الركعة التي بقيت عليها، إحداهما بعد الأخرى.
والطائفة تطلق على الكثير وعلى القليل، حتى الواحد يسمى طائفة، ولهذا يقول العلماء: لو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد ويحرس واحد ثم يصلي الآخر، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة.
وإذا كانت في صلاة المغرب، فالظاهر أنها لا تقصر إنما هذا القصر في الرباعية، فإذا كانت الصلاة هي المغرب يصلي بطائفة ركعتين وبطائفة ركعة.
وهناك خلاف بين العلماء في صلاتها في السفر والحضر، فقول: إنها لا تُصلى إلا في السفر، والقول الثاني: إنها تُصلى في السفر والحضر جميعًا.
ولكن هل تصلى ركعة واحدة؟ سيأتي الخلاف فيها، ويأتي في الأحاديث أن الجمهور يرون أن أقل صلاة الخوف ركعتان.
والقول الثاني: أن صلاة الخوف ركعة كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «صلاة الحضر أربع وصلاة السفر ركعتان وصلاة الخوف ركعة»[(836)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة».
يعني: قضى أولئك فلما قضوا قضى هؤلاء، ويحتمل أنهم قضوا جميعًا؛ لأنهم صاروا أفرادًا ويمكنهم الحراسة، وإن كان الأقرب أنه على التعاقب، كما فعلوا في صلاتهم مع النبي ﷺ، فظاهره أنه صلى بالطائفة الثانية ركعة فلما سلم قاموا وقضوا لأنفسهم وسلموا، ثم ذهبوا مكان أولئك فقضوا أولئك الركعة التي بقيت لهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «استدل به على عظم أمر الجماعة بل على ترجيح القول بوجوبها».
وهو مأخوذ من قوله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النِّسَاء: 102] فإذا كان الله تعالى أوجب صلاة الجماعة في الخوف، وهم مُوازون للعدو مواجهون له فقد دل ذلك على وجوبها، ولم يرخص لهم أن يصلوا فرادى وهم يقاتلون العدو، وهذا من أقوى الأدلة على أن الجماعة فرض عين على كل أحد، فالمسلمون يقاتلون العدو وهم في مواجهة وقتال وترامي بالنبال وقد تكون بالسيوف ومع ذلك أمر الله بإقامة صلاة الجماعة، فكيف يقال: إن صلاة الجماعة سنة؟! إذا كان الله تعالى لم يعذر المجاهدين بأن يصلوا فرادى فكيف في حال الأمن؟!
وبعض الناس يتساهل في صلاة الجماعة ويصلي وحده وهو آمن ليس بخائف وليس عنده عذر، والله تعالى يقول: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البَقَرَة: 43] ولم يرخص النبي ﷺ للأعمى الضرير الذي ليس له قائد يلائمه ويسمع حي على الصلاة حي على الفلاح أن يصلي منفردًا[(837)]، وكذلك المجاهدون يقاتلون العدو وقت الخوف الشديد، ومع ذلك أوجب الله عليهم الجماعة، فهذا من أقوى الأدلة على وجوب الجماعة.
المتن:
باب صَلاَةِ الْخَوْفِ رِجَالاً وَرُكْبَانًا رَاجِلٌ قَائِمٌ
943 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا.
وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا.
الشرح:
هذا الباب معقود لبيان أن صلاة الخوف تُصلى رجالاً أو ركبانًا.
و «رِجَالاً» يعني: قائمين، و «وَرُكْبَانًا» أي: راكبين. فالراكب يصلي وهو على دابة مركوبة، والراجل يصلي ماشيًا وجالسًا.
فالراكب يصلي على دابته، والراجل يصلي وهو واقف أو ماشي، ويومئ في الركوع والسجود؛ لأن صلاة الخوف لها أحكام خاصة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب صَلاَةِ الْخَوْفِ رِجَالاً وَرُكْبَانًا» قيل: مقصوده أن الصلاة لا تسقط عند العجز عن النزول عن الدابة ولا تؤخر عن وقتها، بل تُصلى على أي وجه حصلت القدرة عليه بدليل الآية» أي قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً [البَقَرَة: 239] فبين الله أنها لا تسقط ولا تؤخر بل تصلى على حسب الحال راجلاً أو راكبًا.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «رَاجِلٌ قَائِمٌ» يريد أن قوله: « رجالاً » جمع راجل، والمراد به هنا القائم، ويطلق على الماشي أيضًا، وهو المراد في سورة الحج بقوله تعالى: يَأْتُوكَ رِجَالاً [الحَجّ: 27] أي مشاة، وفي «تفسير الطبري» بسند صحيح عن مجاهد: فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً إذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائمًا أو راكبًا».
943 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا، وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا» هكذا أورده البخاري مختصرًا وأحال على قول مجاهد، ولم يذكره هنا ولا في موضع آخر من كتابه، فأشكل الأمر فيه، فقال الكرماني: معناه أن نافعًا روى عن ابن عمر نحوًا مما روى مجاهد عن ابن عمر، والمروي المشترك بينهما هو: « إذا اختلطوا قياما »، وزيادة نافع على مجاهد قوله: « وإن كانوا أكثر من ذلك...» إلخ. قال: ومفهوم كلام ابن بطال أن ابن عمر قال مثل قول مجاهد، وأن قولهما مثلاً في الصورتين، أي في الاختلاط وفي الأكثرية، وأن الذي زاد هو ابن عمر لا نافع. اهـ. وما نسبه ابن بطال بين في كلامه إلا المثلية في الأكثرية فهي مختصة بابن عمر وكلام ابن بطال هو الصواب وإن كان لم يذكر دليله.
والحاصل أنهما حديثان: مرفوع وموقوف، فالمرفوع من رواية ابن عمر وقد يروى كله أو بعضه موقوفًا عليه أيضًا، والموقوف من قول مجاهد لم يروه عن ابن عمر ولا غيره، ولم أعرف من أين وقع للكرماني أن مجاهدًا روى هذا الحديث عن ابن عمر، فإنه لا وجود لذلك في شيء من الطرق، وقد رواه الطبري عن سعيد بن يحيى شيخ البخاري فيه بإسناده المذكور عن ابن عمر قال: «إذا اختلطوا ـ يعني في القتال ـ فإنما هو الذِّكر وإشارة الرأس». يعني يكفي الذِّكر أي يذكر الله ويكبر وإشارة الرأس.
قوله: وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يعني: إذا كان العدد أكثر من ذلك فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا، يعني: إن اشتد الخوف وكثر العدو فليصلوا راكبين وراجلين مشاة أو وقوفًا، قال الله تعالى في كتابه العزيز: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البَقَرَة: 238-239] يعني: فإن خفتم فصلوا رجالاً يعني راجلين، وركبانًا يعني راكبين، وسيأتي في «صلاة الطالب والمطلوب».
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن عمر: قال النبي ﷺ: وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا هكذا اقتصر على حديث ابن عمر، وأخرجه الإسماعيلي عن الهيثم بن خلف عن سعيد المذكور مثل ما ساقه البخاري سواء، وزاد بعد قوله: «اخْتَلَطُوا» : «فإنما هو الذكر وإشارة الرأس». اهـ. وتبين من هذا أن قوله في البخاري: «قِيَامًا» الأولى تصحيف من قوله: «فإنما» وساقه الإسماعيلي من طريق أخرى، بين فيها لفظ مجاهد وبين الواسطة بين ابن جريج وبينه، فأخرجه من رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: «إذا اختلطوا فإنما هو الإشارة بالرأس»».
يعني: قول مجاهد: «إِذَا اخْتَلَطُوا قِيَامًا» يقول: «قِيَامًا» هذه مصحفة عن «إنما» والعبارة: فإنما هو الذكر والإشارة بالرأس.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن جريج: حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر بمثل قول مجاهد: إذا اختلطوا فإنما هو الذكر وإشارة الرأس وزاد عن النبي ﷺ: فَإِنْ كَثُرُوا فَلْيُصَلُّوا رُكْبَانًا أَوْ قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ [(838)] فتبين من هذا سبب التعبير بقوله: نحو قول مجاهد؛ لأن بين لفظه وبين لفظ ابن عمر مغايرة، وتبين أيضًا أن مجاهدًا إنما قاله برأيه لا من روايته عن ابن عمر والله أعلم».
يعني: أن قول مجاهد هذا ليس من رواية ابن عمر. وقوله: «إذا اختلطوا فإنما هو الذكر وإشارة الرأس» يعني: يكفي عن الصلاة إذا اختلطوا الذكر والإشارة بالرأس.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد أخرج مسلم حديث ابن عمر من طريق سفيان الثوري عن موسى بن عقبة فذكر صلاة الخوف نحو سياق الزهري عن سالم، وقال في آخره: قال ابن عمر: «فإذا كان خوف أكثر من ذلك فليصل راكبًا أو قائمًا يومئ إيماء» [(839)] ورواه ابن المنذر من طريق داود بن عبدالرحمن عن موسى بن عقبة موقوفًا كله، لكن قال في آخره: وأخبرنا نافع أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان يخبر بهذا عن النبي ﷺ فاقتضى ذلك رفعه كله».
ثم قال ابن حجر رحمه الله: «قوله: وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أي: إن كان العدو، والمعنى أن الخوف إذا اشتد والعدو إذا كثر فخيف من الانقسام لذلك جازت الصلاة حينئذ بحسب الإمكان، وجاز ترك مراعاة ما لا يقدر عليه من الأركان، فينتقل عن القيام إلى الركوع، وعن الركوع والسجود إلى الإيماء إلى غير ذلك، وبهذا قال الجمهور، ولكن قال المالكية: لا يصنعون ذلك حتى يخشى فوات الوقت، وسيأتي مذهب الأوزاعي في ذلك بعد باب».
وسيأتي في التراجم التي قال فيها: إنه إذا اشتد الخوف لا بأس أن تؤخر عن الوقت، كما يأتي في قصة الصحابة لما فتحوا تُسْتَر.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وخرج الإسماعيلي في «صحيحه» وخرجه من طريقه البيهقي من رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج عن ابن كثير عن مجاهد قال: «إذا اختلطوا فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس»، قال ابن جريج: حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ بمثل قول مجاهد».
فلم يأت بزيادة عما ذكر الحافظ.
المتن:
باب يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ
944 حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا مَعَهُ وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ مَعَهُ ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ ثُمَّ قَامَ لِلثَّانِيَةِ فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ وَأَتَتْ الطَّائِفَةُ الأُْخْرَى فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلاَةٍ وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُم بَعْضًا.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان أن المسلمين في صلاة الخوف يحرس بعضهم بعضًا وهم يصلون.
944 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قَامَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا مَعَهُ وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ» ، ظاهره أن النبي ﷺ كبر بهم جميعًا تكبيرة الإحرام ثم ركع وركع ناس معه ثم سجد بهم، وبقي ناس يحرسون لم يركعوا ولم يسجدوا، فلما قام للركعة الثانية قام الذين سجدوا ـ أي: الذين صلوا ـ يحرسون إخوانهم أو وقفوا في مكانهم، «وَأَتَتْ الطَّائِفَةُ الأُْخْرَى فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ» يعني: صلوا معه الركعة الثانية، والناس كلهم في صلاة ولكن يحرس بعضهم بعضًا، فظاهره أنه ﷺ قسمهم قسمين أو صف بهم صفين وكبر تكبيرة الإحرام وكبروا معه جميعًا، فلما ركع ركع صف وسجد، وبقي صف يحرس فلما قام للركعة الثانية وركع ركعت الطائفة الثانية وسجدت معه وبقيت الطائفة الأولى تحرس، هذه حالة من حالات الخوف.
وظاهر هذا أنه اقتصر على ركعة، أي ما صلى إلا ركعة واحدة، وهذا ظاهر الحديث، وبهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة، وقال ابن عباس: «صلاة الحضر أربع ركعات، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الخوف ركعة» والجمهور تأولوا هذا فقالوا: إن كل طائفة صلت مع النبي ﷺ ركعة ثم قضت لنفسها ركعة؛ لأن صلاة الخوف أقلها ركعتان، والحديث ليس فيه إلا أنهم ركعوا ركعة، فالنبي ﷺ له ركعتان ولكل طائفة ركعة وهذا ظاهره فإذا كان العدو في جهة القبلة يصلي بهم جميعًا بتكبيرة الإحرام ثم يركع بطائفة ويسجد يصلي بهم ركعة، وطائفة تحرس فإذا قام للركعة الثانية وقفت الطائفة الأولى تحرس والطائفة الثانية تصلي الركعة الثانية، ثم تسلم كل طائفة لنفسها، فكل طائفة تصلي ركعة وهو ظاهر الحديث وقال به ابن عباس وجماعة من أهل العلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: «فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا» في روايتهما أيضًا: «فركعوا مع النبي ﷺ».
قوله: «فِي صَلاَةٍ» زاد الإسماعيلي: «يكبرون»، ولم يقع في رواية الزهري هذه هل أكملوا الركعة الثانية أم لا؟ وقد رواه النسائي من طريق أبي بكر بن أبي الجهم عن شيخه عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، فزاد في آخره: «ولم يقضوا» [(841)] وهذا كالصريح في اقتصارهم على ركعة ركعة».
هذا في رواية النسائي، قال فيها: «ولم يقضوا» وظاهره متفق أن كل طائفة صلت ركعة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي الباب عن حذيفة[(842)] وعن زيد بن ثابت[(843)] عند أبي داود والنسائي وابن حبان، وعن جابر عند النسائي[(844)]، ويشهد له ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» [(845)] وبالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة يقول إسحاق والثوري ومن تبعهما، وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين».
فكل هؤلاء يقولون: إن صلاة الخوف تصح بركعة واحدة أخذًا بهذا الحديث، أما الجمهور فقالوا: أقل الصلاة للخوف ركعتان وتأولوا هذا الحديث بأن كل طائفة صلت معه ركعة ثم قضت لنفسها ركعة أخرى.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومنهم من قيد ذلك بشدة الخوف، وسيأتي عن بعضهم في شدة الخوف أسهل من ذلك، وقال الجمهور: قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد».
يعني: لا تقل الصلاة عن ركعتين لكن الهيئة تقصر أي: الكيفية من قيام وركوع وسجود، فيومئ، ويصلي ماشيًا، فالكيفية هي التي تقصر ويتسامح فيها، أما العدد فلابد أن تكون الصلاة ركعتين وهو أقل شيء عند الجمهور.
والقول الثاني وهو الأقرب والذي ذهب إليه ابن عباس أنه قد تكون صلاة الخوف ركعة إذا اشتد الخوف وهو ظاهر الحديث.
والحافظ يرى صحة رواية النسائي إذا اشتد الخوف كما قال ابن عباس.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وتأولوا رواية مجاهد هذه على أن المراد بها ركعة مع الإمام وليس فيه نفي الثانية، وقالوا: يحتمل أن يكون قوله في الحديث السابق: «لم يقضوا» أي: لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن».
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: «هذا الجواب من الجمهور فيه نظر، والصواب قول من قال: يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في الخوف لصحة الأحاديث بذلك والله أعلم»[(846)].
يعني: الصواب أنه يقتصر على ركعة كما هو ظاهر هذا الحديث، وأما الجمهور فتأولوا، والأصل عدم التأويل.
وصلاة الخوف مثلما قال الإمام أحمد: «ثابتة عن النبي ﷺ من ستة أوجه أو سبعة أوجه كلها جائزة» [(847)]، وتختلف على حسب الأحوال، فإذا كان العدو في جهة القبلة فلها حال، وإذا كان في غير جهة القبلة فلها حال أخرى، فإذا كان في جهة القبلة يصفهم صفين ويكبر بهم تكبيرة الإحرام ثم يصلي بطائفة ركعة وطائفة تحرس ثم إذا قام للركعة الثانية حرستها الطائفة الأخرى، وإذا كان في غير جهة القبلة تأتي صفة أخرى فطائفة تحرس ويصلي جهة القبلة بالطائفة الأخرى ركعة ثم تذهب الطائفة التي صلت وتأتي الثانية يصلي بها ركعة، وفي بعض صور صلاة الخوف أن النبي ﷺ صلى بطائفة ركعتين وصلى بطائفة أخرى ركعتين الأولى له فريضة والثانية له نافلة، وفي بعضها أنه صلى بهم جميعًا، وفي بعضها أنه صلى بكل طائفة ركعة، وفي بعضها أنه صلى بهم ركعة واحدة، فتختلف على حسب الأحوال.
وسيأتي أيضًا في الترجمة الآتية أنه إذا اشتد الخوف قد تؤخر الصلاة عن وقتها.
وإذا اشتد الخوف صلوا على حسب الحال راكبين وماشين. ولا يصلون جماعة في بعض الحالات، فإذا اشتد الخوف تسقط الجماعة.
وإذا صلى ركعة واحدة يختمها بسلام.
المتن:
باب الصَّلاَةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ
وَقَالَ الأَْوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإِْيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا لاَ يُجْزِئُهُمْ التَّكْبِيرُ وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ، وَقَالَ أَنَسٌ: حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ فَلَمْ نُصَلِّ إِلاَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا وَقَالَ أَنَسٌ: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
الشرح:
هذه الترجمة عقدها المؤلف لبيان الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو، يعني: إذا حاصر المسلمون العدو وأرادوا أن يفتحوا بلدًا أو حصنًا من الحصون.
وذِكرُ المؤلف قولَ الأوزاعي فيه دليل على أنه اختاره.
قوله: «إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ» هذا قول الأوزاعي، ويؤيده البخاري رحمه الله، فإذا تهيأ الفتح وقرب وهم يرجون أن يفتح لهم الحصن أو البلد ولم يقدروا على الصلاة، يعني: جماعة، صلوا إيماءً كل امرئ لنفسه، وسقطت الجماعة وسقط السجود على الأرض، فيومئ كل واحد إيماءً «فإن لم يقدروا على الإيماء» وصار الأمر أشد «أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال» يعني: إذا كانوا في حالة لا يستطيعون السجود ولا الإيماء يعني الأمر شديد والحراسة قوية وهو يقتضي اجتماع المسلمين وشدهم على العدو أو تسلقهم الحصن، ولا يستطيعون أن يصلوا إيماءً أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال «أو يأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا» وصار الأمر أشد «صلوا ركعة» واحدة «وسجدتين» .
فذكر الأوزاعي ثلاث حالات:
الأولى: أنه إذا تهيأ الفتح ولو في وقت الصلاة يصلون إيماءً كل امرئ لنفسه وتسقط الجماعة، ويسقط السجود على الأرض، فيومئون للركوع وللسجود.
الثانية: إذا كان الخوف أشد ولم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويحصل الأمن، فيصلوا ركعتين.
الثالثة: إن كان الخوف أشد والأمر مستمر صلوا ركعة واحدة وسجدتين، لا يجزئهم التكبير ـ أي: قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
ولم يقل الأوزاعي إن كل الصلوات تصلى ركعتين فإن كان يقدر أن يصلي ركعتين ولو بالإيماء صلى.
قوله: «لاَ يُجْزِئُهُمْ التَّكْبِيرُ» هذا اختيار الأوزاعي، والقول الثاني أنه يجزئهم التكبير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وهذا قول لبعض أهل العلم إذا اشتد الأمر واستمر الحصار ولا يستطيعون أن يومئوا ولا يقدرون أن يؤخروا الصلاة.
ولهذا قال الأوزاعي: «فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا لاَ يُجْزِئُهُمْ التَّكْبِيرُ» يشير إلى الخلاف، وهذا هو الصواب أنه لا يجزئهم التكبير قال: «وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا» .
المتن:
الشرح:
945 صنيع البخاري رحمه الله في إتيانه بحديث جابر قال: «جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَغِيبَ» ، وهذا في غزوة الأحزاب، «فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ قَالَ: فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ» وادٍ هناك «فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَابَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا» ـ ليستدل به على أنه يجوز تأخير الصلاة عند عدم القدرة عليها للشغل بقتال العدو، وهذا هو مذهب البخاري رحمه الله، ولهذا أتى به خلال الترجمة.
وقال آخرون من أهل العلم: إن سبب تأخير النبي ﷺ تعذر الطهارة.
وقال آخرون من أهل العلم وهم الجمهور: إن النبي ﷺ إنما أخر الصلاة؛ لأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف، وشرعية الصلاة فيه، فلما شرعت صلاة الخوف صلى النبي ﷺ الصلاة في وقتها على أحد الأوجه التي جاءت في صلاة الخوف.
واختيار الإمام البخاري ـ كما سبق ـ أنه يجوز التأخير عند عدم إمكان صلاة الخوف خلافًا لمذهب الجمهور، واستدل بما فعله الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ، حين حاصروا حصن تستر ولم يستطيعوا صلاة الخوف فأخروها حتى تم الفتح وصلوا صلاة الفجر ضحى، فصنيع البخاري بإتيانه بهذا الحديث في هذه الترجمة يدل على أنه يرى أنه إذا لم يمكن فعل صلاة الخوف أُخرت ولو بعد خروج الوقت، كما فعل النبي ﷺ يوم الأحزاب في تأخيره العصر بعد غروب الشمس.
وأما قول الجمهور أن ذلك كان قبل شرعية صلاة الخوف ونزول آية الخوف فهو قول ضعيف؛ لأن القاعدة أن الجمع بين النصوص والعمل بها كلها مقدم على القول بالنسخ؛ لأن الجمهور يرون أن تأخير الصلاة عن وقتها منسوخ، والقول الثاني أنه ليس بمنسوخ، فليعمل بهذا كما يعمل بهذا، فإن أمكن أن تصلى صلاة الخوف في الوقت صليناها وإن لم يمكن أخرناها، كما أخرها النبي ﷺ في الأحزاب، فالجمع بين النصوص والعمل بها مقدم على القول بالنسخ، ثم هذا القول أرفق بالمسلمين.
ولغير البخاري: أن النبي ﷺ أخر صلاة الظهر والعصر في يوم الأحزاب[(850)] وذلك في بعض الأيام؛ لأن أيام الأحزاب أيام كثيرة كما جاء في النسائي وفي غيره أن النبي ﷺ أخر الظهر والعصر والمغرب ثم صلاهم بترتيبهم مع صلاة العشاء[(851)]، وفي بعضها أنه صلى ثلاث صلوات، صلى الظهر ثم العصر ثم المغرب بعد غروب الشمس، فالبخاري رحمه الله يرى أنه على حسب الأحوال تصلى صلاة الخوف في الوقت كلية وإلا أخرت ولو بعد خروج الوقت، كما أخر الصحابة صلاة الفجر لما فتحوا حصن تستر.
وهناك خلاف بين أهل العلم في أي عام شرعت صلاة الخوف، والجمهور يرون أنها بعد غزوة الخندق.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وروى ابن أبي شيبة من طريق عطاء وسعيد بن جبير وأبي البختري في آخرين قالوا: إذا التقى الزحفان وحضرت الصلاة فقولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فتلك صلاتهم بلا إعادة».
هذا على مذهب الثوري أنه إذا اشتد القتال يكفي أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فتكفيه عن الصلاة وهو يشتغل: يحرس أو يفتح أو يقاتل.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وعن مجاهد والحكم: إذا كان عند الطراد والمسايفة يجزئ أن تكون صلاة الرجل تكبيرًا، فإن لم يكن إلا تكبيرة واحدة أجزأته أين كان وجهه».
والطراد يعني طرد العدو، تطرده أو يطردك، والمسايفة: قطع الرقاب بالسيوف، ففي المسايفة يجزئ التكبير فيقول: الله أكبر ويكفي عن الصلاة، وهذا قول الحكم.
يعني: يكبر تكبيرة واحدة ولو كان وجهه إلى الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال إسحاق بن راهويه: يجزئ عند المسايفة ركعة واحدة يومئ بها إيماء، فإن لم يقدر فسجدة فإن لم يقدر فتكبيرة».
والمسألة فيها خلاف كما مضى، على ثلاثة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: لا يجزئ أقل من ركعتين.
القول الثاني: يجزئ ركعة.
القول الثالث: يجزئ تكبيرة عند الطراد والمسايفة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ» قال الكرماني: يحتمل أن يكون بقية من كلام الأوزاعي، ويحتمل أن يكون من تعليق البخاري. انتهى. وقد وصله عبد بن حميد في «تفسيره» عنه من غير طريق الأوزاعي بلفظ: إذا لم يقدر القوم على أن يصلوا على الأرض صلوا على ظهر الدواب ركعتين، فإن لم يقدروا فركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا أخروا الصلاة حتى يأمنوا فيصلوا بالأرض».
وهذا مثل ما ذكر الأوزاعي.
قوله: «وَقَالَ أَنَسٌ: حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ» أنس هو ابن مالك، وتستر بلد من بلاد الأهواز في الشرق.
وكان هذا بعد وفاة النبي ﷺ فقد حاصر الصحابة حصن تستر وكان الحصار عند إضاءة الفجر.
قوله: «وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ فَلَمْ نُصَلِّ إِلاَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا وَقَالَ أَنَسٌ: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . يقول أنس: حضرنا عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال، ومن الناس من هم على الأبواب، ومنهم من هم على الأسوار، ومنهم من هم داخل السور، ومنهم من هم خارجه، ولا يستطيعون أن يصلوا؛ لأنهم إذا صلوا فات الفتح فلم يقدروا، فأخروها حتى تم الفتح وارتفعت الشمس ضحى، أي صلوا صلاة الفجر ضحى، قال أنس: «فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا وَقَالَ أَنَسٌ: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، يعني: ما يسرني أن يكون لي بدل هذه الصلاة الدنيا وما فيها؛ لأنه أخرها كلها من أجل الله ومن أجل الجهاد في سبيله، يعني أن أنسًا مطمئن لذلك ومنشرح صدره في تأخير الصلاة حتى الضحى؛ لأن الصلاة أُخرت من أجل نصرة دين الله وفي سبيل الله.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلاَةِ» أي: بدل تلك الصلاة، وفي رواية الكشميهني: «من تلك الصلاة» .
قوله: «الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» في رواية خليفة: «الدنيا كلها» [(848)]، والذي يتبادر إلى الذهن من هذا أن مراده الاغتباط بما وقع، فالمراد بالصلاة على هذا هي المقضية التي وقعت».
يعني: مراد أنس أنه مغتبط وفرِح ومسرور بهذا؛ لأنه أخرها في الله ومن أجل الجهاد والنصرة في سبيل الله وما أخرها لعبًا وتكاسلاً وعدم اهتمام.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ووجه اغتباطه كونهم لم يشتغلوا عن عبادة إلا بعبادة أهم منها عندهم، ثم تداركوا ما فاتهم منها فقضوه».
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: «قوله: «أهم منها» يعني في ذلك الوقت؛ لأن الفتح قد يفوت بالصلاة، والصلاة لا تفوت لإمكان قضائها بعد الفتح وإلا فمعلوم من الأدلة الشرعية أن الصلاة أهم وأعظم من الجهاد فتنبه والله أعلم»[(849)].
يعني: ليس مقصود الحافظ ابن حجر أن الجهاد عبادة أهم من الصلاة، إنما مقصوده أن تأخيرها في هذه الحالة سيتم به الفتح وإلا فالصلاة مقدمة على الجهاد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهو كقول أبي بكر الصديق: «لو طلعت لم تجدنا غافلين» ، وقيل: مراد أنس الأسف على التفويت الذي وقع لهم، والمراد بالصلاة على هذه الفائتة ومعناه: لو كانت في وقتها كانت أحب إليَّ. والله أعلم».
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «عَنْ جَابِرِ» تقدم الكلام على حديثه في أواخر «المواقيت» ، ونقل الخلاف في سبب تأخير الصلاة يوم الخندق هل كان نسيانًا أو عمدًا، وعلى الثاني هل كان للشغل بالقتال أو لتعذر الطهارة أو قبل نزول آية الخوف؟».
فكل هذه أقوال محتملة؛ فمنهم من قال: أخرها ناسيًا، كما قال عمر: «يا رسول الله ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب» وجعل يسب الكفار، فقال النبي ﷺ: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ يعني: ما صليتها حتى الآن يعني: شُغلت عن الصلاة ولم أتذكر إلا الآن.
وقيل: إنه أخرها متعمدًا لاشتغاله بالقتال.
الثاني: لتعذر الطهارة.
الثالث: لأنها لم تنزل آية الخوف وقتئذ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وإلى الأول: وهو الشغل جنح البخاري في هذا الموضع ونزل عليه الآثار التي ترجم لها بالشروط المذكورة».
وهو الأرجح وهو أنه أخرها لأجل اشتغاله بالقتال.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ولا يرده ما تقدم من ترجيح كون آية الخوف نزلت قبل الخندق؛ لأن وجهه أنه أقر على ذلك، وآية الخوف التي في البقرة لا تخالفه؛ لأن التأخير مشروط بعدم القدرة على الصلاة مطلقًا، وإلى الثاني جنح المالكية والحنابلة؛ لأن الصلاة لا تبطل عندهم بالشغل الكثير في الحرب إذا احتيج إليه، وإلى الثالث جنح الشافعية كما تقدم في الموضع المذكور».
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وعكس بعضهم فادعى أن تأخيره ﷺ للصلاة يوم الخندق دال على نسخ صلاة الخوف، قال ابن القصار: وهو قول من لا يعرف السنن؛ لأن صلاة الخوف أنزلت بعد الخندق فكيف ينسخ الأول الآخر؟! فالله المستعان».
والأقرب هو ما ذهب إليه الإمام البخاري رحمه الله أن المسلمين عند ملاقاة العدو بالخيار: إن قدروا أن يصلوا الصلاة صلوها في الوقت على أحد الأوجه التي وردت، وإن لم يقدروا أخروها حتى يتم الفتح أو ينتهي القتال ولو أُخرت حتى خروج وقتها.
المتن:
باب صَلاَةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً
وَقَالَ الْوَلِيدُ: ذَكَرْتُ لِلأَْوْزَاعِيِّ صَلاَةَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَقَالَ: كُذَلِكَ الأَْمْرُ عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَ الْفَوْتُ وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ.
946 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الأَْحْزَابِ: لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ.
الشرح:
قوله: «بَاب صَلاَةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً» في نسخة أخرى: «قائمًا» هذا الباب معقود لصلاة الطالب والمطلوب، والطالب الذي يطلب العدو، والمطلوب الذي يطلبه العدو، ويكون هذا عند الطراد يطرد العدو أو العدو يطرده، فماذا يفعل إذا حضرته الصلاة؟
قال المؤلف رحمه الله: «رَاكِبًا وَإِيمَاءً» أي: ولو على دابته، أو على سيارته، أو على المدرعة يصلي يومئ للركوع ويومئ للسجود.
946 وجه الاستدلال: التوسعة في الأمرين؛ حيث لم يُعنِّف النبي ﷺ واحدًا من الفريقين.
وحديث بني قريظة فيه أنه لما انتهى النبي ﷺ من غزوة الأحزاب جاءه جبرائيل فقال: «ألقيت السلاح؟» يعني: إن الملائكة لم يلقوا السلاح «اذهب إلى بني قريظة». فقال النبي ﷺ لأصحابه: من كَانَ سَامِعًا مُطيعًا فَلَا يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ [(852)] فتجهز الصحابة وأسرعوا وذهبوا إلى بني قريظة فأدركتهم صلاة العصر في أثناء الطريق فاجتهدوا وانقسموا قسمين:
القسم الأول: قسم صلوا صلاة العصر ثم واصلوا وفهموا من هذا الحديث أن الرسول ﷺ ما أراد منهم أن تؤخر الصلاة عن وقتها، والنصوص في أداء الصلاة في وقتها معلومة ومُحْكمة، وقالوا: إنما أراد النبي ﷺ أن يحثنا على الإسراع فنحن نصلي ثم نواصل.
القسم الثاني: من الصحابة اجتهدوا وقالوا: نحن عندنا نَص أخير نعمل به، وإن كان هناك نصوص أخرى فيها أداء الصلاة في وقتها، لكن عندنا نص جديد، وهو قول النبي ﷺ: لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فلن نصلي إلا في بني قريظة، فلم يصلوا إلا بعد غروب الشمس.
فلما ذكروا ذلك للنبي ﷺ لم يعنف أحدًا وأقر هؤلاء وهؤلاء؛ لأن كلًّا مجتهد، واحتج به العلماء على أن المجتهد لا يُنكِر على غيره من المجتهدين اجتهاده، وأن المسائل الاجتهادية النظرية لا يلزم بها أحد غيره.