وابن القيم رحمه الله ذكر هذا الحديث وتأمل فيه وفجر الفقه المستنبط منه وذكر أن الذين صلوا في الطريق هؤلاء تفقهوا في النصوص وجمعوا بينها وتأملوا المعاني وقالوا: إن الشارع له مقصود، وقصده الإسراع وليس قصده أن نؤخر الصلاة عن وقتها، فهم عملوا بالنصوص التي فيها أداء الصلاة في وقتها وعملوا بالنص الأخير، وأما أولئك الآخرون فإنهم عملوا بالنص الأخير، ولكل اجتهاده، ولكن الذين صلوا في الطريق هم المصيبون؛ وهم سلف أهل المعاني والقياس، وأما الذين صلوا بعد غروب الشمس فهم سلف أهل الظاهر[(853)]. حتى قال ابن حزم الظاهري: لو كنت معهم لم أصل إلا بعد غروب الشمس[(854)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن المنذر: كل من أحفظ عنه من أهل العلم يقول: إن المطلوب يصلي على دابته يومئ إيماءً، وإن كان طالبًا نزل فصلى على الأرض، قال الشافعي: إلا أن ينقطع عن أصحابه فيخاف عود المطلوب عليه فيجزئه ذلك، وعرف بهذا أن الطالب فيه التفصيل بخلاف المطلوب، ووجه الفرق أن شدة الخوف في المطلوب ظاهرة لتحقق السبب المقتضي لها، وأما الطالب فلا يخاف استيلاء العدو عليه».
والمراد أن ابن المنذر يفرق بين الطالب والمطلوب، فالمطلوب يومئ لأنه لا حيلة له فهو يخشى أن يدركه العدو، أما الطالب الذي يطرد العدو فهذا لا يخاف من شيء سوى فوت العدو وهذا أمر هين فيصلي على الأرض ثم يلحق العدو.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وما نقله ابن المنذر متعقب بكلام الأوزاعي؛ فإنه قيده بخوف الفوت ولم يستثن طالبًا من مطلوب».
ومقصود كلام الأوزاعي أنه إذا كان مطلوبًا خاف أن يدركه العدو فيريد أن يفوت عليه، وإن كان طالبًا يخاف أن يفوت عليه العدو فلا يدركه فكل منهما خائف، ولكل منهما أن يومئ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وبه قال ابن حبيب من المالكية، وذكر أبو إسحاق الفزاري في «كتاب السير» له عن الأوزاعي قال: إذا خاف الطالبون إن نزلوا بالأرض فوت العدو صلوا حيث وجهوا على كل حال؛ لأن الحديث جاء: إِنَّ النَّصْرَ لَا يُرْفَعُ مَا دَامَ الطَّلَبُ .
قوله: «وَقَالَ الْوَلِيدُ: ذَكَرْتُ لِلأَْوْزَاعِيِّ صَلاَةَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَقَالَ: كُذَلِكَ الأَْمْرُ عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَ الْفَوْتُ» المراد: إذا تخوف أن يفوته العدو إذا كان طالبًا أو يخشى أن يدركه العدو إذا كان مطلوبًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَقَالَ الْوَلِيدُ» كذا ذكره في «كتاب السير» ورواه الطبري وابن عبدالبر من وجه آخر عن الأوزاعي قال: قال شرحبيل بن السمط لأصحابه: «لا تصلوا الصبح إلا على ظهر»، فنزل الأشتر ـ يعني: النخعي ـ فصلى على الأرض، فقال شرحبيل: «مخالف خالف الله به». وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجاء بن حيوة قال: كان ثابت بن السمط في خوف فحضرت الصلاة فصلوا ركبانًا، فنزل الأشتر ـ يعني النخعي ـ فقال: «مخالف خولف به». فلعل ثابتًا كان مع أخيه شرحبيل في ذلك الوجه».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «إِذَا تُخُوِّفَ الْفَوْتُ» زاد المستملي «في الوقت» ».
قوله : «وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ» : معناه أن الوليد قوى مذهب الأوزاعي في مسألة الطالب بهذه القصة، قال ابن بطال: لو وجد في بعض طرق الحديث أن الذين صلوا في الطريق صلوا ركبانًا لكان بَيِّنًا في الاستدلال، فإن لم يوجد ذلك فذكر ما حاصله أن وجه الاستدلال يكون بالقياس، فكما ساغ لأولئك أن يؤخروا الصلاة عن وقتها المفترض، كذلك يسوغ للطالب ترك إتمام الأركان والانتقال إلى الإيماء.
قال ابن المنير: والأبين عندي أن وجه الاستدلال من جهة أن الاستعجال المأمور به يقتضي ترك الصلاة أصلاً كما جرى لبعضهم، أو الصلاة على الدواب كما وقع للآخرين؛ لأن النزول ينافي مقصود الجد في الوصول، فالأولون بنوا على أن النزول معصية لمعارضته للأمر الخاص بالإسراع، وكأن تأخيرهم لها لوجود المعارض، والآخرون جمعوا بين دليلي وجوب الإسراع ووجوب الصلاة في وقتها فصلوا ركبانًا».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والأولى في هذا ما قاله ابن المرابط ووافقه الزين ابن المنير: أن وجه الاستدلال منه بطريق الأولوية؛ لأن الذين أخروا الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة لم يعنفوا مع كونهم فوتوا الوقت، فصلاة من لا يفوت الوقت بالإيماء ـ أو كيف ما يمكن ـ أولى من تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها، والله أعلم».
قوله: «فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ» : استنبط منه البخاري رحمه الله أن الذي يصلي في الوقت لكنه يومئ ولا يسجد على الأرض يعفى عنه من باب أولى، فكما عفا عن هؤلاء الذين أخروا الصلاة عن وقتها ولم يعنفهم، فكذلك يعفى للطالب والمطلوب أن يصلي على دابته أو يومئ إيماءً.
والمقصود أن الصلاة على الدابة أو على المركوب لا تكون إلا لحاجة تدعو لذلك، وكان النبي ﷺ يصلي على دابته في السفر، وهذا هو المعروف، أما في الحضر فليس هناك حاجة تدعو إلى الصلاة على الدابة؛ حيث لم يثبت عن النبي ﷺ أنه صلى على دابته في الحضر.
المتن:
باب التَّبْكِيرِ وَالْغَلَسِ بِالصُّبْحِ وَالصَّلاَةِ عِنْدَ الإِْغَارَةِ وَالْحَرْبِ
947 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ وَثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ ثُمَّ رَكِبَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ [الصَّافات: 177] فَخَرَجُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ قَالَ: والْخَمِيسُ الْجَيْشُ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذَّرَارِيَّ فَصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا.
فَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ لِثَابِتٍ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَنْتَ سَأَلْتَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مَا أَمْهَرَهَا قَالَ: أَمْهَرَهَا نَفْسَهَا فَتَبَسَّمَ.
الشرح:
في هذه الترجمة بيان أن صلاة الخوف لا يشترط فيها التأخير إلى آخر الوقت، ولا يشترط فيها أيضًا قصر الصلاة، فإن كان سيغير على العدو فإنه يصلي الصلاة في أول وقتها كما فعل النبي ﷺ حينما فتح حصنًا من حصون خيبر.
ولهذا بوب المؤلف رحمه الله قال: «بَاب التَّبْكِيرِ وَالْغَلَسِ بِالصُّبْحِ» والغلس: اختلاط ضياء الصبح بظلام الليل، والمراد: التبكير. وهذه سنته ﷺ أنه كان يصلي الفجر في غلس، والمعنى: يصليه عند انشقاق الفجر وطلوعه وتبينه مع وجود شيء من الظلمة، ولا يؤخرها حتى يسفر جدًّا كما يفعل الأحناف[(855)] ويستدلون بحديث: أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ [(856)] فإنهم يصلون قرب طلوع الشمس.
فكان النبي ﷺ يصلي بعد تحقق الفجر وانشقاقه، وهو الآن بعد مضي نصف ساعة إلا خمس دقائق من الأذان أو نصف ساعة أو نصف ساعة وخمس دقائق، كل هذا في أول الوقت، وهو وقت الغلس.
947 قوله: «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ» أي: في أول وقتها «ثُمَّ رَكِبَ» ليغير على العدو في أحد حصون خيبر.
وفي الحديث أن النبي ﷺ لم يَدْعُ اليهود للإسلام؛ لأن الدعوة بلغتهم، وفي حديث علي لما أعطاه الراية وأمره أن يذهب إليهم فقال: ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ [(857)] فدل على أن من بلغته الدعوة يجوز أن يغار عليه بدون إنذار؛ لأنه سبقته الدعوة، ويجوز أن يبلغ الدعوة مرة أخرى، كما أمر عليًّا.
وكذلك أيضًا لما غزا بني المصطلق كما في الحديث: «أن النبي ﷺ غزا بني المصطلق وهم غارُّون ـ غافلون ـ وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم» [(858)]؛ لأن الدعوة بلغتهم، واصطفى لنفسه جويرية بنت الحارث رضي الله عنها.
قوله: «فَخَرَجُوا» أي: اليهود «يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ» ينتشرون في السكك غافلون، وفي اللفظ الآخر: «فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم» أي: يحرثون ويشتغلون في زروعهم، حتى فاجأهم النبي ﷺ وهو مغير عليهم.
قوله: «وَيَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ قَالَ: والْخَمِيسُ الْجَيْشُ» في اللفظ الآخر: «محمد والله محمد والخميس» [(859)] قال: «فظهر عليهم رسول الله ﷺ فقتل المقاتلة وسبى الذراري» ؛ لأنهم بلغتهم الدعوة، ثم لما سبى الذراري والنساء وقسمت المغانم، «فَصَارَتْ صَفِيَّةُ» بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها «لِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ» في نصيبه من الغنيمة.
وجاء في لفظ آخر: «فجاء رجل إلى النبي ﷺ وقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك» [(860)]. فأخذها ﷺ من دحية وأعطاه بدلها سبع رءوس واصطفاها لنفسه ﷺ وأعتقها، ولهذا قال: «وَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا».
قوله: «فَقَالَ عَبْدُالْعَزِيزِ لِثَابِتٍ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَنْتَ سَأَلْتَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مَا أَمْهَرَهَا قَالَ: أَمْهَرَهَا نَفْسَهَا فَتَبَسَّمَ» . فيه: دليل على أن السيد يجوز له أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها بدون دفع مال، فالنبي ﷺ اصطفى صفية بعد أن صارت أمة؛ لأنها من الغنيمة، فلما أراد أن يتزوجها أعتقها فصارت حرة وجعل مهرها هو نفس العتق، ولهذا بنى بها في الطريق بين المدينة وخيبر بنى بها خمسة أيام.
واختلف الصحابة وقتها هل هي أَمَة أو من أمهات المؤمنين؟
فقالوا: عندنا علامة: إن حجبها النبي ﷺ فهي حرة من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي أَمَة، فلما بنى بها قال أنس: «فرأيت النبي ﷺ يحوّي لها وراءه» [(861)]. فحجبها فعرف الناس أنها من أمهات المؤمنين.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ووجه دخول هذه الترجمة في «أبواب صلاة الخوف»؛ للإشارة إلى أن صلاة الخوف لا يشترط فيها التأخير إلى آخر الوقت، كما شرطه من شرطه في صلاة شدة الخوف عند التحام المقاتلة، أشار إلى ذلك الزين ابن المنير. ويحتمل أن يكون للإشارة إلى تعين المبادرة إلى الصلاة في أول وقتها قبل الدخول في الحرب والاشتغال بأمر العدو. وأما التكبير فلأنه ذِكْر مأثور عند كل أمر مَهُولٍ وعند كل حادث سرور؛ شكرًا لله تعالى وتبرئة له من كل ما نسب إليه أعداؤه ولا سيما اليهود قبحهم الله تعالى».
ووجه الاستدلال: أن النبي ﷺ لم يصل صلاة الخوف، بل صلى الصلاة في وقتها وبادر بها، ثم أغار بعد ذلك؛ لأنه ما بدأ القتال بعدُ، فإذا لم يبدأ القتال وحضرت الصلاة صلى الصلاة لوقتها.
فإذا بدأ القتال وبدأت المعركة يصلون صلاة الخوف، ولا يجمع بين صلاتين في المعركة، وتصلى كل صلاة في وقتها؛ لأن هذا الوقت وقت مرابطة في قتال العدو ويقتضي التفرغ؛ ولأن صلاة الخوف تختلف هيئتها عن هيئة صلاة الحضر كما هو معروف، فإذا صلوا صلاتين أو جمعوا بين الصلاتين أخذوا وقتًا كبيرًا وهم بحاجة إلى تفرغ للعدو.
وإن كان داخل الصلاة فلا يتكلم إلا بما يتعلق بالعدو، أما إذا كان ليس داخل الصلاة فيتكلم؛ لأن صلاة الخوف لها أحوال فأحيانًا تكون طائفة تحرس وقد كبّرت خلف الإمام وطائفة تصلي، ففي هذه الحالة ما يتكلم إلا عند الحاجة أي إذا اقتضى الحال هذا، أما إذا كانت الطائفة تحرس ولم تدخل في الصلاة فيجوز لها أن تتكلم، وصلاة الخوف فيها بحوث دقيقة وإن كانت ليست طويلة، والبخاري رحمه الله معروف بدقة فهمه واستنباطاته العظيمة.