المتن:
(15) أَبَـوَاب الاسـتـسـقـاء
باب الاِسْتِسْقَاءِ وَخُرُوجِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الاِسْتِسْقَاءِ
1005 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَسْقِي وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ.
الشرح:
بدأ المؤلف رحمه الله كتاب الاستسقاء بالبسملة، ثم قال: «أبواب الاستسقاء» وفي نسخة: «كتاب الاستسقاء» ، والاستسقاء: طلب السقيا الألف والسين والتاء للطلب، والسقيا: المطر، والمعنى: سؤال الله ودعاؤه أن ينزل المطر وأن يسقي العباد.
1005 قوله: «خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَسْقِي» ، فيه: دليل على مشروعية الخروج للاستسقاء، وأنه يشرع أن تكون صلاة الاستسقاء في صحراء قريبة من البلد، وهذه هي السنة فيها، وكذا صلاة العيد، فإن شق ذلك، أو حصل مانع كالمطر، وغيره، فإن الناس يصلون في المسجد الجامع.
قوله: «َحَوَّلَ رِدَاءَهُ» ، فيه: مشروعية تحويل الرداء، وهذا يفعله الإمام في أثناء الخطبة وهو مستقبل القبلة على المنبر، ويدخل في حكم الرداء كل ما يرتديه الإمام من عمامة ونحوها فيجعل الأعلى إلى أسفل، ثم يكمل الخطبة وينزل إلى الناس، على خلاف عادة بعض الخطباء، حيث يحول رداءه بعد انتهائه من الخطبة، والسنة أن يستقبل القبلة ويحول رداءه ويدعو وهو مستقبل القبلة، أما في خطبة الجمعة إذا استسقى فإنه يستسقي ووجهه إلى الناس، ويدعو ووجهه إلى الناس، ويرفع يديه.
وخطبة الاستسقاء قد جاء في النصوص ما يدل على جوازها قبل الصلاة أو بعدها؛ فثبت أن النبي ﷺ صلى ثم خطب[(936)]، وثبت أنه خطب ثم صلى[(937)]، فالأمران جائزان، ولا يُنكر على من فعل أيًّا من الأمرين، أما في صلاة الجمعة فلابد أن تكون الخطبة قبل الصلاة بخلاف ما ثبت من التخيير في الاستسقاء.
المتن:
باب دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ.
1006 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الآْخِرَةِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ.
وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: عَنْ أَبِيهِ هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ.
الشرح:
1006 قوله: «كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الآْخِرَةِ» ، فيه: دليل على أن القنوت في النوازل يكون بعد الرفع من الركوع وهو الأكثر والغالب من الأحاديث الواردة في ذلك، ويكون في الركعة الأخيرة من صلاة الفجر.
وفيه: أنه يبدأ بالدعاء أولاً ولا يحتاج أن يأتي بشيء قبل ذلك، وهذا ظاهر في قوله ﷺ أولاً: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ.... أما ما يفعله بعض الأئمة من إطالة الدعاء في النوازل، أو إتيانه بتوسلات مسجوعة، أو يدعو فيه بدعاء القنوت: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ [(939)] فهذا غير مشروع؛ إذ المشروع أن يبدأ بالدعاء أولاً.
أما الثناء على الله فقد جاء في الفاتحة، وأما الصلاة على النبي ﷺ فإنها تأتي في التشهد، فالصلاة أولها ثناء ودعاء في الفاتحة، ثم دعاء القنوت، ثم الصلاة على النبي ﷺ في التشهد الأخير.
وفيه: أنه في القنوت يُدعى للمؤمنين أولاً، ثم يُدعى على العصاة والكافرين، ولهذا دعا النبي ﷺ فقال: اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وسلمة هذا هو أخو أبي جهل عمرو بن هشام، وقال ﷺ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وهو أخو خالد بن الوليد، وقال ﷺ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، فدعا النبي ﷺ للمؤمنين أولاً.
ثم دعا على الكفار فقال: اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، وذلك أن الناس في زمان يوسف أصابهم سبع سنين جدب مثلما عبر يوسف رؤيا الملك وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ [يُوسُف: 43]، ثم عبرها يوسف فقال: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يُعْصِرُونَ [يُوسُف: 47-49]. فأمرهم يوسف بأن يزرعوا سبع سنين، وأن يدخروا الحب في سنبله بعد الحصاد حتى لا يعطب؛ لأنه إذا أُخذ الحب من سنبله يخرب بأن تأتيه دودة أو جرثومة تقضي عليه، أما إذا بقي في سنبله يبقى سليمًا مدة، ولهذا قال: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ فأصاب الناس سبع سنين جدب وشدة، حتى جاء إخوة يوسف لشراء الطعام من مصر؛ وقد كان يوسف على خزائن الأرض حين أصاب الناس الجدب والشدة.
فالنبي ﷺ دعا عليهم بمثل هذا الجدب فقال: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ.
في الحديث: جواز الدعاء في النوازل، فإذا نزلت بالمسلمين نازلة فللإمام أن يدعو ويقنت في جميع الصلوات، وذلك إذا اشتد الأمر، وقد يقتصر الإمام على القنوت في الصبح أو في الصبح والمغرب؛ ولهذا قال ابن أبي الزناد عن أبيه: «هَذَا كُلُّهُ فِي الصُّبْحِ» .
والقراءة في الاستسقاء ليس فيها شيء خاصّ، وإنما ورد في الجمعة أن يقرأ فيهما بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى: 1] و هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغَاشِيَة: 1]، أو الجمعة، والمنافقون، ق وَالْقُرْآنِ [ق: 1] و اقْتَرَبَتِ [القَمَر: 1].
لكن من العلماء من قال: يقرأ بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى: 1] و هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ. فكأنه قاس على العيدين، واستدل بحديث عند الدارقطني والحاكم[(938)]، وهو لا يصح وعليه فلا يثبت في هذا سنة، وللإمام أن يقرأ ما تيسر له.
المتن:
الشرح:
1007 قوله: «كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ» ، هو عبدالله بن مسعود؛ لأن مسروقًا من أصحابه.
قوله: «إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا رَأَى مِنْ النَّاسِ إِدْبَارًا» ، يعني: إدبارًا عن الدين وانصرافًا عنه دعا عليهم، والمراد: الكفرة الذين أعرضوا عن الدين، ولم يقبلوا هدى الله، وكذبوا النبي ﷺ.
قوله: اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ، يعني: اللهم عاقبهم بسبع سنين كسبع يوسف، وسبع يوسف: سبع سنين أصابهم فيها جدب وقحط شديد؛ فالنبي ﷺ دعا بأن يصيبهم سبع سنين جدب فاستجاب الله دعاءه.
وفيه: علامة من علامات النبوة أن استجاب الله دعاء نبيه ﷺ في الحال.
قوله: «فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ» أي: جدب وقحط.
قوله: «حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ» أي: استأصلت كل شيء حتى النبات.
قوله: «حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ» ، يعني: من الجوع.
قوله: «وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ» وهو زعيم المشركين في ذلك الوقت.
قوله: «فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ» ، يعني: وأنت دعوت على قومك فأصابتهم سنة.
قوله: «وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ» أي: يرفع عنهم ما هم فيه.
قوله: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدّخان: 10]» قال تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدّخان: 16-24] فذكر من قوله: «إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدّخان: 15]» ، ثم قال بعدها: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدّخان: 16].
قوله: «فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ مَضَتْ الدُّخَانُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ» ، فسر ابن مسعود البطشة الكبرى في قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى بأنها قتل صناديد المشركين يوم بدر .
قوله: «اللِّزَامُ» : أي لزوم العذاب لهم، وهو قوله تعالى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفُرقان: 77].
وقوله: «وَآيَةُ الرُّومِ» مضت، وهي قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [الرُّوم: 1-4]، ووقعت الغلبة للروم على الفرس.
و «الدُّخَانُ» فسره ابن مسعود بالجوع الذي أصابهم حتى يرى الإنسان ما بينه وبين السماء كأنه دخان من شدة الجوع، وهذا نوع من الدخان؛ لكن ليس هو الدخان المذكور في أشراط الساعة، والصحيح الذي ورد في الأحاديث أن الدخان لم يمض وإنما يأتي في آخر الزمان من أشراط الساعة الكبار، وهو دخان يصيب الناس يملأ ما بين السماء والأرض، يصيب المؤمن كهيئة الزكام، وأما الكافر فيصيبه شدة يدخل في سمعه، وبصره، وعينيه، ومنخريه، ويصيبه شدة عظيمة.
إذن فالدخان دخانان:
الدخان الأول: دخان وقع، وهو الذي ذكره ابن مسعود وقد أصاب قريشًا من شدة الجوع ما بينهم وبين السماء.
الدخان الثاني: دخان لم يقع، وهو الدخان الذي يقع في آخر الزمان، وهو من أشراط الساعة الكبرى.
فظن ابن مسعود أن الدخان الذي أصاب قريشًا هو الدخان الذي ورد في الأحاديث.
قوله: «دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ ما مناسبة هذه الترجمة لكتاب الاستسقاء؟ الظاهر أنها تابعة لباب: «القنوت» وقد مضى.
ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله وجه المناسبة فقال: «ووجه إدخاله في «أبواب الاستسقاء» التنبيه على أنه كما شرع الدعاء بالاستسقاء للمؤمنين كذلك شرع الدعاء بالقحط على الكافرين لما فيه من نفع الفريقين بإضعاف عدو المؤمنين ورقة قلوبهم ليذلوا للمؤمنين.
وقد ظهر من ثمرة ذلك التجاؤهم إلى النبي ﷺ أن يدعو لهم برفع القحط، كما في الحديث الثاني.
ويمكن أن يقال: إن المراد أن مشروعية الدعاء على الكافرين في الصلاة تقتضي مشروعية الدعاء للمؤمنين فيها، فثبت بذلك صلاة الاستسقاء خلافًا لمن أنكرها».
المتن:
باب سُؤَالِ النَّاسِ الإِْمَامَ الاِسْتِسْقَاءَ إِذَا قَحَطُوا
1008 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ:
وَأَبْيَضَُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ | ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَْرَامِلِ |
الشرح:
قوله: «قَحَطُوا» يعني: أصابهم القحط وهو الجدب والشدة.
1008 قوله في الأثر: «ثِمَالُ» بدل من «أَبْيَضَُ» ، لكن «أَبْيَضَُ» ممنوع من الصرف، فأبيض ثمال اليتامى وصف للنبي ﷺ.
المتن:
1009 وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ: حَدَّثَنَا سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ رُبَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ: وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كُلُّ مِيزَابٍ:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ | ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَْرَامِلِ |
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ.
الشرح:
وهذا الشعر قاله أبو طالب يمدح النبي ﷺ، وأبو طالب مات قبل الاستسقاء؛ لأن الاستسقاء كان في المدينة، وإنما قال ذلك لما عرفه من النبي ﷺ وعلمه عنه.
والقصيدة ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد ذلك فذكر منها:
وَلَمّا رَأَيتُ القَومَ لا وُدَّ فِيهِمُ | وَقَد قَطَعوا كُلَّ العُرى وَالوَسائِلِ |
يعني: قريشًا لما قاطعوا بني هاشم.
وَقَد جَاهَرُونَا بِالعَداوَةِ وَالأَذى | وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ |
وفيها:
وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ، لَا أَبَا لَكَ، سَيِّدًا | يَحُوطُ الذِّمَارَ بَينَ بَكرٍ وَوَائِلِ |
وَأَبْيَضَُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ | ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَْرَامِلِ |
قوله: «وَأَبْيَضَُ» : إما عطف على قوله في البيت السابق: «سيدًا» ، أي: سيدًا وأبيض، أو أنه مجرور بِرُبَّ، أي: ورُبَّ أبيض، والمراد: الرسول ﷺ، فأبو طالب يمدح النبي ﷺ يقول: ورب أبيض؛ لأنه أبيض البشرة مشربًا بالحمرة.
قوله: «يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ» يعني: أنه يُطلب نزول المطر والغيث إذا استسقى ﷺ.
قوله: «ثِمَالُ الْيَتَامَى» فهو ﷺ يرجع إليه الناس، فيقوم بأحوال اليتامى وهو العماد والملجأ لهم والمطعم والمغيث والمعين لهم بعد الله .
قوله: «عِصْمَةٌ لِلأَْرَامِلِ» يمنعهن مما يضرهن، والأرامل: جمع أرملة وهي الفقيرة التي لا زوج لها.
1009 قول ابن عمر رضي الله عنهما: «وربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي ﷺ يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب» أي: إن النبي ﷺ حينما يستسقي للناس ويقول: اللهم أغثنا وهو على المنبر، فما ينزل حتى يجيش الميزاب، والميزاب: هو الحديدة تكون على السطح ينزل منها الماء إذا تجمع على الأسطح، يعني: أن الله يجيب دعوته وينزل المطر في الحال، فيقول ابن عمر رضي الله عنهما: إذا أنا نظرت إلى حالة النبي ﷺ وهو يستسقي ويجيب الله دعوته في الحال، فيجيش الميزاب، ويصب في المرازيب ـ أذكر قول أبي طالب وهو يقول:
وَأَبْيَضَُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ | ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَْرَامِلِ |
والقصيدة طويلة في هذا وهي القصيدة اللامية، وفيها اعترف أبو طالب بأن النبي ﷺ على الحق، ولكن لم يسلم، وما قدر الله له الهداية، قال:
وَلَقَـد عَلِمْتُ بِأَنَّ دِيـنَ مُحَمَّـدٍ | مِـنْ خَيْرِ أَدْيَـانِ البَرِيَّةِ دِينَـا |
علمت يعني: تيقنت.
لَولا المَلامَةُ أَو حِذاري سُبَّةً | لَوَجَدتَني سَمحاً بِذاكَ مُبِينًا[(940)] |
فالذي منعه من الدخول في الإسلام هو الملامة والذم، خشي أن يقولوا: سب آباءه وأجداده، فمنعته الحمية والعصبية لآبائه أن يشهد عليهم بالكفر وأنهم على باطل وأن يكون متبعًا لرسول الله ﷺ، فاستكبر وأبى فيكون كفره بالاستكبار ـ نعوذ بالله ـ.
ولما حضرته الوفاة حضر عنده عبدالله بن أمية وأبو جهل بن هشام فذكراه الحجة الملعونة وهي اتباع الآباء والأجداد في الباطل لما قال له النبي ﷺ: قُلْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ قالا: أترغب عن ملة عبدالمطلب؟ فأعاد عليه النبي ﷺ فأعادا فكان آخر ما قال: هو على ملة عبدالمطلب[(941)]، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله ـ نسأل الله العافية ـ وإنه يعلم.
ففيه: دليل على أن من علم الحق ولم يتبعه ولم يعمل به فلا يكون مؤمنًا؛ ففرعون علم الحق ولم يقبله، وإبليس علم الحق ولم يقبله، واليهود علموا الحق ولم يقبلوه الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البَقَرَة: 146] لكن لابد من الاتباع والإيمان والانقياد فمن لم يتبع الحق ولم ينقد له لا يكون مؤمنًا ولو كان عارفًا به، فلابد من شيئين: تصديق في الباطن، وانقياد في الظاهر، فإبليس يعلم قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحِجر: 39] لكن لما أمره الله بالسجود استكبر واعترض على الله وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعرَاف: 12] فمنعه الكبر فكان كفره بالإباء والاستكبار، وكذلك كفر اليهود وفرعون وأبي طالب فهم مصدقون في الباطن والتصديق في الباطن لا يكفي لابد من الانقياد والاتباع والذل والخضوع لله والانقياد لأوامره.
المتن:
الشرح:
1010 قوله: «عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» ، فيه: أن عمر بن الخطاب كان إذا أصاب الناس القحط والجدب استسقى بالعباس عم النبي ﷺ؛ لأنه من قرابة النبي ﷺ، ومعنى يستسقى به: يطلب منه أن يدعو للناس، وأن يسأل الله السقيا، وهم يؤمنون على دعائه.
قوله: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا» ، يعني: بدعائه في حياته «فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا قَالَ: فَيُسْقَوْنَ» . وهذا يدل على أن الصحابة كانوا لا يتوسلون بذات النبي ﷺ، ولا يستسقون بذاته وإنما يستسقون بدعائه، ولو كانوا يتوسلون بذات النبي ﷺ لتوسلوا به بعد وفاته؛ لأن ذات النبي ﷺ موجودة، فلما عدل الصحابة ـ وهم أفضل الناس وأعلم الناس بالشريعة ـ عن الاستسقاء بالنبي ﷺ بعد موته إلى الاستسقاء بالعباس دل على أنهم يستسقون بدعائه ﷺ.
وفي الحديث: الرد على من يتوسل بذات النبي ﷺ نقول: لو كان الناس يستسقون بذات العباس لكانت ذات النبي ﷺ أوجه وأولى وهو حي في قبره ﷺ حياة برزخية، وقد كانوا يتوسلون به في حياته ولم يتوسلوا به بعد وفاته، فدل على أن الشيء الذي يتوسلون به قد انقطع وهو الدعاء فعدلوا إلى التوسل بعمه وهو دعاؤه فكان العباس يدعو وهم يؤمنون. ولهذا كان عمر رضي الله عنهما يقول: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا». وفي اللفظ الآخر أنه قال: «قم يا عباس فادع الله»؛ فقام العباس فدعا واستسقى وهم يؤمنون، فدل على أن الاستسقاء بذات النبي ﷺ من البدع، وأنه لا يتوسل بذات النبي ﷺ.
وما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله: «وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري ـ وكان خازن عمرـ قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي ﷺ فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر[(942)] الحديث.
وقد روى سيف في «الفتوح» أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني، أحد الصحابة».
فقد قال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «هذا الأثر على فرض صحته كما قال الشارح ليس بحجة على جواز الاستسقاء بالنبي ﷺ بعد وفاته؛ لأن السائل مجهول، ولأن عمل الصحابة على خلافه، وهم أعلم الناس بالشرع، ولم يأت أحد منهم إلى قبره يسأله السقيا ولا غيرها، بل عدل عمر عنه لما وقع الجدب إلى الاستسقاء بالعباس، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة، فعلم أن ذلك هو الحق، وأن ما فعله هذا الرجل منكر، ووسيلة إلى الشرك؛ بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك»[(943)].
قال بعض العلماء قوله: يا رسول الله استسق لنا. شرك؛ لأنه دعا غير الله، فمن دعا غير الله فقد أشرك: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأحقاف: 5].
وقال بعض العلماء: هذا ليس بشرك بل يكون وسيلة للشرك؛ لأنه ما قال: يا رسول الله أغثنا، وإنما قال: يا رسول الله ادع الله لنا، طلب من الرسول ﷺ أن يدعو له فيكون وسيلة. أما لو قال: يا رسول الله أغثنا أو: يا رسول الله اسقنا ـ فقد أشرك.
وقال آخرون من أهل العلم: حتى لو قال: يا رسول الله استسق لنا ـ فهذا نوع من الشرك لأنه دعا غير الله.
فهو إما شرك على قول بعضهم أو وسيلة للشرك فلا يجوز الإتيان إلى قبر النبي ﷺ وسؤاله.
قال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «وأما تسمية السائل في رواية سيف المذكورة بلال بن الحارث، ففي صحة ذلك نظر، ولم يذكر الشارح سند سيف في ذلك، وعلى تقدير صحته عنه، لا حجة فيه؛ لأن عمل كبار الصحابة يخالفه، وهم أعلم بالرسول ﷺ وشريعته من غيرهم والله أعلم»[(944)].
المتن:
تَحْوِيلِ الرِّدَاءِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ
1011 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَسْقَى فَقَلَبَ رِدَاءَهُ.
الشرح:
1011 قوله: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَسْقَى فَقَلَبَ رِدَاءَهُ» ، فيه: مشروعية تحويل الرداء في الاستسقاء، وتحويل الرداء يكون بجعل ما على اليمين على الشمال وما على الشمال على اليمين.
والحكمة في تحويل الرداء التفاؤل في أن يحول الله ما بهم من الشدة والقحط إلى الرخاء والخصب.
وأما إذا لم يكن عليه رداء، وإنما عليه عمامة أو غترة فإنه يقلب الغترة أو العمامة، فيقلب أيَّ شيء معه، ثم لا يعيده حتى يصل إلى بيته.
المتن:
1012 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ يُحَدِّثُ أَبَاهُ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: هُوَ صَاحِبُ الأَْذَانِ وَلَكِنَّهُ وَهْمٌ لأَِنَّ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ مَازِنُ الأَْنْصَارِ.
الشرح:
قوله: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ:» ، هو : البخاري.
قوله: «كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ» ، يعني: سفيان بن عيينة.
قوله: «يَقُولُ:» يعني: عن عبدالله بن زيد «هُوَ صَاحِبُ الأَْذَانِ وَلَكِنَّهُ وَهْمٌ لأَِنَّ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيُّ مَازِنُ الأَْنْصَارِ» وذاك عبدالله بن زيد بن عبد ربه.
1012 قوله: «خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» ، استدل به على أن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة، وجاء في حديث عبدالله بن زيد عند أحمد: أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة[(945)]، وكذلك في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه[(946)]، وعلى هذا فالأمران جائزان ـ تقديم الخطبة أو تقديم الصلاة ـ فإن خطب ثم صلى فله ذلك، وإن صلى ثم خطب فله ذلك.
قوله: «فَاسْتَسْقَى» يعني: طلب السقيا.
قوله: «فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» فيه: مشروعية استقبال القبلة عند الدعاء، وأن الإمام يستقبل القبلة ويحول رداءه ويدعو ويكمل الخطبة.
ويشرع للمأمومين أن يحولوا أرديتهم مع الإمام لما ورد في بعض الروايات «وحول الناس معه» [(947)]، وأثناء الدعاء يدعو الإمام جهرًا وهم يؤمنون.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر مسألة التحويل والتنكيس فقال: «قال الزين ابن المنير: ترجم بلفظ التحويل، والذي وقع في الطريقين اللذين ساقهما لفظ القلب، وكأنه أراد أنهما بمعنى واحد انتهى، ولم تتفق الرواة في الطريق الثانية على لفظ: القلب؛ فإن رواية أبي ذر: «حول» وكذا هو في أول حديث في الاستسقاء، وكذلك أخرجه مسلم من طريق مالك[(948)]، عن عبد الله بن أبي بكر.
وقد وقع بيان المراد من ذلك في «باب الاستسقاء بالمصلى» في زيادة سفيان، عن المسعودي، عن أبي بكر بن محمد، ولفظه: «قلب رداءه: جعل اليمين على الشمال» [(949)]، وزاد فيه ابن ماجه، وابن خزيمة من هذا الوجه: «والشمال على اليمين» [(950)]، والمسعودي ليس من شرط الكتاب وإنما ذكر زيادته استطرادًا، وسيأتي بيان كون زيادته موصولة أو معلقة في الباب المذكور إن شاء الله تعالى، وله شاهد أخرجه أبو داود من طريق الزبيدي، عن الزهري، عن عباد بلفظ: «فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وعطافه الأيسر على عاتقه الأيمن» [(951)]، وله من طريق عمارة بن غزية عن عباد: «استسقى وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه[(952)].
وقد استحب الشافعي في الجديد فعل ما هم به ﷺ من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف، وزعم القرطبي كغيره أن الشافعي اختار في الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذي في «الأم» ما ذكرته، والجمهور على استحباب التحويل فقط، ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط».
قول الحافظ : «ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط»، كيف يكون ذلك وليس فيه دليل؟ ولكن الدليل ما ورد في الحديث أنه جعل الشمال على اليمين، واليمين على الشمال.
قال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «ليس الأمر كما قاله الشارح؛ بل الأولى والأحوط هو التحويل بجعل ما على الأيمن على الأيسر وعكسه؛ لأن الحديث بذلك أصح وأصرح، ولأن فعله أيسر وأسهل، والله أعلم»[(953)].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله أيضًا: «وعن أبي حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب شيء من ذلك، واستحب الجمهور أيضًا أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق أخرى عن عباد في هذا الحديث بلفظ: «وحول الناس معه» [(954)]». فهذا دليل على أن الناس حولوا الرداء.
وقال أيضًا: «وقال الليث، وأبو يوسف: يحول الإمام وحده، واستثنى ابن الماجشون النساء فقال: لا يستحب في حقهن، ثم إن ظاهر قوله: «فَقَلَبَ رِدَاءَهُ» ، أن التحويل وقع بعد فراغ الاستسقاء، وليس كذلك، بل المعنى: فقلب رداءه في أثناء الاستسقاء، وقد بينه مالك في روايته المذكورة ولفظه: حول رداءه حين استقبل القبلة[(955)]، ولمسلم من رواية يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد: «وإنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه» [(956)]، وأصله للمصنف كما سيأتي بعد أبواب، وله من رواية الزهري عن عباد: «فقام فدعا الله قائمًا ثم توجه قبل القبلة وحول رداءه» [(957)] فعرف بذلك أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء، واختلف في حكمة هذا التحويل، فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه، وتعقبه ابن العربي بأن من شرط الفأل ألا يقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له: حول رداءك ليتحول حالك، وتعقب بأن الذي جزم به يحتاج إلى نقل».
فظاهره أن التحويل كان أثناء الخطبة، وذكر الحافظ الأدلة على ذلك، مستشهدًا بما نقله المؤلف من الأحاديث.
فإذا أراد الإمام أن يدعو استقبل القبلة، ويولي الناس ظهره، ويحول رداءه، ثم يدعو وهو مستقبل القبلة، ثم يصلي بعد الخطبة أو قبلها، والأحاديث ثابتة في هذا وهذا.
ويقاس على قلب الرداء في الاستسقاء قلب الشماغ والغترة، ويكون هذا آخر الخطبة، فيقلبه ويدعو، ولا يعيده في الحال بل يعيده إذا تغيرت حاله أو وصل إلى مكان آخر.
باب انتقام الرب من خلقه بالقحطإذا انتهك محارم الله
هذه الترجمة تعني: أن الله ينتقم من خلقه بالقحط مثل ما أصاب المشركين أيام النبي ﷺ، انتقم الله منهم بالقحط والجدب فأصابتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع.
المتن:
باب الاِسْتِسْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
1013 حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا اللَّهُمَّ اسْقِنَا اللَّهُمَّ اسْقِنَا.
قَالَ أَنَسُ: وَلاَ وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَةً وَلاَ شَيْئًا وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ قَالَ: واللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا.
ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الأَْمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الآْكَامِ وَالْجِبَالِ وَالآْجَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَْوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ.
قَالَ شَرِيكٌ: فَسَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَهُوَ الرَّجُلُ الأَْوَّلُ قَالَ: لاَ أَدْرِي.
الشرح:
قوله: «الاِسْتِسْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ» هذه الترجمة فيها: الاستسقاء في المسجد الجامع، وهناك أنواع من الاستسقاء:
الأول: يخرج إلى الصحراء، ويصلي ركعتين، ويخطب، ويستسقي.
الثاني: يستسقي الإمام في خطبة الجمعة، وهو يخطب، يرفع يديه، ويرفع الناس أيديهم معه.
الثالث: وهو قد جاء أيضًا في السنة، وهو الاستسقاء بدون صلاة؛ كما ثبت «أن النبي ﷺ دعا الله عند أحجار الزيت»[(958)].
ففي النوع الأول: يعد الناس يومًا، ويصلي بهم ركعتين، ثم يخطب، ويدعو.
وفي النوع الثاني: يستسقي الإمام في خطبة الجمعة، وهو يخطب، وذلك بأن يرفع يديه، ويرفع الناس أيديهم.
وفي النوع الثالث: يدعو دعاءً مجردًا ليس معه صلاة.
1013 قوله: «سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَذْكُرُ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ» ؛ فيه: دليل على جواز تكليم المأموم للإمام عند الحاجة وهو على المنبر، وأنه لا حرج فيه؛ وهو مستثنى من حديث: من تكلم والإمام يخطب فلا جمعة له [(959)] فهذا الرجل كلم النبي ﷺ ولم ينكر عليه، ولكن المنهي عنه أن يتكلم الإنسان مع غير الإمام.
قوله: «هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا اللَّهُمَّ اسْقِنَا اللَّهُمَّ اسْقِنَ ، فيه: مشروعية تكرار الدعاء بالسقيا ثلاثًا.
قوله: «قَالَ أَنَسُ: وَلاَ وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَةً وَلاَ شَيْئًا وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ» سلع: جبل.
قوله: «قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ» فيه: علامة من علامات النبوة، وأنه رسول الله حقًّا، حيث أجاب الله دعاءه في الحال وهو يستسقي، فأمطرت السماء والناس في المسجد قبل أن يخرجوا، وهذا دليل على أن الله على كل شيء قدير، وأن الله لا يعجزه شيء، ثم استمر المطر أسبوعًا كاملاً.
قوله: «واللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا» ، وفي رواية: «ستًّا» ، يعني: ستة أيام حتى جاءت الخطبة الثانية في الأسبوع التالي، ثم لما خطب النبي ﷺ دخل رجل من ذلك الباب، يحتمل أنه الرجل الأول أو غيره، ورسول الله ﷺ قائم يخطب فاستقبل النبي ﷺ وقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الأَْمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ» ، من كثرة الأمطار، «فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا» .
قوله: «قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الآْكَامِ وَالْجِبَالِ وَالآْجَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَْوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ» فيه: مشروعية رفع اليدين في الاستصحاء كما أنها ترفع في الاستسقاء.
وفيه: إجابة دعاء النبي ﷺ في الحال، فبعد دعائه انقشعت الغيوم وزالت، وطلعت الشمس فخرج الناس يمشون في الشمس، فأجاب الله دعاءه في الاستسقاء، وأجاب الله دعاءه في الاستصحاء؛ فدل على أنه رسول الله حقًّا.
وفيه: قدرة الله العظيمة.
وفيه: أن لا يدعي الإنسان بالإمساك، وإنما يدعو قائلا: اللَّهُمَّ عَلَى الآْكَامِ وَالْجِبَالِ وَالآْجَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَْوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، يعني: لا يكون على المدينة، فأجاب الله دعاءه.
و الآْكَام جمع : أَكَمَة وهي الموضع أشد ارتفاع من غيرها قيل : من تراب، وقيل: من حجر، وهو دون الجبل.
و الظِّرَابِ جمع: ظرب، وهو الجبل المنبسط، أو الصغير.
المتن:
باب الاِسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ
1014 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَائِمًا ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الأَْمْوَالُ وَانْقَطَعْتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا قَالَ أَنَسٌ: وَلاَ وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَةً وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ فَلاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الأَْمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الآْكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَْوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ قَالَ: فَأَقْلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ.
قَالَ شَرِيكٌ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَهُوَ الرَّجُلُ الأَْوَّلُ؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي.
الشرح:
قوله: «الاِسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ» ، أي: وظهره إلى القبلة ووجهه إلى الناس.
1014 قوله: «فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا» الأصل أن يقول: «يُغِثنَا» ، على أنه مجزوم في جواب الطلب، لكن الرفع جائز.
وهذا الحديث كرره المؤلف رحمه الله لاستنباط الأحكام والفوائد: ففيه دليل على أنه إذا استسقى في صلاة الاستسقاء يكون وجهه إلى القبلة، أما في خطبة الجمعة فيكون وجهه للناس وظهره إلى القبلة ولهذا قال: «بَاب الاِسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةِ» ، فلهذا الحكم أتى المؤلف رحمه الله بهذا الحديث مرة أخرى.
وفيه: مشروعية تكرار الدعاء ثلاثًا: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا.
وفيه: أن الله أجاب دعاء نبيه ﷺ في الحالين: في طلب الغيث، وفي الاستصحاء، وهو من علامات النبوة ومن الدلائل على قدرة الله العظيمة على كل شيء.
وفيه: أن خطيب الجمعة إذا استسقى في الخطبة لا يستقبل القبلة، وإنما يستقبل الناس على حاله.
وفيه: أنه إذا دعا الإنسان بالاستصحاء من كثرة المطر فلا يقل: اللهم أمسكها، فلا يدعو بالإمساك، بل يقول: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ويستنبط منه: أن من أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي له أن يتسخطها لعارض يعرض فيها، بل يسأل الله رفع ذلك العارض وإبقاء النعمة، وفيه أن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل وإن كان مقام الأفضل التفويض؛ لأنه ﷺ كان عالمًا بما وقع لهم من الجدب، وأخر السؤال في ذلك تفويضًا لربه».
وقال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «وفي هذا نظر، والصواب أن الأخذ بالأسباب والبدار بالدعاء والاستغاثة عند الحاجة أولى وأفضل من التفويض وسيرته ﷺ وسيرة أصحابه تدل على ذلك، ولعله إنما أخر الدعاء لأسباب اقتضت ذلك غير التفويض، فلما سأله هذا السائل بادر بإجابته، وذلك عن إذن الله سبحانه وتشريعه؛ لأنه ﷺ لا ينطق عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، والله أعلم»[(960)].
المتن:
باب الاِسْتِسْقَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ
1015 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَحَطَ الْمَطَرُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا فَدَعَا فَمُطِرْنَا فَمَا كِدْنَا أَنْ نَصِلَ إِلَى مَنَازِلِنَا فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ قَالَ: فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ السَّحَابَ يَتَقَطَّعُ يَمِينًا وَشِمَالاً يُمْطَرُونَ وَلاَ يُمْطَرُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ».
الشرح:
قوله: «الاِسْتِسْقَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ» في هذه الترجمة من الأحكام والفوائد: أنه لا بأس أن يكلم المأمومون أو أحدهم الإمامَ وهو يخطب، وأن هذا مستثنى من النهي عن الكلام والإمام يخطب.
1015 هذا هو الحديث السابق كرره المؤلف رحمه الله لاستنباط بعض الأحكام، وفيه أنه قال: «فَلَقَدْ رَأَيْتُ السَّحَابَ يَتَقَطَّعُ يَمِينًا وَشِمَالاً يُمْطَرُونَ وَلاَ يُمْطَرُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ» يعني: أن جميع الجهات تمطر إلا المدينة، وفي اللفظ الآخر أنه قال: «مثل الجوبة» [(961)] يعني: أن المطر كالدائرة حوالي المدينة فما يأتيها مطر، وهذا دليل على قدرة الله العظيمة بأن استجاب لنبيه ﷺ وصّير المطر حول المدينة ولا يقع عليها، وهو من علامات النبوة، وأنه ﷺ رسول الله حقًّا.
المتن:
باب مَنْ اكْتَفَى بِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ
1016 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ فَدَعَا فَمُطِرْنَا مِنْ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: تَهَدَّمَتْ الْبُيُوتُ وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ وَهَلَكَتْ الْمَوَاشِي فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا فَقَامَ ﷺ فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلَى الآْكَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَْوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ فَانْجَابَتْ عَنْ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ اكْتَفَى بِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ» ، يعني: إذا صلى الجمعة واستسقى فيها كفى ولو لم يخرج، وإن خرج أيضًا وصلى صلاة الاستسقاء فهذا أيضًا فعله النبي ﷺ.
1016 هذا هو الحديث السابق اختصره المؤلف رحمه الله وكرره لاستنباط الأحكام.
ففي الحديث من الفوائد: أن الله تعالى أجاب دعاء نبيه ﷺ في الحالين: في الاستسقاء وفي الاستصحاء، قال الراوي: «فَانْجَابَتْ عَنْ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ» ، أي: زالت السحب، وزالت الأمطار، وانسحبت إلى الأودية المجاورة للمدينة، وهذا من قدرة الله العظيمة.
المتن:
باب الدُّعَاءِ إِذَا تَقَطَّعَتْ السُّبُلُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ
1017 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَمُطِرُوا مِنْ جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَتْ الْبُيُوتُ وَتَقَطَّعَتْ السُّبُلُ وَهَلَكَتْ الْمَوَاشِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهُمَّ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَالآْكَامِ وَبُطُونِ الأَْوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ فَانْجَابَتْ عَنْ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ.
الشرح:
1017 هذا هو أيضًا الحديث السابق كرره المؤلف لاستنباط الأحكام منه، ومن هذه الأحكام أنه: إذا انقطعت السبل من كثرة المطر فللإمام أن يستصحي في خطبة الجمعة كما يستسقي ويرفع يديه ويرفع الناس أيديهم، فكرره من أجل هذا الحكم، وهذا يدل على دقة فقه البخاري رحمه الله واستنباطاته، فكم كرر هذا الحديث وغيره، وأحيانًا يكرر الحديث أكثر من خمس عشرة مرة لاستنباط الأحكام، وسبق أن ذكر في صلاة الليل لابن عباس رضي الله عنهما ستة عشر طريقًا.
والمختصر لكتاب البخاري رحمه الله يقوم بحذف التكرارات ويذكر الحديث مرة واحدة، فمثلاً إذا كرر المؤلف الحديث عشر مرات أو خمس عشرة مرة فإن المختصِرَ يأتي به مرة واحدة ويحذف بقية الطرق، وكذلك الحال عند الإمام مسلم رحمه الله، ولهذا يسهل حفظ هذه المختصرات مثل مختصر صحيح البخاري ومختصر صحيح مسلم.