المتن:
(17) أَبَوَاب سُجُودِ الْقُرْآن
باب مَا جَاءَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ وَسُنَّتِهَا
1067 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الأَْسْوَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا.
الشرح:
قوله: «بَاب مَا جَاءَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ» هو سجود التلاوة.
قوله: «وَسُنَّتِهَا» أي: سنة سجود التلاوة.
1067 قوله: «قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ» ؛ وفي رواية أخرى: «فما بقي أحد من القوم إلا سجد» [(1034)]، وقد ابتدأ المصنف بسجدة النجم؛ لأنها أول سورة نزلت فيها سجدة. وفيه: رد على من قال: إن سورة النجم ليس فيها سجدة.
وفيه: الرد على من قال: إن السجدات التي في المفصل لا يسجد فيها، فالحديث صريح.
قوله: «غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا» ؛ هو أمية بن خلف، قتل في بدر كافرًا، وقتل أخوه أبي بن خلف في أحد.
وإنما سجد معه الكفار؛ لأنهم سمعوا كلامًا ألقاه الشيطان في تلاوة النبي ﷺ ثم نسخه الله وأحكم آياته، وظنوا أن النبي ﷺ وافقهم، كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحَجّ: 52]. تَمَنَّى: أي قرأ فِي أُمْنِيَّتِهِ يعني في قراءته.
أما قصة الغرانيق فرواياتها فيها مراسيل لا تثبت بها القصة، وهي أن النبي ﷺ كان يقرأ سورة النجم، فلما قرأ هذه الآية: أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النّجْم: 19-20] ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى، قالوا: وهذا الذي نريد، فسجد، وسجد معه المسلمون والمشركون إلا أمية بن خلف أخذ كفًّا من حصى ووضعه على جبهته وقال: يكفيني هذا، فرآه ابن مسعود بعد ذلك قتل كافرًا في بدر.
وإن كان الحافظ رحمه الله ذكر المراسيل وقال: قد يشد بعضها، بعضًا ولكن المشهور أنها لم تثبت والآية كافية في الدلالة على أن الشيطان قد يلقي على لسان رسول الله ﷺ كلامًا يوافقهم ثم نسخه الله وأحكم آياته.
المتن:
باب سَجْدَةِ تَنْزِيلُ السَّجْدَةُِ
1068 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ.
الشرح:
قوله: «بَاب سَجْدَةِ تَنْزِيلُ السَّجْدَةُِ» هذه الترجمة لسجدة تنزيل السجدة وهي التي أولها الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السَّجدَة: 1-2] وتسمى السورة سورة السجدة.
1068 يستفاد من الحديث أن النبي ﷺ كان يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر في الركعة الأولى سورة السجدة ويسجد فيها، وفي الركعة الثانية يقرأ سورة الإنسان.
ففيه: مشروعية قراءة هاتين السورتين في فجر يوم الجمعة.
وجاء عند الطبراني من حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ كان «يديم ذلك» [(1035)]، فالسنة المداومة على ذلك، وإن تركها في بعض الأحيان حتى لا يظن البعض أنها واجبة فلا حرج.
والحكمة من قراءتهما ليس وجود السجدة كما يظن بعض الناس، بل الحكمة : ما فيهما من بيان بدء الخلق، وأن الله تعالى خلق آدم من تراب وخلق نسله من سلالة من طين، وفيهما وصف الجنة والنار، وكذلك سورة الإنسان فيها أصل خلق الإنسان ثم بيان صفات الأبرار.
وفي الحديث: مشروعية السجدة في الم تَنْزِيلُ السجدة، وذكره ابن بطال إجماعًا، قال الحافظ ابن حجر: «قال ابن بطال: أجمعوا على السجود فيها وإنما اختلفوا في السجود بها في الصلاة».
والقرآن يشتمل على خمس عشرة سجدة: عشر متفق عليها وخمس مختلف فيها.
أما المختلف فيها فهي: السجدة الثانية في الحج، وسجدة ص، والثلاث سجدات في المفصل: في سورة النجم، وسورة الانشقاق، وسورة العلق.
وأما العشر المتفق عليها فيشرع السجود فيها؛ لأنها سجدات ثابتة بالنصوص.
المتن:
باب سَجْدَةِ ص
1069 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ قَالاَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَسْجُدُ فِيهَا.
الشرح:
1069 هذا الحديث يدل على مشروعية السجود فيها فالنبي ﷺ سجد في ص كما سجد في غيرها ولم يخصها بشيء فدل أنها كغيرها.
قوله: «لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ» أي: ليست من السجدات المؤكدة، فلم يرد فيها الأمر بالسجود، وهذا اجتهاد من ابن عباس، والحجة فيما رواه عن النبي ﷺ لا فيما رآه من رأيه واجتهاده، ويكفي فعل النبي ﷺ وهو المشرع.
وقال بعضهم: إنه يشرع السجود بها خارج الصلاة ولا يشرع السجود بها في الصلاة، حتى أفرط بعضهم فقال: لو سجد فيها في الصلاة بطلت صلاته.
وهذا غلو منه، والصواب أنه يشرع السجود فيها؛ لسجود النبي ﷺ فيها.
وسجود التلاوة ليس بواجب، ولكنه مستحب، وسنة مشروعة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب سَجْدَةِ ص » أورد فيه حديث ابن عباس: «لَيْسَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ» . يعني: السجود في ص إلى آخره، والمراد بالعزائم ما وردت العزيمة على فعله كصيغة الأمر مثلاً بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من لا يقول بالوجوب، وقد روى ابن المنذر وغيره عن علي بن أبي طالب بإسناد حسن: أن العزائم حم، والنَّجْمُ، واقْرَأْ، وسُبْحَانَ، وأَلَمْ، أخرجه ابن أبي شيبة[(1036)].
قوله: «وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَسْجُدُ فِيهَا» وقع في تفسير ص عند المصنف[(1037)] من طريق مجاهد قال: سألت ابن عباس من أين سجدت في ص؟ ولابن خزيمة[(1038)] من هذا الوجه: من أين أخذت سجدة ص؟ ثم اتفقا فقال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعَام: 84]، إلى قوله: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعَام: 90]، ففي هذا أنه استنبط مشروعية السجود فيها من الآية، وفي الأول أنه أخذه عن النبي ﷺ، ولا تعارض بينهما لاحتمال أن يكون استفاده من الطريقين».
فسجدة ص دل عليها أمران:
الأول: فعل النبي ﷺ.
الثاني: الآية الكريمة قال الله تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يعني: أُمر النبي ﷺ بالاقتداء بالأنبياء، ومنهم داود وقد خر داود راكعًا وأناب، والنبي ﷺ مأمور بالاقتداء به.
وقد قال بعض العلماء: إنها توبة نبي، وإنها ليست من السجدات؛ وبعضهم قال: وَخَرَّ رَاكِعًا ولم يخر ساجدًا، وكل هذا لا يعارض به؛ لثبوت سجود النبي ﷺ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد وقع في «أحاديث الأنبياء» من طريق مجاهد في آخره. فقال ابن عباس: نبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم[(1039)]. فاستنبط وجه سجود النبي ﷺ فيها من الآية، وسبب ذلك كون السجدة التي في ص إنما وردت بلفظ الركوع فلولا التوقيف ما ظهر أن فيها سجدة.
وفي النسائي من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا [(1040)] فاستدل الشافعي بقوله: شكرًا، على أنه لا يسجد فيها في الصلاة؛ لأن سجود الشاكر لا يشرع داخل الصلاة.
ولأبي داود وابن خزيمة والحاكم من حديث أبي سعيد: «أن النبي ﷺ قرأ وهو على المنبر ص، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها في يوم آخر فتهيأ الناس للسجود فقال: إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَهَيَّأْتُمْ ، فنزل وسجد، وسجدوا معه» [(1041)]. فهذا السياق يشعر بأن السجود فيها لم يؤكد كما أكد في غيرها.
واستدل بعض الحنفية على مشروعية السجود عند قوله: وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص: 24]، بأن الركوع عندها ينوب عن السجود، فإن شاء المصلي ركع بها، وإن شاء سجد؛ ثم طرده في جميع سجدات التلاوة، وبه قال ابن مسعود».
وهذا ضعيف، لا وجه له. والصواب كما سبق أنه يشرع فيها السجدة داخل الصلاة وخارجها، والحجة أن النبي ﷺ سجد فيها، وسجوده فيها مشروع، أي : خارج الصلاة وفي داخلها.
المتن:
باب سَجْدَةِ النَّجْمِ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
1070 حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَْسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ إِلاَّ سَجَدَ فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا.
الشرح:
1070 يستفاد من الحديث: مشروعية سجود التلاوة عند قراءة سورة النجم فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النّجْم: 62].
وفيه: الرد على من قال: إنه لا يسجد في سجدة النجم أو في سجدات المفصل، وسورة النجم من المفصل فدل على أن سجدات المفصل ثابتة ومنها سجدة سورة النجم.
وسبق أن الرجل الذي أخذ كفًّا من حصى هو أمية بن خلف، قتل كافرًا بعد ذلك.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «واستدل به على أن من وضع جبهته على كفه ونحوه لا يعد ساجدًا حتى يضعها بالأرض».
المتن:
باب سُجُودِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَسْجُدُ عَلَى وُضُوءٍ.
1071 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِْنْسُ».
وَرَوَاهُ ابْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ.
الشرح:
قوله: «سُجُودِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُ نَجَسٌ لَيْسَ لَهُ وُضُوءٌ» هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان سجدة التلاوة، وبيان حكمها، وحيثيتها، كصلاة يشرع لها الوضوء، واستقبال القبلة، والتكبير في الرفع والخفض والسجود، أو أنها ليست صلاة، وإنما هي خضوع لله كالذكر والتسبيح. فالخلاف في المسألة على قولين:
الأول: وهو قول الجمهور أنها صلاة، وعلى هذا لابد أن يكون الإنسان متوضئًا، ولا بد أن يستقبل القبلة، وأن يستر العورة، وأن يكبر في السجود، وعند الخفض، ثم يسلم تسليمتين.
الثاني: وهو اختيار ابن عمر رضي الله عنهما، والشعبي، والبخاري رحمهما الله، أن سجود التلاوة ليس صلاة، وإنما هو خضوع لله كما لو سبح أو هلل، وعلى هذا فلا يجب لها الوضوء، ولا يجب لها استقبال القبلة.
فإذا كان يقرأ عن ظهر قلب فلا يجب لها استقبال القبلة، وكذلك الحائض والنفساء على القول بأنها تقرأ القرآن وتسجد.
واستدل المؤلف على ذلك بسجود المشركين، والمشرك نجس ليس له وضوء.
وعادة المؤلف رحمه الله أنه يؤيد ما ذهب إليه بالآثار فقال: «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَسْجُدُ عَلَى وُضُوءٍ» يعني سجدة التلاوة؛ وروي ذلك عن الشعبي أيضًا.
- وكذا سجدة الشكر لا يشترط لها الطهارة، وهي تشرع إذا حصل ما يسر المسلم من أمر عام: كانتصار المسلمين في الجهاد في سبيل الله، أو فتح حصن من الحصون، أو أمر خاص: كأن يبشر بولد فيسجد ولو على غير وضوء؛ فقد يأتيه الخبر وهو على غير وضوء فيسجد، كما كان النبي ﷺ إذا أتاه أمر سُربه أو بشر به خر ساجدًا شكرا لله[(1042)]، وسجد كعب بن مالك كما في الصحيحين[(1043)] وجاء أنه لما بُشر أبو بكر بقتل مسيلمة سجد لله شكرًا[(1044)].
1071 قوله: «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِْنْسُ» ، استدل به البخاري على ما ذهب إليه من عدم اشتراط الطهارة في سجدة التلاوة، فمعلوم أن المشرك لا تصح عبادته، ولا يصح له وضوء حتى لو توضأ؛ لأنه لا تصح الأعمال إلا مع التوحيد، وإقرار النبي ﷺ على سجودهم للتلاوة دليل على عدم اشتراط الطهارة؛ لأنها ليست صلاة، بل هي عبادة وخضوع لله، كقراءة القرآن عن ظهر قلب، وكسجدة الشكر، يكبر فيها إذا سجد، ولا يكبر إذا رفع، ولا يسلم.
أما الجمهور فإنهم يرون أن سجدة التلاوة صلاة، ويقيسونها عليها، فتحتاج إلى وضوء، واستقبال القبلة، وإلى التكبير في الخفض والرفع ثم يسلم قياسًا على الصلاة.
واختيار البخاري قول قوي رجحه سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله فكان يرى ما يراه البخاري من أن سجدة التلاوة ليست صلاة ولا تحتاج إلى شيء، إلا إذا سجد في الصلاة فإنه يكبر إذا سجد وإذا قام؛ لأن النبي ﷺ كان يكبر في الصلاة في كل خفض ورفع.
ولكن الأفضل أن تستقبل القبلة في سجود التلاوة؛ لأنها أفضل الجهات وخروجًا من خلاف جمهور العلماء، والأفضل أن يكون على وضوء.
وعلى القول الأول بأنها ليست صلاة فإن الحائض تسجد للتلاوة ولا يلزمها ستر رأسها حال السجود، وعلى القول أنها صلاة تكون على وضوء وتستر يديها ورجليها ولا تكشف إلا وجهها كالصلاة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لم يوافق ابن عمر على جواز السجود بلا وضوء إلا الشعبي؛ أخرجه ابن أبي شيبة[(1045)] عنه بسند صحيح، وأخرجه أيضًا بسند حسن عن أبي عبدالرحمن السلمي: أنه كان يقرأ السجدة ثم يسلم وهو على غير وضوء إلى غير القبلة، وهو يمشي يومئ إيماء»[(1046)].
وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه سجد مع النبي ﷺ الجن والإنس، قال الحافظ رحمه الله: «كأن ابن عباس استند في ذلك إلى إخبار النبي ﷺ، إما مشافهة له، وإما بواسطة؛ لأنه لم يحضر القصة لصغره، وأيضًا فهو من الأمور التي لا يطلع الإنسان عليها إلا بتوقيف».
المتن:
باب مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَسْجُدْ
1072 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ ابْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَالنَّجْمُ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا.
1073 حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَالنَّجْمُ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا.
الشرح:
قوله: «باب من قرأ السجدة ولم يسجد» فهذه الترجمة بين فيها المؤلف رحمه الله أن سجود التلاوة ليس واجبًا، وإن كان مشروعًا مستحبًّا، فمن سجد أثابه الله، ومن ترك السجود فلا حرج، وإن كان تركه عامدًا.
1073 استدل به أيضًا على عدم وجوب سجدة التلاوة؛ لأنه قرأ على النبي ﷺ «وَالنَّجْمُ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا».
فهذا الحديث من أصرح الأدلة على أن سجود التلاوة غير واجب، ولو كان واجبًا لأمره النبي ﷺ به.
وفيه: الرد على من أوجب السجود، فمن ترك السجود بنية الامتثال للنبي ﷺ؛ لأنه لم يسجد في بعض المواضع فلا بأس.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَسْجُدْ» ، يشير بذلك إلى الرد على من احتج بحديث الباب على أن المفصل لا سجود فيه كالمالكية، أو أن النجم بخصوصها لا سجود فيها كأبي ثور؛ لأن ترك السجود فيها في هذه الحالة لا يدل على تركه مطلقًا، لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك إما لكونه كان بلا وضوء، أو لكون الوقت كان وقت كراهة، أو لكون القارئ كان لم يسجد كما سيأتي تقريره بعد باب، أو ترك حينئذ لبيان الجواز، وهذا أرجح الاحتمالات، وبه جزم الشافعي؛ لأنه لو كان واجبًا لأمره بالسجود ولو بعد ذلك، وأما ما رواه أبو داود وغيره من طريق مطر الوراق، عن عكرمة، عن ابن عباس: «أن النبي ﷺ لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة» [(1047)]، فقد ضعفه أهل العلم بالحديث لضعفٍ في بعض رواته».
1072 قوله: «فَزَعَمَ» أي: أخبر، فالزعم يطلق على القول المحقق، ويطلق على: الادعاء الكاذب.
ويحمل هنا على المعنى الأول؛ ومنه ما جاء في حديث الرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله، إن رسولك أتانا وزعم أن الله فرض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: صدق رسولي قال: وزعم أن الله فرض علينا صوم رمضان، قال: صدق [(1048)].
فقوله: «فَزَعَمَ» يعني: قال.
وذكر بعضهم أن من شواهد هذا المعنى قول الشاعر:
عَلَى اللَّهِ أَرْزَاقُ الْعِبَادِ كَمَا زَعَمْ
والمراد بالزعم هنا القول المحقق.
وأما ما في قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التّغَابُن: 7]، فالمعنى: ادعوا ادعاء كاذبًا.
ويستدل بحديث زيد بن ثابت في الطريق الأولى على عدم وجوب سجدة التلاوة؛ لأنه قرأ على النبي ﷺ وَالنَّجْمِ فلم يسجد فيها.
المتن:
باب سَجْدَةِ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ
1074 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالاَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ بِهَا فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَلَمْ أَرَكَ تَسْجُدُ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ ﷺ يَسْجُدُ لَمْ أَسْجُدْ.
الشرح:
1074 يستفاد من هذا الحديث مشروعية السجود في إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1]
وفيه: الرد على من أنكر السجود في المفصل، وأنكر السجود في إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1]
وفيه: دليل على أن هذه السجدة لم تنسخ؛ لأن إسلام أبي هريرة متأخر، في السنة السابعة من الهجرة، بعد خيبر؛ ففيه أن العمل مستمر على ذلك، ولهذا لما قال أبو سلمة لأبي هريرة : «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَلَمْ أَرَكَ تَسْجُدُ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ ﷺ يَسْجُدُ لَمْ أَسْجُدْ» وهذا في آخر حياة النبي ﷺ.
المتن:
باب مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ الْقَارِئِ
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لِتَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ وَهُوَ غُلاَمٌ فَقَرَأَ عَلَيْهِ سَجْدَةً فَقَالَ: «اسْجُدْ فَإِنَّكَ إِمَامُنَا فِيهَا».
1075 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ.
الشرح:
يستفاد من أثر عبدالله بن مسعود مشروعية سجود القارئ، فالقارئ الذي يقرأ السجدة يسجد والمستمع أيضًا يسجد بخلاف السامع، فالمستمع هو الذي يتأمل القراءة ويتفهمها، والسامع يسمع من بعيد أو لا يتأمل، ففرق بين السامع والمستمع، فالمستمع يشرع له السجود، والسامع لا يشرع له السجود؛ ولهذا قال المؤلف: «بَاب مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ الْقَارِئِ» .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ الْقَارِئِ» قال ابن بطال: أجمعوا على أن القارئ إذا سجد لزم المستمع أن يسجد كذا أطلق، وسيأتي بعد باب قول من جعل ذلك مشروطًا بقصد الاستماع».
وقول ابن بطال هذا غلط من جهتين:
الأولى: حكاية الإجماع؛ فليس في المسألة إجماع على سجود المستمع لسجود القارئ.
الثانية: لزوم المستمع أن يسجد، فليس بواجب بل هو مستحب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لِتَمِيمِ بْنِ حَذْلَمٍ» بفتح المهملة، واللام بينهما معجمة ساكنة.
قوله: «إِمَامُنَا» زاد الحموي: «فِيهَا» . وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور من رواية مغيرة عن إبراهيم قال: قال تميم بن حذلم: قرأت القرآن على عبد الله وأنا غلام، فمررت بسجدة فقال عبد الله: أنت إمامنا فيها.
وقد روي مرفوعًا؛ أخرجه ابن أبي شيبة من رواية ابن عجلان عن زيد بن أسلم: أن غلامًا قرأ عند النبي ﷺ السجدة، فانتظر الغلام النبي ﷺ أن يسجد، فلما لم يسجد قال: يا رسول الله، أليس في هذه السجدة سجود؟ قال: بَلَى وَلَكِنَّكَ كُنْتَ إِمَامَنَا فِيهَا وَلَوْ سَجَدْتَ لَسَجَدْنَا [(1049)] رجاله ثقات إلا أنه مرسل».
فهذا المرسل مع أثر ابن مسعود الموقوف عليه يقوي أحدهما الآخر ويصلحان للاحتجاج.
فقوله: «اسْجُدْ فَإِنَّكَ إِمَامُنَا فِيهَا» لأنه هو القارئ، فالقارئ هو الإمام، والمستمع هو المأموم.
1075 قوله: «كُانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَوْضِعَ جَبْهَتِهِ» هذا يدل على مشروعية السجدة للمستمع، فالنبي ﷺ يقرأ ثم يسجد فيسجدون حوله.
والحديث واضح صريح في الدلالة على مشروعية سجود المستمع، وليس ذلك بواجب.
المتن:
باب ازْدِحَامِ النَّاسِ إِذَا قَرَأَ الإِْمَامُ السَّجْدَةَ
1076 حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ فَنَزْدَحِمُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا لِجَبْهَتِهِ مَوْضِعًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ
الشرح:
قوله: «ازْدِحَامِ النَّاسِ إِذَا قَرَأَ الإِْمَامُ السَّجْدَةَ» أبان المؤلف بهذه الترجمة أنه لا حرج إذا كان الإمام يقرأ السجدة في خارج الصلاة أو في الصلاة ثم يكون المستمعون له كثيرين فيزدحمون ويسجدون.
1076 يستفاد من الحديث: مشروعية سجود المستمع ـ وليس بواجب ـ، حتى وإن أدى السجود إلى ازدحام الناس.
المتن:
باب مَنْ رَأَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ السُّجُودَ
وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا قَالَ:أَرَأَيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا كَأَنَّهُ لاَ يُوجِبُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ سَلْمَانُ: مَا لِهَذَا غَدَوْنَا.
وَقَالَ عُثْمَانُ : إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ اسْتَمَعَهَا.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ يَسْجُدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا فَإِذَا سَجَدْتَ وَأَنْتَ فِي حَضَرٍ فَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلاَ عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ.
وَكَانَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لاَ يَسْجُدُ لِسُجُودِ الْقَاصِّ.
1077 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهُدَيْرِ التَّيْمِيِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَانَ رَبِيعَةُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ عَمَّا حَضَرَ رَبِيعَةُ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إِذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ .
وَزَادَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ السُّجُودَ إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ رَأَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ السُّجُودَ» هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان أن سجدة التلاوة ليست واجبة، وأن الله تعالى لم يوجب سجود التلاوة في الصلاة ولا في خارجها إلا إذا أراد الإنسان أن يسجد، وذكر آثارًا عن السلف تدل على أن سجدة التلاوة حكمها ليس كحكم الصلاة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَنْ رَأَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ السُّجُودَ» أي وحمل الأمر في قوله: اسْجُدُوا على الندب أو على أن المراد به سجود الصلاة أو في الصلاة المكتوبة على الوجوب، وفي سجود التلاوة على الندب، على قاعدة الشافعي ومن تابعه في حمل المشترك على معنييه».
يعني قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحَجّ: 77].
قوله: «وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا قَالَ:أَرَأَيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا كَأَنَّهُ لاَ يُوجِبُهُ عَلَيْهِ» يعني: لا حرج عليه.
قوله: «وَقَالَ سَلْمَانُ: مَا لِهَذَا غَدَوْنَا» هذا يدل على أن سلمان يرى أن سجدة التلاوة ليست بواجبة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هو طرف من أثر وصله عبد الرزاق من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال: مر سلمان على قوم قعود، فقرءوا السجدة فسجدوا، فقيل له، فقال: ليس لهذا غدونا[(1050)]. وإسناده صحيح».
وقوله: «وَقَالَ عُثْمَانُ : إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ اسْتَمَعَهَا» يعني : على من يستمع وجلس، أما السامع فإنه ليس عليه سجدة.
قال الحافظ رحمه الله: «وصله عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري عن ابن المسيب: أن عثمان مر بقاص فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: إنما السجود على من استمع، ثم مضى ولم يسجد[(1051)]» أي: إن القاص تعمد ذلك حتى يسجد عثمان فمضى عثمان ولم يسجد.
قوله: «وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ يَسْجُدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا فَإِذَا سَجَدْتَ وَأَنْتَ فِي حَضَرٍ فَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلاَ عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ» قال الزهري هذا على مذهب الجمهور أن سجدة التلاوة لابد لها من طهارة ، ولابد لها من استقبال القبلة، فإن كان الإنسان مسافرًا يسجد ولو إلى غير القبلة، ومعلوم أن المسافر في سفره يصلي النافلة ولو إلى غير القبلة. وكان النبي ﷺ يصلي حيث توجهت به راحلته؛ أما الفريضة فكان يقف ويصلي على الأرض.
قال الحافظ رحمه الله: «قوله: «وَقَالَ الزُّهْرِيُّ:...» إلخ. وصله عبدالله بن وهب عن يونس عنه بتمامه، وقوله فيه: «لاَ يَسْجُدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا» . قيل: ليس بدالٍّ على عدم الوجوب؛ لأن المدعي يقول: علق فعل السجود من القارئ والسامع على شرط وهو وجود الطهارة، فحيث وجد الشرط لزم؛ لكن موضع الترجمة من هذا الأثر قوله: «فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلاَ عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ» ؛ لأن هذا دليل النفل، والواجب لا يؤدى على الدابة في الأمن».
قوله: «وَكَانَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لاَ يَسْجُدُ لِسُجُودِ الْقَاصِّ» . فالقاص الذي يقص على الناس الأخبار والمواعظ ثم يقرأ آية فيها سجدة فيسجد ، فكان السائب بن يزيد لا يسجد؛ لأنه لا يرى وجوبها.
قال الحافظ رحمه الله: «قوله: «وَكَانَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ لاَ يَسْجُدُ لِسُجُودِ الْقَاصِّ» بالصاد المهملة الثقيلة: الذي يقص على الناس الأخبار والمواعظ، ولم أقف على هذا الأثر موصولاً».
ثم قال رحمه الله: «ومناسبة هذه الآثار للترجمة ظاهرة؛ لأن الذين يزعمون أن سجود التلاوة واجب لم يفرقوا بين قارئ ومستمع، قال صاحب «الهداية» من الحنفية: السجدة في هذه المواضع ـ أي مواضع سجود التلاوة ـ سوى ثانية الحج واجبة على التالي والسامع، سواء قصد سماع القرآن أو لم يقصد.».
وهذا ضعيف ، والصواب أن الذي لم يقصد سماع القرآن لا يشرع له.
ثم قال الحافظ: «وفرق بعض العلماء بين السامع والمستمع بما دلت عليه هذه الآثار، وقال الشافعي في البويطي: لا أؤكده على السامع كما أؤكده على المستمع. وأقوى الأدلة على نفي الوجوب حديث عمر المذكور في هذا الباب».
فكل هذه الآثار تدل على أن السجود غير واجب.
قال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «أقوى منه وأوضح في الدلالة على عدم وجوب سجود التلاوة حديث ابن عباس المتقدم في قراءة زيد بن ثابت على النبي ﷺ سورة النجم فلم يسجد فيها ولم يأمره النبي ﷺ بالسجود، ولو كان واجبًا لأمره به، والله أعلم»[(1052)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومن الأدلة على أن سجود التلاوة ليس بواجب ما أشار إليه الطحاوي من أن الآيات التي في سجود التلاوة منها ما هو بصيغة الخبر ومنها ما هو بصيغة الأمر، وقد وقع الخلاف في التي بصيغة الأمر هل فيها سجود أو لا؟ وهي ثانية الحج وخاتمة النجم واقرأ، فلو كان سجود التلاوة واجبًا لكان ما ورد بصيغة الأمر أولى أن يتفق على السجود فيه مما ورد بصيغة الخبر».
1077 قوله: «قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ» فعل عمر فيه: دليل على أن الخطيب إذا قرأ آية فيها سجدة فهو مخير: إن أحب أن يسجد سجد وإن أحب أن يستمر في الخطبة ولا يسجد فلا حرج عليه.
قوله: «حَتَّى إِذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ » فعمر علم الناس وبين لهم أن السجود على الاستحباب.
قال الحافظ رحمه الله: «قوله: «وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ » فيه توكيد لبيان جواز ترك السجود بغير ضرورة».
قوله: «لَمْ يَفْرِضْ السُّجُودَ إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ» . قال الحافظ رحمه الله: «واستدل بقوله: «لَمْ يَفْرِضْ» على عدم وجوب سجود التلاوة، وأجاب بعض الحنفية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب. وتعقب بأنه اصطلاح لهم حادث، وما كان الصحابة يفرقون بينهما، ويغني عن هذا قول عمر: «وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» كما سيأتي تقريره.
واستدل بقوله: «إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ» على أن المرء مخير في السجود، فيكون ليس بواجب.
وأجاب من أوجبه بأن المعنى إلا أن نشاء قراءتها فيجب، ولا يخفى بعده، ويرده تصريح عمر بقوله: «وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» ؛ فإن انتفاء الإثم عمن ترك الفعل مختارًا يدل على عدم وجوبه، واستدل به على أن من شرع في السجود وجب عليه إتمامه، وأجيب بأنه استثناء منقطع، والمعنى لكن ذلك موكول إلى مشيئة المرء، بدليل إطلاقه: «وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» .
وفي الحديث من الفوائد: أن للخطيب أن يقرأ القرآن في الخطبة، وأنه إذا مر بآية ينزل إلى الأرض ليسجد بها إذا لم يتمكن من السجود فوق المنبر، وأن ذلك لا يقطع الخطبة.
ووجه ذلك فعل عمر مع حضور الصحابة، ولم ينكر عليه أحد منهم، وعن مالك: يمر في خطبته ولا يسجد، وهذا الأثر وارد عليه».
المتن:
باب مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلاَةِ فَسَجَدَ بِهَا
1078 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ ﷺ فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلاَةِ فَسَجَدَ بِهَا» هذه الترجمة معقودة لبيان مشروعية سجدة التلاوة في الصلاة كما تشرع خارج الصلاة.
1078 قوله: «فَلاَ أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ» يعني: حتى أُتوفى، ورَدُّ أبي هريرة هذا فيه الرد على من كره السجدة في صلاة الفريضة.
وفيه: الرد على من أنكر أنه لا سجود في إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ولا غيرها من المفصل ، وأن العمل مستمر عليه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي الصَّلاَةِ فَسَجَدَ بِهَا» أشار بهذه الترجمة إلى من كره قراءة السجدة في الصلاة المفروضة، وهو منقول عن مالك، وعنه كراهته في السرية دون الجهرية وهو قول بعض الحنفية أيضًا وغيرهم».
وهذه الكراهة لا وجه لها ، والحجة في قول النبي ﷺ وفعله؛ وإذا خفي هذا على بعض العلماء يٌترحم عليهم ويٌدعى لهم ولكن لا يتبعون في اجتهاداتهم التي خالفوا فيها السنة، فكون بعضهم تأول أو أشكل عليهم أو لم يبلغهم ـ لا حجة فيه ـ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد تقدم النقل عمن زعم أنه لا سجود في إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] ولا غيرها من المفصل، وأن العمل استمر عليه بدليل إنكار أبي رافع، وكذا أنكره أبو سلمة، وبين أن النقل عن علماء المدينة بخلاف ذلك؛ كعمر، وابن عمر، وغيرهما من الصحابة والتابعين».
المتن:
باب مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ مِنْ الزِّحَامِ
1079 حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ.
الشرح:
1079 قوله: «كُانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ» فيه: تأكيد مشروعية سجود التلاوة، وأنها تشرع داخل الصلاة وخارجها، وتشرع للقارئ والمستمع ولو كثر المستمعون ولو حصل زحام، فإذا لم يجد مكانًا لجبهته يعمل ما يستطيع فيؤخر حتى يرفع ثم يسجد، أو يصبر حتى يقوم مَنْ أمامه، ثم يسجد، وكذلك في صلاة الفريضة، وكذلك لو سبقه الإمام بالسجود لكونه لم يسمع التكبير، أو للنعاس، ثم علم، فإنه يسجد، ثم يلحق الإمام، وهذا هو الأقرب والأصوب، وهو قول الجمهور.
فإن رفع من أمامه ولا يستطيع السجود على الأرض ؛ لشدة الزحام يسجد على ظهر المصلي أمامه للضرورة ، وهذا رأي آخر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ مِنْ الزِّحَامِ» أي: ماذا يفعل؟
قال ابن بطال: لم أجد هذه المسألة إلا في سجود الفريضة، واختلف السلف: فقال عمر: يسجد على ظهر أخيه ، وبه قال الكوفيون ، وأحمد ، وإسحاق؛ وقال عطاء والزهري: يؤخر حتى يرفعوا ، وبه قال مالك والجمهور».
وهذا هو الصواب؛ وهو أن يؤخر حتى يرفعوا ، فإن عجز ولم يجد مكانًا حتى لو رفعوا ، سجد على ظهر أخيه.
قال الحافظ رحمه الله: «وإذا كان هذا في سجود الفريضة فيجري مثله في سجود التلاوة، وظاهر صنيع البخاري أنه يذهب إلى أنه يسجد بقدر استطاعته ولو على ظهر أخيه».
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «كُانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ» زاد علي بن مسهر في روايته عن عبيد الله: «ونحن عنده» وقد مضى قبل باب.
قوله: «فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ» زاد الكشميهني قوله: «معه» .
قوله: «لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ» يعني: من الزحام، زاد مسلم في رواية له: «في غير وقت صلاة» [(1053)] ولم يذكر ابن عمر ما كانوا يصنعون حينئذ، ولذلك وقع الاختلاف كما مضى، ووقع في الطبراني من طريق مصعب بن ثابت، عن نافع في هذا الحديث: أن ذلك كان بمكة لما قرأ النبي ﷺ النجم، وزاد فيه: «حتى سجد الرجل على ظهر الرجل» [(1054)] وهو يؤيد ما فهمناه عن المصنف».
والذي يظهر أن هذا كان في المدينة بخلاف التي وقعت في مكة لما سجد وسجد معه المسلمون والمشركون فهذا كان في مكة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والذي يظهر أن هذا الكلام وقع من ابن عمر على سبيل المبالغة في أنه لم يبق أحد إلا سجد، وسياق حديث الباب مشعر بأن ذلك وقع مرارًا، فيحتمل أن تكون رواية الطبراني بينت مبدأ ذلك، ويؤيده ما رواه الطبراني أيضًا من رواية المسور بن مخرمة عن أبيه، قال: «أظهر أهل مكة الإسلام ـ يعني في أول الأمر ـ حتى إن كان النبي ﷺ ليقرأ السجدة فيسجد وما يستطيع بعضهم أن يسجد من الزحام، حتى قدم رؤساء أهل مكة وكانوا بالطائف فرجعوهم عن الإسلام» [(1055)]، واستدل به البخاري على السجود لسجود القارئ كما مضى ، وعلى الازدحام على ذلك».