المتن:
(19) كِتَاب التَّهَجُّد
باب التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَقَوْلِهِ : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسرَاء: 79]
1120 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: حدثنا سُفْيَانُ قال: حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ.
قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ: وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ.
قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ: سَمِعَهُ مِنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
قوله: «بَاب التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ» وذكر الآية وهي قوله ﷺ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسرَاء: 79]
والنافلة : هي الزيادة؛ يعني: زائدة في فرائضك، وقيل: المعنى: خالصة لك؛ لأن تطوع النبي ﷺ زيادة تقع خالصة؛ لكونه لا ذنب عليه، بخلاف تطوع غيره فإنه يكفر الذنوب.
1120 قوله: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ:...» هذا أحد الاستفتاحات التي يندب للإنسان أن يقولها إذا قام من الليل، وهو من أطول الاستفتاحات، وهو استفتاح عظيم له معان عظيمة.
قوله: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ يعني: المقيم لهما، والممسك لهما، فلا قيام للسموات والأرض إلا بالله ، ولا قيام لشيء من خلقه إلا به ، فهو قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، ولا وجود لمخلوقاته إلا بإيجاد الله لهم.
قوله: قَيِّمُ جاء في لفظ آخر: قيام [(2)] وجاء أيضًا: قّيُّومُ [(3)].
قوله: وَلَكَ الْحَمْدُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ فهو نورهما والهادي لمن فيهما.
قوله: وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ فكما أن السموات والأرض ومن فيهن لا تقوم إلا بالله فهو مالكهما .
قوله: وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ الحق من أسماء الله ، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النُّور: 25].
قوله: وَوَعْدُكَ الْحَقُّ فوعد الله حق.
قوله: وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ يعني: بعد الموت.
قوله: وَقَوْلُكَ حَقٌّ وهو كلامه .
قوله: وَالْجَنَّةُ حَقٌّ فلابد من الإيمان بها.
قوله: وَالنَّارُ حَقٌّ فلابد من الإيمان بها.
قوله: اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ إسلام الوجه: إخلاصه لله؛ أي: أخلصت لك عملي، قال تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البَقَرَة: 112].
قوله: وَبِكَ آمَنْتُ يعني: آمنت بألوهيتك، وربوبيتك، وأسمائك، وصفاتك؛ وصرفت لك العبادة.
قوله: وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ التوكل هو: الاعتماد على الله والثقة به، مع فعل الأسباب من غير الركون إليها، أو الاعتماد عليها؛ خلافًا لما يراه بعض المتصوفة وبعض أهل البدع من أن التوكل لا يلزم منه فعل الأسباب، فمعنى التوكل عندهم ترك الأسباب، وهذا خطأ؛ فالمتوكل هو الذي يتوكل على الله بفعل الأسباب، يأكل ويشرب ويبيع ويشتري ويبذر ويحرث ويزرع ويفعل الأسباب التي شرعها الله، ويتوكل على الله فتحصل النتيجة، فهكذا يكون عمله للآخرة، وهكذا يكون التوكل على الله؛ أما قول الصوفية: إن التوكل يكون ولو يترك الأسباب، فهو باطل.
قوله: وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ الإنابة هي: الرجوع إلى الله ، قال ابن القيم في مدارج السالكين
قوله: وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ التحاكم يكون إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
قوله: فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ جاء الدعاء بعد هذا التوسل العظيم.
فكأن النبي ﷺ يستفتح بهذا الاستفتاح العظيم وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه، فغيره ﷺ أولى بهذا الاستفتاح.
قوله: «قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ: وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» هذه الزيادة ضعيفة؛ لأن عبدالكريم أبا أمية ضعيف[(6)].
و «التَّهَجُّد» : هو قيام الليل، ودلت الآية والحديث: على مشروعية قيام الليل، وقد أجمع العلماء مشروعيته.
وأجمعوا على أن صلاة الليل ليست مفروضة على الأمة إلا من شذ[(1)]، فالصواب أنها غير واجبة؛ إذ ليس هناك دليل على فرضيتها على الأمة.
وأما عن وجوب صلاة الليل على النبي ﷺ ففيه خلاف؛ والصواب: أنها غير واجبة؛ إذ ليس هناك دليل صريح على الوجوب.
وهذا أحد الاستفتاحات التي كان يستفتح بها النبي ﷺ قيام الليل، وهو من الاستفتاحات الطويلة، وقد كان النبي ﷺ يستفتح باستفتاحات متعددة، منها:
الأول: ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم، ولفظه: كان النبي ﷺ إذا قام من الليل تهجد وقال: اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [(7)].
فهذا فيه توسل بربوبية الله لهؤلاء الملائكة الثلاثة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل؛ وذلك أن هؤلاء الملائكة الثلاثة وُكّل بهم ما فيه الحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي فيه حياة الأرواح والقلوب، وميكائيل موكل بالقطر والماء الذي فيه حياة الإنسان والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي فيه إعادة الأرواح إلى أجسادها، فلهذا توسل النبي ﷺ بربوبيته لهؤلاء.
الثاني: ما جاء من حديث علي عند مسلم أيضا: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [(8)].
الثالث: ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ كان إذا كبر قال: اللهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ [(9)].
وهذا أصح ما ورد في الاستفتاحات؛ لأنه أخرجه الشيخان، وهو استفتاح قصير يكون في الفريضة.
الرابع: ما جاء من حديث عمر وغيره: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرَكَ [(10)].
وهذا أفضل الاستفتاحات من جهة ذاته؛ لأنه ثناء على الله[(11)]؛ ولهذا اختاره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وجماعة، وهو استفتاح قصير يحفظه العامة، وكان عمر يلقنه الناس على منبر النبي ﷺ.
تنبيه:
لا ينبغي أن يُستفتح في الفريضة بالاستفتاحات الطويلة؛ لأن المستفتح إن كان إمامًا شق على الناس، وإن كان مأمومًا فقد يركع الإمام قبل أن يقرأ الاستفتاح، والمشروع أن تكون تلك الاستفتاحات الطويله في قيام الليل؛ لأنه مبني على التطويل، أما الفرائض فتستفتح بالاستفتاحات القصيرة.
التوكل هو: الاعتماد على الله والثقة به، مع فعل الأسباب من غير الركون إليها، أو الاعتماد عليها؛ خلافًا لما يراه بعض المتصوفة وبعض أهل البدع من أن التوكل لا يلزم منه فعل الأسباب، فمعنى التوكل عندهم ترك الأسباب، وهذا خطأ؛ فالمتوكل هو الذي يتوكل على الله بفعل الأسباب، يأكل ويشرب ويبيع ويشتري ويبذر ويحرث ويزرع ويفعل الأسباب التي شرعها الله، ويتوكل على الله فتحصل النتيجة، فهكذا يكون عمله للآخرة، وهكذا يكون التوكل على الله؛ أما قول الصوفية: إن التوكل يكون ولو يترك الأسباب، فهو باطل.
وقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، أي: فوضت الأمر إليك، تاركًا النظر في الأسباب العادية».
هذا خطأ؛ فالأسباب لابد من فعلها؛ ولهذا آثار شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله إلى هذا بقوله: «ليس هذا التفسير بجيد، والصواب في تفسير التوكل عند أهل التحقيق أنه الاعتماد على الله والثقة به، والإيمان بأنه مقدِّر الأشياء ومدبِّر الأمور كلها، مع النظر في الأسباب العادية من العبد وقيامه بها» [(4)].
فإذا التوكل مركب من شيئين:
أحدهما: الاعتماد على الله والثقة به والتفويض إليه؛ لكونه قد علم الأشياء وقدرها، ولكونه له القدرة الشاملة والمشيئة النافذة.
الثاني: النظر من العبد في الأسباب الدينية والدنيوية وقيامه به.
فعلى الإنسان أن يجتهد ويفعل الأسباب ثم يتوكل على الله في حصول النتيجة، وقد تحصل النتيجة وقد لا تحصل؛ قال رسول الله ﷺ: لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا [(5)]، فالطير تغدو خماصًا؛ يعني: تذهب من أوكارها في الصباح جائعة ضامرة البطون، وتروح بطانًا؛ أي: شبعة ممتلئة البطون، والمعنى أنها تقوم بفعل الأسباب.
وكذلك الإنسان مأمور بفعل الأسباب، فيتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة ويتوكل عليه عز وجل في أن يدخله الجنة بهذه الأعمال الصالحة، فيوحد الله ويخلص له في العبادة ويؤدي الفرائض وينتهي عن المحارم.
أما قول بعض الجبرية والصوفية: كما أثرنا إن الأسباب تترك، وإن الله إن قدر دخول الإنسان الجنة أدخله، من غير فعل للأسباب فهذا من أبطل الباطل.
المتن:
باب فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ
1121 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قال: حدثنا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنا مَعْمَرٌ وحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ قال: حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ، إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكُنْتُ غُلاَمًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ، قَالَ فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ.
1122 فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَكَانَ بَعْدُ لاَ يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً.
الشرح:
قوله: «بَاب فَضْلِ قِيَامِ اللَّيْلِ» هذه الترجمة معقودة لبيان فضل قيام الليل، فقيام الليل فضله عظيم، وهو دأب الصالحين والأخيار من الأنبياء والعلماء والعباد، وله مدخل كبير في صلاح القلوب وصلتها بالله ؛ قال الله تعالى عن عباده المحسنين: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذّاريَات: 17-18]، وقال : تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السَّجدَة: 16].
1121، 1122 قوله: «كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ، إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» ؛ كي يفسرها النبي ﷺ له.
قوله: «وَكُنْتُ غُلاَمًا شَابًّا» ، عزبًا قارب البلوغ.
قوله: «وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» ، فتمنى أن يرى رؤيا فيقصها على رسول الله ﷺ مثل ما يرى الناس.
وفيه: جواز النوم في المسجد.
وفيه: الرد على من كره ذلك، لكن لا ينبغي للإنسان أن يعتاد النوم في المسجد، وإنما يفعل ذلك إذا دخل المسجد وكان محتاجًا إلى النوم؛ ولهذا لم ينكر النبي ﷺ على علي نومه في المسجد؛ فقد نام علي في المسجد وجاءه النبي ﷺ وقد علق به التراب، فجعل ﷺ يمسح التراب عنه ويقول: قُمْ أَبَا تُرَابٍ [(12)].
قوله: «قَرْنَانِ» أي: خشبتان أو بناءان تمد عليهما الخشبة العارضة التي تعلق عليها الحديدة التي فيها البكرة وهي معروفة، وقد تكون من خشب عن يمين البئر وعن يسارها، وقد تكون ببناء حائطين أو منارتين عن يمين وعن يسار، وتوضع خشبة في الوسط، ثم توضع البكرة فيجعل فيها الحبل الذي ينزل في البئر.
قوله: «وَإِذَا فِيهَا» يعني: النار.
قوله: «أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ» أي: عرفهم عبد الله .
قوله: «فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ، قَالَ فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ» يعني: لم تخف، فيهدئ من روعه، والمعنى: لا خوف عليك بعد هذا.
فانتبه عبدالله من النوم ففزع وقص الرؤيا على أخته حفصة رضي الله عنهما، وهي أم المؤمنين زوج النبي ﷺ، «فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ» ، فدل الحديث على مشروعيته قيام الليل والحث عليه.
وقوله: لَوْ هنا للتمني.
قوله: «فَكَانَ بَعْدُ لاَ يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً» يعني: عبدالله؛ فقد استفاد وانتفع من هذه الموعظة، فكان بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً.
وفيه: دليل على أن قيام الليل من أسباب الوقاية من النار والسلامة منها.
وفيه: دليل ـ أيضًا ـ على أن قيام الليل له تأثير وسر في دفع عذاب النار؛ فقد حصل لعبدالله تنبيه على أن قيام الليل مما يتقى به من النار ومن الدنو منها؛ فلذلك لم يترك بعد ذلك قيام الليل، وفي الحديث: يقول النبي ﷺ: وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ [(13)] يعني: وصلاة الرجل في جوف الليل تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، كل هذا يدل على فضل قيام الليل.
المتن:
باب طُولِ السُّجُودِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ
1123 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَني عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاَتَهُ، يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُنَادِي لِلصَّلاَةِ.
الشرح:
قوله: «بَاب طُولِ السُّجُودِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ» هذه الترجمة معقودة لبيان طول السجود في قيام الليل.
1123 قولها: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاَتَهُ» يعني: هذا الغالب في صلاته ﷺ بالليل، وقد يصلي ثلاث عشرة ركعة[(14)]، وقد يصلي تسعًا، وقد يصلي سبعًا[(15)].
قولها: «يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ» فيه: بيان طول السجود والصبر عليه، وإذا كان هذا طول السجود فكيف بالقيام؟ ومما يدل على مشروعيته طول القيام ما جاء في حديث حذيفة : «أنه ﷺ قرأ مرة البقرة والنساء وآل عمران في ركعة واحدة» [(16)]؛ إذن فقيام الليل مشروع فيه طول القيام والسجود، وهذا على حسب استطاعة الإنسان ونشاطه.
المتن:
باب تَرْكِ الْقِيَامِ لِلْمَرِيضِ
1124 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قال: حدثنا سُفْيَانُ عَنْ الأَْسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: اشْتَكَى النَّبِيُّ ﷺ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ.
1125 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنا سُفْيَانُ عَنْ الأَْسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ ﷺ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَبْطَأَ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ، فَنَزَلَتْ: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضّحى: 1-3].
الشرح:
قوله: «بَاب تَرْكِ الْقِيَامِ لِلْمَرِيضِ» هذه الترجمة فيها: بيان ترك قيام الليل للمريض؛ لأن المريض معذور، فإذا كان يقوم الليل ثم مرض وترك قيام الليل لمرضه فلا حرج عليه، والله تعالى يكتب له ما كان يعمله في حال صحته؛ كما في حديث أبي موسى الأشعري أن النبي ﷺ قال: إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا [(17)] وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه على عباده؛ فالسفر يمنع الإنسان راحته ونومه وأكله وشربه ـ على المعتاد ـ ولهذا شرع الله للمسافر قصر الرباعية ركعتين، وشرع له الفطر، وشرع له الجمع بين الصلاتين، وشرع له المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها، فإذا ترك قيام الليل لعارض مرض أو سفر فإن الله يكتب له ما كان يعمله في الحضر، وحال صحته.
1124 قوله: «اشْتَكَى النَّبِيُّ ﷺ» أي: مرض.
قوله: «فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ» أي: لصلاة الليل.
1125 قوله: «احْتَبَسَ جِبْرِيلُ ﷺ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ» وهي امرأة كافرة من قريش هي أم جميل حمالة الحطب كما قال الحافظ.
قولها: «أَبْطَأَ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ» لما تأخر نزول الوحي على النبي ﷺ قالت هذه المرأة ما قالت تهكمًا وشماتة، فأنزل الله : وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضّحى: 1-3] يعني: ما تركك ربك وما أبغضك، فرد على تلك المرأة.
وقال بعضهم: إن هذا الحديث لا توجد مناسبة بينه وبين الترجمة، لكن الحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر أن آخر الحديث فيه ما يدل على الترجمة، والمؤلف قد ذكره هاهنا مختصرًا.
قال العيني: «مطابقته للترجمة من حيث أن هذا من تتمة الحديث السابق، ويدفع بهذا ما قاله ابن التين: ذكر احتباس جبريل، عليه الصلاة والسلام، في هذا الباب ليس في موضعه، وذلك لأن الحديث واحد لاتحاد مخرجه، وإن كان السبب مختلفا».
المتن:
الشرح:
قوله: «بَاب تَحْرِيضِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى صَلاَةِ اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ» هذه الترجمة معقودة لبيان ترغيب النبي ﷺ وحثه على صلاة الليل، وعلى صلاة النوافل لكن من غير إيجاب؛ فهي مستحبة، والواجب هو الفرائض، فالله تعالى لم يوجب إلا الفرائض.
قوله: «وَطَرَقَ النَّبِيُّ ﷺ فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا» يعني: طرق عليهما الباب ليلاً، وهذا من باب الحث والترغيب على القيام للصلاة لا من باب الإيجاب.
المتن:
الشرح:
1126 قوله: مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ؟ فيه: دليل على أن فتح الخزائن والأموال والدنيا على الناس يترتب عليها حصول الفتن.
الإنزال يأتي بمعنى الخلق كقول الله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزُّمَر: 6]، وقوله : وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحَديد: 25]، وقوله: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفُرقان: 48] يعني: خلقنا.
وما في الحديث واقع مشاهد الآن؛ فإنه لما فتحت الدنيا على الناس حصل معه فتن وشرور، وقد كان الناس قبل أن تفتح الدنيا عليهم ما الناس يعرفون الخدم والخادمات، ومثل ما قال عقبة بن عامر : «كنا خدام أنفسنا»، فكان الصحابة يخدمون أنفسهم، أما الآن فقد فتحت علينا الدنيا، فالناس في الماضي إذا وجدوا أجنبية عند رجل تخدمه صاحوا كلهم إنكارا، أما الآن فلا أحد ينكر مع أن هذا منكر عظيم وسبب للفتنة والشر، وهذا من الفتن التي أنزلت لما فتحت الدنيا والخزائن على الناس.
ومن هذه الفتن أن الأموال لما كثرت في أيدي الناس صار الناس يتعاملون بالربا، ويتجرؤن على المحرمات، ويتوسعون في معايشهم بسرف منهي عنه في المأكل والمشرب والمركب.
ومن هذه الفتن أيضا ما فتح على الناس من الفضائيات الهابطة.
فكل هذا من أسباب فتح الدنيا، وقد كان الناس في عافية من هذا قبل أن تفتح الدنيا عليهم.
وجاء في حديث أن النبي ﷺ قال: وَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ [(18)] فالنبي ﷺ لا يخشى على الناس الفقر؛ فهم في ضيق الفقر والحاجة أقرب إلى الاستقامة منهم في وقت الغنى والسعة والمال، فهم يصبرون على الفقر ولا يصبرون على الغنى؛ ولهذا قال بعض السلف: «ابتلينا بالفقر فصبرنا، وابتلينا بالغنى فلم نصبر» [(19)]؛ نسأل الله أن يسلمنا من الفتن.
ولهذا خاف النبي ﷺ ذلك كما في هذا الحديث أنه ﷺ: «استيقظ ليلة» ، وفي اللفظ الآخر: «أنه فزع» أي: استيقظ ليلاً ففزع، كما في حديث أم سلمة وحديث أم حبيبة أنه ﷺ استيقظ فزعًا يقول: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ، وَمأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا [(20)] ولهذا قال النبي ﷺ: مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتْنَةِ؟ مَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْخَزَائِنِ؟.
قوله: مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ يعني: من يوقظهن للصلاة؟
وفيه: دليل على أن صلاة الليل لها سر في العافية من الفتن والسلامة منها.
قوله: يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآْخِرَةِ فهي كاسية في الدنيا بالثياب لكنها عارية في الآخرة الثواب؛ بسبب ضعف إيمانها وتقواها.
المتن:
الشرح:
1127 قوله: أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟ فيه: تحريض النبي ﷺ على قيام الليل من غير إيجاب.
قوله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ» أي: أبداننا وأرواحنا.
قوله: «فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا» أي: فليس القيام باختيار أنفسنا بل بيد الله.
قوله: «فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا» أي: لم يرد عليه شيئًا من الكلام.
قوله: «ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف: 54]» فيه: بيان أن هذا الكلام من عليٍّ غير مناسب؛ وإنما الذي ينبغي لمن أُمر بالخير ونُصح أن يقول: جزاك الله خيرًا سأفعل إن شاء الله.
وفي الحديث: بيان فضل علي ؛ حيث روى هذا الحديث وهو ليس في صالحه، لكن هذا من كماله ، فقد أراد أن ينشر العلم ولو كان هذا فيه غض منه.
وفيه: أنه لا بأس بضرب الفخذ عند التأسف.
وفيه: أنه لا بأس في الانتزاع من الآية والاستشهاد به، وهو هنا قوله تعالى: الإِنْسَانُ عامة تشمل المؤمن والكافر.
المتن:
الشرح:
1128 قولها: «لَيَدَعُ الْعَمَلَ» أي: يتركه، وهذا من رأفته بأمته ﷺ.
ويستفاد من الحديث بيان نصح النبي ﷺ ورأفته بأمته؛ فهو كما وصفه ربه تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التّوبَة: 128].
قولها: «وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ» أي: فيفرض عليهم فيعجزوا عن أدائه، كما ترك قيام الليل في رمضان خشية أن يفرض على الناس، فصلى بهم صلاة القيام ليلتن أو ثلاث ليال ثم تركها خشية ذلك، كما في الحديث الذي بعده.
قولها: «وَمَا سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا» أي: ما صلى رسول الله ﷺ صلاة الضحى قط، وإني لأصليها، فهي قد نفت أن النبي ﷺ صلى الضحى، وقالت: إنها تصليها، وهذا النفي من عائشة محمول على أنها نسيت؛ فقد ثبت عنها رضي الله عنها فيما رواه مسلم أنها قالت: «إن النبي ﷺ كان يصلي من الضحى أربعًا ويزيد ما شاء الله»[(21)].
وثبت في الصحيحين عن أم هانئ رضي الله عنها: «أن النبي ﷺ صلى يوم الفتح ثمان ركعات» [(22)]، تعني: صلاة الضحى.
وثبت في الصحيحين: «أن النبي ﷺ صلى في بيت عتبان ركعتين بعد ما ارتفع النهار» [(23)]، يعني: صلاة الضحى.
وأوصى النبي ﷺ أبا هريرة[(24)] وأبا الدرداء[(25)] رضي الله عنهما بصلاة الضحى، فصلاة الضحى سنة مؤكدة، والسنة تثبت بقول النبي ﷺ وفعله وتقريره؛ والقول أبلغ، فالنبي ﷺ حينما أمر أبا هريرة وأبا الدرداء رضي الله عنهما بصلاة الضحى ثبتت سنيتها، وهي ثابتة ـ أيضًا ـ من فعله ﷺ.
وفي الحديث: أن العالم الذي يُعلَّم الناس له أن يترك في بعض الأحيان الشيء المستحب؛ لئلا يظن الناس أنه واجب عليهم، مثل الذي يترك القنوت في الوتر في ليالي رمضان بعض الأحيان؛ حتى يعلم الناس أنه ليس بواجب، كذلك الذي يترك قراءة الم السجدة يوم الجمعة بعض الأحيان؛ حتى لا يعتقد العامة أنها واجبة.
المتن:
الشرح:
1129 قولها: «فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ» فيه: جواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة؛ فإنهم اقتدوا به وهو لم ينو الإمامة، ويدل لذلك ـ أيضًا ـ حديث ابن عباس حين صلى النبي ﷺ وصلى بجواره ابن عباس في الليلة التي بات فيها عند ميمونة رضي الله عنها خالته[(26)].
وفي الحديث: أن النبي ﷺ صلّى في الليلة الأولى، وجاء أنها ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بصلاته ناس، ثم لم يخرج في الليلة التي بعدها فصلى بهم ليلة خمس وعشرين فكثر الناس، ثم لم يخرج ليلة ست وعشرين فخرج ليلة سبع وعشرين فاجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة حتى عجز المسجد عن أهله[(28)]، ثم في الليلة الرابعة لم يخرج، وهنا فيه شك في الليلة الثالثة أو الرابعة، والأقرب أنها في الليلة الرابعة.
قولها: «فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ يعني: من اجتماعكم وإرادتكم للخير، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ يعني: صلاة قيام الليل، «وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» .
فلما أمن من فرضية قيام الليل بموت النبي ﷺ صلى الناس التراويح جماعة، وجمعهم عمر على إمام واحد بعد أن كانوا يصلون أوزاعًا في حياة النبي ﷺ وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر ، واستمر هذا إلى يومنا هذا؛ فالتراويح سنة نبوية جمع الناس عليها عمر ؛ ولهذا قال: «نعمت البدعة هذه»، وقوله: بدعة؛ أي: من جهة اللغة لا من جهة الشرع؛ حيث إنه أَحْدَث جمعهم على إمام واحد بعد أن كانوا يصلون أوزاعًا، وإن كانوا صلوا خلف النبي ﷺ جماعة، لكن بعدما انقطعت الجماعة أعادها عمر فسماها بدعة[(29)].
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله هذا حيث قال: «فيه جواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة كما تقدم، وفيه: نظر لأن نفي النية لم ينقل ولا يطلع عليه بالظن».
وقال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «هذا النظر ليس بجيد؛ والصواب جواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة عمدًا بظاهر هذا الحديث»[(27)].