المتن:
باب قِيَامِ النَّبِيِّ ﷺ اللَّيْلَ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها : «حَتَّى تَفَطَّرَ قَدَمَاهُ» وَالْفُطُورُ: الشُّقُوقُ انْفَطَرَتْ[الانفِطار: 1] انْشَقَّتْ.
1130 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قال: حدثنا مِسْعَرٌ عَنْ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ يَقُولُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: فَيَقُولُ: أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا.
الشرح:
قول عائشة رضي الله عنها: «حَتَّى تَفَطَّرَ قَدَمَاهُ» فيه: اجتهاد النبي ﷺ في قيام الليل.
1130 قوله: «إِنْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ» يعني: تتورم قدماه، وفي لفظ: «حتى تتشقق» [(30)].
قوله: «فيقال له» يعني: يُسأل في ذلك، ويقال له: لو رفقت بنفسك يا رسول الله.
قوله: أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا فالنبي ﷺ يفعل هذه العبادة العظيمة، فيقوم الليل حتى تتورم قدماه، مع أنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكنه يفعل ذلك شكرًا لله وتعبدًا له، وتلذذًا بالعبادة، ولتقتدي به أمته قال بعض السلف لما قال الله : اعْمَلُوا آلَ دَاوودَ شُكْرًا [سَبَإ: 13] لم يأت عليهم ساعة من ليل أو نهار إلا وفيهم مصل يصلي[(31)].
لكن الأمة مأمورة بأن تفعل ما تستطيع، كما في الحديث: اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ، حَتَّى تَمَلُّوا [(32)] والحكمة في ذلك حتى يأتي المسلم بالعبادة بنشاط وعدم ملل؛ ولهذا جاء في الحديث: إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم، فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه [(33)] وهذا في قيام الليل، فإذا كثر النعاس ينبغي للإنسان أن ينام؛ لأنه إذا استمر في النعاس قد يذهب يستغفر فيسب نفسه ـ أي: أنه يخطئ بسبب غلبة النعاس ـ، فالإنسان مأمور بأن يأتي العبادة في وقت النشاط، فعمل قليل يأتيه بنشاط خير من عمل كثير يأتيه بكسل وملل وتثاقل.
المتن:
باب مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ
1131 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: حدثنا سُفْيَانُ قال: حدثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُ: أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا.
1132 حَدَّثَنِي عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَني أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَشْعَثَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ؟ قَالَتْ: الدَّائِمُ، قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنا أَبُو الأَْحْوَصِ عَنْ الأَْشْعَثِ قَالَ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ فَصَلَّى.
1133 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قال: حدثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ذَكَرَ أَبِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلاَّ نَائِمًا تَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ» هذه الترجمة للنوم عند السحر؛ فما تأويل ذلك؟ وهل نام النبي ﷺ وقت السحر؟ سيأتي الكلام على هذا في شرح الأحاديث.
1131 قوله في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي ﷺ أخبره أن: أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وذلك أن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان شابًّا قويًا، مجتهدًا في العبادة محبا للخير، كان يقوم الليل ويصوم النهار مستمرًّا على هذا، فبلغ النبي ﷺ حاله فأرسل إليه وأمره أن يرفق بنفسه وقال له: قُمْ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ [(34)] فبين له النبي ﷺ أنه ينبغي له أن يصلي من الليل ما تيسر ثم ينام، حتى قال: يا رسول الله، أنا أطيق أكثر من ذلك. فأمره النبي ﷺ أن يصلي صلاة داود ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، فداود ينام النصف الأول ثم يقوم السدس الرابع والخامس ثم ينام السدس الأخير؛ ليتقوى على العبادة؛ لأنه كان حاكمًا يحكم بين الناس؛ كما في قوله تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26].
فلابد أن يتقوى الإنسان بالنوم على عمل النهار، وكان النبي ﷺ إذا صلى العشاء أوى إلى فراشه، فينام نصف الليل الأول، فإذا مضى نصف الليل قام فصلى السدس الرابع والسدس الخامس، فالليل ستة أسداس؛ الثلاثة الأسداس الأولى ينام فيها، ثم يقوم ويصلي السدس الرابع والخامس، ثم ينام السدس السادس وهو وقت السحر؛ ليتقوى به على عمل النهار، وهذا فعل داود .
ولذلك ترجم المصنف رحمه الله بقوله: «بَاب مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ» .
أما الصيام فكان عبد الله يصوم الدهر كله، فقال له النبي ﷺ: صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا [(35)]. أي: أن كل يوم بعشرة أيام، وقد قال ﷺ: من صام ثلاثة أيام من كل شهر فكأنما صام الدهر كله [(36)] قال عبد الله: يا رسول الله، إني أطيق أكثر من ذلك. قال: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ قال: يا رسول الله، إني أطيق أكثر من ذلك. فقال له: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ ، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ قال: يا رسول الله، إني أطيق أكثر من ذلك. فقال: لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ [(37)].
فمنعه من الزيادة عن صوم نصف الدهر، وهذا إذا كان عند الإنسان فراغ وليس عنده أعمال، أما إذا كان عنده أعمال وصومه يكون سببًا في تعطيله عن الكسب فلا ينبغي أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، يكفيه من الصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم الإثنين والخميس، ولا يشقَ على نفسه؛ ولهذا لما كبرُ عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما في السن، وصار يشق عليه الصوم بعد ذلك، قال: «يا ليتني قبلت رخصة رسول الله ﷺ» [(38)]. فكان بعد ذلك يسرد الصوم ستة أيام أو سبعة أيام، ثم يفطر ستة أيام أو سبعة أيام مثلها؛ حتى يتقوى، وهذا ليس بواجب عليه، لكنه أحب ألا يترك شيئًا وافقه النبي ﷺ عليه.
وفي قراءة القرآن كان عبدالله يختمه كل يوم فقال له النبي ﷺ: اخْتِمْهُ فِي شَهْرٍ قال: يا رسول الله، إني أطيق أكثر من ذلك. قال: اخْتِمْهُ فِي عِشْرِينَ يومًا قال: أطيق أكثر من ذلك. حتى قال: اختمه في سبع ولا تزد على ذلك [(39)]. فتوقف عند سبعة أيام يختم فيها القرآن.
1132 قوله: «أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ؟ قَالَتْ: الدَّائِمُ» يعني: الذي داوم عليه صاحبه.
وفيه: الحث على المداومة على العمل وإن قل؛ فقد جاء في الحديث الآخر: أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ [(40)].
فالإنسان الذي يصلي كل يوم أربع ركعات أو خمس ركعات من آخر الليل أو من أول الليل أفضل من أن يصلي ليلة إحدى عشرة ركعة وليلة ثانية ركعتين وليلة أخرى لا يصلي؛ فالعمل الدائم وإن قل أفضل من العمل المتقطع وإن كثر.
قولها: «يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ» الصارخ: هو الديك، فالديِكَة تصرخ في منتصف الليل وفي الثلث الأخير منه، ولها عناية في تقسيم الليل.
في الحديث الذي بعده قال: «إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ فَصَلَّى» .
1133 قولها: «مَا أَلْفَاهُ» يعني: ما وجده.
قولها: «السَّحَرُ» بالرفع فاعل، يعني: ما وجده السحر عندي إلا نائمًا، والمراد نومه بعد قيامه الذي مبدؤه عند سماع الصارخ؛ جمعًا بينه وبين رواية مسروق في الحديث الذي قبله، والصارخ يكون في منتصف الليل، وفي ثلث الليل الأخير؛ ففي حديث ابن عباس: كان إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام ﷺ[(41)]. وكان نومه ﷺ قبل ذلك.
فإذا قيل: إنه كان يقوم ثلث الليل الأخير. قلنا: إن النبي ﷺ كان ينام أول الثلث الأخير من الليل، فإذا سمع الصارخ قام، فيوافق معنى قولها، فيكون قيام النبي ﷺ ونومه موافقًا لقيام داود ونومه، ويحمل على أنه ﷺ كان يقوم إذا سمع صوت الصارخ بعد نصف الليل، فيقوم السدس الرابع والسدس الخامس، ثم ينام السدس السادس ليتقوى به على أعمال النهار، هذا فعل النبي ﷺ.
إذن ففعل النبي ﷺ يوافق أحيانًا فعل داود، وأحيانًا يقوم ثلث الليل الآخر كله، وأحيانًا ينام السدس الرابع ويقوم السدس الخامس والسادس؛ لأنه وقت التنزل الإلهي كما في حديث عائشة الآخر: «من كل الليل أوتر رسول الله ﷺ؛ من أوله وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر» [(42)]. وكما في الحديث المتواتر عن النبي ﷺ: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، وهو السدسان الخامس والسادس، مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ [(43)] فالأحاديث بهذا تجتمع ولا تفترق.
ويؤيد التأويل الأول رواية مسلم: «ما ألفاه السحر الأعلى عندي إلا نائمًا» [(44)]. فهذا يؤيد أن نومه كان في أول السحر الأعلى أي: الأول، يعني: أنه كان ينام إلى مبدأ ثلث الليل الأخير، ثم يقوم ويصلي الثلث الأخير، فأحيانًا يصلي السدسين الرابع والخامس، وأحيانًا يصلي الخامس والسادس.
ووقت الثلث الأخير يختلف باختلاف الليل والنهار، فتستطيع أن تعرف هذا بالنظر إلى ما بين أذان المغرب وأذان الفجر فإذا قسمته على ثلاثة، ينتج لك ثلث الليل الأخير، وفي الصيف يكون الليل قصيرًا، وفي الشتاء يكون الليل طويلاً، وفي الخريف يكون وسطًا، فهو يختلف باختلاف الأوقات من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
ومن الأفضل إذا قام الإنسان لصلاة الليل أن ينوّع في وقت القيام؛ فالتنوع أفضل، وقد يختلف هذا باختلاف حال الشخص؛ فإذا كان صاحب أشغال وأعمال فالأفضل أن يفعل مثلما كان يفعل داود؛ يصلي السدسين الرابع والخامس وينام السدس الأخير؛ حتى يتقوى على العمل، وإذا كان صاحب وظيفة أخرى يصلي السدس الأخير؛ لأنه وقت التنزل الإلهي.
المتن:
باب مَنْ تَسَحَّرَ فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ
1134 حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قال: حدثنا رَوْحٌ قال: حدثنا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا، قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى قُلْنَا: لأَِنَسٍ كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: كقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَة.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ تَسَحَّرَ فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ» هذه الترجمة معقودة لبيان أن من تسحر فإنه لا ينام حتى يصلي الصبح؛ لأن الأفضل نهاية السحور قبيل الفجر، لأنه يخشى على من ينام فوات صلاة الصبح.
1134 قوله: «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا، قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ إِلَى الصَّلاَةِ» يعني: صلاة الفجر، فالنبي ﷺ لم ينم بعد تسحره.
قوله: «قُلْنَا: لأَِنَسٍ كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: كقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَة» هذا دليل على أن النبي ﷺ كان يؤخر السحور، فالسنة تأخير السحور ما لم يخش طلوع الفجر؛ لقوله هنا: «الصلاة» ، وهي الفريضة.
المتن:
باب طُولِ الْقِيَامِ فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ
1135 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قال: حدثنا شُعْبَةُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةً فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ قُلْنَا: وَمَا هَمَمْتَ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِيَّ ﷺ.
الشرح:
قوله: «بَاب طُولِ الْقِيَامِ فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ» هذه الترجمة معقودة لبيان طول القيام في صلاة الليل.
1135 قوله: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةً فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا» يعني: أنه أطال القيام ﷺ.
قوله: «حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ قُلْنَا: وَمَا هَمَمْتَ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِيَّ ﷺ» يعني: أنه هَمَّ بالجلوس لطول القيام وهو شاب، والنبي ﷺ كان كهلاً في ذلك الوقت، ومع ذلك أطال القيام حتى شق ذلك على عبدالله بن مسعود وهمَّ بأن يجلس ويترك النبي ﷺ من طول القيام قال النووي: «فيه أنه ينبغي الأدب مع الأئمة الكبار، وأن لا يخالفوا بفعل ولا قول ما لم يكن حراما، واتفق العلماء على أنه إذا شق على المعتدي في فريضة أو نافلة القيام وعجز عنه جاز له العقود، وإنما لم يقعد ابن مسعود للتأدب مع النبي ﷺ» [(45)].
وفي حديث حذيفة : «أن النبي ﷺ قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة» [(46)]، وفي حديث عائشة رضي الله عنها الذي سبق: أن مقدار السجدة الواحدة في صلاته بالليل كانت قدر قراءة خمسين آية[(47)]. وهي بقدر ما بين فراغه من السحور ودخوله في صلاة الفجر.
ولكن هذا بحسب الاستطاعة، فالنبي ﷺ كان يأخذ بالأمر الأشد تعبدًا لله وشكرًا لله ـ كما قال لما سئل عن طول قيامه: أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا [(48)] ـ ولتقتدي به أمته ﷺ، أما المسلم فيفعل ما يستطيع وما يقدر عليه، ولا ينبغي له أن يقوم الليل وهو نافلة، ويترك واجبًا كالقيام على طلب المعيشة، فلا يترك واجبًا من أجل النافلة، ولكن عليه أن يقارب بين الأعمال، وخير الأعمال أدومها وإن قلّ.
المتن:
الشرح:
ومناسبة هذا الحديث للترجمة أن التسوك يطرد النعاس ويعين على التهجد؛ ولهذا ذكره في هذا الباب.
1136 قوله: «يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ» الشوحى: هو ذلك الإنسان بالسواك[(49)]، فيه: استحباب السواك عند الصلاة، وهو مشروع عند الصلاة وعند الوضوء وعند دخول البيت، ومستحب في هذه الأوقات، وهو مشروع في كل وقت إلا أنه يتأكد في مثل هذه الأوقات.
المتن:
باب كَيْفَ كَانَ صَلاَةُ النَّبِيِّ ﷺ وَكَمْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ؟
1137 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَني سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : إِنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ صَلاَةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ.
الشرح:
قوله: «بَاب كَيْفَ كَانَ صَلاَةُ النَّبِيِّ ﷺ وَكَمْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ» هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان كيف كانت صلاة النبي ﷺ بالليل؟ وكم كان يصلي من الليل؟ لتقتدي به أمته ﷺ؛ لأنه هو الأسوة الحسنة لقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزَاب: 21].
1137 قوله: مَثْنَى مَثْنَى يعني: ركعتين ركعتين يفصل بين كل ركعتين بسلام وجاء في صحيح مسلم التصريح بذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، حيث سئل ما مَثْنَى مَثْنَى؟ فقال: «أن تسلم من كل ركعتين»[(50)].
وفيه: دليل على أنه لا يصح أن يصلي في الليل أربعًا بسلام واحد، فلو صلى أربعًا بسلام واحد في صلاة الليل لم تصح الصلاة، وإذا قام إلى ثالثة ثم تذكر عليه أن يجلس ثم يتشهد إن لم يكن تشهد ويسجد سجدتي السهو، إلا في الوتر فله أن يصليه ثلاثًا بسلام واحد، أو خمسًا بسلام واحد، أو سبعًا بسلام واحد، أو تسعًا؛ لكن يجلس في الثامنة ثم يتشهد ثم يقوم ويصلي التاسعة فله ذلك، أما غير الوتر فإنه لا يجوز له إلا أن يصلي مثنى مثنى؛ عملاً بهذا الحديث.
مسألة:
اختلف العلماء في صلاة النهار؛ هل للإنسان أن يصلي أربعًا بسلام واحد؟
القول الأول: قال به الجمهور أنه يجوز ذلك، فله أن يصلي أربع ركعات بسلام واحد.
القول الثاني: أنه ليس له ذلك؛ واستدلوا بحديث: صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى [(52)] بزيادة: وَالنَّهَارِ وهذه الزيادة رواها علي بن عبدالله البارقي ـ وهو ثقة ـ بسند جيد، وروى هذا الحديث أحمد رحمه الله وأصحاب السنن؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن صلاة النهار كالليل لا تصلى إلا مثنى مثنى؛ أخذًا بهذه الرواية.
وطعن الجمهور في هذه الزيادة؛ فقال النسائي لما رواها في سننه: «هي خطأ»؛ لأن علي بن عبدالله البارقي وإن كان ثقة إلا أنه خالف من هو أوثق منه، وإذا خالف الثقة من هو أوثق منه تكون زيادته شاذة.
وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذا الحديث فقال: إن في الحديث ما يدل على عدم صحة هذه اللفظة؛ لأن لفظه: صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فليوتر بواحدة قال: فالزيادة في قوله: فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فليوتر بواحدة لا تناسب: وَالنَّهَارِ، فدل على أن المراد بها الليل لا النهار[(53)].
المتن:
الشرح:
1138 حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما يدل على أن النبي ﷺ كان في بعض الأحيان يصلي ثلاث عشرة ركعة، وفي حديث عائشة أنه كان في الأغلب يصلي إحدى عشرة ركعة؛ ففيه أنها قالت: «ما كان رسول الله ﷺ يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة» [(54)]. يعني: في الأغلب، وربما صلى تسعًا أو سبعًا أو خمسًا كما سيأتي.
المتن:
الشرح:
1139 قولها: «سَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ» فيه: بيان أن صلاة النبي ﷺ بالليل متفاوتة والمعنى: سبع في بعض الأحيان وتسع في بعض الأحيان وإحدى عشرة ركعة في أحيان أخرى، والأغلب من هدي النبي ﷺ أنه كان يصلي إحدى عشرة ركعة كما قالت عائشة رضي الله عنها: «ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة» يعني: في الأغلب.
إذن فصلاة النبي ﷺ بالليل متفاوتة، ولم تكن خفيفة، وعلى الرغم من طولها إلا أنها متناسبة في الطول ـ يعني: في الركوع والسجود والقراءة ـ، وفي الغالب أنه ﷺ كان يقرأ قراءة طويلة في الركعة الواحدة وهو قائم كما سيأتي، وأحيانًا يصلي وهو جالس، ويقرأ وهو جالس، فإذا بقي عليه ثلاثون آية أو أربعون آية قام فقرأها ثم ركع.
وكان النبي ﷺ يقوم بعد نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل كما في حديث ابن عباس: «كان إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام يصلي»[(55)]، ثم انتهى وتره إلى السحر كما في حديث عائشة رضي الله عنها: «كل الليل أوتر رسول الله ﷺ، وانتهى وتره إلى السحر»[(56)].
المتن:
الشرح:
1140 قولها في الحديث: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ» في هذه الرواية عدَّت عائشة رضي الله عنها الوتر وركعتي الفجر من جملة الصلاة، فيكون الجميع ثلاث عشرة ركعة، فتكون صلاته بدون الوتر عشر ركعات، والوتر ركعة فتكون إحدى عشرة ركعة، وبالإضافة إلى ركعتي الفجر فتكون ثلاث عشرة ركعة.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما[(57)] أنه أوتر بثلاث عشرة ركعة بدون ركعتي الفجر، وسيأتي هذا للمؤلف رحمه الله.
ولا فرق بين قيام الليل والوتر؛ فقيام الليل يسمى وترًا، والوتر يسمى قيام الليل.
المتن:
باب قِيَامِ النَّبِيِّ ﷺ بِاللَّيْلِ وَنَوْمِهِ وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً [المُزّمل: 1-7].
وَقَوْلُهُ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المُزّمل: 20].
الشرح:
قوله: «باب قِيَامِ النَّبِيِّ ﷺ بِاللَّيْلِ وَنَوْمِهِ وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ» أشار المؤلف رحمه الله هنا إلى أن قيام الليل منسوخ ولم يذكر حديثًا، ولكن ذكره الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه» ـ وبين الحافظ ابن حجر رحمه الله أنه ليس على شرط البخاري ـ من طريق سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ـ تعني أول المزمل: قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً [المُزّمل: 2]، وهذا أمر، والأصل في الأمر انه الوجوب ـ فقام نبي الله ﷺ وأصحابه حولاً، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعًا بعد فرضيته» [(58)]. وهي تعني قول الله : فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى [المُزّمل: 20]، يعني: صلوا ما تيسر من صلاة الليل، فهذه الآية نسخت الفرضية وبقي الاستحباب.
فهذا الحديث فيه: دليل على أن قيام الليل كان فرضًا ثم نُسِخ، والمؤلف رحمه الله أشار إليه في قوله: «وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ» ، والفرضية في قوله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً [المُزّمل: 1-2]، هذا أمر والأمر للوجوب ثم نُسِخ.
المتن:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: نَشَأَ قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ.
وَطْئًا قَالَ: مُوَاطَأَةَ الْقُرْآنِ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ. لِيُوَاطِئُوا لِيُوَافِقُوا.
الشرح:
وكذلك قول الله : إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً [المُزّمل: 6]، وَطْئًا مصدر من قولك: واطأ اللسان القلب وطاءً ومواطأة، مثل جادل جدالاً ومجادلة، وقاتل قتالاً ومقاتلة.
ونَاشِئَةَ اللَّيْلِ هي: آناء الليل وساعاته، لكن ساعات آخر الليل أفضل. وقال بعضهم: الناشئة: هي قيام الليل بعد نومة، ولا تسمى ناشئة إلا بعد نومة، ولكن الظاهر هو المعنى الأول.
قوله: «وَطْئًا قَالَ: مُوَاطَأَةَ الْقُرْآنِ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ» يعني: أن القيام في الليل أشد موافقة القلب للسان، وهذا فيه فضل صلاة الليل، وأن صلاة الليل لها فضل عن صلاة النهار؛ وذلك لأن الليل تهدأ فيه الحركة ـ بخلاف النهار ـ فيواطئ القلب اللسان، فتكون قراءة الليل أشد مواطأة وموافقة للقلب، وأعون على التدبر.
المتن:
الشرح:
1141 هذا الحديث استغنى به المؤلف عن حديث مسلم الذي ليس على شرطه؛ لأنه يفيد أن النبي ﷺ «وَكَانَ لاَ تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنْ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ وَلاَ نَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ» والمعنى: أنه ربما نام أكثر الليل، وهذا يدل على نسخ الفرضية، ولو كانت الفرضية مستمرة لما أخل بها ﷺ.
قوله: «يُفْطِرُ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يَصُومَ مِنْهُ وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لاَ يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لاَ تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنْ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ وَلاَ نَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ» معناه: أن النبي ﷺ كان يُشْغَلُ أحيانًا فيفطر؛ لأنه يتعلق بشغلع بأمور المسلمين الدينية والسياسية، فإذا تفرغ صام.
وكذلك ربما أطال النبي ﷺ القيام في بعض الليالي، وربما شُغِلَ فنام كثيرًا من أول الليل حتى يقوم آخر الليل، فهو يراعي المصالح، ويقدم الأكمل والأفضل منها، وما فعله ﷺ هو الأفضل والأكثر أجرًا، فالنبي ﷺ يراعي المصالح؛ لأنه إمام المسلمين، وهو نبي الله ﷺ، وهو مشرع ومبلغ عن الله دعوته، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يجمع بين المصالح ويراعيها وينظر ما هو الأنفع، فإذا كان الصيام يشق عليه ويضعفه عن القيام بالمصالح العامة، فلا يسرد الصوم، بل يكتفي بصيام ثلاثة أيام من كل شهر أو الإثنين والخميس، وكان الرسول ﷺ يصوم شعبان إلا قليلاً، وقال بعض أهل العلم: إنه كان يشغل عن صيام ثلاثة أيام من بعض الأشهر، فكان يقضيها في شعبان.
وقد يشغل أيضًا عن قيام الليل لمرض أو نوم، فكان يقضيه في النهار فيصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة شفعًا؛ لأن النهار ليس فيه وتر.
المتن:
باب عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ
1142 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه ﷺ قَالَ: يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ.
1143 حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ قال: حدثنا إِسْمَاعِيلُ قال: حدثنا عَوْفٌ قال: حدثنا أَبُو رَجَاءٍ قال: حدثنا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِي الرُّؤْيَا قَالَ: أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنْ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ.
الشرح:
1142 قوله: يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ فيه: بيان أن الشيطان يعقد على قافية الرأس ثلاث عُقَد، والعُقد قد تكون عقدًا معنوية، والله أعلم بكيفيتها، وقد تكون عقدًا حقيقة وليست مجازًا كما ذكر بعضهم، والصواب أنها عقدٌ حقيقية وليست مجازية، والله أعلم بكيفيتها، وهي كحديث: ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ [(60)]، فهذا بول حقيقي وسيأتي شرحه.
وفيه: حِرص الشيطان على حرمان ابن آدم من الخير وإضلاله وإغوائه؛ لأنه أخذ على نفسه هذا، وأقسم بعزة الله أن يغوي بني آدم كما حكى القرآن: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82-83]، وفي الآية الأخرى أخبر الله عنه أنه قال: ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعرَاف: 17].
وفي الحديث: أنه يعقد على قافية الرأس ثلاث عقد، ويضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، ولكن بفضل الله تعالى وإحسانه أنه جعل للمسلم مخرجًا من هذه العقد وطريقًا لحلها، فإذا قام فاستيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة، وإذا صلى ركعتين انحلت عقدة، فأصبح طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.
قوله: «بَاب عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ» هذا عام يدخل فيه صلاة العشاء؛ لأنه يصدق على من صلى العشاء في جماعة أنه قام الليل، فدخلت الترجمة في تضاعيف قيام الليل، ويؤيد هذا الحديث الآخر: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله [(59)].
وظاهر الحديث الأول أن هذا في صلاة الليل، ويحتمل أن المراد إذا نام عن الصلاة المكتوبة وهي صلاة العشاء، كما في الحديث الثاني.
1143 قوله: وَيَنَامُ عَنْ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ هذا يدل كما ذكرنا على أن المراد بالصلاة المكتوبة هنا صلاة العشاء.
ويكون قوله في الحديث السابق: يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ معناه: عن الصلاة المكتوبة.
ويخصص عموم هذا الحديث حديث: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح» [(64)]، فيكون من فعل ذلك مستثنى من عموم عقد الشيطان على كل نائم.
ويحتمل أنها صلاة الفجر أيضًا، وأنه إذا نام وأصبح ولم يصلِّ الفجر، فإن الشيطان يعقد على قافيته ثلاث عقد، والمؤلف رحمه الله ذكره في صلاة الليل، وكذلك مسلم ذكره في صلاة الليل، مما يدل على أنهم فهما من الحديث أنه عن صلاة الليل، وأن من نام ولم يصل شيئًا من الليل من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر ولا حتى ركعتين فإن الشيطان يضرب على قافيته ثلاث عقد، فإذا صلى ولو ركعتين فإنه يسلم من هذه العقد، ويصبح طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.
قوله: يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ رَفْضُ القرآن ظاهره أنه ليس هو ترك صلاة الليل، وإنما هو يأخذ القرآن ويتعلمه ولا يعمل به، فيرفضه ويتركه وينام عن الصلاة المكتوبة؛ ولهذا يثلغ رأسه بالحجر.
فالرفض معناه عدم العمل؛ ولهذا يعاقب بهذه العقوبة في البرزخ.
قوله: يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ الضرب معناه: الحجب؛ أي: حجب الحس، ومنه قوله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [الكهف: 11]، والمعنى: حجبنا الحس الذي في آذانهم فينتبهوا.
قال العراقي في «طرح التثريب شرح التقريب»: «لم أر من تعرض للكلام عليه، ويحتمل وجهين:
أحدهما : أن معناه أنه يضرب بيده على مكان العقد تأكيدًا لها وإحكامًا، أو أن ذلك من تمام سحره، وفي فعله ذلك خصوصية وله تأثير يعلمه هو.
ثانيهما : أن الضرب هنا كناية عن حجاب يصنعه في ذلك الموضع يمنع وصول الحس إلى ذلك النائم؛ حتى لا يستيقظ، ومنه الحديث الآخر: «فضرب على آذانهم» [(61)] قالوا فيه: هو كناية عن النوم، ومعناه حجب الصوت والحس أن يلجا آذانهم فينتبهوا، فكأنها قد ضرب عليها حجاب»[(62)].
وقال العراقي أيضًا: «بوب عليه البخاري في صحيحه: «بَاب عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ» وقد أنكر عليه المازري في ذلك وقال: الذي في الحديث أنه يعقد على قافية رأسه وإن صلى بعده، وإنما تنحل عقده بالذكر والوضوء والصلاة، قال: ويُتَأَوَّلُ كلام البخاري أنه أراد أن استدامة العقد إنما تكون على من ترك الصلاة، وجعل من صلى وانحلت عقده كمن لا يُعْقَدُ عليه لزوال أثره، قلت: ما أُوِّلَ عليه كلام البخاري واضح، ويمكن حمله على وجه آخر وهو إن أراد أن الشيطان إنما يعقد على رأس من لم يصل العشاء، فإن استيقظ وصلى العشاء انحلت العقد وإلا استمرت، أما من صلى العشاء فقد قام بما عليه فلا يتسلط عليه الشيطان ولا يعقد على قافيته شيئًا، ويوافق ذلك أن الطحاوي حمل قوله ﷺ فيمن نام ليله كله حتى أصبح: ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ [(63)] على أنه نام عن صلاة العشاء حتى انقضى الليل كله.
قال ابن عبدالبر: ويدل على ذلك أن من السلف قومًا كانوا ينامون قبل العشاء ويصلونها في وقتها، ثم حكى عن الحكم قال: كانوا ينامون قبل صلاة العشاء، وعن ابن عمر أنه كان يرقد قبل صلاة العشاء ويوكل من يوقظه».
على كل حالٍ أشار الحافظ ابن حجر إلى مثل هذا الكلام، والمسألة فيها الاحتمالات الثلاثة: احتمال أنه نام عن صلاة العشاء، واحتمال أنه نام عن صلاة الفجر، واحتمال أنه نام عن صلاة الليل، ولم يصل شيئًا من الليل حتى أصبح ـ ولا ركعتين ـ ويكون هذا خاص، فينبغي للإنسان أن يصلي شيئًا من الليل، وأقل شيء يصلي ركعتين، وهو الذي يدل عليه صنيع البخاري فإنه ذكر هذه الترجمة في صلاة الليل؛ فدل على أن المراد بها صلاة الليل.
المتن:
باب إِذَا نَامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ
1144 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قال: حدثنا أَبُو الأَْحْوَصِ قال: حدثنا مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ مَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقَالَ: بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ.
الشرح:
هذه الترجمة لها صلة بالترجمة السابقة، فالترجمة السابقة: «بَاب عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ» ، وهنا: «إِذَا نَامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ» .
قوله: «وَلَمْ يُصَلِّ» يحتمل أنها صلاة العشاء كما في حديث سمرة السابق، ويحتمل أنها صلاة الفجر، فقال في حديث الباب: «حَتَّى أَصْبَحَ» يعني: ترك صلاة الفجر، ويحتمل أنها صلاة الليل، كل هذه الاحتمالات ظاهرة، والأقرب أن المراد بها صلاة الفجر.
ويؤيد أنها صلاة الفريضة ما جاء عن سفيان الثوري أنه قال: «هذا يشبه أن يكون نام عن الفريضة» [(65)]، والمراد بها: صلاة العشاء، لكن الرواية تحتاج إلى تأمل ونظر؛ فقد أخرجها ابن حبان في «صحيحه» وانفرد بإخراجها، وفي صحتها نظر من حيث انفراده بإخراجها دون الأئمة.
ولكن إيراد البخاري لهذا الحديث في قيام الليل، وإيراد مسلم والنووي له أيضًا يدل على أنهم فهما أن مراده بها صلاة الليل، وهو قول قوي، وأما من نام عن صلاة العشاء وصلاة الفجر، فإنه إن كان متعمدًا فله عقوبة أخرى زائدة.
1144 قوله: «مَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ» بعد قوله: «مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ» المقصود بها صلاة الفجر، كما ذكرنا أن هذا أحد الاحتمالات، وهو قول قوي.
وقيل: المقصود بها صلاة العشاء، وقيل: المقصود بها صلاة الليل، وتقدم شرح الخلاف فيه.
ورواية سفيان: «هذا يشبه أن يكون نام عن الفريضة»، تؤيد أن المقصود صلاة الفريضة.
قوله: بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ يعني: إذا لم يقم الإنسان شيئًا من الليل يبول الشيطان في أذنه، والبول بول حقيقي وليس مجازيًّا كما يقول بعضهم، والله أعلم بكيفيته؛ لأن الشيطان يأكل ويشرب ويبول، مثل بني آدم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ اختلف في بول الشيطان، فقيل: هو على حقيقته، قال القرطبي وغيره: لا مانع من ذلك إذ لا إحالة فيه؛ لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب وينكح فلا مانع من أن يبول، وقيل: هو كناية عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر، وقيل: معناه أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل فحجب سمعه عن الذكر، وقيل: هو كناية عن ازدراء الشيطان به، وقيل: معناه أن الشيطان استولى عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول، إذ من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه، وقيل: هو مثل مضروب للغافل عن القيام بثقل النوم، كمن وقع البول في أذنه فثقل أذنه وأفسد حسه، والعرب تكني عن الفساد بالبول، قال الراجز[(66)]:
بال سهيل في الفضيخ ففسد
وكنى بذلك عن طلوعه؛ لأنه وقت إفساد الفضيخ، فعبر عنه بالبول.
ووقع في رواية الحسن عن أبي هريرة في هذا الحديث عند أحمد: «قال الحسن: إن بوله والله لثقيل» [(67)]. وروى محمد بن نصر من طريق قيس بن أبي حازم، عن ابن مسعود: «حسب الرجل من الخيبة والشر أن ينام حتى يصبح وقد بال الشيطان في أذنه»، وهو موقوف صحيح الإسناد.
وقال الطيبي: خص الأذن بالذكر وإن كانت العين أنسب بالنوم؛ إشارة إلى ثقل النوم، فإن المسامع هي موارد الانتباه، وخص البول؛ لأنه أسهل مدخلاً في التجاويف وأسرع نفوذًا في العروق فيورث الكسل في جميع الأعضاء».
قلت: وهذه التآويل كلها لا وجه لها، والصواب القول الأول، وهو أنه حقيقة.
المتن:
باب الدُّعَاءِ وَالصَّلاَةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ
وَقَالَ: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذّاريَات: 17] أَيْ مَا يَنَامُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذّاريَات: 18].
الشرح:
قوله تعالى: « تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السَّجدَة: 16].
وصلاة الليل لها فوائد عظيمة وفضل كبير، فهي أفضل من صلاة النهار، وأقرب إلى مواطئة القلب واللسان خاصة، في وقت التنزل الإلهي، وهي تطرد الداء عن الجسد وتكفر الخطايا؛ وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ [(68)] يعني: تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، فصلاة الليل لها مزايا وفوائد جمة.
المتن:
الشرح:
1145 هذا حديث عظيم، وهو من الأحاديث التي بلغت حد التواتر، وفيه: نزول الرب تبارك وتعالى، والنزول من الصفات الفعلية التي تليق بالرب ، وقد أنكر هذه الصفة الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم من أهل البدع رغم ثبوتها في الأحاديث المتواترة.
وهذا الحديث رواه الشيخان وأهل السنن وغيرهم.
وثلث الليل الآخر هو وقت عظيم، وقت التنزل الإلهي، واستجابة الدعاء للداعي، وإعطاء السائل والمغفرة للمستغفر، وثلث الليل في كل مكان في الدنيا، فإذا كنت في أي مكان في الدنيا وجاء ثلث الليل فهذا وقت التنزل الإلهي.
فالرب ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته، لا يماثل المخلوقين، ولا يشبه بنزولهم، مع كونه سبحانه فوق المخلوقات؛ لأن العلو من لوازم ذاته ، فالله سبحانه لا يختلط بشيء من المخلوقات، ولا يكون ذلك أبدًا، فهو فوق المخلوقات وفوق العرش، وينزل نزولاً يليق بجلاله وعظمته، فعلاً يفعله والله أعلم بكيفيته .
إذن لا يضر الإنسانَ اختلافُ الأماكن، فإذا كنت في أي: مكان في الأرض وجاء ثلث الليل فهو وقت التنزل الإلهي، فتقوم في أي: مكان من الدنيا.
وهذا الاختلاف إنما ينشأ من تشبيه نزول المخلوق بالخالق، مما جعل أحد الناس يقول: كيف ينزل الرب والأمكنة متعددة، فيختلف ثلث الليل من منطقة لأخرى، فإذا كان الضحى عندنا أصبح عنده ثلث الليل، وفي منطقة أخرى يكون ثلث الليل في أول الليل عندنا أو في أول النهار، فلا يزال الرب ينزل؟!
فأجاب على هذا السؤال شيخ الإسلام رحمه الله في رسالة عظيمة سماها «شرح حديث النزول» خُلاصة الجواب: أن هذا السؤال إنما نشأ من التشبيه الذي وقع في ذهن هذا السائل؛ فقد شبّه نزول الخالق بنزول المخلوق، فلما شبه استشكل عليه الأمر، فصار يظن هذا، وقال: كيف ينزل الرب؟ لا يزال الرب ينزل في كل وقت[(69)].
ونقول له: هذا النزول ـ نزول الرب ـ لا يشبه بنزول المخلوق ولا يماثله، والله أعلم بكيفيته.
فالمطلوب منك أن تستفيد من هذا الوقت العظيم في أي: مكان من أرض الله، فإذا جاء ثلث الليل الآخر فهذا وقت التنزل الإلهي، فالرب يتنزل ولا يشبه نزوله نزول المخلوق، فنزول الخالق يليق بذاته ، وكيفية النزول علمها عند الله، فيصبح هذا الإشكال باطلاً؛ لأنه ناشئ عن تشبيه نزول الخالق بنزول المخلوق.
قوله: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا هذا لا ينافي العلو كما سبق، فالعلو ثابت لله ، وهو ينزل تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، ولكن بعض الناس أشكل عليه هذا الأمر منهم الحافظ ابن حجررحمه الله، فالحافظ رحمه الله ليس عنده تحقيق في هذه المسألة، ففي الغالب مشى على طريق الأشاعرة؛ ولهذا قال: «قوله: يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا استدل به من أثبت الجهة وقال: هي جهة العلو، وأنكر ذلك الجمهور؛ لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز تعالى الله عن ذلك».
والصواب أن ما قاله الحافظ ابن حجر غير صحيح وهذا مذهب الأشاعرة والمعتزلة، أنكروا جهة العلو فقالوا: إنه لا يوصف بالعلو؛ لأنه لو كان في العلو لكان في جهة، ولو كان في جهة لكان متحيزًا وكان جسمًا محدودًا، والله ليس جسمًا ولو كان جسمًا لكان مشابهًا للأجسام، والله ليس كمثله شيء ولا يحده شيء ولا يحصيه شيء، ولا يقال: إنه في جهة، ولكن في جميع الجهات، وهو أعظم من أن يكون في جهة.
وقوله: الجمهور، يقصد به الأشاعرة والمعتزلة؛ ولهذا علق على ذلك سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله فقال: «مراده بالجمهور جمهور أهل الكلام، وأما أهل السنة وهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان فإنهم يثبتون لله جهة العلو، ويؤمنون بأنه سبحانه فوق العرش بلا تمثيل ولا تكييف، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، فتنبه واحذر والله أعلم»[(70)].
وقد اختلف كلامهم في النزول؛ فنذكره حتى يكون طالب العلم على بصيرة، ويوفقه الله لمعتقد أهل السنة والجماعة، فيعلم أن لله نعمة عظيمة عليه ويحمد الله على ذلك.
والناظر لهؤلاء العلماء وإن كانوا كبارًا لكن لهم هذه التأويلات؛ وسبب ذلك أنهم لم يوفقوا إلى معتقد أهل السنة والجماعة ولم يمشوا عليه، هذا الحافظ ابن حجر ينقل هذه الأقوال، فقال رحمه الله: «وقد اختلف في معنى النزول على أقوال: فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته، وهم المشبهة، تعالى الله عن قولهم».
ونقول: إن الصواب ما قاله أهل السنة الذين حملوا النزول على ظاهره فقد قالوا: إن الله ينزل نزولاً حقيقيًّا يليق بجلاله، بلا تكييف أو تشبيه أو تعطيل، وقد سماهم الحافظ رحمه الله مشبهة، وقال: «تعالى الله عن قولهم»، وهكذا يظنون أن هذا فيه تشبيه، وأن تنزيه الرب أن ترفع مثل هذه الصفة عنه.
وإذا كان الحافظ رحمه الله وغيره ـ وهم من كبار العلماء والفطاحل منهم ـ لم يهتدوا إلى معتقد أهل السنة، فهذا يفيد طالب العلم بأن يحذر من اعتقاد أهل البدع، ويلزمه العض على معتقد أهل السنة والجماعة بالنواجذ.
ثم قال الحافظ رحمه الله: «ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة، وهم الخوارج والمعتزلة».
قلت: فقد أبطلوا الأحاديث؛ لأنها تخالف مذهبهم، وإن كانت متواترة، كالخوارج والمعتزلة وغيرهم، فقالوا: الحديث باطل وليس صحيحًا، ذلك على الرغم من أنه متواتر، وحملهم على ذلك مذهبهم الفاسد.
ثم قال الحافظ رحمه الله: «والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث إما جهلاً وإما عنادًا، ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمنًا به على طريق الإجمال منزها الله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف، ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم».
وقد يقال: إن مذهب أهل السنة والجماعة أنهم مؤمنون به عن طريق الإيمان لا على طريقة المصورة، لكنهم يفهمون المعنى، والمعنى مفهوم.
ثم قال الحافظ رحمه الله: «ومنهم من أوله على وجه يليق مستعمل في كلام العرب، ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من التحريف، ومنهم من فصّل بين ما يكون تأويله قريبًا مستعملاً في كلام العرب وبين ما يكون بعيدًا مهجورًا، فأوّل في بعض وفوضّ في بعض، وهو منقول عن مالك، وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد».
وهذا لا يصح عن الإمام مالك رحمه الله، فالإمام مالك رحمه الله من أئمة أهل السنة والجماعة، فلا يصح عنه تأويل شيء من الصفات.
ثم قال الحافظ: «قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد، إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه، ومن الدليل على ذلك اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب، فحينئذ التفويض أسلم».
والتفويض إذا كان المراد به تفويض المعنى فلا، فتفويض المعنى معلوم كما قال الإمام مالك، وأما التفويض الذي نقصده فهو تفويض الكيفية، ومذهب المفوضة أنهم يفوضون المعنى ويقولون: ما نعرف معنى النزول، أما أهل السنة فيقولون: النزول معناه معلوم، كما قال مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول.
ثم قال الحافظ رحمه الله: «وسيأتي مزيد بسط في ذلك في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى، وقال ابن العربي: حكي عن المبتدعة رد هذه الأحاديث، وعن السلف إمرارها، وعن قوم تأويلها؛ وبه أقول»؛ يعني: أقول بالتأويل.
قال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «هذا خطأ ظاهر مصادم لصريح النصوص الواردة بإثبات النزول»[(71)].
ثم قال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «وهكذا ما قاله البيضاوي بعده باطل، والصواب ما قاله السلف الصالح من الإيمان بالنزول وإمرار النصوص كما وردت من إثبات النزول لله سبحانه على الوجه الذي يليق به من غير تكييف ولا تمثيل كسائر صفاته، وهذا هو الطريق الأسلم والأقوم والأعلم والأحكم فتمسك به، وعض عليه بالنواجذ واحذر ما خالفه تفز بالسلامة والله أعلم»[(72)].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فأما قوله: «يَنْزِلُ» فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه، والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني، فإن حملته في الحديث على الحسي فتلك صفة الملك المبعوث بذلك، وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمى ذلك نزولاً عن مرتبة إلى مرتبة، فهي عربية صحيحة انتهى.
قلت: والحاصل أنه تأوله بوجهين: إما بأن المعنى: ينزل أمره أو الملك بأمره، وإما بأنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد حكى أبو بكر بن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول؛ أي: ينزل ملكًا، ويقويه ما رواه مسلم من طريق الأغر، عن أبي هريرة وأبي سعيد بلفظ: إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ [(73)].
قلت: كل هذه التآويل باطلة، والصواب ما عليه أهل السنة والجماعة بإثبات النزول ونفي الكيفية وأما المعنى فمعروف، كما قال الإمام مالك: «النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة».
وكان ظن الحافظ ابن حجر رحمه الله واعتقاده أن قوله هذا تنزيه لله، لكنه رحمه الله لم يوفق لهذا؛ لأنه هكذا تعلم من مشايخه فلم يوفق للعلماء الذين يمشون على معتقد أهل السنة والجماعة فيتتلمذ عليهم، والإنسان يمشي غالبا على ما نشأ عليه حتى ولو كان كبيرًا، فمن نشأ على شيء استمر عليه وظن أنه الحق، فعلى طالب العلم الذي اهتدى إلى معتقد أهل السنة والجماعة أن يحمد الله على ذلك ويسأل الله تعالى الثبات.
المتن:
باب مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَحْيَا آخِرَهُ
وَقَالَ سَلْمَانُ: لأَِبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنهما نَمْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ: قُمْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: صَدَقَ سَلْمَانُ.
1146 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ قال: حدثنا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الأَْسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَيْفَ صَلاَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِاللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كانَ يَنَامُ أَوَّلَهُ وَيَقُومُ آخِرَهُ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ وَإِلاَّ تَوَضَّأَ وَخَرَج.
الشرح:
هذه الترجمة فيها أن النبي ﷺ يقوم آخر الليل وينام أوله في الغالب، وأحيانًا أخرى يبدأ من نصف الليل، فكان ﷺ ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، فيقوم السدس الرابع والخامس ثم ينام آخر الليل؛ حتى يتقوى به على أعمال النهار كما كان يفعل داود عليه الصلاة والسلام، كما في الحديث: أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ [(74)] وربما نام ﷺ نصف الليل وسدسه ويقوم الثلث الأخير، وهما السدسان الخامس والسادس، وهو وقت تنزل الإله ، فربما فعل هذا وربما فعل ذلك، فيطلق عليه أنه نام أول الليل وأحيا آخره.
وقد آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما، فلما دخل سلمان على زوجة أبي الدرداء وجدها متبذلة، فسأل عن هذا، فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. يعني: اعتزلها، فيصلي الليل ويتركها.
فجاء سلمان وزار أخاه أبا الدرداء، وناما جميعًا، فلما أراد أن يقوم أول الليل قال له سلمان: نم. فلما مضى ثلث الليل أراد أن يقوم قال له سلمان: نم. فلما انتصف الليل قال له سلمان: نم. فلما كان آخر الليل قال له: قم الآن. فقاما فصليا.
فذكر ذلك أبو الدرداء للنبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: صَدَقَ سَلْمَانُ؛ لأنه يجب على الإنسان أن يعطي جسمه حظًّا من الراحة، ثم يقوم آخر الليل، أما أن يقوم الليل كله ويتعب نفسه ويخل بالواجبات وحقوق أهله، فهذا لا ينبغي عليه.
1146 في حديث عائشة رضي الله عنها لما سألها الأسود: «كَيْفَ صَلاَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِاللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كانَ يَنَامُ أَوَّلَهُ وَيَقُومُ آخِرَهُ» يعني: هذا هو الغالب، وكان النبي ﷺ لا يحيي الليل كله؛ كما قالت عائشة رضي الله عنها: «ما صلى ليلة حتى الصباح، ولا صام شهرًا كاملاً إلا رمضان»[(75)].
فكان النبي ﷺ إذا صلى العشاء أوى إلى فراشه ينام، وكذلك الأخيار والعباد والعلماء، وفي العهد القريب ـ أيضًا ـ كان الناس إذا صلوا العشاء ناموا، لكن الآن اختلفت الأحوال، فوجود الكهرباء جعل الناس لا ينامون، بل يسهرون ليلة الخميس والجمعة إلى آخر الليل؛ ففي القديم ما كان عندهم كهرباء ولا أنوار، ولم تفتح الدنيا عليهم، وليس هناك أعمال بالليل، إنما يشتغلون بالنهار؛ فإذا قرب المغرب انتهت الأعمال؛ ولهذا كانوا يتعشون قبيل الغروب أو بعد المغرب ثم ينامون، وإذا جاء آخر الليل قاموا فصلوا.
فالنبي ﷺ كان ينام أول الليل ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه فينام، ينام السدس الأخير ليتقوى به على أعمال النهار.
قوله: «فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ» يعني: قام.
قوله: «فَإِنْ كَانَ بِهِ حَاجَةٌ» يعني: كان جنبًا.
قوله: «اغْتَسَلَ وَإِلاَّ تَوَضَّأَ وَخَرَج.» لصلاة الفجر.
والوقت الذي بعد العشاء مباشرة هو من الليل، لكن النصف الأخير أفضل من النصف الأول، وهو وقت النزول الإلهي، يعني: أن النصف الأخير بالنسبة للصلاة أفضل من النصف الأول؛ لأن السدس الرابع والخامس هو صلاة داود، والسدس الخامس والسادس هو وقت التنزل الإلهي.