شعار الموقع

شرح كتاب التهجد من صحيح البخاري (19-3) تابع بَابُ مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَحْيَا آخِرَهُ - إلى باب مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ

00:00
00:00
تحميل
177

الشرح:

وصاحب الأعمال والأشغال الذي لا يتمكن من القيام في آخر الليل فلا بأس عليه، ما دام هناك سبب لعدم قيامه، كأن يقوم بحوائج أهله؛ لأن النبي ﷺ أوصى أبا الدرداء[(76)] وأبا هريرة[(77)] رضي الله عنهما بالوتر قبل النوم؛ لأن أبا هريرة كان يدرس ويحفظ الحديث في أول الليل ثم ينام ولا يستيقظ آخر الليل؛ ولهذا أوصاه النبي ﷺ أن يوتر قبل أن ينام، فهذا على حسب حالة الإنسان ومشاغله، فإن كان الإنسان مشغولاً ولا يتمكن من القيام آخر الليل فلا حرج عليه، فمن الممكن أن يكون طالب علم يذاكر أو يحضر أو يؤلف، أو أنه صاحب أشغال يشتغل بالكسب لأولاده، أو عنده أعمال وصلى ما تيسر من أول الليل ثم نام، فإن صار عنده فراغ وتيسر له أن ينام أول الليل ويقوم ما تيسر من آخره فهذا أفضل.

وهذا ما قاله النبي ﷺ في حديث جابر : مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ [(78)] أي: تشهدها الملائكة، وكما تقدم أن وقت الليل يحسب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.

المتن:

باب قِيَامِ النَّبِيِّ ﷺ بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ

1147 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنا مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي.

الشرح:

1147 هذا من خصائص النبي ﷺ أن عينيه تنامان ولا ينام قلبه، وأما قول عائشة رضي الله عنها: «يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ» يعني: يصلي أربعًا بسلامين لا بسلام واحد كما قد يظنه بعضهم لما يوهمه اللفظ؛ لأن اللفظ يوهم أنه بسلام واحد، فهذا حديث مجمل ومتشابه فيفسر بالأحاديث المحكمة الواضحة، كحديث: صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى [(79)] وحديث عائشة: «كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ثم يوتر بواحدة» [(80)]. فالأحاديث يفسر بعضها بعضًا، والقاعدة عند أهل العلم أن المجمل يفسر بالواضح المحكم، وكان النبي ﷺ يصلي أربعًا يطيلهن في الركوع والسجود والقيام، ثم يستريح ثم يصلي أربعًا ثم يستريح ثم يوتر بثلاث، وهذا في الأغلب.

وإن صلى الإنسان مائة ركعة فلا بأس بأن يوتر بواحدة، فهو بذلك ليس مخالفًا، ويدل عليه الحديث: صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِوَاحِدَةٍ [(84)] الأفضل ـ إن تيسر ـ أن يصلي مثل صلاة النبي ﷺ إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة مع التدبر في القراءة ومع الإطالة في الركوع والسجود، فهذا أفضل، وإن شق عليه الطول وزاد في الركعات فلا حرج.

وأما قولها: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً» هذا في الأغلب، فربما نقص أو زاد، فيمكن أن يصلي تسعًا أو سبعًا كما سبق في حديثها[(81)]، وربما زاد كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما[(82)]، وربما أوتر بثلاث عشرة ركعة كما سبق في حديثها رضي الله عنهما[(83)]، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما.

المتن:

1148 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَني أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ جَالِسًا حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا فَإِذَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّورَةِ ثَلاَثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً قَامَ فَقَرَأَهُنَّ ثُمَّ رَكَعَ.

الشرح:

والأحاديث التي فيها أن النبي ﷺ ربما أوتر بإحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة أو ربما أوتر بسبع أو تسع - تدل على بطلان قول القائل: إنه لا تجوز الزيادة في صلاة الليل على إحدى عشرة ركعة، وأن من صلى زيادة على إحدى عشرة ركعة فصلاته باطلة. وأظن أن هذا ما قرره الشيخ الألباني رحمه الله، وما أدري هل بقي عليه أم لا؟ وأظن أن له رسالة في هذا بأنه لا يزاد على إحدى عشرة ركعة في صلاة الليل.

والصواب جواز الزيادة كما دلت عليه الأحاديث الزيادة، فالنبي ﷺ نفسه زاد فصلى ـ كما في حديث ابن عباس ـ ثلاث عشرة ركعة، والإمام مسلم رحمه الله ساق الروايات في هذا، أنه ﷺ كان يوتر بثلاث عشرة ركعة، وأوتر بسبع وبتسع؛ فكيف يقال: إن من زاد على إحدى عشرة ركعة فكأنما زاد في الفريضة؟ فهذا ليس بصحيح.

1148 في حديث عائشة رضي الله عنها قولها: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ جَالِسًا حَتَّى إِذَا كَبِرَ» يعني: تقدمت به السن.

قولها: «قَرَأَ جَالِسًا فَإِذَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّورَةِ ثَلاَثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً قَامَ فَقَرَأَهُنَّ ثُمَّ رَكَعَ» هذا يدل على أن صلاة الليل فعلها النبي ﷺ على حالات:

الأولى: أنه ﷺ كان يصلي ويقرأ قائمًا ويركع ويسجد قائمًا، وهذا في حال وقوته.

الثانية: أنه ﷺ صلى قاعدًا لما تقدمت به السن، وكذلك إذا كسِل أو مرض كان يصلي ويقرأ جالسًا ويركع بالإيماء ويسجد.

الثالثة: أنه ﷺ كان يصلي جالسًا ويقرأ قراءة طويلة، فإذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية يقوم فيقرؤهن وهو واقف ثم يركع كما في هذا الحديث.

وهذه الحالات كلها ثابتة في «الصحيحين وغيرها»، يصلي أحيانًا جالسًا وأحيانًا قائمًا وأحيانًا يصلي قاعدًا، فإذا بقي عليه ثلاثون آية أو أربعون آية قام فقرأهن وهو قائم ثم يركع.

المتن:

باب فَضْلِ الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفَضْلِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

1149 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ: يَا بِلاَلُ، حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِْسْلاَمِ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ دَفَّ نَعْلَيْكَ يَعْنِي تَحْرِيكَ.

الشرح:

1149 قوله: دَفَّ نَعْلَيْكَ يعني : تحريك نعليك، والمراد: صوتها عند الوطء.

وهذا الحديث فيه: دليل لما ترجم له المؤلف رحمه الله بقوله: «فَضْلِ الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفَضْلِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ» فالوضوء من أسباب المغفرة؛ فكما ورد في الحديث أن الخطايا تخرج من وجه المتوضئ ويديه ورجليه، ولفظه: إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ [(85)].

فالوضوء من أسباب المغفرة، وكذلك الصلاة بعد الوضوء من أسباب المغفرة كما في الحديث: من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا غفر الله له [(86)].

وفي حديث الباب: دليل على أن ركعتي الوضوء تصلى في وقت النهي؛ لأنها من ذوات الأسباب؛ لقول بلال في الحديث: «َمْا أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ» ، وهذا يشمل أوقات النهي، وفيه: دليل على أن ذوات الأسباب تفعل في وقت النهي، وأنها مستثناة، كما تستثنى صلاة النافلة إلى خروج الإمام في يوم الجمعة؛ لما جاء في الحديث: ثم صلى ما قدر له حتى إذا خرج الإمام [(87)] فلو صلى الإنسان حتى يخرج الإمام يوم الجمعة فلا حرج.

وقد ذهب إلى هذا الرأي جمع من المحققين ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(88)]، فقالوا: ذوات الأسباب تفعل في وقت النهي، فتكون مخصصة لعموم أحاديث النهي كصلاة سنة الوضوء، وتحية المسجد، وصلاة الجنازة، وصلاة الكسوف، وإعادة الجماعة؛ فإذا صلى في مسجد الفجر أو العصر ثم جاء إلى مسجد وهم يصلون صلى معهم الجماعة؛ لأنها مستثناة ولو كانت بعد الفجر.

والقول الثاني: ذهب إليه الجمهور وهو العمل بأحاديث النهي، وقالوا: أحاديث النهي أصح وأكثر؛ فلا تعطى ذوات الأسباب في أوقات النهي.

لكن هذا الحديث دليل على أن ذوات الأسباب تفعل في وقت النهي، وهو الأرجح.

المتن:

باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّشْدِيدِ فِي الْعِبَادَةِ

1150 حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَبْلُ؟ قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لا، حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ.

1151 وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ: عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قُلْتُ فُلاَنَةُ لاَ تَنَامُ بِاللَّيْلِ فَذُكِرَ مِنْ صَلاَتِهَا فَقَالَ: مَهْ، عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنْ الأَْعْمَالِ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا.

الشرح:

1150، 1151 في هذين الحديثين: أنه لا ينبغي التشديد على النفس في العبادة؛ لئلا تمل وتسأم فتترك العبادة، بل يداوم على عبادة لا تشق على نفسه فتؤدي إلى الملل، كالصلاة في آخر الليل مثلاً وصيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ لأنه إذا شق على نفسه وصار يصلي أغلب الليل أو يصوم يومًا ويفطر يومًا، وشق عليه فهذا قد يؤدي به إلى الملل ويؤدي إلى الترك.

قوله: لاَ يَمَلُّ وصف يليق بالله لا يقتضي نقصًا ولا يشبه ملل المخلوق، وليس كما فسره النووي رحمه الله وغيره، فالنووي رحمه الله يقول: لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا أي: «لا يعاملكم معاملة المالِّ فيقطع عنكم ثوابه وجزاءه وبسط فضله ورحمته حتى تقطعوا عملكم» [(89)]، وهذا تأويل لمقتضى الملل، ووصف لا يليق بالله، والقول بأن الله لا يقطع الثواب عن العبد حتى يقطع العمل، فهذا أثر من آثاره وليس هو الصفة، فمثلا: الرضا من آثاره الثواب، وفي نفس الوقت الرضا ليس هو الثواب، وكذلك الغضب صفة من صفات الله ومن آثارها العقوبة، والملل صفة من صفات الله ومن آثارها قطع الثواب عند قطع العمل، فالإمام النووي رحمه الله وجماعة عندما قالوا: لاَ يَمَلُّ معناه: لا يقطع الثواب حتى تقطعوا العمل؛ فتفسيرهم هذا تفسير بالأثر، كتفسير الغضب بالعقوبة، وتفسير الرضا بالمثوبة، أما الصواب: فهو أن الملل يليق بالله العظيم، لكن من آثار هذه الصفة ـ أن الله لا يقطع الثواب عن العبد حتى يقطع العبد العمل [(90)].

وقال بعضهم: هذا من باب المقابلة، وفي اللفظ الآخر: لَا يَسْأَمُ حَتَّى تَسْأَمُوا [(91)].

ونقول هنا أن من ترك الوتر بحجة أنه من التطوع فهذا خطأ، فالوتر من السنن المؤكدة؛ ولذلك لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عمن يترك الوتر ولا يصليه قال: إن من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل شهادته[(51)].

فلا ينبغي لطالب العلم أن يتساهل بالسنن؛ فهو قدوة لغيره من الناس، فلا يترك الوتر حضرًا أو سفرًا.

المتن:

باب مَا يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ

1152 حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا مُبَشِّرٌ عَنْ الأَْوْزَاعِيِّ وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ: أَخْبَرَنا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الأَْوْزَاعِيُّ قال: حدثني يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قال: حدثني أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قال: حدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ.

وَقَالَ هِشَامٌ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الْعِشْرِينَ حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ قال: حدثني يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ قال: حدثني أَبُو سَلَمَةَ مِثْلَهُ.

وَتَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ الأَْوْزَاعِيِّ.

الشرح:

1152 هذا الحديث يدل على كراهة ترك قيام الليل لمن كان يقومه؛ لأن قيام الليل من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولاسيما آخر الليل في الثلث الأخير فإنه وقت التنزل الإلهي، وقد تواتر قوله ﷺ: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ [(92)].

وفيه: فضل عظيم لمن قام الليل، وقد وصف الله الأخيار بقيام الليل فقال سبحانه: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۝ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذّاريَات: 17-18]، وقال سبحانه: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السَّجدَة: 16]. فيكره للإنسان أن يترك ما اعتاده من الخير ولاسيما قيام الليل، فينبغي للإنسان أن يداوم على ما اعتاده من الخير، وقد كان النبي ﷺ يداوم على قيام الليل، كما قالت عائشة رضي الله عنها: «كان عمله ديمة» [(93)]. فَتَرْكُ قيام الليل فيه حرمان للنفس من خير عظيم.

ووقت الليل يبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فلو صلى بين العشاءين صلى شيئًا من الليل، ولو صلى بعد العشاء السنة الراتبة أو ركعتين أو أربع ركعات صلى شيئًا من الليل، فأقل صلاة الليل ركعة الوتر، فبعد صلاة العشاء يصلي الراتبة ثم يصلي ركعة، وأدنى الكمال ثلاث ركعات؛ فإذا صلى ثلاث ركعات صلى شيئًا من الليل، ويمكنه أن يوتر بخمس أو بسبع أو بتسع على حسب التيسير، أو يصلي ما تيسر من أول الليل ركعتين أو أربع ركعات، ثم إن قدر له أن يقوم في آخر الليل قام وصلى فهذا خير.

وقد سبق في الحديث أن النبي ﷺ سئل عن رجل نام حتى الصبح فقال: ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ [(94)] فإذا صلى من الليل شيئًا خرج عن هذا الوصف، أما إذا نام ولم يصل شيئًا فإنه داخل في هذا الوصف، وإن كانت المسألة فيها خلاف، لأن من أهل العلم من قال: المراد من نام عن صلاة الصبح، وهناك من قال: من نام عن صلاة العشاء، وهناك من قال: من نام عن قيام الليل، والأقرب أنه من نام عن قيام الليل، فهذه مزية لقيام الليل.

وأما قول الحافظ رحمه الله: تحت الترجمة قوله: «بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ» قال: «أي إذا أشعر ذلك بالإعراض عن العبادة»، فهذا التقييد ليس بظاهر، فترك قيام الليل لمن اعتاده مكروه سواء أشعر بالإعراض عن العبادة أم لم يشعر، والقيام ليس بواجب، ولكن إذا اعتاد الإنسان الخير فيكره في حقه أن يترك هذا الخير الذي اعتاده ولاسيما قيام الليل؛ ولهذا نصح النبي ﷺ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وقال له: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ، فهذا على سبيل الاستحباب.

قوله: فُلاَنٍ لم يذكر اسمه للستر عليه، يعني: رجلاً ما كان يقوم الليل فترك قيام الليل، وعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما انتفع بهذه النصيحة، فكان بعد ذلك يصوم النهار ويقوم الليل، وقد شدد على نفسه حتى إنه أهمل أهله وتركهم، فنصحه النبي ﷺ مرة أخرى وقال: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: لا تفعل، صم من الشهر ثلاثة أيام فقال: فإني أطيق أفضل من ذلك. فقال: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ قال: إني أطيق أفضل من ذلك، حتى قال له: صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا قال: إني أطيق أفضل من ذلك قال: لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ [(95)].

فنصف الدهر أفضل الصيام، وهو صيام داود، وفي قيام الليل نصحه أن يقوم وينام، وقال له: وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ [(96)].

وكان عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما يقرأ القرآن، فيختمه في كل يوم فقال له النبي ﷺ: اقْرَأْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ فقال: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: اقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ، في خمسة عشر يومًا، حتى وصل إلى سبع فقال: اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ ولا تزد على ذلك [(97)] وكان شابا نشيطا، ثم بعد ذلك تقدمت به السن، فصار يشق عليه الصوم، فكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله ﷺ.

وهذا الأمر ليس بواجب لكن لم يرد عبدالله أن يترك شيئًا اتفق فيه مع النبي ﷺ، فكان بعد ذلك يسرد الصوم ثم يسرد الفطر، يفطر سبعة أيام ثم يصوم مثلها؛ حتى يتقوى بعدما ضعف وتقدمت به السن، فصار يشق عليه أن يصوم يومًا ويفطر يومًا.

المتن:

باب

1153 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : لِي النَّبِيُّ ﷺ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ قُلْتُ: إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا وَلأَِهْلِكَ حَقًّا فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ.

الشرح:

1153 شدد عبدالله على نفسه وصار يصوم النهار ويقوم الليل فنصحه النبي ﷺ قال: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ استفهام أراد به النبي ﷺ الإنكار عليه وتعريفه أن الإنسان لا ينبغي عليه أن يصوم النهار ويقوم الليل كله، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما صام شهرًا قط إلا رمضان، ولا قام ليلة إلى الصباح قط، كان يصوم من الشهر ويفطر، ويقوم من الليل وينام»[(98)].

فنصح النبي ﷺ عبدالله ؛ لأن الإنسان إذا قام الليل وصام النهار أتعب نفسه ومل العبادة وأخل بالواجبات الأخرى، كواجبات أهله البيتية وكالكسب لنفسه ولعياله، فالإنسان إذا كان صاحب كسب وعليه واجبات فلا ينبغي أن يخل بها، بل ينبغي أن يكون عنده توازن؛ ولهذا أنكر النبي ﷺ على عبدالله، وقال ﷺ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ قلت: إني أفعل ذلك» ، وفي الرواية الأخرى قال: « ولم أرد إلا الخير » [(99)].

وقد نصحه النبي ﷺ ـ في الحديث السابق ـ ألا يترك قيام الليل، فقام الليل وصام النهار، فنصحه ﷺ النصيحة الثانية بأن يخفف على نفسه، وكذلك لا يترك قيام الليل بالكلية، وبين له النبي ﷺ ما يحصل له من سرد الصوم.

قوله: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ يعني: ضعفت أو غارت؛ لكثرة السهر.

قوله: وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ يعني: تعبت وكلت، وترتب على ذلك تضييع الحقوق الأخرى.

قوله: وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا وَلأَِهْلِكَ حَقًّا في قصة سلمان قال: «إن لنفسك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا» [(100)] وفي حديث ابن عمرو رضي الله عنهما قال: وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا [(101)] يعني: الزائر، ولسلمان: «وإن لضيفك عليك حقًّا فأعط كل ذي حق حقه» [(102)] فلما قال ذلك سلمان لأبي الدرداء قال النبي ﷺ: صَدَقَ سَلْمَانُ، صَدَقَ سَلْمَانُ.

قوله: فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ أي: صم بعض الشهر وأفطر، ولا تسرد الصوم، وقم بعض الليل ونم، وقال النبي ﷺ فيمن صام الدهر: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ [(103)] فصوم الدهر إما أن يكون حرامًا وإما مكروهًا، وجاء فيه وعيد شديد أن مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ [(104)] وآخر حد للصوم المشروع نصف الدهر وهو صوم داود، يصوم يومًا ويفطر يومًا، وهذا إذا لم يكن عنده مشاغل ولم يشق الصائم على نفسه، أما إن كان عنده مشاغل فلا يصوم نصف الدهر، وإنما يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وإن كان عنده نشاط أكثر صام الإثنين والخميس، أو يصوم يومًا ويفطر يومين، أما أن يصوم نصف الدهر فهذا به مشقة، إلا من كان عنده فراغ ونشاط فلا بأس.

وقد ذكر سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله قال: «التقينا ببعض العباد من الهند، وكانوا يسردون الصوم سردًا»؛ فقلت له: هل ينبغي على الإنسان سرد الصوم؟ قال: «لا ينبغي للإنسان سرد الصوم».

وكان رحمه الله يصوم يومًا ويفطر يومًا ولكنه تعود الصوم، وقال لي رحمه الله: «اليوم الذي أفطر فيه ما أشتهي الأكل في النهار» فقد صارت رغبته في الأكل ضعيفة من تعوده وحبه للعبادة، لكن مع ذلك يفطر عملاً بنصيحة النبي ﷺ لعبد الله بن عمرو.

فإذا كان الإنسان مشغولاً ويؤدي أعمالاً أخرى يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ومن صام ثلاثة أيام من كل شهر فكأنما صام الدهر؛ فالحسنة بعشرة أمثالها؛ فكل يوم بعشرة أيام؛ لأنه إذا صام يومًا وأفطر يومًا أخل بالواجبات، والواجبات فيها فضل أجر، وإذا كان الشخص متفرغًا يكون الأفضل في حقه الصوم، فيصوم يومًا ويفطر يومًا.

وأفضل صيام بعد شهر رمضان صيام شهر المحرم؛ لقول رسول الله ﷺ: أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ [(105)] وصوم الشهر مستثنى، وإذا صام أغلب الشهر فحسن، وإن صام بعضه فحسن أيضًا، فالمقصود أن صوم المحرم مرغب فيه، وأفضله العاشر ثم التاسع، فإذا صام العاشر والتاسع والأيام البيض وشيئًا منه فحسن، وإن تيسر له أن يصوم أغلب الشهر ولم يكن عنده مشاغل فهذا أفضل.

واعلم أنه لا ينبغي للإنسان أن يشدد على نفسه؛ لأنه قد يسأم، وقد مر بنا في الأحاديث الأخرى أن النبي ﷺ لما رأى بعض من يتعبد قال له: قُمْ وَنَمْ [(106)]، وقال النبي ﷺ لعبدالله بن عمرو: قُمْ وَنَمْ، وكذلك لما كانت زينب لها حبل ممدود بين الساريتين تصلي فإذا فترت تعلقت به، قال ﷺ: حُلُّوه ليُصلِّ أحدكم نشاطه وإذا فتر فليقعد [(107)] وفي الحديث: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا [(108)]، وفي الحديث: الآخر: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا [(109)]، وقال ﷺ: إذا نعس أحدكم وهو في الصلاة فليرقد؛ فإنه إذا صلى لعله يدعو فيسب نفسه [(110)].

المتن:

باب فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّى

1154 حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ عَنْ الأَْوْزَاعِيُّ قال: حدثني عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ قال: حدثني جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ.

الشرح:

قوله: «بَاب فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّى» ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله التعار، وفيه: معان متعددة طويلة، لكن أرجحها أن التعار: اليقظة مع الصوت بذكر الله.

1154 في هذا الحديث: فضل من تعار من الليل؛ يعني: صوَّت بذكر الله، فقال: لا إله إلا الله.

وفيه: أنه يشرع للإنسان الذي يستيقظ من الليل أن يقول: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وزاد علي بن المديني عن الوليد: يُحْيِي وَيُمِيتُ [(111)]؛ يعني: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، وهذا فيه تقديم الحمد لله؛ وإذا قدمت بعضها على بعض فلا حرج؛ ففي «صحيح مسلم»: أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ. لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ [(112)].

فإذا قلت: سبحان الله أو الحمد لله، فلا يضرك هنا بأيهما بدأت، وكذلك البدء بقولك: لا إله إلا الله أو الله أكبر أو لا حول ولا قوة إلا بالله، كل ذلك لا يضرك.

قوله: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ فيه: فضل هذا الذكر إذا استيقظ، وأنه من أسباب المغفرة واستجابة الدعاء.

وفيه: أن الوضوء والصلاة بعد ذكر الله مقبولة، وهذا فضل عظيم؛ ولهذا قال ابن بطال رحمه الله كلامًا جميلاً يخص هذا الحديث؛ قال: «وعد الله على لسان نبيه أن من استيقظ من نومه لهجًا لسانه بتوحيد ربه، والإذعان له بالملك والاعتراف بنعمه يحمده عليها، وينزهه عما لا يليق به بتسبيحه والخضوع له بالتكبير والتسليم له والعجز عن القدرة إلا بعونه، أنه إذا دعا أجابه، وإذا صلى قبلت صلاته، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به ويخلص نيته لربه ».

المتن:

1155 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قال: حدثنا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَقْصُصُ فِي قَصَصِهِ وَهُوَ يَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ أَخًا لَكُمْ لاَ يَقُولُ: الرَّفَثَ» يَعْنِي بِذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ.

وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ

تَابَعَهُ عُقَيْلٌ. وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ وَالأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

الشرح:

1155 هذا الحديث فيه: كلام جيد ذكره أبو هريرة ، ولم يذكر أنه من كلام النبي ﷺ، فقال هذه الأبيات:

وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ

والشاهد البيت الأخير:

يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ

المتن:

1156 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : رَأَيْتُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ فَكَأَنِّي لاَ أُرِيدُ مَكَانًا مِنْ الْجَنَّةِ إِلاَّ طَارَتْ إِلَيْهِ، وَرَأَيْتُ كَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِي أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ فَقَالَ: لَمْ تُرَعْ خَلِّيَا عَنْهُ.

1157 فَقَصَّتْ حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ إِحْدَى رُؤْيَايَ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ.

1158 وَكَانُوا لاَ يَزَالُونَ يَقُصُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ الرُّؤْيَا أَنَّهَا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا مِنْ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ.

الشرح:

1156، 1157 فيه: أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما رأى رؤيا فقصها على النبي ﷺ، ففسرها له النبي ﷺ وعبرها له، وهذا ثابت؛ فقد جاء في الحديث أن عبد الله بن عمر رأى بيده قطعة إستبرق، والإستبرق: نوع من الحرير؛ فالحرير نوعان: إستبرق وسندس، أحدهما غليظ، والآخر رقيق، فرأى عبد الله كأنه دخل الجنة وكأن بيده قطعة إستبرق، فكان لا يريد مكانًا من الجنة إلا وطارت إليه، ورأى أيضًا رؤيا أخرى كأن اثنين أتياه فأرادا أن يذهبا به إلى النار فتلقاهما ملك، فقال: لم ترع، خليا عنه. فقص عبدالله هذه الرؤيا على حفصة أم المؤمنين أخته، فقصتها حفصة على النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ 

وهذا الحديث فيه: دليل على أن صلاة الليل من أسباب السلامة من النار، والشاهد قوله ﷺ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، ويؤيد هذا ـ أيضًا ـ الحديث الآخر أن النبي ﷺ قال: وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ [(113)] يعني: وصلاة الرجل في جوف الليل تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، ثم قرأ رسول الله ﷺ قول الله : تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السَّجدَة: 16]. فانتفع عبدالله بهذه النصيحة وكذلك انتفع الصحابة ، فهم أخذوا بنصيحة النبي ﷺ، فكان عبدالله بعد ذلك يصلي من الليل وكذلك الصحابة، بخلاف كثير من الناس اليوم تخبرهم بالحكم الشرعي ولا يعملون به، تنصحهم ولا يأخذون بالنصيحة، أما الصحابة أفضل الناس ، ولا كان من الناس ولا يكون مثلهم، فهم قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وهم الذين نقلوا الشريعة إلينا وبلغونا شرع الله ودينه من الكتاب والسنة، فهم يمتثلون أمر الله وأمر رسوله، فكان الواحد منهم إذا أمره النبي ﷺ بأمر امتثله، وإذا نصحه انتفع بنصحه.

1158 قوله: «وَكَانُوا لاَ يَزَالُونَ يَقُصُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ الرُّؤْيَا» من ذلك أن جماعة من أصحاب النبي ﷺ رأوا أن ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان.

وفي رواية أخرى قال ﷺ: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ [(114)] فيه: أن أقل عدد تطلب فيه ليلة القدر السبع الأواخر من رمضان، تبدأ من ليلة أربع وعشرين على اعتبار أن الشهر تام، أما في حديث الباب فقد قال ﷺ: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا مِنْ الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ، وهذا تابع للرؤيا.

وليس شرطًا أن يكون الملك في الرؤيا على صورته الملائكية، فعبدالله رأى كأن اثنين ذهبا به إلى النار وأتاه ملك، والملك يتصور ـ حتى في اليقظة ـ بصور متعددة، فجبريل كان يأتي النبي ﷺ في صورة دحية الكلبي[(115)]، أما في الصورة التي خلق عليها ما رآه النبي ﷺ إلا مرتين، مرة في الأرض ومرة في السماء.

المتن:

باب الْمُدَاوَمَةِ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ

1159 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ قال: حدثني جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ الْعِشَاءَ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ يَدَعْهُمَا أَبَدًا.

الشرح:

1159 قوله: «صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ الْعِشَاءَ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ» يعني: ثم وأوتر، وظاهره كأنه ﷺ أوتر بواحدة؛ فيكون قد صلى تسعًا.

قوله: «وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا» يعني: بعد الوتر؛ ليعلم الناس أن الصلاة بعد الوتر جائزة، وإن كان الأفضل أن تكون آخر صلاة الليل وترًا، فقد جاء في الحديث الآخر: «أن النبي ﷺ أوتر وصلى بعدها ركعتين» [(116)]؛ ليعلم الناس أن الصلاة بعد الوتر ليست ممنوعة، ولكن الأفضل أن تكون آخر الصلاة وترًا، فقد جاء في الحديث الآخر: اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ مِنَ اللَّيْلِ وِتْرًا [(117)].

قوله: «وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ» المقصود ركعتا الفجر، والمراد بالنداءين: الأذان والإقامة؛ فكل منهما يسمى نداء، فالأذان نداء للإعلام بدخول وقت الصلاة، والإقامة إعلام بإقامة الصلاة.

وقد جاء في الحديث الآخر: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاة، بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاة [(118)].

قوله: «وَلَمْ يَكُنْ يَدَعْهُمَا أَبَدًا» استدل بعضهم بهذا على وجوب ركعتي الفجر، وهو منقول عن الحسن البصري، والصواب الذي عليه الجماهير أنهما ليستا واجبتين، لكنهما مؤكدتان، فهما آكد السنن الرواتب، وقال بعضهم: الآكد صلاة الضحى، وقيل: إن ركعتي الفجر أفضل التطوعات، وقيل: أفضلها الوتر، وقيل: أفضلها صلاة الليل. والنبي ﷺ كان يداوم عليهما أعني الوتر وركعتي الفجر ولا يتركهما حضرًا ولا سفرًا؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «وَلَمْ يَكُنْ يَدَعْهُمَا أَبَدًا» ، وكلمة «أبدًا» تكون للمستقبل، واستعملت في مكان «قط» التي تكون للماضي، فالأصل أن يقال: «ولم يكن يدعهما قط»، لكنه أجرى الماضي مجرى المستقبل كأن ذلك دأبه الذي لا يتركه.

المتن:

باب الضِّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الأَْيْمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ

1160 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قال: حدثني أَبُو الأَْسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ.

الشرح:

قوله: «باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر» لم يجزم المؤلف رحمه الله بحكم، فما قال: باب استحباب الضجعة، ولا قال: باب وجوب الضجعة، بل ترك الحكم مفتوحًا؛ ليتأمل طالب العلم ويستنبط الحكم الشرعي من النص؛ لأن المسألة فيها خلاف بين أهل العلم.

1160 قولها: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ» قال بعضهم: الحكمة فيه أن القلب يكون في جهة اليسار، فلو اضطجع على جنبه الأيسر لاستغرق في النوم؛ لأنه يكون أبلغ في الراحة، بخلاف النوم على الشق الأيمن، فالإنسان النائم على الشق الأيمن قلبه معلق، فلا يكون مستغرقا في النوم.

وثبت عن ابن مسعود أنه أنكر الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وكذلك أيضًا روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: هي ضجعة الشيطان، وهذا محمول على أنهما لم يبلغهما فعل النبي ﷺ وكلام ابن مسعود يدل على أنه إنما أنكر تحتمًا، وحُكي عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا أنه قال: «إنها بدعة»؛ أي: الضجعة بعد ركعتي الفجر على الشق الأيمن، وكان يأمر بحصب من يضطجع؛ يعني: يرميه بالحصباء، وهي: الحصى الصغار، فالضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر مختلف فيها.

وشدد ابن حزم رحمه الله وأفرط، فذهب إلى أن الضجعة واجبة، وأنها شرط في صحة الصلاة[(119)]؛ وذلك لأنه جاء في حديث آخر الأمر بالضجعة لكن فيه كلام.

والصواب أنها مستحبة لمن صلاهما في البيت، فمن صلاهما في البيت يستحب أن يضطجع على شقه الأيمن، أما من صلاهما في المسجد فلا؛ لأنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه أمر الصحابة أن يضطجعوا، وإنما ثبت من فعله ﷺ، وأما حديث الأمر بها فلو صح فهو محمول على الاستحباب؛ لأن النبي ﷺ كان يفعلها أحيانًا ويتركها أحيانًا، والصارف لهذا الأمر ترك النبي ﷺ لها بعض الأحيان، فيكون صارفًا للأمر من الوجوب إلى الاستحباب.

المتن:

باب مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ

1161 حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قال: حدثني سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا صَلَّى فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلاَّ اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَنَ بِالصَّلاَةِ.

الشرح:

1161 هذا الحديث فيه: دليل على أن الاضطجاع ليس واجبًا؛ وذلك لترك النبي ﷺ له أحيانًا.

وفيه: الرد على ابن حزم القائل بوجوب الضجعة، وأنها شرط لصحة الصلاة؛ فالنبي ﷺ كان يتركها أحيانًا؛ لهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلاَّ اضْطَجَعَ» .

فيتضح من كلام عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا وجدها مستيقظة حدثها، وإن وجدها نائمة اضطجع، فكأنه يفصل بين ركعتي الفجر والفريضة، إما بالحديث أو بالضجعة؛ فدل على أن الضجعة ليست واجبة، وليست شرطًا كما يقول ابن حزم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ» أشار بهذه الترجمة إلى أنه ﷺ لم يكن يداوم عليها، وبذلك احتج الأئمة على عدم الوجوب، وأما حديث أبي هريرة عند أبي داود في أمر من صلاهما بالاضطجاع[(120)] فهو من رواية الأعمش عن أبي صالح؛ وهو مدلس وقد عنعن، ومن طريق أخرى قال الأعمش: عمن حدثني عن أبي صالح، فيحتمل أنه دلسه عن ضعيف ولم يسمه، ولو صح هذا الحديث فهو محمول على الاستحباب لهذا الحديث، فيكون ترك النبي ﷺ لها بعض الأحيان صارفًا الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب، وهذا الحديث أشار إليه الشارح رحمه الله.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفائدة ذلك الراحة والنشاط لصلاة الصبح، وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للمتهجد، وبه جزم ابن العربي ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول: «إن النبي ﷺ لم يضطجع لسنة ولكنه كان يدأب فيستريح» [(121)]» يعني: أن اضطجاعه ﷺ إنما هو من باب الاستراحة.

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومن ثم قال الشافعي: تتأدى السنة بكل ما يحصل به الفصل من مشي وكلام وغيره، حكاه البيهقي، وقال النووي: المختار أنه سنة لظاهر حديث أبي هريرة، وقد قال أبو هريرة راوي الحديث: إن الفصل بالمشي إلى المسجد لا يكفي.

وأفرط ابن حزم فقال: يجب على كل أحد، وجعله شرطًا لصحة صلاة الصبح.

ورده عليه العلماء بعده حتى طعن ابن تيمية ومن تبعه في صحة الحديث؛ لتفرد عبد الواحد بن زياد به؛ ففي حفظه مقال، والحق أنه تقوم به الحجة، ومن ذهب إلى أن المراد به الفصل لا يتقيد بالأيمن، ومن أطلق قال: يختص ذلك بالقادر».

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وذهب بعض السلف إلى استحبابها في البيت دون المسجد، وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا بأنه لم ينقل عن النبي ﷺ أنه فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد؛ أخرجه ابن أبي شيبة».

وقوله: «يحصب» يعني: يرميه بالحصباء وهي الحجارة الصغار، والصواب: أنها سنة لمن فعلها في البيت كما كان النبي ﷺ يفعل، أما في المسجد فلم يفعلها الصحابة ولم يأمرهم النبي ﷺ بذلك.

وقال بعضهم: إن الضجعة لمن قام الليل فقط، والأقرب أنها لعموم من صلاها في البيت، ومقدارها وقت يسير، فهي ضجعة خفيفة، يمكن للإنسان أن يقوم بمجرد أن يضع جنبه إذا أراد.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «باب الضجعة»، بكسر الضاد المعجمة؛ لأن المراد الهيئة» وهذا الأقرب، وفتحها يراد به المرة الواحدة؛ أي: أنها اسم مرة.

المتن:

باب الْحَدِيثِ يَعْنِي بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ

1168 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَبُو النَّضْرِ: حَدَّثَنِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلاَّ اضْطَجَعَ قُلْتُ: لِسُفْيَانَ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَرْوِيهِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ؟ قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ ذَاكَ.

الشرح:

1168 فيه: أنه لا بأس بالحديث بعد ركعتي الفجر؛ لأنه ليس وقت نهي عن الكلام كوقت خطبة الجمعة، وكأن المؤلف أراد الرد هنا على من يكره الكلام بعد ركعتي الفجر يقول: يكره إذا صلى ركعتي الفجر أن يتكلم حتى يصلي الفريضة.

ومما يؤيد ذلك أن النبي ﷺ كان يحدث عائشة رضي الله عنها؛ فدل على أنه غير مكروه.

المتن:

باب تَعَاهُدِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهُمَا تَطَوُّعًا

1169 حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ.

الشرح:

1169 فيه: دليل على مشروعية المداومة على ركعتي الفجر خلافًا لمن كره ذلك؛ لأن النبي ﷺ كان يتعاهدهما، ولا يدل ذلك على وجوبها، فلا يضره كونه يداوم على النوافل وهو يعتقد أنها سنة.

وفيه: تسمية ركعتي الفجر نافلة، فتدخلان في النوافل، وفي اللفظ الآخر سميتا: «تطوعًا» [(147)]؛ إشارة إلى ما ورد في بعض الروايات، وهذا يدل على أن ركعتي الفجر ليستا واجبتين خلافًا للحسن البصري؛ لأن عائشة رضي الله عنها أدخلتهما في النوافل، والنوافل ليست واجبة.

المتن:

باب مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ

1170 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.

الشرح:

1170 قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» هكذا في هذا الحديث، وهو خلاف الحديث الآخر المعروف عن عائشة أنها قالت: «ما كان رسول الله ﷺ يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة» [(149)]؛ فدل على أن المراد منه أن فعله هذا ﷺ يكون في الغالب؛ ولهذا روت هنا أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، وجاء في الحديث الآخر عنها أنها قالت: «أن النبي ﷺ صلى تسع ركعات» [(150)]، وجاء: «أنه ﷺ صلى سبع ركعات» [(151)]. إذن يدل كل ما سبق على أن صلاة الليل متنوعة.

وفيه: الرد على من قال: إنه لا يجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في الليل، وقال: إن من زاد على إحدى عشرة ركعة فكأنما زاد في الفريضة.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد