وفيه: أن الإمام إذا جاء والناس يصلون فله أن يتقدم، كما فعل النبي ﷺ في هذا الحديث مع أبي بكر، وله أن يصلي مع الناس كما فعل مع عبد الرحمن بن عوف في تبوك؛ فإن النبي ﷺ ذهب ليقضي حاجته هو والمغيرة بن شعبة، فتأخر على الناس، فقدّموا عبد الرحمن بن عوف في صلاة الفجر في تبوك، فجاء النبي ﷺ والمغيرة فوجدا عبد الرحمن صلى ركعة، فصلى النبي ﷺ خلفه وصلى المغيرة خلفه، فلما سلموا قام النبي ﷺ يقضي الركعة التي فاتته، وقام المغيرة كذلك، ثم قال النبي ﷺ: أَحْسَنْتُمْ، وَأَصَبْتُمْ [(229)].
فدل هذا على أنه إذا جاء الإمام وقد صلى الناس بعض الركعات فالأولى ألا يتقدم؛ حتى لا يشوش عليهم، وإن كان في أول الصلاة كما في قصة أبي بكر له أن يتقدم؛ لأنه كان في الركعة الأولى.
المتن:
باب مَنْ سَمَّى قَوْمًا أَوْ سَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى غَيْرِهِ مُوَاجَهَةً وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ
1202 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ: التَّحِيَّةُ فِي الصَّلاَةِ وَنُسَمِّي وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ.
الشرح:
1202 فيه: أن من سمى قومًا وسلم في الصلاة على غيره مواجهة وهو لا يعلم فصلاته صحيحة؛ لأنه معذور بالجهل، كما في حديث معاوية بن الحكم السلمي عند مسلم أنه تكلم في الصلاة وهو جاهل، فلم يأمره النبي ﷺ بالإعادة[(236)].
قوله: «كُنَّا نَقُولُ: التَّحِيَّةُ فِي الصَّلاَةِ وَنُسَمِّي وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» هذا حديث ابن مسعود يعني: أن هذا كان في أول الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك.
قوله: «فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ يعني: ولا تتكلموا؛ فدل على أن هذا كان منسوخًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وكأن مقصود البخاري بهذه الترجمة أن شيئًا من ذلك لا يبطل الصلاة؛ لأن النبي ﷺ لم يأمرهم بالإعادة وإنما علمهم ما يستقبلون، لكن يرد عليه أنه لا يستوي حال الجاهل قبل وجود الحكم مع حاله بعد ثبوته، ويبعد أن يكون الذين صدر منهم الفعل كان عن غير علم، بل الظاهر أن ذلك كان عندهم شرعًا مقررًا، فورد النسخ عليه، فيقع الفرق. انتهى».
والمقصود أن هذا كان مباحًا، فقد كانوا أولاً يتكلمون ويسلمون، يعني: السلام على فلان وفلان، وكانوا يقولون: السلام على جبريل وميكائيل، ثم نسخ ذلك.
المتن:
باب التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ
1203 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ.
1204 حَدَّثَنَا يَحْيَى أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: التَّسْبِيحُ للرِّجَالِ وَالتَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ.
الشرح:
1203، 1204 في هذين الحديثين: بيان أنه إذا ناب الإمام شيء في الصلاة يسبح الرجال فيقولون: سبحان الله، سبحان الله! والنساء تصفق؛ لأن النساء يخشى أن يفتتن أحد بصوتهن.
ولما صفّح الصحابة في الصلاة أمرهم النبي ﷺ بالتسبيح.
المتن:
باب مَنْ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فِي صَلاَتِهِ أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ
رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
1205 حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ يُونُسُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِهِمْ فَفَجِئَهُمْ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَهَمَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلاَتِهِمْ فَرَحًا بِالنَّبِيِّ ﷺ حِينَ رَأَوْهُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَتُوُفِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
الشرح:
1205 هذا الحديث فيه: أنه لا بأس بالعمل اليسير، ورجوع القهقرى في الصلاة، والتقدم والتأخر لأمر ينزل به، فيتقدم ليسد فرجة مثلاً، أو يتأخر كما فعل النبي ﷺ حينما صعد المنبر ليّعلم الناس فتقدم وتأخر وصعد[(237)]؛ وكما في صلاة الكسوف تقدم وتأخر[(238)].
وفيه: أن أبا بكر رجع على عقبيه؛ لأن الحجرة عن يسار الإمام وكان المسجد لم يوسع في آخر حياة النبي ﷺ ـ وكذلك في عهد أبي بكر ـ فكان أبو بكر يصلي في الروضة ـ محراب النبي ﷺ ـ والحجرة ـ حجرة عائشة ـ عن يساره، فلما كشف النبي ﷺ الستر رأوه فظنوا أنه سيأتي.
قوله: «فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ» يعني: فرح ﷺ بانتظام صفوفهم خلف إمامهم، والعمل بالسنة، وانتشار الإسلام؛ فقد سره ذلك ﷺ، فتأخر أبو بكر؛ أي: رجع القهقرى، وهذا هو الشاهد، فقد ظن أن النبي ﷺ سيأتي، فلما لم يأت تقدم، فكون أبي بكر تقدم وتأخر دل على الجواز.
قوله: «فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا» أي: صلاتكم، ثم «وَأَرْخَى السِّتْرَ وَتُوُفِّيَ ذَلِكَ الْيَوْمَ» ﷺ.
وكذلك ثبت أن النبي ﷺ «كان يحمل أمامة بنت زينب فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها» [(239)]، كل هذا من العمل اليسير الذي لا يؤثر في الصلاة، كالتقدم لسد الفرجة ونحو ذلك.
المتن:
باب إِذَا دَعَتْ الأُْمُّ وَلَدَهَا فِي الصَّلاَةِ
1206 وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَادَتْ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ فِي صَوْمَعَةٍ قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي قَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ يَمُوتُ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وَجْهِ الْمَيَامِيسِ وَكَانَتْ تَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ فَوَلَدَتْ فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا الْوَلَدُ؟ قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ قَالَ جُرَيْجٌ: أَيْنَ هَذِهِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِي؟ قَالَ: يَا بَابُوسُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: رَاعِي الْغَنَمِ.
الشرح:
1206 في الحديث: أنه يجب على الابن أن يجيب والديه إذا دعياه إذا كان في صلاة النافلة، فإن كانا يسمحان أشار إليهما أنه في الصلاة، وإلا قطع الصلاة وأجابهما؛ لأن حق الوالدين فرض مقدم على صلاة النافلة.
وفي هذه القصة دليل على أن دعوة الوالد مستجابة، وهذا الحديث ساقه المؤلف رحمه الله معلَّقًا قال: «وَقَالَ اللَّيْثُ» .
وقد استجاب الله دعاء أم جريج، فلم يمت حتى نظر إلى وجه المومسات الزانيات.
وهذا الحديث: وصله الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي أحد شيوخ البخاري عن الليث مطولاً، وساقه مسلم بقصة جريج مطولة ومبسوطة أكثر من البخاري؛ ففيه أن جريجًا كان رجلاً عابدًا يصلي في صومعة على عادة العباد في بني إسرائيل منعزلاً عن الناس، وأنه جاءته أمه يومًا فقالت: يا جريج كلمني. قال: يا رب أمي وصلاتي. ثم تركها وأقبل على صلاته، ثم جاءته في المرة الثانية وقالت: يا جريج كلمني. قال: يا رب أمي وصلاتي. فلم يكلمها وقدم الصلاة، ثم جاءت في المرة الثالثة فقالت: يا جريج. قال: يا رب أمي وصلاتي: فتركها، فغضبت ودعت، وقالت: اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ، يعني: الزانيات، وهنا قال: الْمَيَامِيسِ والحمد لله أنها ما قالت: حتى يفعل الزنا، فاكتفت بأن قالت: حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ،.
فتذاكر الناس عبادة جريج، فقالت امرأة بغي: إن شئتم لأفتننه، فجاءت هذه المرأة البغي من بني إسرائيل فتعرضت لجريج؛ لعله يفتتن بها، فلم يعبأ بها ولم يلتفت إليها، فجاءت إلى راعي غنم يأوي إلى الصومعة فمكنته من نفسها، ففعل بها الفاحشة، فحملت منه، ثم ولدت الغلام، قالوا: ممن هذا؟ قالت: من جريج. فظلمته، فجاءوا إليه وسحبوه وأنزلوه من صومعته وضربوه وهدموا صومعته. قال: ما لكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي ووَلدَتْ منك غلاما. قال: أين الصبي؟ فجاء فتوضأ وصلى ركعتين، ثم جاء إلى الصبي وضرب في بطنه وقال: من أبوك يا صبي؟ قال: فلان الراعي. تكلم وهو في المهد، فاعتذروا إليه وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، فقال: لا، بل أعيدوها من طين كما كانت.
وهذه القصة ساقها مسلم بأطول من هذا[(240)].
المتن:
باب مَسْحِ الْحَصَا فِي الصَّلاَةِ
1207 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قال: حدثني مُعَيْقِيبٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قَالَ: إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً.
الشرح:
1207 ينبغي للإنسان ألا يسوي التراب في الصلاة إلا ما تدعو الحاجة إليه، والترجمة فيها ذِكْر الحصى، والحديث فيه ذِكْر التراب، والحافظ ابن حجر رحمه الله يذكر أن المؤلف قصد بذلك إلحاق الحصى بالتراب بالاقتصار على التسوية مرة واحدة، والظاهر أنه لا بأس بالزيادة على الواحدة عند الحاجة، ولكن ينبغي على الإنسان ألا يزيد عن الحاجة؛ لئلا يكون هذا من العبث، فلا يمسح الحصى لما جاء في الحديث الآخر: لَا يَمْسَحِ الْحَصَى، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ [(241)].
وقوله: إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً المقصود: أن الإنسان لا يمسح الحصى إلا ما تدعو الحاجة إليه، وإن علق بجبهة الإنسان شيء وهو في الصلاة فلا يمسحه حتى يسّلم.
المتن:
باب بَسْطِ الثَّوْبِ فِي الصَّلاَةِ لِلسُّجُودِ
1208 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ حَدَّثَنَا غَالِبٌ الْقَطَّانُ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنْ الأَْرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ.
الشرح:
1208 هذا الحديث فيه: أنه لا بأس بالعمل اليسير في الصلاة، ولا بأس أن يسجد الإنسان على ثوبه أو كمه أو عمامته عند الحاجة، كأن تكون الأرض حارة أو باردة، وأما إذا لم تدع الحاجة فلا ينبغي للإنسان أن يسجد على ثوبه ولا على عمامته؛ ولهذا كان الصحابة يصلون مع النبي ﷺ في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدهم أن يضع جبهته على الأرض بسط ثوبه فسجد عليه حتى يقيه شدة الحر.
المتن:
باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الصَّلاَةِ
1209 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كُنْتُ أَمُدُّ رِجْلِي فِي قِبْلَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَرَفَعْتُهَا فَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهَا.
الشرح:
1209 في الحديث: دليل على أنه لا بأس بالعمل اليسير في الصلاة، وأنه لا يؤثر؛ ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها تمد رجلها، فإذا أراد النبي ﷺ أن يسجد غمزها فكفت رجلها فإذا قام يصلي مدت رجلها.
وفيه: دليل على أنه لا بأس بالصلاة إذا كان أمام الإنسان أحد نائما، ولو كان امرأة، والنهي الوارد يراد به المرور، وهو المشي، بأن يأتي من هذا الجانب إلى الجانب الآخر، أما كون الشخص نائما أماك فلا يضر، ولو كانت امرأة؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر أنها قالت: «كنت أنام بين يدي النبي ﷺ فتبدو لي الحاجة فأنسل من عند رجليه» [(242)]. فهذا لا يسمى مرورًا.
وفيه: دليل على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء أيضًا؛ لأنه لو كان ينقض الوضوء لكان مبطلاً للصلاة.
المتن:
1210 حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ صَلَّى صَلاَةً قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ لِيَقْطَعَ الصَّلاَةَ عَلَيَّ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَذَعَتُّهُ وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِيًا.
ثُمَّ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: فَذَعَتُّهُ بِالذَّالِ، أَيْ: خَنَقْتُهُ، وَفَدَعَّتُّهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ يَوْمَ يُدَعُّونَ أَيْ: يُدْفَعُونَ وَالصَّوَابُ فَدَعَتُّهُ إِلاَّ أَنَّهُ كَذَا قَالَ: بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَالتَّاءِ.
الشرح:
قوله: فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَذَعَتُّهُ يعني: خنقته، وفي رواية: فَدَعَتُّهُ بالدال؛ يعني: دفعته دفعًا شديدًا.
ذكر النضر بن شميل أن: فَذَعَتُّهُ بالذال؛ أي: خنقته، و فَدَعَتُّهُ بالدال المهملة من قول الله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطُّور: 13]؛ أي: يدفعون.
1210 فيه: أن الشيطان عرض للنبي ﷺ.
وفيه: دليل على أن الأنبياء والصالحين قد يسلط عليهم الشيطان، ولكن الله يعصمهم منه، وهذا النبي ﷺ أشرف الخلق سلط عليه الشيطان وجاء وعرض للنبي ﷺ ليقطع الصلاة، وفي الحديث: الآخر: أنه جاء بشهاب من نار ووضعه في وجهه ليحرقه[(243)]، ودل هذا على أن الشيطان له أحوال، وقد يعرض للصالحين من شدة غيظه وحنقه.
قوله: وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ يعني: يربطه إلى سارية من سواري المسجد.
قوله: حَتَّى تُصْبِحُوا، فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ : رَبِّ وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35]» ، خشي ﷺ أن يكون هذا مشاركة لسليمان؛ لأن الله سخر له الشياطين، وقد دعا الله أن لا ينبغي هذا الملك لأحد من بعده؛ يعني: سأل ربه أن يكون ملكًا خاصًّا به؛ ولهذا تركه النبي ﷺ.
والشاهد من الحديث: عمل النبي ﷺ في الصلاة، فكونه خنق الشيطان هذا من العمل اليسير الذي لا يؤثر في الصلاة.
وهل الشيطان أو مروره يقطع الصلاة؟ وكيف يجاب عن حديث: يقطع صلاة المرء: المرأة والحمار والكلب الأسود قيل: ما بال الكلب الأسود من الأحمر؟ قال: إن الْكَلْبَ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ [(244)] فالكلب الأسود شيطان يقطع الصلاة، فهل الشيطان يقطع الصلاة كما أن الكلب الأسود يقطع الصلاة؟
الجواب: أن الشيطان لا يقطع الصلاة، وأما حديث: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ، فالمراد شيطان الكلاب؛ لأن الشيطان هو المتمرد من كل أمة، فالشيطان من الكلاب الأسود، وكذلك أيضًا إذا تمرد فحل من الإبل وهاج فإنه يسمى شيطانًا، وهكذا والكلب الأسود يقطع الصلاة.
وحديث قطع الصلاة تستوي فيه النافلة والفريضة، إلا إذا دل دليل على التخصيص.
المتن:
باب إِذَا انْفَلَتَتْ الدَّابَّةُ فِي الصَّلاَةِ
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنْ أُخِذَ ثَوْبُهُ يَتْبَعُ السَّارِقَ وَيَدَعُ الصَّلاَةَ.
1211 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الأَْزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: كُنَّا بِالأَْهْوَازِ نُقَاتِلُ الْحَرُورِيَّةَ فَبَيْنَا أَنَا عَلَى جُرُفِ نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ فَجَعَلَتْ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا قَالَ شُعْبَةُ: هُوَأَبُو بَرْزَةَ الأَْسْلَمِيُّ فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الْخَوَارِجِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ وَإِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سِتَّ غَزَوَاتٍ أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَوْ ثَمَانِ وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ وَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَنْ أُرَاجِعَ مَعَ دَابَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا فَيَشُقُّ عَلَيَّ.
الشرح:
هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان ماذا يفعل إذا انفلتت دابته وهو في الصلاة؟
والجواب: أنه ينصرف إليها ويدع الصلاة؛ لأن فواتها فيه ضرر كبير قد يشق عليه مشقة عظيمة، والصلاة وقتها موسع، فإذا انفلتت ينصرف ويدع الصلاة إذا كان يغلب على ظنه أنها تذهب.
والمؤلف أيد هذا بالآثار:
قوله: «وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنْ أُخِذَ ثَوْبُهُ يَتْبَعُ السَّارِقَ وَيَدَعُ الصَّلاَةَ» ، وكذلك إذا انفلتت الدابة يتبعها ويدع الصلاة؛ لأن الدابة والثوب يحصل بفوتهما ضرر عظيم، والصلاة وقتها موسع.
ومثله لو رأى صبيًّا على بئر كاد أن يسقط، أو خاف عليه من النار، فينصرف له ويدع الصلاة، ويخرج من الصلاة بالنية، ولا يحتاج إلى سلام.
1211 ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي برزة الأسلمي وعمله، من حديث الأزرق بن قيس.
قوله: «كُنَّا بِالأَْهْوَازِ نُقَاتِلُ الْحَرُورِيَّةَ» الأهواز من بلاد الشرق ـ في إيران ـ والحرورية: الخوارج؛ سموا حرورية لأنهم سكنوا ببلدة يقال لها: حروراء في العراق.
قوله: «فَبَيْنَا أَنَا عَلَى جُرُفِ نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ» يمسك اللجام، أي: الزمام.
قوله: «فَجَعَلَتْ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ، وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا» أي: يمشي معها.
قوله: «قَالَ شُعْبَةُ: هُوَأَبُو بَرْزَةَ الأَْسْلَمِيُّ» الصحابي الجليل.
قوله: «فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الْخَوَارِجِ» يعني: يشاهده مستنكرًا ذلك منه.
قوله: «يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ» يدعو عليه؛ لأنه يعبث في صلاته.
قوله: «فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ وَإِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سِتَّ غَزَوَاتٍ أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَوْ ثَمَانِ» ، فيه: أنه لا بأس أن يذكر الإنسان شيئًا من فضائله من باب الدفاع عن نفسه، ومن باب إقناع الخصم بالدليل، وأن هذا ليس من التزكية للنفس، يعني: يبين لهم أنه صحب الرسول ﷺ ورآه، وأنه ليس جاهلاً، وأنه فعل هذا عن علم وبصيرة؛ فقد صحب النبي ﷺ وغزا معه ست غزوات أو سبع غزوات.
قوله: «وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ» يعني: ييسر في الأمور، أما أنتم فتعسرون.
قوله: «وَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَنْ أُرَاجِعَ مَعَ دَابَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا فَيَشُقُّ عَلَيَّ» يعني: ترجع إلى مكانها الذي أَلِفته، أو ترجع إلى مكان آخر فيشق عليه، وجاء في لفظ آخر أنه قال: «كوني أمشي معها أولى من أن تنفلت ولا أستطيع أن آتى أهلي إلا في الليل» [(245)]؛ لطول المسافة، فدل هذا على أن هذا العمل لا بأس به.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز حكاية الرجل مناقبه إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن في سياق الفخر، وأشار أبو برزة بقوله: «ورأيت تيسيره» ، إلى الرد على من شدد عليه في أن يترك دابته تذهب ولا يقطع صلاته، وفيه: حجة للفقهاء في قولهم: إن كل شيء يخشى إتلافه من متاع وغيره يجوز قطع الصلاة لأجله».
وظاهر هذا الحديث أن أبا برزة لم يقطع صلاته، ويؤيده ما في رواية أخرى أنه قال: «فأخذها ثم رجع القهقرى»، فدل على أنه لم يقطع صلاته؛ لأن هذا من العمل اليسير، وقوله: ولم يقطعها» يدل على أنه تأخر في صلاته وتقدم ولم يقطع الصلاة، فهو عمل يسير ومشي قليل وليس فيه استدبار القبلة فلا يضر، لكن لو احتاج إلى قطع الصلاة قطعها إذا كان العمل كثيرًا وفيه: عبث كثير ومشي كثير يلزم منه استدبار القبلة، فيقطعها ويستأنف الصلاة بعد ذلك.
وأما إذا كان إمامًا فعليه أن يقدم من يتم بهم الصلاة إذا عرض له عارض، فإن لم يقدم فيقدمون من يتم بهم الصلاة.
المتن:
الشرح:
1212 قوله: قِطْفًا مِنْ الْجَنَّةِ يعني: عنقودًا من عنب.
والحديث فيه: مشروعية صلاة الكسوف عند وجود سببها، وفيه: أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان وسجدتان، وهو الذي اتفق عليه الشيخان.
وجاء في مسلم أنه صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات، وفي حديث آخر صلى أربع ركوعات في كل ركعة، وفي حديث آخر خمس ركوعات، وفيها ست ركوعات، ولكن ليس في البخاري إلا أربع ركوعات؛ يعني: ركعتان في كل ركعة ركوعان، وهذا الذي اتفق عليه الشيخان.
والشاهد من الحديث تقدُّم النبي ﷺ وتأخُّره، وفيه: أن النبي ﷺ كشف له عن الجنة والنار، وفي اللفظ الآخر قال: لقد عرضت علي الجنة والنار في عرض هذا الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشر [(246)].
وقال: ولقد قربت لي الجنة حتى دلي لي عنقود من عنب حتى رأيت أني آخذه حين رأيتموني تقدمت [(247)] ومثلت له النار حتى قربت له حتى خشي ﷺ، وتأخر وتأخرت الصفوف فتقدم فتقدمت الصفوف وتكعكع وتكعكعت الصفوف، وهذا التقدم والتأخر هو الشاهد من الحديث، وهو مثل من ينازع الدابة وهو يتبعها كما فعل أبو برزة الأسلمي؛ فكونه يتبع الدابة وهو ينازعها مثل تقدَّم النبي ﷺ وتأخره، فإن كفاه ذلك وإلا قطع الصلاة وتبع الدابة.
ولما كشف للنبي ﷺ عن النار رأى عمرو بن لحي فيها، رآه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب، وجلب عبادة الأصنام لجزيرة العرب؛ وظاهره أنه قامت عليه الحجة وإن كان من أهل الجاهلية؛ ولذا رآه في النار ـ نعوذ بالله ـ وفي الحديث: الآخر: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ الخُزَاعِيَّ أي عمرو بن لحي يَجُرُّ قُصْبَهُ أي أمعاءه فِي النَّارِ [(248)].
المتن:
باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْبُصَاقِ وَالنَّفْخِ فِي الصَّلاَةِ
وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَفَخَ النَّبِيُّ ﷺ فِي سُجُودِهِ فِي كُسُوفٍ.
1213 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ فَإِذَا كَانَ فِي صَلاَتِهِ فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَوْ قَالَ: لاَ يَتَنَخَّمَنَّ ثُمَّ نَزَلَ فَحَتَّهَا بِيَدِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: إِذَا بَزَقَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْزُقْ عَلَى يَسَارِهِ.
1214 حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان جواز البصاق والنفخ في الصلاة إذا احتاج إلى ذلك، فيبصق في منديل، أو في ثوبه فلا بأس، ولا يؤثر هذا في الصلاة.
وكذلك النفخ إذا احتاج إليه لا يؤثر؛ ولهذا قال: «وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَفَخَ النَّبِيُّ ﷺ فِي سُجُودِهِ فِي كُسُوفٍ» أي: نفخ وبصق فلا بأس.
1213 في هذا الحديث: أنه يحرم إلقاء النخامة في المسجد؛ ولهذا فإن النبي ﷺ لما رأى النخامة في قبلة المسجد تغيظ، فدل على تحريم التنخم في المسجد.
قوله: إِنَّ اللَّهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ ومعناه: أن الله تعالى قِبَل وجه المصلي وهو فوق العرش، ومن كان فوقك كان قِبَل وجهك.
قوله: فَإِذَا كَانَ فِي صَلاَتِهِ فَلاَ يَبْزُقَنَّ في المسجد.
قوله: «ثُمَّ نَزَلَ فَحَتَّهَا بِيَدِهِ» أي: النخامة.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: إِذَا بَزَقَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْزُقْ عَلَى يَسَارِهِ» يعني: في غير المسجد فيبصق عن يساره أو تحت قدمه، أما إذا كان في المسجد فيبصق في ثوبه أو في منديل.
1214 قوله: إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ هدف التعليل والحكمة من المنع أن المصلي يناجي ربه، وهذا دليل على أن الشريعة معللة.
قوله: فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ يعني: لا يبصق أمامه ولا عن يمينه.
قوله: وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى هذا في غير الصلاة.
وذلك لما جاء في الحديث الآخر أن الله أمامه وإن عن يمينه ملكًا [(249)]؛ أما في اليسار فلا بأس عن يساره أو تحت قدمه؛ يعني: في غير المسجد، أما في المسجد فيبصق في ثوبه.
ففي الحديثين: جواز البصاق للحاجة في الصلاة عن يساره أو تحت قدمه في غير المسجد، وفي المسجد في ثوبه، وكذا النفخ في الصلاة جائز للحاجة، وأن هذا من العمل القليل الذي لا يؤثر في الصلاة.
المتن:
باب مَنْ صَفَّقَ جَاهِلاً مِنْ الرِّجَالِ فِي صَلاَتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُ
فِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
هذه الترجمة في فقه الصلاة، فإذا صفق الرجل جاهلاً لا تبطل صلاته؛ لما سبق في قصة أبي بكر أنه صفق الرجال، فقال النبي ﷺ: مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ صفقتم إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ [(250)] فإذا صفق الإنسان في الصلاة جاهلاً لا تبطل صلاته، ودل هذا على أن التصفيق من أخلاق النساء، وأن الرجال لا يصفقون.
وفيه أيضًا: دليل على أنه لا ينبغي للرجال إذا أعجبهم شيء أن يصفقوا في الحفلات وفي غيرها، بل إذا أعجبهم شيء يكبروا ويسبحوا: الله أكبر، الله أكبر! سبحان الله سبحان الله! ويكبر كل رجل وحده.
والصحابة لما قال لهم النبي ﷺ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ قالوا: فكبرنا. قال: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ قالوا: فكبرنا[(251)]. أي: قالوا: الله أكبر، الله أكبر! وجاء في بعضها أنه ﷺ قال: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ [(252)] يعني: تسبيح وتكبير، أما التصفيق فلا ينبغي هذا؛ لأنه من شؤون النساء.
وفيه: أنه إذا أعجب الإنسانَ شيءٌ فإنه يكبر أو يسبح، على كل حال، وليس خاصا بالصلاة.
وإذا احتاج أن يستخدم المنديل وهو واقف فليبصق في ثوبه؛ قال النبي ﷺ: وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى، وقال: فَلْيَقُلْ بِثَوْبِهِ هَكَذَا [(253)].
وإذا طُرق الباب والإنسان يصلي النافلة فيكتفى بالتسبيح فيقول: سبحان الله!
وللمصلي أن يتقدم في الصف الذي أمامه كأن يجد فرجه فيتقدم لها، وهكذا.
المتن:
باب إِذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي تَقَدَّمْ أَوْ انْتَظِرْ فَانْتَظَرَ فَلاَ بَأْسَ
1215 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنْ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ: لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان أنه إذا تكلم أحد مع المصلي وهو يسمع فلا بأس، فإذا قيل للمصلي: تقدم أو تأخر فلا بأس، أو انتظر فلا بأس، وأن كون المصلي يستمع في الصلاة لما يقال له، أو لما يسأل، وهو شيء يسير لا بأس كما في هذه الترجمة.
وكما كلمت أسماء رضي الله عنها عائشة رضي الله عنها في صلاة الكسوف، وقالت لها: ما بال الناس؟! فأشارت بيدها إلى السماء فقالت أسماء: آية؟ فأشارت عائشة بيدها أي: نعم. فكلمتها أسماء رضي الله عنها[(254)].
1215 قوله: «كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنْ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ» المعنى: أن الناس لم يكن عندهم أزرٌ كافية، وإنما كانت الحال في بعض الأحيان شديدة، فكان الواحد منهم لا يجد إلا إزارًا لا يصل إلى الساقين، فإذا سجد قد يبدو شيء من العورة، فكان الصحابة يصلون وهم عاقدو أزرهم من الصغر على رقابهم؛ يعني: بعضهم ليس له إلا إزار ـ وهو القطعة التي يشد بها النصف الأسفل ـ وليس له رداء، وليس عنده شيء، وهذا تأكيد على ما أصاب الصحابة من الشدة في أول الأمر، فقد كان الواحد له إزار، وكان الإزار قصيرًا يصل إلى قريب من الركبة، فإذا سجد قد يبدو شيء من العورة، وليس عليه سروال ولا رداء.
قوله: «فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ: لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا» ؛ وذلك خشية أن ترفع النساء رءوسهن فيرين شيئًا من العورة، وكان النساء يصلين خلف الرجال في عهد النبي ﷺ، وليس بينهم حاجز، ولا جدار يحجز بينهم؛ فلما كان بعض الناس من قلة ذات يده ليس عليه إلا إزار قصير لا يستر آخر الرجل، فإذا سجد يخشى أن يبدو شيء من العورة، وكذلك من كان في الصف الثاني لا يقوم حتى يستوي أهل الصف الأول.
والشاهد من هذا أنه قيل للنساء هذا وهن يصلين، ويحتمل أن هذا خارج الصلاة قبل الصلاة، ففيه: أنه لا بأس أن يكلَّم المصلي.
وفيه: جواز سبق المأمومين بعضهم بعضًا، فالمأمومون الرجال يسبقون المأمومات النساء، فإذا استوى الرجال جلوسًا أو قيامًا قامت النساء.
وفيه ـ كما استنبط بعضهم ـ: جواز التربص في أثناء الصلاة لحق الغير، ولغير مقصود الصلاة.
وفيه ـ كما استنبط بعضهم ـ: جواز انتظار الإمام في الركوع لمن يدرك الركعة، كل هذا مأخوذ من خطاب النساء: «لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا» ، والمقصود: أن هذا فعل يسير لا يؤثر في الصلاة.
المتن:
باب لاَ يَرُدُّ السَّلاَمَ فِي الصَّلاَةِ
1216 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كنْتُ أُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَيَرُدُّ عَلَيَّ فَلَمَّا رَجَعْنَا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ وَقَالَ: إِنَّ فِي الصَّلاَةِ شُغْلاً.
1217 حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَاجَةٍ لَهُ فَانْطَلَقْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَقَدْ قَضَيْتُهَا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ فَقُلْتُ: فِي نَفْسِي لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَجَدَ عَلَيَّ أَنِّي أَبْطَأْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَشَدُّ مِنْ الْمَرَّةِ الأُْولَى ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ فَقَالَ: إِنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي وَكَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.
الشرح:
1216 قوله: «كنت أسلم على النبي ﷺ وهو في الصلاة، فيرد علي، فلما رجعنا» يعني: رجعنا من الحبشة.
قوله: «سلمت عليه فلم يرد علي، قال: إن في الصلاة شغلاً» كان هذا في غير الفريضة؛ فقد كان النبي يصلي على راحلته إلى غير القبلة، أما في الفريضة فكان لا يصلي على الراحلة، كان ينزل ويصلي على الأرض ويستقبل القبلة، أما النافلة فأمرها أخف.
وفي الحديث: دليل على جواز صلاة النافلة على الراحلة في السفر ولو لغير القبلة؛ ولهذا كان النبي ﷺ يصلي على راحلته متوجهًا إلى غير القبلة.
وفيه: بيان أن المصلي لا يرد السلام، وأن رد السلام من المصلي منسوخ، وكان الناس في أول الأمر يردون السلام؛ فقد كان النبي ﷺ يرد السلام على من سلم عليه، ثم نسخ ذلك.
1217 قوله: «فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا اللَّهُ أَعْلَمُ» يعني: أن جابرًا سلم على النبي ﷺ فلم يرد عليه فوقع في قلب جابر شيء؛ لأن النبي ﷺ كان يرد السلام أولاً، ولم يعلم جابر بأنه قد نسخ، وسلم الثانية فلم يرد عليه، فوقع في قلبه أشد من الأولى، ثم سلم الثالثة فرد عليه بعدما سلم.
قوله: «فَقَالَ: «إِنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي»» دل ذلك على أن المصلي لا يرد السلام ولكن لا بأس بالسلام على المصلي، ولكن يرد بالإشارة كما جاء في الحديث أنه يرد السلام بيده[(255)]، ولا بأس بالسلام على المصلي على الصحيح، وظاهر الأدلة أنه مثل الرد في غير الصلاة، ثم نسخ بعد ذلك وصار بالإشارة.
وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث كراهة ابتداء السلام على المصلي؛ لكونه ربما شغل بذلك واستدعى منه الرد وهو ممنوع منه، كره ذلك عطاء والشعبي ومالك في رواية[(256)]، والقول الثاني للجمهور أنه لا بأس بالسلام على المصلي ويرد المصلي السلام بالإشارة وهو في الصلاة، وهذا هو الصواب؛ لأن النبي ﷺ لم ينكر على من سلم عليه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال في المدونة: لا يكره، وبه قال أحمد والجمهور».
وقال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله: «هذا القول أصح؛ لأن الرسول ﷺ لم ينكر على من سلم عليه وهو يصلي؛ بل ثبت عنه أنه رد عليه بالإشارة، ودل ذلك على مشروعية السلام على المصلي وأنه يرد بالإشارة. والله أعلم»[(257)].
قوله: «وَكَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ» المعروف عن النبي ﷺ أنه كان يصلي على راحلته في السفر، أما الحضر فلا؛ لأنه يمكن أن يقف ويصلي.
ويرى بعض العلماء أنه لا بأس به حتى في الحضر، لكن المعروف في الأحاديث أن النبي ﷺ ما كان يصلي على الراحلة إلا في السفر ـ كما تقدم بيان ذلك ـ.
وقد ساق الحافظ ابن رجب رحمه الله حديثًا قال: «وخرج مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر قال: «إن النبي ﷺ بعثني لحاجة» وجاء إثرها رواية أخرى قال: «وفي رواية لمسلم: أرسلني رسول الله ﷺ وهو منطلق إلى بني المصطلق فأتيته وهو يصلى على بعيره، فقال لي بيده هكذا، ثم كلمته فقال لي هكذا وأنا أسمعه يقرأ يومئ برأسه، فلما فرغ قال: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي [(258)].
فهذه الرواية تدل على أن إيماءه إليه إنما كان ليكف عن كلامه في تلك الحال» هكذا ثم بعد ذلك رد السلام بالإشارة.
المتن:
باب رَفْعِ الأَْيْدِي فِي الصَّلاَةِ لأَِمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ
1218 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَحَانَتْ الصَّلاَةُ فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتْ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيحِ، قَالَ سَهْلٌ التَّصْفِيحُ هُوَ التَّصْفِيقُ قَالَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَشَارَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّى لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان جواز رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به، وأن هذا العمل لا يؤثر في الصلاة، وأنه لا بأس ببعض الأعمال التي يعملها المصلي وهو في صلاته وهي لا تؤثر في صلاته، فإذا رفع يديه وحمد الله وهو في الصلاة لأمر ينزل به فلا حرج.
1218 وفي الحديث: مشروعية الإصلاح بين الناس واستحبابه، ولاسيما من الأمراء، والأعيان، والعلماء؛ ولهذا لما بلغ النبي ﷺ أن بني عمرو بن عوف في قباء كان بينهم شيء، وفي لفظ: «كان بينهم خصام» [(259)]، ذهب النبي ﷺ ليصلح بينهم، والإصلاح من أفضل القربات، وأجل الطاعات؛ قال الله تعالى: لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النِّسَاء: 114].
فلما ذهب النبي ﷺ ليصلح بينهم حبس وتأخر وحان وقت الصلاة.
قوله: «فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتْ الصَّلاَةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ» فيه: دليل أنه إذا تأخر الإمام فإن الناس يصلون ولا يُحبس الناس، وأن المؤذن له أن يقدم من يؤم الناس أو يتقدم هو إذا كان أهلاً للإمامة؛ ولهذا جاء بلال إلى أبي بكر فقال: «فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ» .
وفيه: دليل على أن الإمام يؤمهم برضاهم وهم يختارون من يرضونه؛ ولهذا قال: « إن شئت ».
قوله: «فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ» ؛ لمجيء النبي ﷺ.
قوله: «وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ» وفي هذا كأنه ﷺ يريد أن يؤم الناس لما شق الصفوف، لكنه لا يريد أن يلزم أبا بكر في التأخر، بل يريد إن تأخر أبو بكر تقدم وإن لم يتأخر فلا؛ فلهذا جاء النبي ﷺ فشق الصفوف شقًّا، وإلا لما شق الصفوف بل صلى في آخر الصفوف كما فعل في قصة عبدالرحمن بن عوف في تبوك لما تأخر النبي ﷺ هو والمغيرة، فصلى ﷺ في آخر الصف هو والمغيرة[(260)].
لذلك فإن على الإمام إذا جاء وقد أقيمت الصلاة ودخل الناس في الصلاة عليه ألا يتقدم حتى لا يشوش على الناس، والأولى أن يصلي معهم مأمومًا كما فعل النبي ﷺ في قصة عبدالرحمن بن عوف لما فاتته ركعة، فلم يتقدم وصلى مأمومًا.
وأما إذا كان الناس لم يدخلوا في الصلاة بعد، أو ما زالوا في الركعة الأولى فله أن يتقدم ويؤم الناس كما فعل النبي ﷺ في قصة أبي بكر.
قوله: «فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيحِ» يعني: التصفيق، فجعلوا يصفقون؛ لأنهم لا يعلمون الحكم؛ ولهذا نهاهم النبي ﷺ بعد الصلاة عن التصفيق.
قوله: «وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ» يعني: حين أكثروا من التصفيق، ودل هذا على جواز الالتفات لحاجة وإلا فإنه مكروه؛ وذلك لما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ العَبْدِ [(261)]. فهو مكروه من مكروهات الصلاة إلا إذا كان هناك حاجة فلا حرج كأن يسمع صوتًا يقصده أو ما أشبه ذلك، وهذا إذا كان الالتفات بالرأس والعنق فقط، أما إذا كان الالتفات بالجسد حيث يستدبر القبلة فهذا يبطل الصلاة.
قوله: «فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَشَارَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ» أي: يبقى في مكانه لكن أبا بكر تأخر؛ لأنه فهم أن الإشارة غير ملزمة؛ فلهذا تأخر.
قوله: «فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ» حمد الله على مجيء النبي ﷺ وأقره النبي ﷺ على ذلك ولم ينكر عليه.
وهذا هو الشاهد من الترجمة أنه رفع يديه في الصلاة لأمر نزل به وهو قدوم النبي ﷺ فحمد الله، وهذا لا ينافي الصلاة، فأقره النبي ﷺ.
قوله: «ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى» يعني: رجع أبو بكر حتى قام في الصف وصار مأمومًا، وتقدم رسول الله ﷺ وصار إمامًا.
وفيه: دليل على أنه لا بأس بالتقدم والتأخر في الصلاة وأن هذا لا ينافي الصلاة؛ فأبو بكر تأخر والنبي ﷺ تقدم كما فعل النبي ﷺ في صلاة الكسوف حيث تقدم فتقدمت الصفوف وتأخر فتأخرت الصفوف لما عرضت له الجنة ودلي له عنقود تقدم كأنه يريد العنقود وتقدمت الصفوف، ولما كشف له عن النار ورأى لهبها تأخر وتأخرت الصفوف[(262)]، وكما علّم النبي ﷺ الناس الصلاة على المنبر، يصلي على المنبر فيركع، فإذا أراد أن يسجد رجع القهقرى وسجد على الأرض، فإذا قام تقدم وصعد المنبر وقال: إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَعلَمُوا الصَّلاَةَ [(263)] كل هذا لا بأس به، وكما حمل النبي ﷺ أمامة بنت ابنته زينب حيث كان يحملها وهو يصلي بالناس، فإذا قام حملها وإذا سجد وضعها[(264)]، وكما فتح الباب لعائشة[(265)]، هذا كله عمل لا يؤثر في الصلاة.
وفيه: دليل على أنه لا بأس أن يكون الإمام مأمومًا في أثناء الصلاة، ويكون المأموم إمامًا؛ فأبو بكر كان إمامًا ثم تأخر فصار مأمومًا، والنبي ﷺ كان مأمومًا فتقدم وصار إمامًا.
ومثل ذلك لو حصل للإمام شيء وأراد أن يخرج من الصلاة فإنه يقدم من يتم بهم إذا شعر أنه لا يستطيع إتمام الصلاة وسواء سبقه الحدث أم لم يسبقه.
فعند الحنابلة[(266)] أنه إذا سبقه الحدث لا يستخلف إذا كان صلى على غير طهارة أو إذا أحدث فإنه يخرج من الصلاة ويستأنف الناس الصلاة من جديد، وهذا بخلاف ما إذا كان على طهارة ثم شعر أنه لا يستطيع إكمال الصلاة فله أن يستخلف ويقدم من يتم بهم، والصواب: أنه لا فرق بين الأمرين وأن الإمام له أن يستخلف سواء سبقه الحدث أو لم يسبقه.
والحركة في الصلاة إذا كانت يسيرة لمصلحة الصلاة لا بأس بها ولا تضر، أما إذا كانت كثيرة وكانت متوالية لا لحاجة فإنها تبطل الصلاة.
قوله: «فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ» فيه: أن النبي ﷺ أرشدهم إلى التسبيح فدل دليل على أن التسبيح لا بأس به في الصلاة، فإذا حصل للإمام شيء فإنه ينبَّه بالتسبيح: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله.
أما النساء فإن التصفيق جائز في حقهن؛ لقوله: «إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاء» ، فالمرأة تصفق بباطن كفها اليمنى على ظاهر اليسرى، أما الرجل فيقول: سبحان الله، سبحان الله.
أما كلام المأموم بالقرآن في الصلاة لتنبيه الإمام فإن المأموم ليس له ذلك إلا إذا استغلق على الإمام ولم يعلم فيقرأ المأموم آية: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العَلق: 19]، إذا كان أراد السجود، وفي الركوع: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البَقَرَة: 43]، وإلا فإنه يقول: سبحان الله، سبحان الله.
المتن:
باب الْخَصْرِ فِي الصَّلاَةِ
1219 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نُهِيَ عَنْ الْخَصْرِ فِي الصَّلاَةِ وَقَالَ هِشَامٌ وَأَبُو هِلاَلٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
1220 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا.
الشرح:
1219، 1220 هذان الحديثان فيهما: النهي عن الخصر في الصلاة، وقد اختلف العلماء في المراد بالخصر في الصلاة وحكمة النهي، والراجح من هذه الأقوال أن الخصر وضع الرجل يده على خاصرته وما تحت الحقوين؛ أي: في جانبه.
ونُهي عنه؛ لأنه من فعل اليهود، والحافظ رحمه الله ذكر أقوالاً في الخصر ونقل أقوال العلماء، ونقل عن ابن سيرين أنه كان يضع يده على خاصرته وهو يصلي، وقال: إن هذا جزم به أبو داود ونقله الترمذي عن بعض أهل العلم.
ونقل أيضًا عن الهروي أن المراد بالاختصار قراءة آية أو آيتين من آخر السورة، وهذا قول آخر. وقيل: الاختصار أن يحذف الطمأنينة.
وقيل: الاختصار أن يحذف الآية التي فيها السجدة إذا مر بها في قراءته؛ حتى لا يسجد في الصلاة.
وقيل: معناها أن يمسك بيده مخصرًا؛ أي: عصا يتوكأ عليها في الصلاة.
فهذه أقوال خمسة، والصواب القول الأول، وهو أن يضع يده على خاصرته، ويؤيده ما رواه أبو داود والنسائي من طريق سعيد بن زياد قال: صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: «هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله ﷺ ينهى عنه»[(267)].
فالصواب أنه من الخاصرة وهي تحت الأضلاع، وذلك بأن يضع المصلي يده على خاصرته،
واختلف العلماء في حكمة النهي على أقوال:
الأول: حكمة النهي أن إبليس أهبط مختصرًا؛ أخرج هذا ابن أبي شيبة من طريق الحميد بن هلال.
الثاني: لأن اليهود تكثر من فعله فنهي عنه كراهة التشبه بهم؛ أخرجه المصنف في «ما ذكر عن بني إسرائيل» عن عائشة رضي الله عنها، وزاد ابن أبي شيبة: فِي الصَّلَاةِ، وفي رواية له: لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ [(268)] وهذا هو المقصود، وهذا هو الصواب.
الثالث: لأنه راحة أهل النار؛ فقد أخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: «وضع اليد على الحقو استراحة أهل النار».
الرابع: لأنه صفة الراجز حين ينشد.
الخامس: لأنه فعل المتكبرين.
السادس: لأنه فعل أهل البسائط.
هذه ستة أقوال، والراجح أنه نهي عنه؛ لأنه فعل اليهود لما فيه من التشبه باليهود، ولأنه ينافي المشروع في الصلاة، وهو وضع اليدين على الصدر.
فينهى عن الخصر في الصلاة؛ لأنه ينافي المشروع في الصلاة، ولأنه من فعل اليهود، فلا ينبغي للمسلم أن يتشبه بهم.
المتن:
الشرح:
قوله: «بَابٌ يُفْكِرُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ» يعني: حكم ذلك إذا تفكر وهو في الصلاة؛ أي: في كونه يفكر في أشياء وهو يصلي.
قوله: «الشَّيْءَ» منصوب على المفعولية؛ يعني: إذا تفكر الرجل شيئًا وهو في صلاته.
المتن:
وَقَالَ عُمَرُ : إِنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ.
1221 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا عُمَرُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَني ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ الْعَصْرَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ وَرَأَى مَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ فَقَالَ: ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ تِبْرًا عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ.
الشرح:
1221 قوله: ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ تِبْرًا عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ فيه: أن النبي ﷺ تفكر وهو في الصلاة وتذكر أن عنده شيئًا من التبر ـ والتبر هو القطعة من الذهب التي لم تضرب يقال لها: تبر، فإذا ضُرب فصارت جنيهات لا يسمى تبرًا، وإنما يسمى دنانير ـ، فلما سلم ﷺ من صلاة العصر قام سريعًا، ودخل على بعض نسائه في بعض بيوته ثم خرج، ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته، كأنهم استنكروا سرعة النبي ﷺ، فأخبرهم بذلك؛ والشاهد من الحديث أن النبي ﷺ تفكر وهو في الصلاة؛ وهذه من الأمور التي ترد على الإنسان وهو في الصلاة.
وفيه: الإسراع في فعل الخير؛ لأن النبي ﷺ أسرع ولم يثبت هذا التبر في بيته حتى أمر بقسمته وبتفريقه، ولم يبقه ﷺ للغد ولا لبعد الغد، وإنما أسرع بعد الصلاة مباشرة حتى لا ينسى، ثم أمر بقسمته.
وفيه: دليل على جواز التفكير في الصلاة إذا كان قليلاً، فإن كان كثيرًا فإنه ينقص الصلاة، لكن إذا كان التفكير في أمور الآخرة فهو أسهل؛ لأنه من تداخل العبادات كما حصل للنبي ﷺ من تفكيره في التبر، وكما حصل لعمر من تجهيز الجيش وهو في الصلاة؛ ولهذا قال عمر: «إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة».
وبكل حال فإنه ينبغي على المسلم الإقبال على الصلاة، والعناية بحضور القلب، وإبعاد الوساوس.
لكن إذا كان التفكير في أمور الآخرة فهو أسهل، فإنه من تداخل العبادات؛ أما إذا كان في أمور الدنيا فهذا أشد؛ وينبغي على كل حال أن يجاهد الإنسان نفسه حتى يبعد الوساوس، وإن كان هذا أمرًا لا يستطيعه الإنسان، لكن عليه أن يجاهد نفسه؛ فالخشوع مطلوب والصلاة صحيحة.
المتن:
1222 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ الأَْعْرَجِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ أَدْبَرَ فَإِذَا سَكَتَ أَقْبَلَ فَلاَ يَزَالُ بِالْمَرْءِ يَقُولُ لَهُ اذْكُرْ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى لاَ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى.
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ.
وَسَمِعَهُ أَبُو سَلَمَةَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
الشرح:
وفيه: حرص عدو الله إبليس على إفساد الصلاة على المسلم؛ لأن الشيطان إذا سمع الأذان أدبر وله ضراط.
1222 قوله: إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ أي: حتى لا يسمع، فيشوش على نفسه من خبثه.
قوله: فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ أَقْبَلَ يوسوس.
قوله: فَإِذَا ثُوِّبَ يعني: أقيمت الصلاة؛ فالإقامة تسمى تثويبًا، والتثويب: الرجوع؛ لأنه رجوع إلى النداء في الصلاة، فالمؤذن رجع ينادي بالصلاة؛ حيث نادى أولاً بالأذان ثم نادى بالإقامة، فإذا ثوب أدبر مرة أخرى.
قوله: فَإِذَا سَكَتَ أَقْبَلَ أي: يخطر بين المرء وبين نفسه.
قوله: فَلاَ يَزَالُ بِالْمَرْءِ يَقُولُ لَهُ اذْكُرْ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى لاَ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» ففيه: دليل على أن المسلم إذا سها في صلاته والتبس عليه الأمر فإنه يسجد سجدتين، وهذا مجمل وسيأتي في الأحاديث بيانه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «الشيء بالنصب على المفعولية، والتقييد بالرجل لا مفهوم له؛ لأن بقية المكلفين في حكم ذلك سواء.
وقال المهلب: التفكر أمر غالب لا يمكن الاحتراز منه في الصلاة ولا في غيرها؛ لما جعل الله للشيطان من السبيل على الإنسان، ولكن يفترق الحال في ذلك، فإن كان في أمر الآخرة والدين كان أخف مما يكون في أمر الدنيا».
وقوله: «وَقَالَ عُمَرُ : إِنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ» وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي عنه بهذا سواء.
قال ابن التين: «إنما هذا فيما يقل فيه التفكر كأن يقول: أجهز فلانًا، أقدم فلانًا، أخرج من العدد كذا وكذا، فيأتي على ما يريد في أقل شيء من الفكرة، فأما أن يتابع التفكر ويكثر حتى لا يدري كم صلى فهذا اللاهي في صلاته؛ فيجب عليه الإعادة. انتهى».
ومسألة الإعادة فيها نظر، لكن إذا صلى ولم يحدث نفسه غفر الله له، وهذا شرط للمغفرة؛ كما في الحديث: «ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه» [(269)].
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وليس هذا الإطلاق على وجهه، وقد جاء عن عمر ما يأباه، فروى ابن أبي شيبة من طريق عروة بن الزبير قال: قال عمر: إني لأحسب جزية البحرين وأنا في الصلاة.
وروى صالح بن أحمد بن حنبل في كتاب المسائل عن أبيه من طريق همام بن الحارث أن عمر صلى المغرب فلم يقرأ، فلما انصرف قالوا: يا أمير المؤمنين، إنك لم تقرأ، فقال: إني حدثت نفسي وأنا في الصلاة بعير جهزتها من المدينة حتى دخلت الشام، ثم أعاد وأعاد القراءة.
ومن طريق عياض الأشعري قال: صلى عمر المغرب فلم يقرأ، فقال له أبو موسى: إنك لم تقرأ، فأقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال: صدق. فأعاد، فلما فرغ قال: لا صلاة ليست فيها قراءة، إنما شغلني عير جهزتها إلى الشام فجعلت أتفكر فيها.
وهذا يدل على أنه إنما أعاد لترك القراءة لا لكونه كان مستغرقا في الفكرة، ويؤيده ما روى الطحاوي من طريق ضمضم بن جوس، عن عبد الرحمن بن حنظلة بن الراهب: أن عمر صلى المغرب فلم يقرأ في الركعة الأولى، فلما كانت الثانية قرأ بفاتحة الكتاب مرتين، فلما فرغ وسلم سجد سجدتي السهو.
ورجال هذه الآثار ثقات، وهي محمولة على أحوال مختلفة، والأخير كأنه مذهب لعمر، ولهذه المسألة التفات إلى مسألة الخشوع في الصلاة، وقد تقدم البحث فيه في مكانه» أ.هـ.
وإذا كثرت الوساوس فمعلوم أن الإنسان لا يكتب له من صلاته إلا ما عقل منها كما جاء في الحديث الآخر: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدْسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا [(270)].
ولكن إذا كثرت الوساوس فإن في بطلان الصلاة وصحتها قولان:
قال بعضهم: تبطل ويعيدها، وهذا قول مرجوح، والصواب الذي عليه الجمهور أنه لا يعيدها، فالصلاة صحيحة لكنه لا يكتب له من الصلاة إلا ما عقل منها.
المتن:
الشرح:
1223 قوله: «الْعَتَمَةِ» هي صلاة العشاء.
وفي هذا الحديث: أن هذا الرجل اشتغل بغير أمر السورة حتى لم يدر السورة التي قرئت، أو أنه نسيها، لكن أبا هريرة كان متذكرًا؛ ولذا سأله، قال له: «بِمَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟» قال الرجل: «لاَ أَدْرِي» نسي أو أنه كان يفكر، فقال أبو هريرة: «لم تشهدها ؟ » يعني: ألم تشهد الصلاة مع النبي ﷺ؟ «قَالَ: بَلَى» ، إما أنه نسي أو لم يذكر، قال أبو هريرة: «لَكِنْ أَنَا أَدْرِي قَرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا» .
والشاهد: أن هذا الرجل اشتغل بغير أمر الصلاة حتى إنه لم يدر ما السورة التي قرئت، أو أنه استمعها ثم نسي.
ولا يعيد ـ على الأرجح من قول أهل العلم ـ إلا إذا أخل بشيء في الصلاة؛ فما دام أدى الواجبات والأركان فلا يعيد الصلاة، فالصلاة صحيحة، لكن الثواب هو الذي ينقص، فالثواب على حسب ما حضر قلبه، وليس عليه إعادة ولا سجود سهو.