المتن:
باب الْكَفَنِ فِي الْقَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لاَ يُكَفُّ وَمَنْ كُفِّنَ بِغَيْرِ قَمِيصٍ
1269 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قال: حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قال: حدثني نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ وَصَلِّ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ ﷺ قَمِيصَهُ فَقَالَ: آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ فَآذَنَهُ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ قَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التّوبَة: 80] فَصَلَّى عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا [التّوبَة: 84].
1270 حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ فَأَخْرَجَهُ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ.
الشرح:
1269 ساق المؤلف رحمه الله هذه القصة لبيان جواز تكفين الميت في القميص.
قوله: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ» أي: لما توفي عبدالله بن أُبي ـ وكان رئيس المنافقين ـ جاء ابنه عبدالله ـ وكان من أصلح عباد الله ومن خيارهم ـ إلى رسول الله ﷺ ليصلي على والده ويشفع له.
فائدة:
الصواب: أنه يجوز أن يسمي الإنسان ابنه نفس اسمه إذا لم يحصل لبس؛ فلا حرج في هذا ولا محظور؛ فعبد الله بن أبي سمى ابنه عبد الله ولم ينكر النبي ﷺ ذلك ولم يأمر ابنه عبدالله أن يغير اسمه.
قوله: «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ وَصَلِّ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ» طلب عبدالله بن عبدالله من النبي ﷺ أن يصلي على أبيه ويستغفر له ويدعو له، وأن يكفنه في قميصه لعل الله يغفر له، فالنبي ﷺ لم يُنه عن الصلاة عليه نهيًا صريحًا؛ فاستجاب النبي ﷺ لعبدالله، وأعطاه قميصه، ونفث فيه من ريقه، وصلى عليه؛ لأمور:
الأمر الأول: مراعاةً لخاطر ابنه عبدالله؛ لأنه من أصلح الناس.
الأمر الثاني: مراعاة لرهطه الأوس.
الأمر الثالث: أنه لم ينه؛ فلعل الله أن ينفعه به، والنبي ﷺ يحب الخير لكل الناس، فرَجَا ﷺ أن ينفعه الله بذلك.
قوله: «فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ» ؛ يعني: قوله تعالى: فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التّوبَة: 80].
قوله: أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ قَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التّوبَة: 80]» ، فاختار ﷺ الاستغفار؛ وفي اللفظ الآخر: أن النبي ﷺ قال: لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا [(340)] وندم عمر وقال: تعجبت من جرأتي على النبي ﷺ وجذبي ثوبه.
فأنزل الله بعد أن صلى على عبدالله بن أُبي: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التّوبَة: 84]، فلما أنزل الله هذه الآية لم يصل على منافق بعد ذلك.
والآية صريحة في النهي، وفيه: بيان العلة وهي: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا [التّوبَة: 84]. فكل كافر لا يصلى عليه: مشركًا، أو وثنيًّا، أو منافقًا، أو زنديقًا، أو مجوسيًّا، أو يهوديًّا، أو نصرانيًّا؛ فمَن عُلم كفره لا يصلى عليه، ومن لم يعلم كفره يصلى عليه ولو كان فاسقًا ضعيف الإيمان.
لكن جاء في بعض الأحاديث النهي عن الصلاة على بعض الناس، كما جاء في الحديث النهي عن الصلاة على قاتل نفسه، وقاطع الطريق يصلي عليه عامة الناس؛ فالأعيان من العلماء والوجهاء لا يصلون على الفساق زجرًا للأحياء أن يفعلوا مثل فعلهم.
1270 قوله: «أَتَى النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ فَأَخْرَجَهُ» بعدما دفن يعني: بعدما دلي في قبره.
قوله: «فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ» رجاء أن ينفعه الله بذلك. وقيل: إن النبي ﷺ أعطاه قميصه مكافأة لعبد الله بن أبي لمَّا أعطى قميصه العباس عم النبي ﷺ؛ وذلك لما أسر العباس في بدر طُلب له قميص فلم يوجد له قميص يناسبه إلا قميص عبدالله بن أبي؛ لأن العباس طويل وعبدالله بن أبي طويل، فأخذه النبي ﷺ منه، فلما مات أعطاه النبي ﷺ قميصه مكافأةً له.
وفيه: جواز التكفين في القميص، وينبغي أن يعلم أنه يجوز التكفين في ثوب واحد سواء كان قميصًا أو لفافة تستر جسم الميت ـ كما سبق ـ وسواء كان أبيض، أو ملونًا، كأزرق، أو أخضر، أو غيره؛ لكن الأفضل الأبيض؛ والدليل على جواز التكفين في الثوب الواحد، أو الثوبين حديث الذي وقصته راحلته؛ فإن النبي ﷺ قال: كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ [(341)] ولكن الأفضل أن يكفن الميت في ثلاث لفائف بيض كما كفن النبي ﷺ؛ لأن الله لم يكن ليختار لنبيه ﷺ إلا الأفضل، أما المرأة فهي تكفن في خمس لفائف، والمجزئ لفافة واحدة تستر جميع البدن.
قوله: «بَاب الْكَفَنِ فِي الْقَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لاَ يُكَفُّ» ، يعني: جواز تكفيف الكفن ـ والثوب مكفوف الأطراف: هو الذي تَخاط أطرافه بماكينة ونحوها ـ، فسواء كان الثوب مكفوفًا أو غير مكفوف يكفن فيه.
وقد تكلم بعض العلماء على قول المؤلف رحمه الله: «فِي الْقَمِيصِ الَّذِي يُكَفُّ أَوْ لاَ يُكَفُّ» قال بعضهم: إن المراد بالكف: كف العذاب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «في أصل أبي القاسم بن الورد قال: والذي يظهر لي أن البخاري لاحظ قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي: أن النبي ﷺ ألبس عبدالله بن أبي قميصه سواء كان يكف عنه العذاب أو لا يكف؛ استصلاحًا للقلوب المؤلفة»، فكأنه يقول: يؤخذ من هذا التبرك بآثار الصالحين ـ وهذا سبق أنه خاص بالنبي ﷺ ـ سواء علمنا أنه مؤثر في حال الميت أو لا.
ثم قال الحافظ رحمه الله: «ولا يصح أن يراد به سواء كان الثوب مكفوف الأطراف أو غير مكفوف؛ لأن ذلك وصف لا أثر له. انتهى».
المتن:
باب الْكَفَنِ بِغَيْرِ قَمِيصٍ
1271 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كُفِّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابِ سُحُولٍ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ.
1272 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ.
الشرح:
ساق المؤلف رحمه الله هذا الباب «بَابُ الْكَفَنِ بِغَيْرِ قَمِيصٍ» لبيان أن حكمه الجواز.
1271 قوله: «كُفِّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابِ سُحُولٍية» السُّحُول بضم السين والحاء: الثوب الأبيض النقي، والسَّحول بفتح السين: نسبة إلى قرية باليمن تنسج فيها الثياب.
قوله: «كُرْسُفٍ» يعني: من القطن.
والمراد أن النبي ﷺ كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية نسجت في اليمن من قطن.
1272 قوله: «لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ» هذا هو الأفضل.
المتن:
باب الْكَفَنِ وَلاَ عِمَامَةٍ
1273 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قال: حدثني مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ.
الشرح:
1273 الأفضل أن يكفن الميت في ثلاث لفائف، يعني: ثلاثة أثواب ـ والمراد بالثوب القطعة الواحدة من القماش ـ ليس فيها قميص ـ والقميص الثوب المخيط مثل الثياب التي يلبسها الناس ـ ولا عمامة ـ والعمامة هي القطعة التي يشد بها الرأس ـ والمؤلف رحمه الله كرر هذه التراجم لاستنباط الأحكام.
المتن:
باب الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَقَتَادَةُ
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: «الْحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ»
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «يُبْدَأُ بِالْكَفَنِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ»
وَقَالَ سُفْيَانُ: «أَجْرُ الْقَبْرِ وَالْغَسْلِ هُوَ مِنْ الْكَفَنِ»
1274 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَوْمًا بِطَعَامِهِ فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ وَقُتِلَ حَمْزَةُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ خَيْرٌ مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي.
الشرح:
قوله: «بَاب الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَقَتَادَةُ» هذه الترجمة فيها بيان أن الكفن يؤخذ من رأس المال قبل قسمة التركة، وهو مقدم على الدين وعلى كل شيء؛ لأن الكفن بمثابة الثوب الذي يلبسه في حياته.
وكذلك أجرة الغاسل تؤخذ من ماله قبل أن تقسم التركة، وكذلك أجرة حافر القبر، وكذلك الطيب الذي يطيب به، فكل هذا يؤخذ من ماله قبل قسمة التركة.
قوله: «وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: الْحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ» الحنوط هو: الطيب.
قوله: «وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يُبْدَأُ بِالْكَفَنِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ» أي: يكون الكفن أولاً إذا كان المال قليلاً، ثم بالدين فيقضى، ثم بالوصية فتنفذ؛ فإن بقي شيء فهو تركة يقسم على الورثة.
قوله: «وَقَالَ سُفْيَانُ: أَجْرُ الْقَبْرِ وَالْغَسْلِ هُوَ مِنْ الْكَفَنِ» يعني: يبدأ به، وهذا هو الصواب، فأجر حفر القبر يقدم على الدَّيْن، ويقدم على الوصية، ويقدم على قسمة التركة؛ وذلك لأن الحقوق المتعلقة بالتركة خمسة، وهي مرتبة ترتيبًا بحسب الأولوية:
الحق الأول: مئونة التجهيز ـ كالكفن، وأجرة الغاسل، وأجرة حافر القبر- وهذه مقدمة على الدين ولو كان مدينًا بملايين الجنيهات، وحتى لو جاء صاحب الدين يطالب به.
الحق الثاني: الدين الذي به رهن؛ فبعد أن تؤخذ أجرة الغاسل، والكفن، وحفر القبر، يُقضى الدين الذي به رهن؛ لأنه دين موثَّق، وكذلك ما تعلق بعينه، كما لو كان عليه جناية.
الحق الثالث: الديون المطلقة المرسلة التي ليس فيها رهن، سواء كانت لله أو للآدمي، فإذا كان عليه نذر مثلاً، يقضى النذر من ماله؛ كذلك أيضًا إذا كان عليه كفارة تخرج الكفارة من ماله؛ وكذلك إذا كان عليه زكاة تخرج من ماله؛ لأنه دين لله.
الحق الرابع: تنفيذ الوصية؛ والوصية تؤخذ من الثلث.
الحق الخامس: هو الميراث، فما بقي يكون تركة يقسم على الورثة كما جاء في أحكام الميراث.
تنبيه:
مسألة الديون وانتقالها إلى الورثة ـ بحيث يلزم الورثة سداد ديون المتوفى من مالهم الخاص ـ ليس عليها دليل من كتاب أو سنة، فديون الميت تسدد من التركة التي تركها، فإذا استغرقت بعض الديون التركة وبقيت ديون أخرى فلا يجب على أحد من الورثة سدادها وتعتبر هذه الديون في عداد الديون المعدومة.
1274 قوله: «أُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَوْمًا بِطَعَامِهِ فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ» يعني: قطعة من قماش لا تكفيه.
قوله: «وَقُتِلَ حَمْزَةُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ خَيْرٌ مِنِّي فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ» فيه: دليل على أن الصحابة أصابهم شدة في أول الأمر حتى إنه ليموت الميت ولا يوجد له كفن يكفيه، وفي الحديث: الآخر أن مصعب بن عمير لما قتل يوم أحد ما وجد له إلا قطعة قصيرة من القماش، إن غطي رأسه ظهرت رجلاه، وإن غطي رجله ظهر رأسه، فقال النبي ﷺ: غَطُّوا رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الإِذْخِرِ [(342)] وهو الحشيش الأخضر؛ ثم وسع الله عليهم بعد ذلك.
قوله: «لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي» وعبدالرحمن بن عوف من السابقين الأولين، لكن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وهذا دأب الصالحين؛ يخشون ربهم، ويتقالّون أعمالهم، ويخشون ردها، ويرجون قبولها، وكما سيأتي في حديث خباب أنه لما تذكر حال أصحابه جعل يبكي حتى ترك الطعام، وهذا من باب التواضع .
المتن:
باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ
1275 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ وَأُرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنْ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ.
الشرح:
هذه الترجمة تدل على دقة استنباط البخاري رحمه الله للأحكام؛ فإن حديث عبدالرحمن بن عوف واحد، وترجم له في الترجمة الأولى: «بَاب الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ» ، والترجمة الثانية: «بَابٌ إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ» يعني: يكفن فيه، وكما يقال في الأمثال: الجود بالموجود.
فإذا كان هناك سعة فالأفضل أن يكفن في ثلاثة أثواب، وإن لم يوجد إلا كفن واحد كفن فيه حسب الاستطاعة وحسب التيسير.
1275 ذكر المؤلف رحمه الله حديث عبدالرحمن بن عوف أنه أتي بطعام وكان صائمًا، فلما أراد أن يفطر تذكر حال أصحابه.
قوله: «قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي» ولم يوجد له ثوب يكفيه.
قوله: «كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ» يعني: قطعة قماش.
قوله: «إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ» ، وفي اللفظ الآخر: أن النبي ﷺ قال: غَطُّوا رَأْسَهُ؛ لأن الرأس أشرف الأعضاء، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الإِذْخِرِ [(343)] وهو حشيش الأرض.
قوله: «وَأُرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي» يعني: في غزوة أحد.
قوله: «ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ» يعني: فتحت الدنيا؛ فقد أدرك الفتوح ، ورأى رغد العيش ولينه، بعد الفقر والفاقة، وشدة الحاجة.
قوله: «أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنْ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا» أي: يخشى أن يكون عُجِّل له من الأجر والثواب في الدنيا ما يحرمه ثواب الآخرة، «ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ» .
المتن:
باب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلاَّ مَا يُوَارِي رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى رَأْسَهُ
1276 حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ حَدَّثَنَا خَبَّابٌ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلاَّ بُرْدَةً إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الإِْذْخِرِ.
الشرح:
يتبين لنا من هذه الترجمة دقة فقه البخاري رحمه الله حيث قال: «بَاب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلاَّ مَا يُوَارِي رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى رَأْسَهُ» يعني: إذا كان الكفن قصيرًا لا يكفي لجميع الجسد، فإما يَظهر الرأس وإما يَظهر الرجلان، فيغطى الرأس؛ لأنه أشرف، وتترك الرجلان، وإن وجد شيء من الحشائش جعل عليها.
ثم ذكر حديث الباب الذي استدل به على الترجمة.
1276 قوله: «هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ» يعني: أخلصوا الهجرة، ومن أفضل القربات والطاعات الهجرة من مكة إلى المدينة.
قوله: «فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا» يعني: مات بعض الصحابة قبل أن تفتح الدنيا، ومنهم: مصعب بن عمير .
قوله: «وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا» يعني: من أدرك الفتوح فقد فتحت له الدنيا ووسع الله عليه، و «يَهْدِبُهَا» يعني: يتمتع بالمباحات التي أحلها الله، لكن خبَّابًا وعبدالرحمن بن عوف ـ كما تقدم ـ خافا أن يكون في هذا نقص لأجرهما وثوابهما.
قوله: «قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ» يعني: مصعب بن عمير ، «فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلاَّ بُرْدَةً» أي: قطعة قماش، «إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ» ؛ لأن الرأس أشرف أعضاء الجسد، «وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنْ الإِْذْخِرِ» وهو نبت طيب الرائحة، فجُعل على رجليه شيء من الإذخر؛ فدل على أنه إذا كان الكفن قصيًرا فإنه يغطى الرأس وتُترَك الرجلان.
المتن:
باب مَنْ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ
1277 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ النَّبِيَّ ﷺ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ قَالُوا: الشَّمْلَةُ قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لأَِكْسُوَكَهَا فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ فَحَسَّنَهَا فُلاَنٌ فَقَالَ: اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لأَِلْبَسَهُ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي قَالَ سَهْلٌ فَكَانَتْ كَفَنَهُ.
الشرح:
1277 وهذه القصة فيها أن النبي ﷺ أهدت له امرأة بردة ـ والبردة فسرها الراوي بالشملة وهي قطعة قماش منسوجة فيها حاشيتها ـ نسجتها بيدها وأعطتها النبي ﷺ محبة له؛ لتكون كسوة له «فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا» ، فخرج إلى صحابته «وَإِنَّهَا إِزَارُهُ» ، وكان ﷺ يلبس الإزار والرداء على عادة العرب، والإزار هو القطعة التي يَشد بها النصف الأسفل، والرداء يضعه على كتفيه.
ومن ذلك ما جاء أنه ﷺ في صلاة الكسوف خرج يجر رداءه.
قوله: «فَحَسَّنَهَا فُلاَنٌ» أي: رجل من الناس فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه الشملة «اكْسُنِيهَا» أي: أعطنيها كسوة، والنبي ﷺ لا يرد سائلاً فكلما سئل شيئًا أعطاه؛ ولهذا لما تعلقت الأعراب به مرجعهم من حنين حتى اضطروه إلى شجرة وخطفوا رداءه يطلبون منه أن يعطيَهم، فقال ﷺ: أَعْطُونِي رِدَائِي، لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الشجر من النعم لأعطيتكم إياه، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلاَ كَذُوبًا، وَلاَ جَبَانًا [(344)] وأعطى بعض رؤساء القبائل مائة من الإبل يتألفهم على الإسلام[(345)].
ومن ذلك أن هذا الصحابي لما رأى هذه البردة التي على النبي ﷺ قال: يا رسول الله، ما أحسنها لو أعطيتني إياها فذهب النبي ﷺ ودخل بيته ثم طواها وجاء بها وأعطاها له، فقال الناس له: «ما أحسنت!» كيف تسأل النبي ﷺ هذه البردة وهو محتاج إليها وليس عنده شيء غيرها؟!.
قوله: «إِنِّي وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لأَِلْبَسَهُ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي قَالَ سَهْلٌ فَكَانَتْ كَفَنَهُ» يعني: أن مراد هذا الصحابي أن يتبرك بهذه البردة التي لامست جسد النبي ﷺ وهذا من خصائصه ﷺ، فأراد الصحابي أن تلامس جسده وتكون كفنًا له بعد موته.
وفيه: أنه لا بأس بشراء الكفن وإعداده قبل الموت؛ كما فعل هذا الصحابي ؛ لأن النبي ﷺ لم ينكر عليه، ومما هو متقرر أن ترك البيان وقت الحاجة لا يجوز، فدل ذلك على أنه إقرار من النبي ﷺ.
وفي الحديث: جواز قَبول هدية المرأة؛ فالنبي ﷺ أخذ هذه البردة هدية من هذه المرأة.
المتن:
باب اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ
1278 حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قالت: نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.
الشرح:
1278 قوله: «نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ» الأصل في النهي أن للتحريم.
قوله: «وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا» هذا اجتهاد من أم عطية رضي الله عنها، والحجة في روايتها لا في اجتهادها، والقاعدة عند أهل العلم: «الحجة فيما رواه الراوي لا فيما رآه».
فأم عطية رضي الله عنها روت عن النبي ﷺ أنه نهى عن اتباع الجنائز، والنهي للتحريم وهو كاف في المنع، ومرادها أن النبي ﷺ لم يلعن النساء المتبعات للجنائز، ففهمت منه أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، والصواب: أن النهي للتحريم وأنه يحرم على النساء اتباع الجنائز، وسيذكر المؤلف أيضًا زيارة النساء للقبور والخلاف فيه.
والخلاف بين العلماء إنما هو فيما إذا لم تحصل فتنة بزيارة النساء القبور، أما إذا حصلت فتنة فإنه لا يجوز لها زيارة القبور بالاتفاق، لكن إذا أُمنت الفتنة فهناك قولان:
القول الأول: الجواز، وهو رأي الجمهور.
القول الثاني: المنع، وهو قول المحققين، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[(346)]، والشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب؛ وأئمة الدعوة كلهم على هذا.
والفتوى عندنا على أنه لا يشرع للنساء زيارة القبور، وسيأتي في باب زيارة النساء القبور.
المتن:
باب حَدِّ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا
1279 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: تُوُفِّيَ ابْنٌ لأُِمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَتَمَسَّحَتْ بِهِ وَقَالَتْ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ إِلاَّ بِزَوْجٍ.
الشرح:
واستدل له بحديث عبدالله بن عمرو الذي تقدمت الإشارة إليه في باب اتباع النساء الجنائز يعني به حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ رأى فاطمة مقبلة فقال: مِنْ أَيْنَ جِئْتِ؟ قالت: رحمت على أهل هذا الميت ميتهم ـ يعني: تعزيهم ـ قال : لَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى؟ قالت: لا[(361)] أخرجه أحمد والحاكم، ووجه الدلالة: أنه ﷺ أنكر عليها بلوغ الكدى ـ يعني: بلوغ المقابر ـ،
1279 قوله في حديث أم عطية رضي الله عنها لما مات ابن لها: «فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَتَمَسَّحَتْ بِهِ» والصفرة نوع من الطيب «وَقَالَتْ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ إِلاَّ بِزَوْجٍ» فيه: جواز إحداد المرأة على غير زوجها كأبيها أو أخيها ثلاثة أيام فأقل، بترك الزينة والطيب أما الزوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرة أيام، وهذا خاص بالزوج أو القريب.
ولو حدت المرأة على غير قريبها فلا بأس، لكن لا يزاد على ثلاثة أيام؛ لأن الناس لا بد أن يعتريهم شيء من الحزن، فأباح الشارع للمرأة أن تحد ثلاثة أيام فقط؛ ولهذا لما توفي ابن لأم عطية رضي الله عنها حدت عليه اليوم الأول والثاني، ولما كان اليوم الثالث دعت بصفرة فتمسحت بها، وليست بها حاجة للصفرة لكن حتى تزيل الإحداد، وتبين للناس أنها ليست محادة ـ والإحداد معناه: ترك الزينة، وترك الطيب، وترك الثياب الجميلة.
فائدة:
ما يفعل في بعض الدول تنكيس الأعلام لموت عظيم هذا من البدع فالزوجة تحد على الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام، وعلى القريب غير الزوج ثلاثة أيام، ولا يزاد على ثلاثة أيام.
المتن:
الشرح:
1280 استدل المؤلف رحمه الله بحديث أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها على جواز إحداد المرأة على غير زوجها.
قوله: «لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ» يعني: لما مات أبوها أبو سفيان ، وجاء خبر موته من الشام، لزمت بيتها في اليوم الأول والثاني وتجنبت الطيب.
قوله: «دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها بِصُفْرَةٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا» يعني: ثم لما كان اليوم الثالث دعت بطيب ومسحت عارضيها وذراعيها.
قوله: «وَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً» يعني: لست بحاجة للطيب، ولكني أريد أن أزيل أثر الإحداد حتى تعلموا أني لست بحادة امتثالاً لسُنة النبي ﷺ.
قوله: لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فدل هذا الحديث على أمرين:
الأمر الأول: أن المرأة لها أن تحد ثلاثة أيام على غير الزوج.
الأمر الثاني: أنها تحد على الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام.
ويحرم عليها أن تَزيد على ثلاثة أيام في غير الزوج، وكذلك يحرم عليها أن تزيد على أربعة أشهر وعشرة أيام على الزوج.
المتن:
1281 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
1282 ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ ثُمَّ قَالَتْ: مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ لا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
الشرح:
1281، 1282 هذا الحديث مروي عن امرأتين من أزواج النبي ﷺ: أم حبيبة وزينب بنت جحش رضي الله عنها.
فأم حبيبة روت: لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
وكذلك روت هذا زينب فقالت: لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
والترجمة: «بَابُ حَدِّ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا» فدل على أن المرأة لها أن تحد على غير زوجها ثلاثة أيام، وأما على زوجها فتحد أربعة أشهر وعشرة أيام، هذا إذا لم تكن حاملاً، فإن كانت حاملاً فإنها تعتد بوضع الحمل ولو ساعة بعد وفاته؛ لقول الله : وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطّلاَق: 4]، وقد كان في المسألة خلاف لبعض السلف أن التي مات عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين؛ فإن كان الأطول الأربعة الأشهر وعشرا اعتدت به، وإن كان الأطول الحمل تعتد به، ثم استقر الأمر بأنها تعتد بوضع الحمل.
والإحداد يشمل أمورًا خمسة يجب أن تراعيها الحادة:
الأمر الأول: ترك الزينة من الثياب والجمال، ولها أن تلبس المغسول والنظيف، ولكن لا تلبس الذي يلفت نظر الرجال إليها كالأحمر، والأبيض، والأصفر الفاقع، وما أشبه ذلك.
الأمر الثاني: ترك الطيب بأنواعه.
الأمر الثالث: ترك التحلي بالذهب والفضة في يديها، وفي أذنيها، وفي ساقيها، وفي رقبتها، وفي أصابعها، وفي رجليها.
الأمر الرابع: أدوات التحسين والتجميل كالحناء والخضاب والكحل في عينيها؛ إلا إذا كان في عينيها ألم واحتاجت إلى أن تكحل عينها فتكحل بالليل وتزيله بالنهار.
الأمر الخامس: لزوم البيت، يعني: لا تخرج إلا إذا اضطرت إلى هذا، كأن تخرج لقضاء حاجة وليس عندها أحد يخرج بدلاً عنها، أو كانت تخرج للمحكمة أو للمدرسة فتخرج بالنهار دون الليل للحاجة والضرورة، وإذا وجد من يكفيها حاجتها فلا تخرج؛ لقول النبي ﷺ لإحدى الصحابيات: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [(347)].
وما عدا ذلك فإنها كغيرها فلها أن تتكلم في الهاتف، ولها أن تخرج للسطح، ولها أن تخرج لأسوار المنزل وحديقته، وما يقوله البعض: بالمنع من ذلك فكله من خرافات العامة ولا أصل له، إنما تراعي هذه الأمور الخمسة والباقي لا حرج عليها فيه.
وإذا احتاجت أن تلبس الساعة لتعرف الوقت فلا حرج، ولكن بشرط ألا يكون فيها جمال ولفت نظر.
وتلزم المحادة في البيت، وإذا كان البيت مؤجرًا فأخرجهم المالك أو كاد أن يسقط فخرجت للضرورة فلا بأس.
ولا تستعمل الزعفران؛ لأنه من أنواع الطيب، ولا تستعمل ماء الورد أيضًا؛ لأنه طيب.
وليس هناك نوع مخصص من الثياب، لكن الأسود في الغالب يكون غير لافت لأنظار الرجال، وإلا فتلبس غير الأسود إذا كان مغسولاً بشرط ألا يكون نفيسًا أو لامعًا، وليس فيه شيء يلفت أنظار الرجال.
وكذلك الحادة يجوز لها أن تتنظف وأن تغتسل ولا بأس بذلك، وقد كانوا في الجاهلية إذا مات زوج المرأة جعلوها في حفش ـ يعني في غرفة ضيقة مظلمة ـ لا تختلط بأحد ولا تمس الماء ولا تمس الطيب؛ حتى يمضي عليها سنة كاملة فتكثر الأوساخ والروائح المنتنة عليها حتى يكون الثوب الذي عليها عليه طبقة كبيرة من الأوساخ، ثم إذا تمت السنة خرجت وتفتض بحيوان إما طائر أو غيره، فقل أن تفتض بشيء إلا مات بسبب النتن.
ولما قالت بعض الصحابيات: يا رسول الله، أربعة أشهر وعشرة أيام! قال: كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ [(348)] وهذه من الآصار والضلالات التي كان يفعلها أهل الجاهلية، والله تعالى كرم المرأة في الإسلام وأسقط عنها ثلثي المدة، فما بقي إلا الثلث.
ولا يجوز للمحادة إذا انتهت عدتها أن تعد احتفالاً لأقاربها ومحارمها ليحتفلوا معها بمناسبة انتهاء عدة الحداد؛ فهذا أمر ليس له أصل في السنة، وهو من البدع المحدثة.
ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا [(339)] لأن الناس يحشرون حفاة عراة غرلاً، والمحرم يحشر كذلك حافيًا عاريًا وملبيًا، وليس هناك ما يمنع ذلك، وأول من يكسى في الموقف إبراهيم .
المتن:
باب زِيَارَةِ الْقُبُورِ
1283 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُْولَى.
الشرح:
هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله لبيان حكم زيارة القبور للرجال والنساء جميعًا، ولم يجزم المؤلف رحمه الله بالحكم لقوة الخلاف؛ فالمسألة فيها خلاف قوي بين العلماء.
فالجمهور على أن زيارة القبور مشروعة للرجال والنساء، وأن النهي كان أولاً للنساء والرجال، ثم جاءت الرخصة للرجال والنساء جميعًا، فقد قال ﷺ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا [(349)] ثم علل الإذن في الزيارة بقوله: فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ [(350)] فقال الجمهور: إن النهي الأول كان للرجال والنساء كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ، ثم جاءت الرخصة: فَزُورُوهَا للرجال والنساء؛ ومن أدلة الجمهور هذا الحديث فإن النبي ﷺ مر على المرأة وهي تبكي على قبر لها ولم ينهها عن زيارة القبر؛ فدل على جوازه.
وقال آخرون من أهل العلم: إنما جاءت الرخصة في الزيارة للرجال فقط؛ فقوله ﷺ: فَزُورُوهَا، خطاب للرجال، والنساء لا تدخل في هذا؛ لحديث: «لعن رسول الله زوارات القبور» [(351)] وفي لفظ: «زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» [(352)] وكذلك حديث أم عطية: «نهينا عن اتباع الجنائز» [(353)]. وقالوا: هذا يدل على أن النساء منهيات، وأنهن لم يدخلن في الإذن؛ إنما الإذن جاء للرجال خاصة، ولو قدر أنهن دخلن في الإذن فإنه جاء النهي لهن خاصة بقوله ﷺ: «لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» ، وهذا يدل على أنه من الكبائر، ولأن المرأة ضعيفة التحمل فلا تصبر وربما افتتن بصوتها، ومحل الخلاف ما إذا لم يكن هناك فتنة، أما إذا كان هناك فتنة فيتفق الجمهور مع المانعين على أنه لا يجوز للنساء زيارة القبور. وفي هذا الزمان لا شك أنه فتنة.
والقول بالمنع وأن النساء منهيات عن زيارة القبور هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(354)]، والشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب، وأئمة الدعوة، واختيار سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله والشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وهو الذي عليه الفتوى.
1283 هذا الحديث استدل به الجمهور على جواز زيارة النساء للقبور، ولا حجة فيه لأمرين:
الأمر الأول: قول النبي ﷺ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي نهي عن زيارتها.
الأمر الثاني: أنها ما جاءت زائرة بل جاءت باكية.
وفي الحديث: أنها لم تعرف النبي ﷺ «قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي» ؛ لأنها لم تجد أحدًا يمشي خلفه كعادة الكبراء.
وفي اللفظ الآخر في «صحيح مسلم»: أنه لما ذهب النبي ﷺ قيل لها: إنه رسول ﷺ، فأصابها مثل الموت، يعني: كيف ترد على النبي ﷺ؟! ثم جاءت واعتذرت، فقال لها النبي ﷺ: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُْولَى [(355)] يعني: إنما يكون الصبر الحقيقي عند أول ما يفاجأ الإنسان بالخبر.
أما بعد الصدمة الأولى فإن الإنسان إذا مضت مدة يسلو كما يسلو غيره، وينسى كما ينسى غيره، وتأخذه ظروف الحياة؛ فالواجب عليه أن يصبر، ويتحمل، بأن يحبس نفسه عن الجزع، ولسانه عن التشكي، وجوارحه عما يغضب الله؛ فلا يلطم خدًّا، ولا يشق ثوبًا، ولا ينتف شعرًا، ولا يبكي بكاء الصراخ والعويل، ولا يعدد محاسن الميت، أو يتكلم بما لا يليق؛ فترك هذا هو الصبر. والصبر واجب، وأما الجزع والتسخط فمحرم.
ولما مات أبو سلمة قال النبي ﷺ: لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ، ثم قال: اللهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ [(356)].
فالجزع محرم؛ لأن فيه اعتراض على الله، وتسخط على قضائه وقدره سبحانه، ولذا فالذي يجزع آثم ومأزور، والذي يصبر فهو معافى ومأجور قد أدى ما عليه؛ وهذا هو الواجب؛ ومن أدى الواجب أثابه الله.
وهناك درجة أعلى من الصبر، وهي درجة الرضا؛ وهي أن يرضى الإنسان بالمصيبة، وتكون نفسه مطمئنة، وراضية ومنشرحة؛ لأنه يعلم ما عند الله من حسن المثوبة؛ فالرضا مستحب والصبر واجب والتسخط حرام.
وهناك درجة رابعة، وهي درجة الشاكرين، الذين يشكرون الله على المصيبة؛ وهؤلاء هم الأخيار الذين تنقلب المحن في حقهم منحاً، والمصائب نعماً، فيشكرون الله عليها؛ لأنهم يعلمون أن الله تعالى يكفر بهذه المصيبة السيئات، ويرفع الدرجات، فإذا رضي وشكر أثابه الله ثواب الشاكرين، لكن لا يقوى على هذا إلا عباد الله الخلّص.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال النووي ـ تبعًا للعبدري والحازمي وغيرهما: اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة، كذا أطلقوا، وفيه: نظر؛ لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والشعبي الكراهة مطلقًا حتى قال الشعبي: لولا نهيُ النبي ﷺ لزرت قبر ابنتي، فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء، وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ والله أعلم».
أي: أنه قد روي عن بعض السلف: كابن سيرين، والنخعي، والشعبي، أن زيارة القبور مكروهة، لأنه لم يبلغهم النسخ.
والصواب أنها مستحبة للرجال خاصة، وليست جائزة فقط، فالجائز بمعنى: المباح، والمستحب هو الذي يؤجر الإنسان على فعله؛ ولهذا فهي مستحبة لما جاء فيها من الأمر قال ﷺ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلا فَزُورُوهَا [(357)] فالأمر للاستحباب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومقابل هذا قول ابن حزم: إن زيارة القبور واجبة ولو مرة واحدة في العمر، لورود الأمر به».
فيتحصل ثلاثة أقوال في مسألة زيارة الرجال للقبور:
القول الأول: قول الجمهور، ويرون أنها جائزة، أو مستحبة.
القول الثاني: وهو قول بعض السلف: كابن سيرين، والشعبي، وإبراهيم النخعي، أنها مكروهة؛ ولعل هؤلاء ما بلغهم الناسخ.
القول الثالث: قول ابن حزم: إنها واجبة ولو في العمر مرة.
والصواب أنها مستحبة للرجال خلافًا للنساء.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «واختلف في النساء، فقيل: دخلن في عموم الإذن، وهو قول الأكثر».
وعموم الإذن هو قوله ﷺ: فَزُورُوهَا، وذهب إلى هذا الجمهور، فقالوا: إن هذا الأمر للرجال والنساء جميعًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومحله ما إذا أمنت الفتنة».
فمحل الخلاف هو إذا أمنت الفتنة، أما إذا لم تؤمن الفتنة فلا خلاف في أن زيارة النساء للقبور لا تجوز.
وإذا نظرنا إلى الأحوال في هذا الزمان وجدنا أنه لا تؤمن الفتنة إذن فلا يجوز زيارة النساء للقبور.
قوله: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وموضع الدلالة منه» أي: من الحديث جواز زيارة القبور للنساء «أنه ﷺ لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة » .
والجواب: أن قوله ﷺ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي يحتمل النهي لها، ويحتمل أن هذا كان قبل النهي.
ثم ذكر الحافظ رحمه الله أن ممن قال بالجواز أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها «وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة؛ فروى الحاكم من طريق ابن أبي مليكة أنه رأى عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها عبدالرحمن، فقيل لها: أليس قد نهى النبي ﷺ عن ذلك؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها»[(358)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقيل: الإذن خاص بالرجال، ولا يجوز للنساء زيارة القبور».
أي: ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز زيارة القبور للنساء، وأن قوله: فَزُورُوهَا: إما أن النساء لم تدخل فيه؛ لأن هذا خطاب للرجال، أو أنهن دخلن فيه لكن جاء النهي بعد ذلك في قوله ﷺ: «لعن رسول الله زائرات القبور» [(359)] وفي حديث أم عطية: «نهينا عن اتباع الجنائز»[(360)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في المهذب، واستدل له بحديث عبدالله بن عمرو الذي تقدمت الإشارة إليه في باب اتباع النساء الجنائز».
يعني به حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ رأى فاطمة مقبلة فقال: مِنْ أَيْنَ جِئْتِ؟ قالت: رحمت على أهل هذا الميت ميتهم ـ يعني: تعزيهم ـ قال : لَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى؟ قالت: لا[(361)] أخرجه أحمد والحاكم، ووجه الدلالة: أنه ﷺ أنكر عليها بلوغ الكدى ـ يعني: بلوغ المقابر ـ، ولم ينكر عليها التعزية.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وبحديث: « لعن رسول الله زوارات القبور » [(362)]. أخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة، وله شاهد من حديث ابن عباس ومن حديث حسان بن ثابت، واختلف من قال بالكراهة في حقهن: هل هي كراهة تحريم أو تنزيه؟».
والصواب: أنها كراهة تحريم؛ لأن اللعن لا يكون إلا على محرم، واللعن يدل على أنه من الكبائر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال القرطبي: هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك، فقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن؛ لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء».
والصواب: أنه لا يخصص هذا الأمر بالمكثرات من الزيارة، ففي اللفظ الآخر: «لعن رسول الله زائرات القبور» [(363)] فهذا يدل على أن اللعن على الزيارة ولو لم يكنَّ مكثرات للزيارة؛ والروايات يفسر بعضها بعضًا.
المتن:
باب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعَام: 164] وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ [فَاطِر: 18].
«وَمَا يُرَخَّصُ مِنْ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ نَوْحٍ».
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَْوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا وَذَلِكَ لأَِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ
الشرح:
هذه الترجمة تفّقه فيها المؤلف رحمه الله وجمع بين النصوص فقال: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» يعني: يعذب ببعض البكاء، وهو الذي فيه الصياح والصوت، والبعض الآخر لا يعذب به وهو البكاء بدمع العين.
قوله: «إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ» أي: إذا كان الميت يعلم أنهم سينوحون ولم ينههم عن النياحة فإنه يعذب، وهذا التقييد الذي جاء به المصنف في قوله: «إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ» إنما هو اجتهاد من البخاري رحمه الله، أو تأويل لما أطلق في الأحاديث، وهذا هو القول الاول .
فالبخاري اختار أن الميت يعذب ببكاء أهله إذا كان النوح من سنته، فإذا لم يكن من سنته فإنه لا يعذب؛ لأنه ليس من عمله، والله تعالى يقول: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فَاطِر: 18] وَإِنْ أما إذا كان النوح من سنته فإنه يعذب؛ لأنه لم ينههم؛ لقول الله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التّحْريم: 6] فهذه الآية تدل على أنه يجب عليه أن ينههم عن البكاء ليقي نفسه وأهله من النار.
قوله: «وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» يدل على أنه يجب عليه أن ينههم عن البكاء، فإن لم ينههم عن البكاء فإنه يعذب؛ لأنه أخل بالواجب وهو قوله: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا.
القول الثاني : أن تعذيب الميت ببكاء أهله مستثنى من قوله تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى فالآية عامة وهذا الحديث خاص، فالخاص يخصص العام، فالميت يعذب ببكاء أهله سواء كان النوح من سنته أو لم يكن.
والله أعلم بكيفية هذا التعذيب، فقد جاء في سنن ابن ماجه أنه يوبخ، فعن أَسِيدُ بْنُ أَبِي أَسِيدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ، إِذَا قَالُوا: وَا عَضُدَاهُ، وَا كَاسِيَاهُ، وَا نَاصِرَاهُ، وَا جَبَلاَهُ، وَنَحْوَ هَذَا، يُتَعْتَعُ ـ أي يقلق ويزعج ويجر بشدة ـ وَيُقَالُ : أَنْتَ كَذَلِكَ ؟ أَنْتَ كَذَلِكَ؟» ، قَالَ أَسِيدٌ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ ! إِنَّ اللهَ يَقُولُ: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ، قَالَ : وَيْحَكَ! أُحَدِّثُكَ أَنَّ أَبَا مُوسَى حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَتَرَى أَنَّ أَبَا مُوسَى كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؟! أَوْ تَرَى أَنِّي كَذَبْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى؟![(367)]، وفي ذلك نوع من المشقة ونوع من الألم؛ كما جاء في الحديث: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ [(368)] فسماه عذابًا لما فيه من المشقة والألم، فهذا الميت يعذب إذا بكى أهله عليه، والله أعلم بكيفيته.
قوله: «وَمَا يُرَخَّصُ مِنْ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ نَوْحٍ» أي: إذا كان البكاء من غير نوح وبدمع العين فقط فهذا مرخص فيه؛ لأن النبي ﷺ بكى بدمع العين وقال: إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى الرَبُّ [(369)] أما إذا كان بصوت وصراخ فهذا منهي عنه.
المتن:
الشرح:
1284 في الحديث من الفوائد: أمر المصاب بالصبر والاحتساب.
وفيه: أنه يُعزى المصاب، فيُذهب إليه، أو يعزى بالاتصال به بالهاتف ونحوه، أو يُرسل له خطاب، ويقال كما قال رسول الله ﷺ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ.
وفيه: مشروعية تعليم من مات له أحد ماذا يقول فإنها لما أرسلت إليه أن ابنا لها يموت أرسل إليها هذه الرسالة ليعلمها كيف تصبر، ولكنها أرسلت للرسول ﷺ تقسم عليه أن يأتي، فبر النبي ﷺ قسمها «فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ: كأَنَّهَا شَنٌّ» والشن هو الجلد اليابس وهو يريد تصوير حركة خروج الروح.
قوله: «فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» ، هو الشاهد من الحديث؛ لبيان جواز البكاء بدمع العين بغير نوح.
قوله: «فَقَالَ: سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ فيه: أن البكاء على الميت من دون صوت رحمة من الله.
وفيه: إثبات الرحمة لله وأن الله يرحم من عباده الرحماء، وأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم عباد الله رحمه الله.
وفيه: حسن خلق النبي ﷺ حين ذهب إليها لما أقسمت عليه.
وفيه: مشروعية إبرار المقسم.
وفيه: جواز القسم على الشخص.
وفيه: فضيلة الصحابة، ولاسيما سعد بن عبادة .
وفيه: عدم اشتغال الزائرين للمريض بما ينافي ما هم عليه.
المتن:
الشرح:
1285 الشاهد في الحديث قوله: «فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ» وفيه: جواز البكاء على الميت من غير نوح؛ ولهذا دمعت عينا النبي ﷺ.
وهذه البنت التي ماتت هي أم كلثوم بنت النبي ﷺ، وهي زوجة عثمان بن عفان .
قوله: هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ؟ يعني: لم يجامع أهله البارحة. والحكمة ـ والله أعلم ـ كونه بعيدًا عما يثير الشهوة بالتذكر لما حصل منه قريبًا.
قوله: «فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا قَالَ: فَانْزِلْ قَالَ: فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا» وفي الرواية الأخرى: «أن عثمان تأخر لما قال: لم يقارف[(370)] فنزل أبو طلحة في قبرها».
وفيه: جواز أن ينزل في قبر المرأة غير محارمها؛ لأن المقام ليس مقام فتنة ولكنه مقام تذكير بالموت، ومقام رهبة وتخويف، وليس فيه خلوة.
المتن:
1286 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَني عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: تُوُفِّيَتْ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا أَوْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ جَاءَ الآْخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَلاَ تَنْهَى عَنْ الْبُكَاءِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ.
الشرح:
1286 قوله: «أَلاَ تَنْهَى عَنْ الْبُكَاءِ» يعني: البكاء بصوت وهو النياحة.
قوله: «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ هو الشاهد للترجمة: أن الميت يعذب بالبكاء الذي بالصوت والنياحة، أما إذا كان بدمع العين فلا بأس به.
المتن:
الشرح:
1287 قوله: «فَقَالَ عُمَرُ : يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ فيه: أن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، لا بكله، وهذا البعض هو النياحة، وأما غير ذلك كالبكاء بغير نياحة فلا يعذب عليه.
المتن:
الشرح:
1288 قوله: «ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ هذا اجتهاد من عائشة رضي الله عنها حيث وهَّمت عمر وأنكرت أن يكون النبي ﷺ حدث بذلك.