الشرح:
قوله: «وَقَالَتْ: حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ» يعني: يكفيكم القرآن، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فَاطِر: 18] واستدلت بهذه الآية ـ التي فهمت منها أن تعذيب الميت ببكاء أهله عليه تعذيب له على وزر لم يزره ـ على وهم عمر .
قوله: «وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: شَيْأً» تأدبًا مع عائشة رضي الله عنها لأنها أم المؤمنين.
قولها رضي الله عنها: «وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ يجاب عنه فيقال: إذا كان الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه صار يعذب بغير جرمه وبغير فعله، فلزمها ما فرت منه، وصار قولها أيضًا معارضًا لقوله تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فَاطِر: 18] وأنها هي التي وهمت رضي الله عنها؛ لأن الأحاديث ثابتة من حديث عمر وابن عمر وجماعة، ولا يُغلَّط الأثبات بالاجتهاد، فالحديث ثابت والآية لا تشكل، فالآية عامة والحديث خاص، وعائشة رضي الله عنها من أفقه النساء، لكن مع فقهها العظيم أخطأت كما يخطئ غيرها، فليست معصومة، ولكل جواد كبوة.
المتن:
1289 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا.
الشرح:
1289 هذا اجتهاد من عائشة رضي الله عنها، كما سبق بيانه.
المتن:
الشرح:
1290 في الحديث: دليل على أن الميت يعذب بالنياحة عليه، لا بمجرد البكاء.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وإنما أراد المصنف بهذا الحديث الرد على من يقول: إن الإنسان لا يعذب إلا بذنب باشره بقوله أو فعله، فأراد أن يبين أنه قد يعذب بفعل غيره إذا كان له فيه تسبب. وقد اختلف العلماء في مسألة تعذيب الميت بالبكاء عليه؛ فمنهم من حمله على ظاهره».
وهذا هو الصواب: أنه يحمل على ظاهره، ويكون مخصصًا لعموم الآية، وقد قيده المؤلف بمن كان النوح من سنته.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهو بيِّنٌ من قصة عمر مع صهيب كما سيأتي في ثالث أحاديث هذا الباب، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى أن المؤاخذة تقع على الميت إذا كان قادرًا على النهي ولم يقع منه، فلذلك بادر إلى نهي صهيب ، وكذلك نهى حفصة رضي الله عنها كما رواه مسلم من طريق نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عنه[(371)]، وممن أخذ بظاهره أيضًا عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، فروى عبد الرزاق من طريقه: «أنه شهد جنازة رافع بن خديج فقال لأهله: إن رافعًا شيخ كبير لا طاقة له بالعذاب، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» [(372)]، ويقابل قول هؤلاء قول من رد هذا الحديث وعارضه بقوله تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فَاطِر: 18].
وممن روي عنه الإنكار مطلقًا: أبو هريرة ؛ كما رواه أبو يعلى من طريق بكر بن عبدالله المزني قال: قال أبو هريرة : «والله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستُشهد فعمدت امرأته سَفهًا وجهلاً فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة» [(373)]، وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية منهم أبو حامد وغيره».
وقال الحافظ أيضًا: «يقع ذلك أيضًا لمن أهمل نهي أهله عن ذلك، وهو قول داود وطائفة، ولا يخفى أن محله ما إذا لم يتحقق أنه ليست لهم بذلك عادة، ولا ظن أنهم يفعلون ذلك، قال ابن المرابط: إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح، وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عُذب على ذلك عُذب بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده.
ومعنى قوله: «لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ.» أي: بنظير ما يبكيه أهله به، وذلك أن الأفعال التي يعددون بها عليه غالبًا تكون من الأمور المنهية، فهم يمدحونه بها وهو يعذب بصنيعه ذلك وهو عين ما يمدحونه به، وهذا اختيار ابن حزم وطائفة، واستدل له بحديث ابن عمر الآتي بعد عشرة أبواب في قصة موت إبراهيم».
المتن:
باب مَا يُكْرَهُ مِنْ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ
وَقَالَ عُمَرُ : «دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ وَالنَّقْعُ التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ وَاللَّقْلَقَةُ الصَّوْتُ».
1291 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ.
الشرح:
قوله: «بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ» المراد بالكراهة: كراهة التحريم للوعيد عليه؛ فالوعيد لا يكون إلا على أمر محرّم.
قوله: «وَقَالَ عُمَرُ : دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ» أبو سليمان هي كنية خالد بن الوليد . وقد مات في آخر خلافة عمر ، ولما مات اجتمع بنات عمه مع أخواته يبكين عليه.
قوله: «مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ وَالنَّقْعُ التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ» ، وقيل: النقع: الصياح وشق الجيب «وَاللَّقْلَقَةُ الصَّوْتُ» أي: الصياح والعويل.
فالبكاء على الميت بدون صياح لا بأس به؛ لأن البكاء بدمع العين يخفف على الإنسان الألم ولوعة الحزن. أما وضع التراب على الرأس ولطم الخد وشق الجيب وحلق الشعر، والصياح، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا من التسخط والاعتراض على قدر الله.
قوله ﷺ: مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ النياحة: هي رفع الصوت بالبكاء.
1291 قوله: إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ذكر المغيرة هذا الحديث ليبين أنه ضابط لحديثه ومتقن له، فيريد أن يقول: أنا لا أكذب، ولكني أروي لكم ما سمعت؛ فإن الكذب على الرسول ﷺ فيه هذا الوعيد الشديد.
وفي الحديث: وعيد شديد لمن تعمد الكذب على النبي ﷺ، وأنه من الكبائر.
وقال بعض العلماء: إن تعمد الكذب على الرسول ﷺ يعد ردة عن الإسلام؛ ولهذا قالوا: إذا لم يدر صحة حديث فإنه يرويه بصيغة التمريض لا الجزم؛ كأن يقول: يُروى عن رسول الله ﷺ كذا أو يذكر عنه كذا، ونحوه.
أما كيفية عذاب الميت بما نيح عليه في القبر فالله أعلم بها، وروي أن أبا موسى غشي عليه وهو في حجر امرأته، فصاحت زوجته ولم يقدر أن يرد عليها، فلما أفاق قال: ما قلت شيئًا إلا قيل لي: أنت كذا أنت كذا، فلعل التعذيب يكون بشيء من التقريع والتوبيخ، والله أعلم.
المتن:
الشرح:
1292 كما سبق أن ذكرنا فإن البكاء نوعان: محرم، وجائز؛ فإذا كان بصوت فهو محرم؛ لأنه من النياحة، وإذا كان بغير صوت فهو جائز.
المتن:
باب
1293 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: قَالَ : جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ قَدْ مُثِّلَ بِهِ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ سُجِّيَ ثَوْبًا فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُفِعَ فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ فَقَالُوا: ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو قَالَ: فَلِمَ تَبْكِي أَوْ لاَ تَبْكِي فَمَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ.
الشرح:
1293 في الحديث: بيان فضل عبدالله بن حرام والد جابر رضي الله عنهما، وأنه مات شهيدًا، وأن النبي ﷺ شهد له بذلك وقال: فَمَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ.
ومن فضائله أيضًا ما جاء في الحديث الآخر: أن النبي ﷺ قال لجابر والد عبد الله: إن الله كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا ـ يعني من غير واسطة ـ وقال له: تمنَّ، فقال: يا رب، أن أرد إلى الدنيا فأقتل مرة أخرى، فقال: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون [(374)].
ولما مات مثّل به المشركون، والتمثيل: هو تقطيع بعض الأعضاء كالأنف والأذن ونحوهما.
قوله: «فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي» نهاه الصحابة عن ذلك؛ لئلا يتأثر بسبب ما فعله المشركون بأبيه من التمثيل والتشويه. وقد ثبت أن أبا بكر كشف وجه النبي ﷺ بعد موته وقبّله وقال: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا [(375)].
قوله: «فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ فَقَالُوا: ابْنَةُ عَمْرٍو أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو قَالَ: فَلِمَ تَبْكِي أَوْ لاَ تَبْكِي فَمَا زَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ قد بين ابن القيم رحمه الله كما في زاد المعاد أن النهي عن النوح كان بعد غزوة أحد؛ فلذلك لم ينههن، حتى إنه ﷺ لما مر على نسوة يبكين تأسف على وفاة عمه وقال: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ [(376)].
وفيه: أنه يعفى عن النوح اليسير؛ بسبب ما يغلب الإنسان من شدة الحزن، كما وقع من فاطمة بنت النبي ﷺ بعد وفاته، وكما وقع من حفصة أم المؤمنين بنت عمر رضي الله عنهما.
المتن:
باب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ
1294 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ الْيَامِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.
الشرح:
1294 بَيَّنَ هذا الحديث ثلاثة من كبائر الذنوب؛ وذلك لما توعد عليها بقوله: لَيْسَ مِنَّا.
قال المصنف رحمه الله: «بَابَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ» ، ولم يقل: أو دعا بدعوى الجاهلية، أو لطم الخدود؛ ليبين أن الوعيد على كل واحدة منها، وأن كلًّا منها من كبائر الذنوب.
قوله: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ الواو هنا بمعنى أو، وتقدير الكلام: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، فكل واحدة منها على حِدَة كبيرة من كبائر الذنوب.
والكبيرة عند المحققين: هي ما تُوُعِّد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب، أو وجب فيها حد في الدنيا، أو نفي الإيمان عن صاحبها، أو قال النبي ﷺ فيه: لَيْسَ مِنَّا مثل قوله ﷺ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وقوله: «من حمل علينا السلاح فليس منا» [(377)] قوله: مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي [(378)] أو قال فيها ﷺ: «أنا برئ» .
المتن:
باب رَثَى النَّبِيِّ ﷺ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ
1295 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لاَ فَقُلْتُ بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: لاَ، ثُمَّ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحًا إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَِصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ رَثَى النَّبِيِّ ﷺ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ» يعني: إظهارًا للحزن والأسى والتأسف على فراقه.
والرثاء نوعان:
أحدهما: بإظهار التوجع والتألم على وفاة الميت، وهذا جائز، وهو المراد بهذه الترجمة.
الثاني: بذكر أوصاف الميت الباعثة على تهييج الحزن وتجديد اللوعة، وهذا هو المنهي عنه.
ولا يدخل في الرثاء المنهي عنه ما يقع من الثناء على العلماء الذين ماتوا وذكر فضائلهم.
قوله: لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ» وكان سعد بن خولة من المهاجرين، ولكنه مات بمكة، فرثى له النبي ﷺ أن مات بالأرض التي هاجر منها، وكانوا يحبون ألا يموتوا في الأرض التي هاجروا منها؛ لأنهم تركوها لله.
1295 دعا النبي ﷺ في هذا الحديث للمهاجرين فقال: اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَِصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فكانوا يحبون أن يموتوا في الأرض التي هاجروا إليها، لا التي هاجروا منها، فلما مرض سعد بن أبي وقاص بمكة واشتد وجعه، خشي أن يموت فيها، لكنه لم يمت من هذا المرض، بل شفاه الله وعاش بعد ذلك ستة وأربعين عامًا، وولد له أولاد، ثم توفي وصلت عليه عائشة في مسجد النبي ﷺ.
وفي الحديث: أنه لا يجوز للإنسان أن يتصدق بجميع ماله، ولا بثلثي ماله، ولا بنصف ماله إذا كان له ورثة؛ وإنما يجوز الوصية بالثلث؛ ولهذا قال النبي ﷺ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ فإن النبي ﷺ قال: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ [(379)].
وأوصى بعض السلف ـ منهم الصديق ـ بالخمس، وبعضهم بالسدس.
وفيه: دليل على أنه يستحب للإنسان أن يترك لورثته ما يغنيهم عن سؤال الناس، وأن الوصية تكون بالثلث فأقل، وأن إبقاء بعض المال للورثة وعدم التصدق به كله أولى وأفضل.
قوله: «يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» يعني: يسألون الناس بالكف.
وفي الحديث: عَلَمٌ من أعلام النبوة حيث قال لسعد : إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحًا إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، وقد وقع ما أخبر به النبي ﷺ، فخلف سعد فانتفع به أقوام كثيرون في الفتوحات الإسلامية التي تمت على يديه، وضر به آخرون من الكفار الذين ماتوا على كفرهم.
المتن:
باب مَا يُنْهَى مِنْ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
1296 وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ جَابِرٍ أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ حَدَّثَهُ قال: حدثني أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى قَالَ : وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْأً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَا يُنْهَى مِنْ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ» والنهي للتحريم؛ لأنه من كبائر الذنوب، ولم يذكر معه رفع الصوت ولا شق الجيوب؛ لبيان أن كل واحدة منها على حدة كبيرة من الكبائر.
1296 قوله: «الصَّالِقَةِ» : هي التي ترفع الصوت عند المصيبة، «وَالْحَالِقَةِ» : التي تحلق شعرها عند المصيبة، «وَالشَّاقَّةِ» : التي تشق ثوبها عند المصيبة، وقد برئ النبي ﷺ منهن جميعًا؛ فدل على أن ذلك من كبائر الذنوب.
والكبيرة: هي كل ما تُوُعِّد عليه بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، أو نفي الإيمان، كما سبق بيانه.
المتن:
باب لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ
1297 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.
الشرح:
1297 يبين لنا هذا الحديث أنواعًا من الكبائر؛ وهي: ضرب الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، وكونها من الكبائر؛ لما فيها من التسخط، والاعتراض على قضاء الله وقدره.
المتن:
باب مَا يُنْهَى مِنْ الْوَيْلِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
1298 حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.
الشرح:
1298 قوله: «عَبْدِ اللَّهِ» هو ابن مسعود .
والإمام البخاري رحمه الله كرر الحديث لاستنباط حكم النهي عن الويل، ودعوى الجاهلية عند المصيبة.
المتن:
باب مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ
1299 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ ﷺ قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ شَقِّ الْبَابِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ لَمْ يُطِعْنَهُ فَقَالَ: انْهَهُنَّ فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ: فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ الْعَنَاءِ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ» يبين المؤلف رحمه الله في هذه الترجمة أن حزن المرء عند المصيبة جائز، وأنه أفضل من عدم إظهار الحزن؛ لفعل النبي ﷺ ذلك، ولكي يعزيه الناس، وإنما شرعت التعزية مشاركة للمرء المسلم في مصابه، وتسلية له، وجبرًا لخاطره.
1299 في الحديث: حزن النبي ﷺ على قتل هؤلاء الثلاثة، وكان قتلهم في غزوة مؤتة، وفيها أَمّرَ النبي ﷺ زيد بن حارثة، وقال: فإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ [(380)] فقتل الثلاثة كلهم، ثم اصطلح الناس على تأمير خالد بن الوليد، ففتح الله له.
فحينما جاء النبي ﷺ قتل هؤلاء الأمراء جلس في المسجد يعرف في وجهه الحزن.
قوله: «مِنْ صَائِرِ الْبَابِ» يعني: شق الباب، فكانت عائشة رضي الله عنها تنظر من شق باب حجرتها التي تطل على مسجد النبي ﷺ.
قوله: «فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ» أي: لما بلغهن خبر قتله اجتمعن وجعلن يبكين، فأمره النبي ﷺ أن ينهاهن.
قوله: «فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ لَمْ يُطِعْنَهُ» يعني: لم يمتثلن للأمر.
قوله: «فَقَالَ: انْهَهُنَّ فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ: فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ» دل هذا على أنه ينكر على من بكى بالصياح، وأن من الإنكار عليه أن يحثى في وجهه التراب.
قوله: «أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ» قالته عائشة رضي الله عنها لهذا الرجل الذي تردد على النبي ﷺ، فأعلمه ببكاء نساء جعفر وقرابته عليه، فزاده همًّا على همه وحزنًا على حزنه.
قوله: «لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ الْعَنَاءِ» هذا اجتهاد من عائشة رضي الله عنها، وتعني: أنك ما امتثلت أمر النبي ﷺ، ولا أرحته من العناء، بل أتعبته بكثرة التردد عليه.
والجمع بينهما: أنه يجوز للمرء ألا يظهر حزنه إن ألمت به مصيبة، وأن من بدا عليه حزنه أفضل وأكمل. فالنبي ﷺ دمعت عيناه لما مات ابنه إبراهيم، وقال: القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب [(381)] وفي غزوة مؤتة أيضًا لما قتل جعفر وعبدالله بن رواحة وزيد بن حارثة جلس في المسجد يعرف في وجهه الحزن.
المتن:
الشرح:
1300 في الحديث: دليل على جواز إظهار الحزن عند المصيبة؛ ولهذا قنت النبي ﷺ شهرًا يدعو على من قتل القراء.
المتن:
باب مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: «الْجَزَعُ الْقَوْلُ السَّيِّئُ وَالظَّنُّ السَّيِّئُ»
وَقَالَ يَعْقُوبُ : إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يُوسُف: 86]
1301 حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: اشْتَكَى ابْنٌ لأَِبِي طَلْحَةَ قَالَ: فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ فَلَمَّا رَأَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: كيْفَ الْغُلاَمُ؟ قَالَتْ: قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ قَالَ: فَبَاتَ فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِمَا كَانَ مِنْهُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا.
قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَْنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلاَدٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ.
الشرح:
1301 يروي لنا المصنف رحمه الله في هذا الحديث عظمة أم سليم رضي الله عنها عند بصبرها وتجلدها لما ابتلاها الله بقبض ولدها، واحتسابها إياه عند الله.
قوله: «هَدَأَتْ نَفْسُهُ» فيه: تورية، والتورية لا بأس بها عند الحاجة، وتعني رضي الله عنها: هدأت نفسه بالموت، وظن أبو طلحة أنه هدأت نفسه من المرض، وكان يحب هذا الطفل كثيًرا.
قوله: «وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ» تعني رضي الله عنها: أنه قد استراح من مرضه، ومن عناء الدنيا، وظن أبو طلحة أنه قد برئ من مرضه، وعافاه الله منه.
قوله: «وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ» يعني: ظن أنها صادقة فيما أراد هو من هدوء نفسه من المرض، وهي صادقة فيما أرادت من هدوء نفسه بالموت.
قوله: «فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَْنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلاَدٍ» في رواية سفيان هذه حذف أفادته الرواية الأخرى، وهي رواية سعيد بن منصور، وتقديره: فولدت غلامًا سماه عبد الله، ثم ولد لعبد الله تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن.
قوله: «قَرَأَ الْقُرْآنَ» المراد هنا: حفظ القرآن عن ظهر قلب، كما في قولهم: «القراء» أي: حَفَظَةِ القرآن.
قوله: «َقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: الْجَزَعُ الْقَوْلُ السَّيِّئُ وَالظَّنُّ السَّيِّئُ» والقول السيئ: أن يتسخط على قضاء الله وقدره، ويعترض عليه سبحانه بذكر محاسن المتوفى، أو يقول: واعضداه، وانصراه، ونحوه.
والظن السيئ: أن يظن أن الله لا يأجره على المصيبة، أو يظن أنه أصيب من أجل أمر ما، وينسى أن كل ذلك من قضاء الله وقدره .
فعلى المسلم أن يحسن الظن بربه، ولا ييأس، وليرجُ أن تكون مصيبته كفارة لسيئاته، وليعلم أنها خير له؛ فإن قضاء الله كله خير.
قوله: «فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ» فيه: حذف تقديره: فبات، فتصنعت له فجامعها، فلما أصبح اغتسل.
قوله: «فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ» وفي رواية أخرى: قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فغضب وقال: تركتني حتى تلطخت ثم أخبرتني بابني، فانطلق حتى أتى رسول الله ﷺ فأخبره بما كان، فقال رسول الله ﷺ: بَارَكَ اللهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا [(382)].
المتن:
باب الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُْولَى
وَقَالَ عُمَرُ : نِعْمَ الْعِدْلاَنِ وَنِعْمَ الْعِلاَوَةُ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البَقَرَة: 156-157]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البَقَرَة: 45].
1302 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُْولَى.
الشرح:
1302 قوله: «الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُْولَى» يعني: أن محل الصبر عند حدوث الصدمة الأولى من المصيبة لدى استقبال الخبر، ففيها يظهر مدى ثبات المرء ورسوخه وقوة تحمله، أما إذا طالت المدة وبعد العهد، فإن المصيبة يخف وقعها ويُسَرَّى عن الإنسان.
قوله: «وَقَالَ عُمَرُ : نِعْمَ الْعِدْلاَنِ وَنِعْمَ الْعِلاَوَةُ» العدلان: مثنى عدل؛ وهو حمل البعير من الجانبين. والعلاوة: ما يعلق على البعير بعد تمام الحمل.
فشبه الفاروق عمر ما أعطاه الله تعالى للصابر بالعدلين والعلاوة في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ . فالعدلان: هما الصلوات والرحمة، والعلاوة: هي الهداية.
وصلاة الله على عبده: ثناؤه عليه ورحمته في الملأ الأعلى.
المتن:
باب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ
1303 حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا قُرَيْشٌ هُوَ ابْنُ حَيَّانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ ﷺ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ رَوَاهُ مُوسَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ المُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
قوله: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ يعني: على فراق ابنه إبراهيم.
1303 يروي لنا المصنف رحمه الله في هذا الحديث اللحظات الأخيرة في حياة إبراهيم ابن النبي ﷺ، ويصور لنا ما كان عليه النبي ﷺ من شدة الحزن والأسى على فراقه، مستقبلاً وقع هذه المصيبة بقلب راضٍ ونفس مطمئنة.
وإبراهيم ابن النبي ﷺ كان طفلاً صغيرًا، وأمه هي مارية القبطية رضي الله عنها، ومات وهو رضيع.
قوله: «الْقَيْنِ» هو الحداد.
قوله: «ظِئْرًا» الظئر: هو زوج المرضع، وكانت المرضع زوج أبي سيف، فكان النبي ﷺ يزور ولده في بيت أبي سيف ليطمئن على الطفل ويقبله ويشمه.
قوله: «وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ» يعني: تخرج روحه.
قوله: «فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَذْرِفَانِ» أي: تبكيان بالدمع؛ رحمة له وحزنًا على فراقه.
قوله: «فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ!» يعني: وأنت أيضًا يا رسول الله تبكي مثلنا.
قوله: «فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ ﷺ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ، فيه: دلالة على أن الإنسان لا يلام على دمع العين وحزن القلب، وإنما يلام على البكاء، والصياح، والسخط على قدر الله.
المتن:
باب الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيضِ
1304 حَدَّثَنَا أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَني عَمْرٌو عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ الأَْنْصَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ: قَدْ قَضَى قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبَكَى النَّبِيُّ ﷺ فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ ﷺ بَكَوْا فَقَالَ: أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَكَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا وَيَرْمِي بِالْحِجَارَةِ وَيَحْثِي بِالتُّرَابِ.
الشرح:
قوله: «الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيضِ» لم يجزم المؤلف رحمه الله فيه بالحكم؛ لأن فيه تفصيلاً فمنه ما هو جائز ومنه ما هو محرم، فإذا كان بدمع العين فجائز، وأما المحرم فما كان بالنياحة ورفع الصوت.
1304 قوله: «اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ» سعد بن عبادة هو سيد الخزرج.
قوله: «فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ » فيه: مشروعية زيارة المريض.
قوله: «فَبَكَى النَّبِيُّ ﷺ فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ ﷺ بَكَوْا» فيه: جواز البكاء بدون نياحة.
قوله: «فَقَالَ: أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ فيه: دليل على أنه لا بأس بدمع العين، ولا بحزن القلب، وأن المحرم هو النياحة.
ويبين هذا الحديث أن حكمة عيادة المريض: حصول الأجر والتواضع، وإدخال السرور على المريض، وجبر خاطر أهله؛ ولهذا زار النبي ﷺ سعد بن عبادة مع أصحابه.
قوله ﷺ: وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ فيه: زجر لأهل الميت على نوحهم عليه، وأن ما يلحقه من عذاب إنما هو لتقصيره في تعليمهم حرمة النياحة.
قوله: «وَكَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا وَيَرْمِي بِالْحِجَارَةِ وَيَحْثِي بِالتُّرَابِ» هذا من باب التعزير، مقتديًا بالنبي ﷺ لما جاءه رجل ـ وهو جالس في المسجد حزينًا لمصابه في مقتل الأمراء الثلاثة في غزوة مؤتة ـ وقال للنبي ﷺ: نساء جعفر يبكين، فقال النبي ﷺ: اذهب فانههن ، ثم جاء، فقال له: اذهب فانههن ، ثم قال في الثالثة: احْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ [(383)]، فالذي يُنهى فلا ينتهي، ويزجر فلا يزدجر، يحثى في وجهه التراب.
المتن:
باب مَا يُنْهَى مِنْ النَّوْحِ وَالْبُكَاءِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ
1305 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: لَمَّا جَاءَ قَتْلُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ شَقِّ الْبَابِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنِي أَوْ غَلَبْنَنَا الشَّكُّ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَوْشَبٍ فَزَعَمَتْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ الْعَنَاءِ.
الشرح:
1305 ذكر المصنف رحمه الله في هذ الحديث قصة بكاء نساء جعفر لما جاءهم خبر مقتله، وأن النبي ﷺ كان جالسًا في المسجد فجاءه «رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنِي أَوْ غَلَبْنَنَا الشَّكُّ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَوْشَبٍ فَزَعَمَتْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ، وهذا من باب التعزير.
قوله: «فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ» قالت عائشة ذلك دعاءً عليه؛ حيث إنه لم يفعل ما أمره به النبي ﷺ، ولم يُرِحْه من العناء.
المتن:
الشرح:
1306 في الحديث: أن النبي ﷺ لما بايع النساء على الإسلام أخذ عليهن أن يقلعن عن عادات الجاهلية، وذكر منها النياحة.
قوله: «فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ» والباقي لم يستطعن أن يوفين؛ وذلك لما يغلب على النساء من سرعة الجزع وقلة الصبر.
وهؤلاء الخمس اللائي وفَّين هن: أم العلاء، وابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ، وامرأتان لم تذكر أم عطية رضي الله عنها اسميهما.
المتن:
باب الْقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ
1307 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ.
قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْبَرَنا عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ زَادَ الْحُمَيْدِيُّ: حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ.
الشرح:
قوله: «بَاب الْقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ» عقد المصنف رحمه الله هذه الترجمة لبيان حكم القيام للجنازة، هل هو واجب أو مستحب؟ ولم يجزم بالحكم للخلاف بين أهل العلم في فهم الأدلة.
1307 قوله: إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ وزاد الحميدي في روايته: «أَوْ تُوضَعَ» ، وهذا الأمر للاستحباب لا الوجوب، وصرفه عن الوجوب حديث علي : «أن النبي ﷺ أمر بالقيام ثم قعد» [(384)]. والقاعدة: أن النبي ﷺ إذا أمر بشيء ثم تركه انصرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب.
وكذلك لو نهى النبي ﷺ عن شيء ثم فعله انصرف هذا النهي من التحريم إلى التنزيه.
ومثال ذلك: نهى النبي ﷺ عن الشرب قائمًا[(385)]، ثم ثبت أنه ﷺ شرب قائمًا في حجة الوداع لما جاء إلى زمزم وهم يسقون[(386)]، فدل على أن النهي ليس للتحريم، وأنه للتنزيه، فالشرب قائمًا جائز والشرب قاعدًا أفضل؛ وكذلك القيام للجنازة أفضل، وإن قعد فلا حرج.
قوله: حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أي: تتجاوزكم، «أو توضع» أي: على الأرض أو في المقبرة.
وجاء في عدة روايات تعليل القيام حينما تمر الجنازة والحكمة منه؛ ففي رواية أن النبي ﷺ قال: إِنَّمَا قُمْنَا لِلْمَلَائِكَةِ [(387)] وفي رواية لمسلم: إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ [(388)] وفي لفظ في المسند والسنن رواية: إِنَّ لِلْمَوْتِ فَزَعًا [(389)] وفي رواية: أَلَيْسَتْ نَفْسًا [(390)] وفي رواية: إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض الأرواح [(391)]، والقيام مستحب حتى ولو كانت جنازة غير مسلم.
المتن:
باب مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ
1308 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ جِنَازَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا أَوْ تُخَلِّفَهُ أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ.
1309 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كنَّا فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِيَدِ مَرْوَانَ فَجَلَسَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ فَجَاءَ أَبُو سَعِيدٍ فَأَخَذَ بِيَدِ مَرْوَانَ فَقَالَ: «قُمْ فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ.
الشرح:
قوله: «مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ» هذه الترجمة معقودة لبيان متى يقعد إذا قام للجنازة؟ والجواب أنه يقعد إذا جاوزته، أو وضعت على الأرض.
1308 قوله: فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا أَوْ تُخَلِّفَهُ أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ يعني: فلا يقعد حتى توضع على الأرض، وذلك على سبيل الاستحباب كما سبق بيانه.
وجاء عن النبي ﷺ أنه لم يقم للجنازة[(392)].
والجمع بين هذا الحديث وأحاديث الباب التي فيها الأمر بالقيام: أن الأمر بالقيام للاستحباب وليس للوجوب؛ لفعل النبي ﷺ، فدل على أن القعود جائز، والقيام أفضل.
ويرى بعض العلماء أن القيام منسوخ بأحاديث القعود، وهذا ليس بجيد؛ لأن القاعدة عند أهل العلم من أهل الأصول وغيرهم أنه إذا أمكن الجمع بين الدليلين فلا يعدل إلى النسخ، فالجمع مقدم؛ لأن فيه عملاً بكلا الدليلين، أما النسخ ففيه إلغاء لأحدهما، وإعمال الأدلة أولى من إلغاء بعضها. فإذا لم يمكن الجمع فإنه يُلجَأ إلى النسخ عند معرفة المتقدم من المتأخر.
1309 قوله: «كنَّا فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِيَدِ مَرْوَانَ» وكان مروان أمير المدينة «فجلسا قبل أن توضع هذا لعلم أبي هريرة أن القيام ليس بواجب فأخذ بالرخصة، ويحتمل أن أبا هريرة نسي، فجاء أبو سعيد الخدري فأمر مروان بالقيام.
قوله: «فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا» يعني: أبا هريرة.
قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ» يعني: عن الجلوس قبل أن توضع.
قوله: «فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ» أي: صدَّقه أبو هريرة ، لكنه أخذ بالرخصة لأن القيام مستحب، وأبو سعيد أحب أن يأخذ بالعزيمة والأفضلية، ويحتمل أن أبا هريرة كان ناسيًا فذكره أبو سعيد ، وأما مروان فالذي يظهر أنه لم يكن عالمًا بالحكم، والله أعلم.
وفي الحديث: بيان أن القعود جائز والقيام أفضل.
وفيه: التعاون على البر والتقوى، وتذكير العالم إذا نسي.
المتن:
باب مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلاَ يَقْعُدُ حَتَّى تُوضَعَ
عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالْقِيَامِ
1310 حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا فَمَنْ تَبِعَهَا فَلاَ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلاَ يَقْعُدُ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالْقِيَامِ» رحم الله الإمام البخاري فإن تراجمه شرح للحديث، والنهي عن القعود هنا على سبيل الاستحباب. قوله: «فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالْقِيَامِ» فيه: أن القيام لا يفوت بالقعود؛ لأن المراد به تعظيم أمر الموت، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم.
1310 قوله: إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا فَمَنْ تَبِعَهَا فَلاَ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ يعني: فلا يقعد حتى توضع على الأرض، وذلك على سبيل الاستحباب كما سبق بيانه.
وجاء في عدة روايات تعليل القيام حينما تمر الجنازة والحكمة منه؛ ففي رواية أن النبي ﷺ قال: إِنَّمَا قُمْنَا لِلْمَلَائِكَةِ [(387)] وفي رواية لمسلم: إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ [(388)] وفي لفظ في المسند والسنن رواية: إِنَّ لِلْمَوْتِ فَزَعًا [(389)] وفي رواية: أَلَيْسَتْ نَفْسًا [(390)] وفي رواية: إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض الأرواح [(391)]، والقيام مستحب حتى ولو كانت جنازة غير مسلم.
ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن أكثر الصحابة والتابعين على أنه مستحب، وقال بهذا الأوزاعي وأحمد[(393)] وإسحاق وجماعة.
وقال بعض السلف: يكره القعود قبل أن توضع، وهذا محمول على كراهة التنزيه.
وقال بعضهم: يجب القيام، واحتجوا برواية أبي سعيد، والصواب أن القيام مستحب.
المتن:
باب مَنْ قَامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ
1311 حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ وَقُمْنَا بِهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا.
الشرح:
1311 يبين لنا هذا الحديث تعظيم النبي ﷺ شأن الموت، واستشعاره هيبته.
قوله: إِذَا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا؛ تعظيمًا لشأن الموت، سواء كانت جنازة مسلم أو كافر.
المتن:
1312 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَْرْضِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالاَ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا.
1313 وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كنْتُ مَعَ قَيْسٍ وَسَهْلٍ رضي الله عنهما فَقَالاَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ: عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى كَانَ أَبُو مَسْعُودٍ وَقَيْسٌ يَقُومَانِ لِلْجَنَازَةِ.
الشرح:
1312، 1313 قوله: «أَبُو مَسْعُودٍ» هو عقبة بن عمرو البدري .
المتن:
باب حَمْلِ الرِّجَالِ الْجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ
1314 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِْنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ.
الشرح:
قوله: «بَابُ حَمْلِ الرِّجَالِ الْجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ» استنبط البخاري رحمه الله ذلك من قوله ﷺ: «إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ» ، وهو استنباط حسن؛ فإن النساء لسن من أهل الحمل للجنازة لضعف قوتهن، وعدم تحملهن؛ ولأنه قد يفضي إلى الاختلاط بالرجال، وانكشاف شيء من عورتهن؛ وهذا من أسباب الفتنة، وهن مأمورات بالستر، ولما يتوقع منهن من النياحة والصراخ، ولما جاء في الأحاديث الصحيحة أن النبي ﷺ نهى عن اتباعهن الجنائز[(394)]، كما في حديث أم عطية رضي الله عنها.
1314 قوله: وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فيه: دليل على أن حمل الجنازة خاص بالرجال دون النساء.
وفيه: أن الله يُنطِق الجنازة وتتكلم؛ لقوله: فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي لما تعلم من الخير، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا.
قوله: يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِْنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ فيه: أن صوت المتوفى تسمعه المخلوقات كلها ما خلا الإنسان؛ فإن الله على كل شيء قدير، وهذا من رحمة الله بالإنسان؛ فإنه لو سمع ذلك لتكدرت حياته.
المتن:
باب السُّرْعَةِ بِالْجِنَازَةِ
وَقَالَ أَنَسٌ : «أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ وَامْشِ بَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ شِمَالِهَا» وَقَالَ غَيْرُهُ: قَرِيبًا مِنْهَا.
الشرح:
حديث أنس الذي في الترجمة يبين لنا صفة تشييع الجنازة، وأن على المشيعين أن يكونوا بالقرب منها، ولا حرج عليهم أن يمشوا أمامها وخلفها، وعن يمينها وعن شمالها.
وبعض العلماء يرى أن الركبان يكونون خلفها، والمشاة أمامها.
والصواب: أن الأمر فيه سعة.
المتن:
الشرح:
1315 هذا الحديث يبين لنا استحباب الإسراع بتجهيز ودفن الجنازة.
قوله: فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا يعني: يُعجَّل لها بهذا الخير الذي ينتظرها.
قوله: وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ يعنى: يستريح الناس من هذا العناء ومن ذاك الشر.
وهذه السرعة يراعى معها الوفاء بحق المتوفى من إحسان غسله وتكفينه، وتمكين الناس من الصلاة عليه، ففي الحديث: مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ [(395)].
ويخبر الناس للصلاة عليها، وقد أخبر النبي ﷺ بموت النجاشي[(396)]، وكذا ورد عن ابن عباس .
والأولى أن يدفن المتوفى في البلد الذي مات فيه إذا كان فيه مسلمون، ولو أوصى أن ينقل إلى بلد آخر فلا ينقل؛ لأنه لا وجه لهذه الوصية؛ لأنها تكلفة بلا حاجة، إلا إذا لم يكن بالبلد مسلمون فلا بأس بالنقل.
قوله: «أَسْرِعُوا» نقل ابن قدامة أن الأمر فيه للاستحباب بلا خلاف بين العلماء[(397)]، وشذ ابن حزم فقال بوجوبه[(398)]، والمراد بالإسراع شدة المشي، وعلى ذلك حمله بعض السلف، وهو قول الحنفية[(399)].
قال صاحب الهداية: ويمشون بها مسرعين دون الخبب[(400)].
وفي المبسوط: ليس فيه شيء مؤقت، غير أن العجلة أحب إلي من الإبطاء بها[(401)].
وعن الشافعي[(402)] والجمهور: المراد بالإسراع ما فوق سجية المشي المعتاد، ويكره الإسراع الشديد.
ومال عياض إلى نفي الخلاف فقال: «من استحبه أراد الزيادة على المشي المعتاد، ومن كرهه أراد الإفراط فيه كالرمل»[(403)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والحاصل أنه يستحب الإسراع، لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل أو المشيع؛ لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة».
وفيه: دليل على أن الذي يحمل الجنازة هم الرجال.