الشرح:
وفيه: استحباب المبادرة إلى دفن الميت، وأما مثل المطعون والمفلوج والمسبوت فينبغي أن لا يسرع بدفنهم حتى يتحقق من موتهم، وقيل: حتى يمضي يوم وليلة، قاله الشيخ ابن باز رحمه الله عن ابن بزيزة.
والمطعون: هو المصاب بالطاعون وهو داء معروف، والمفلوج: هو المصاب بالفالَج، وهو المعروف الآن بالشلل، والمسبوت: هو المغشي عليه لا يتحرك.
والتحديد في تحقق موت مثل هؤلاء باليوم والليلة فيه نظر، والأولى عدم التحديد بل يرجع إلى العلامات الدالة على الموت، فمتى وجد منها ما يدل على يقين الموت اكتفي بذلك وإن لم يمض يوم وليلة، والله أعلم.
قوله: «تَكُ صَالِحَةً» فيه: الحث على صحبة أهل الخير والصلاح وترك صحبة البطالين، كما في قوله ﷺ: مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ [(404)].
المتن:
باب قَوْلِ الْمَيِّتِ وَهُوَ عَلَى الْجِنَازَةِ قَدِّمُونِي
1316 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: لأَِهْلِهَا يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِْنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَ الإِْنْسَانُ لَصَعِقَ.
الشرح:
قوله: «بَاب قَوْلِ الْمَيِّتِ وَهُوَ عَلَى الْجِنَازَةِ قَدِّمُونِي» الجنازة بفتح الجيم وكسرها لغتان، وتطلق على السرير والنعش الذي يحمل عليه الميت، كما تطلق على الميت نفسه، وهي هنا بمعنى السرير والنعش.
1316 قوله: فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي.
قوله: يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِْنْسَانَ هذا من لطف الله تعالى حيث لم يسمعها الإنسان، ولو سمعها لتكدرت عليه حياته، وهذا دليل على قدرة الله العظيمة حيث أنطق الجنازة، كما يُنطق الأرجل والأيدي يوم القيامة يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النُّور: 24]. ويحتمل أن يكون نطق الجنازة قبل رد الروح إليها ـ لأنها ترد في القبر ـ ويحتمل بعد رد الروح إليها، والله أعلم.
وفي رواية: يسمعها كل شيء إلا الثقلين [(405)] يعني: بالثقلين: الجن والإنس فلا يسمعون كلام الميت، وهذا الاستثناء للثقلين من السماع وصف أغلبي، وإلا فقد يسمع بعض الناس المقبور وهو يعذب في قبره، كما ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله شيئًا من ذلك في كتاب أهوال القبور.
وذكر بعض الناس أنه سمع بعض المعذبين في القبور، وأنه سأل أهلها عن حاله فقال بعضهم: إنه كان لا يصلي، وقال بعضهم: إنه كان لا يؤدي الزكاة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: إِذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ يحتمل أن يريد بالجنازة نفس الميت، ووضعه جعله في السرير، ويحتمل أن يريد السرير، والمراد وضعها على الكتف، والأول أولى لقوله بعد ذلك: فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: فإن المراد به الميت. ويؤيده رواية عبد الرحمن بن مهران عن أبي هريرة المذكور بلفظ: إِذَا وُضِعَ الْمُؤْمِنُ عَلَى سَرِيرِهِ يَقُولُ قَدِّمُونِي [(406)] الحديث. وظاهره أن قائل ذلك هو الجسد المحمول على الأعناق.
وقال ابن بطال: إنما يقول ذلك الروح، ورده ابن المنير بأنه لا مانع أن يرد الله الروح إلى الجسد في تلك الحال ليكون ذلك زيادة في بشرى المؤمن وبؤس الكافر، وكذا قال غيره وزاد: ويكون ذلك مجازًا باعتبار ما يئول إليه الحال بعد إدخال القبر وسؤال الملكين».
واعتبار المجاز ليس بصحيح، والصواب أنه يقول ذلك قبل إدخاله القبر، فظاهر الحديث أنه يقول هذا قبل أن ترد إليه الروح والله أعلم.
قوله: وَلَوْ سَمِعَ الإِْنْسَانُ لَصَعِقَ أي: لو سمعها الأحياء لصعقوا، والذي يصعق تكدر عليه حياته ولا يستطيع أن يقوم بعمله. ويؤيد هذا الحديث الآخر أن النبي ﷺ قال: لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ [(407)] وهذا فيه: دليل على أن النبي ﷺ يسمع أصوات المعذبين في القبور. وفي حديث ابن عباس أن النبي ﷺ مر بقبرين فقال: إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ بَوْلِه، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين وغرز في كل قبر واحدة وقال: لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا [(408)] وفي اللفظ الآخر: لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ [(409)].
وعن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنهم كانوا إذا أرادوا أن يعالجوا الخيل أتوا بها إلى قبور الرافضة أو إلى قبور اليهود، فتسمع أصوات المعذبين فيحصل لها إسهال فينزل ما في بطنها، فتشفى من مرضها[(410)] ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ.
وعذاب القبر ثابت بالقرآن والسنة، قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعَام: 93] وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفَال: 50]. وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غَافر: 46] فهذا هو العرض الثاني.
وفي النعيم جاءت آية: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً [الفَجر: 27-28]. وكذلك: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ [فُصّلَت: 30].
والأدلة من السنة كثيرة، منها قوله ﷺ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ [(411)].
المتن:
باب مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً عَلَى الْجِنَازَةِ خَلْفَ الإِْمَامِ
1317 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً عَلَى الْجِنَازَةِ خَلْفَ الإِْمَامِ» فيه: بيان كيفية الصفوف على الجنازة، وهل هو مشروع أو غير مشروع؟ وهل يشرع تكثير الصفوف؟ ولم يجزم المؤلف رحمه الله بالحكم نظرًا للخلاف في هذه المسألة.
وأشار المؤلف رحمه الله في هذه الترجمة إلى ما ورد في استحباب ثلاثة صفوف، وهو ما رواه أبو داود من حديث مالك بن هبيرة: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ، [(412)] أي: وجبت له الجنة. وهذا الحديث في سنده ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن.
1317 قوله: «فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ» يؤخذ من ظاهره مشروعية جعل الصفوف على الجنازة صفين أو ثلاثة؛ لأن النبي ﷺ صلى على النجاشي في الصحراء في مكان الجنائز ـ والمكان متسع ـ فجعلهم صفين أو ثلاثة، مما يدل على استحباب كثرة الصفوف على الجنازة، والله أعلم.
أما صلاة النبي ﷺ على النجاشي، فهذه مسألة اختلف فيها أهل العلم؛ فقال بعض العلماء: هذا خاص بالنجاشي، ومن خصوصيات النبي ﷺ، فلا يصلى على غير النجاشي صلاة الغائب، وقد مات في زمن النبي ﷺ جم غفير من المسلمين في مكة وفي غيرها ولم يصل عليهم، واختص النجاشي بذلك؛ لأنه مات في بلده ولم يُصَلَّ عليه؛ لأنه لم يسلم معه أحد.
والقول بأنه لم يصل عليه أحد بعيد، فلعله أسلم معه بعض الخدم والأتباع، والله أعلم.
وقال آخرون: إن الله تعالى كشف له عن النجاشي، أو قُرّب له؛ فكان يصلي وهو أمامه، فليس بغائب في الحقيقة.
وذهب الشافعي[(413)] وأحمد[(414)] وجماعة إلى جواز الصلاة على الغائب مطلقًا.
والأقرب أنه لا يصلى على كل غائب، وإنما يصلى على من له قدم وشأن في الإسلام كالنجاشي؛ فإنه ملك عادل أسلم وآوى الصحابة ، وهاجروا إليه هجرتين؛ حيث إنه لما اشتد أذى قريش بهم أمرهم النبي ﷺ أن يهاجروا إلى الحبشة، وقال: إن فيها ملكًا لا يظلم أحد عنده [(415)] ثم أسلم .
فالخلاصة: أنه يصلى على من كان له شأن وقدم في الإسلام كأمير أو سلطان عادل، وكذلك شيخ قبيلة أو رئيس قبيلة معروف بالخير والصلاح، والعالم أو الداعية الكبير، وكل من له نفع عام للمسلمين، وأما أن يصلى على كل أحد فهذا ليس بوجيه.
المتن:
باب الصُّفُوفِ عَلَى الْجِنَازَةِ
1318 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَعَى النَّبِيُّ ﷺ إِلَى أَصْحَابِهِ النَّجَاشِيَّ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا خَلْفَهُ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا.
1319 حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَخْبَرَني مَنْ شَهِدَ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَصَفَّهُمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا قُلْتُ: مَنْ حَدَّثَكَ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
الشرح:
1319 قوله: «عَنْ الشَّعْبِيِّ» هو عامر بن شراحيل، وكنيته أبو عمرو.
قوله: «فَصَفَّهُمْ وَكَبَّرَ» فيه: فضل كثرة الصفوف على الميت، وأنه أفضل من جعلهم صفًّا واحدًا.
المتن:
1320 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَني عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: قَدْ تُوُفِّيَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ الْحَبَشِ فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ قَالَ: فَصَفَفْنَا فَصَلَّى النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْهِ وَنَحْنُ صُفُوفٌ.
قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي.
الشرح:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «بَاب الصُّفُوفِ عَلَى الْجِنَازَةِ» ، قال الزين بن المنير ما ملخصه: إنه أعاد الترجمة لأن الأولى لم يجزم فيها بالزيادة على الصفين»؛ وذلك لأن الترجمة الأولى «بَاب مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً عَلَى الْجِنَازَةِ» .
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال ابن بطال: أومأ المصنف إلى الرد على عطاء، حيث ذهب إلى أنه لا يشرع فيها تسوية الصفوف، يعني: كما رواه عبدالرزاق، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أحق على الناس أن يسووا صفوفهم على الجنائز كما يسوونها في الصلاة؟ قال: لا، إنما يكبرون ويستغفرون».
وقول عطاء هذا ليس بجيد، والصواب أن تسوى الصفوف فيها كصلاة الفريضة، وأنه يشترط لها ما يشترط للصلاة، من وضوء، واستقبال القبلة، وتكبير، وتسليم، وتسوية صفوف؛ فإنها ليست كالذكر والدعاء.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأشار المصنف بصيغة الجمع إلى ما ورد في استحباب ثلاثة صفوف، وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث مالك بن هبيرة مرفوعًا: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ،، حسنه الترمذي، وصححه الحاكم[(416)]، وفي رواية له: إِلَّا غُفِرَ لَهُ [(417)].
وقد أعل الحديث سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله بأن: «في إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد رواه بالعنعنة، وهي علة مؤثرة في حق المدلس، وعليه لا تقوم بهذا الحديث حجة حتى يوجد ما يشهد له بالصحة» [(418)]. ومحمد بن إسحاق ثقة، لكنه مدلس، فإذا صرح بالسماع زال ما يشتبه من تدليسه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الطبري: ينبغي لأهل الميت إذا لم يخشوا عليه التغير أن ينتظروا به اجتماع قوم يقوم منهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث. انتهى» وذلك لحديث مالك بن هبيرة: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ، والحديث حسنه الترمذي، وصححه الحاكم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وتعقب بعضهم الترجمة بأن أحاديث الباب ليس فيها صلاة على جنازة، وإنما فيها الصلاة على الغائب أو على من في القبر، وأجيب بأن الاصطفاف إذا شرع والجنازة غائبة ففي الحاضرة أولى، وأجاب الكرماني بأن المراد بالجنازة في الترجمة: الميت، سواء كان مدفونًا أو غير مدفون، فلا منافاة بين الترجمة والحديث».
وبعض العلماء يرى أن جَعل الصفوف ثلاثة من أسباب المغفرة؛ أخذًا بهذا الحديث: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ، إن صح، وجاء في حديث آخر قوله ﷺ: «من صلى عليه مائة لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله» [(419)] رواه مسلم، وفي حديث ثالث: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ [(420)].
1320 قال الحافظ ابن حجر: «وفي الحديث دلالة على أن للصفوف على الجنازة تأثيرًا ولو كان الجمع كثيًرا؛ لأن الظاهر أن الذين خرجوا معه ﷺ كانوا عددًا كثيرًا، وكان المصلى فضاء ولا يضيق بهم لو صفوا فيه صفًّا واحدًا، ومع ذلك فقد صفهم، وهذا هو الذي فهمه مالك بن هبيرة الصحابي المقدم ذكره، فكان يصف من يحضر الصلاة على الجنازة ثلاثة صفوف سواء قلوا أو كثروا، ويبقى النظر فيما إذا تعددت الصفوف والعدد قليل، أو كان الصف واحدًا والعدد كثير أيهما أفضل؟
وفي قصة النجاشي علم من أعلام النبوة؛ لأنه ﷺ أعلمهم بموته في اليوم الذي مات فيه، مع بعد ما بين أرض الحبشة والمدينة» وقد أعلمه الله تعالى بالوحي، فقال النبي ﷺ: مات أخ لكم فصلوا عليه [(421)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «واستدل به على منع الصلاة على الميت في المسجد، وهو قول الحنفية والمالكية، لكن قال أبو يوسف: إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس. قال النووي: ولا حجة فيه؛ لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد لا مجرد الصلاة عليه، حتى ولو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله. وقال ابن بزيزة وغيره: استدل به بعض المالكية، وهو باطل لأنه ليس فيه صيغة نهي، ولاحتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمر غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنه ﷺ صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد»[(422)].
وحديث الصلاة على سهيل بن بيضاء أخرجه مسلم عن عائشة، وقد صُلي على الصديق وعلى عمر في المسجد، فلا حرج في الصلاة على الجنازة في المسجد، وأما كراهة بعض العلماء الصلاة عليها في المسجد فلا وجه له.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل؟ بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدركوه أسلم، فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير من طريق ثابت، والدارقطني في الأفراد، والبزار من طريق حميد، كلاهما عن أنس : أن النبي ﷺ لما صلى على النجاشي قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة» [(423)]. والعلج: الأعجمي، ويطلق على الكافر من العجم، وهذا يعني: أن بعضهم ما علم بإسلامه. فنزلت: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [آل عِمرَان: 199].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وله شاهد في معجم الطبراني الكبير من حديث وحشي بن حرب[(424)]، وآخر عنده في الأوسط من حديث أبي سعيد ، وزاد فيه: أن الذي طعن بذلك فيه كان منافقًا[(425)]، واستدل به على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. قال الشافعي: الصلاة على الميت دعاء له، وهو إذا كان ملففًا يصلى عليه، فكيف لا يدعى له وهو غائب أو في القبر بذلك الوجه الذي يدعى له به وهو ملفف؟! وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك».
فالحنفية[(426)] والمالكية[(427)] يقولون: لا تشرع صلاة الغائب مطلقًا، وقالوا: إنما هذا خاص بالنجاشي، وخاص بالنبي ﷺ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وعن بعض أهل العلم إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت، أو ما قرب منه، لا ما إذا طالت المدة. حكاه ابن عبد البر» وهذا هو القول الثالث في المسألة: أنه يصلى على الغائب في اليوم الذي يموت فيه أو ما قرب منه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلاً لم يجز»، وهذا هو القول الرابع: أنه يصلى عليه إذا كان جهة القبلة، ولكن هذا القول لا وجه له.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال المحب الطبري: لم أر ذلك لغيره، وحجته حجة الذي قبله: الجمود على قصة النجاشي، وستأتي حكاية مشاركة الخطابي لهم في هذا الجمود. وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشي بأمور».
فذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أجوبة الذين منعوا من الصلاة على الغائب، فقال: «منها: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد، فتعينت الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابي: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه، واستحسنه الروياني من الشافعية، وبه ترجم أبو داود في السنن: الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك ببلد آخر، وهذا محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصل عليه في بلده أحد».
وهذا بعيد أن يسلم ملك ولا يسلم معه أحد، ويموت ولا يصلي عليه أحد؛ فالملوك لهم أتباع، فأقل شيء حاشيته أو الخدم ومن حوله.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومن ذلك قول بعضهم: كشف له ﷺ عنه حتى رآه، فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون، ولا خلاف في جوازها. قال ابن دقيق العيد: هذا يحتاج إلى نقل، ولا يثبت بالاحتمال. وتعقبه بعض الحنفية بأن الاحتمال كافٍ في مثل هذا من جهة المانع، وكأن مستند قائل ذلك ما ذكره الواقدي في أسبابه بغير إسناد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف للنبي ﷺ عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه، ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه[(428)]. أخرجه من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب عنه.
ولأبي عوانة من طريق أبان وغيره عن يحيى: فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا»[(429)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومن الاعتذارات أيضًا أن ذلك خاص بالنجاشي؛ لأنه لم يثبت أنه ﷺ صلى على ميت غائب غيره، قال المهلب: وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية الليثي، وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قوي بالنظر إلى مجموع طرقه».
فكأن الحافظ ابن حجر رحمه الله يثبت أن النبي ﷺ صلى على معاوية الليثي، ولكنه تراجع في ترجمته في الإصابة[(430)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «واستند من قال بتخصيص النجاشي لذلك إلى ما تقدم من إرادة إشاعة أنه مات مسلمًا، أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته. قال النووي: لو فتح باب هذا الخصوص لانسد كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي على نقله. وقال ابن العربي المالكي: قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد ﷺ. قلنا: وما عمل به محمد ﷺ تعمل به أمته، يعني: لأن الأصل عدم الخصوصية. قالوا: طويت له الأرض وأحضرت الجنازة بين يديه. قلنا: إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم، ولا تخترعوا حديثًا من عند أنفسكم، ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف، فإنها سبيل تلاف إلى ما ليس له تلاف. وقال الكرماني: قولهم: رفع الحجاب عنه ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبًا عن الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي ﷺ. قلت: وسبق إلى ذلك الشيخ أبو حامد في تعليقه، ويؤيده حديث مجمّع بن جارية ـ بالجيم والتحتانية ـ في قصة الصلاة على النجاشي قال: «فصففنا خلفه صفين وما نرى شيئًا» ، أخرجه الطبراني، وأصله في ابن ماجه[(431)]. لكن أجاب بعض الحنفية عن ذلك بما تقدم من أنه يصير كالميت الذي يصلي عليه الإمام وهو يراه ولا يراه المأمومون فإنه جائز اتفاقًا».
والخلاف في هذه المسألة طويل، والجمهور على الجواز مطلقًا، والأقرب أن يقال: إنه يصلَّى على النجاشي ومن كان مثله ممن له شأن وقدر في الإسلام، كعالم أو أمير أو داعية.
المتن:
باب صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ عَلَى الْجَنَائِزِ
1321 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَامِرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلاً فَقَالَ: مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ قَالُوا: الْبَارِحَةَ قَالَ: أَفَلاَ آذَنْتُمُونِي؟ قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ.
الشرح:
1321 هذا الحديث استدل به المؤلف رحمه الله على جواز صفوف الصبيان مع الرجال في الجنائز، كما يكونون في الصلوات الخمس.
قوله: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَا فِيهِمْ» وكان ابن عباس إذ ذاك صبيًّا؛ وذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما كان قد ناهز الاحتلام إبَّان وفاة النبي ﷺ.
وفيه: جواز الدفن في الليل، وأنه لا كراهة فيه إذا لم يكن هناك تقصير في حق الميت من تغسيله وتكفينه.
وأما النهي عن الدفن ليلاً فهو محمول على ما كان فيه تقصير في حق الميت ـ مثل أن يكفن في كفن غير وافٍ، أو لا يمكَّن الناس من الاجتماع للصلاة عليه، أو لا يوجد من يقوم على تجهيزه. أما إذا لم يكن هناك تقصير في حق الميت فلا بأس؛ وحيث دفن النبي ﷺ ليلاً ودفن الصديق ليلاً.
وفيه: تواضع النبي ﷺ وحرصه على الصحابة.
قوله: «فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ» أي: أنهم صلوا صفوفًا خلف النبي ﷺ.
المتن:
باب سُنَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَائِزِ
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ.
وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ.
وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ سَمَّاهَا صَلاَةً لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلاَ سُجُودٌ وَلاَ يُتَكَلَّمُ فِيهَا، وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ: «لاَ يُصَلِّي إِلاَّ طَاهِرًا وَلاَ تُصَلَّى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبِهَا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ».
وَقَالَ الْحَسَنُ: «أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَأَحَقُّهُمْ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُمْ لِفَرَائِضِهِمْ وَإِذَا أَحْدَثَ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ عِنْدَ الْجَنَازَةِ يَطْلُبُ الْمَاءَ، وَلاَ يَتَيَمَّمُ وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْجَنَازَةِ وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهمْ بِتَكْبِيرَةٍ».
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: «يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ أَرْبَعًا».
وَقَالَ أَنَسٌ : «تَكْبِيرَةُ الْوَاحِدَةِ اسْتِفْتَاحُ الصَّلاَةِ».
وَقَالَ: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ [التّوبَة: 84] وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإِمَامٌ.
1322 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَخْبَرَني مَنْ مَرَّ مَعَ نَبِيِّكُمْ ﷺ عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّنَا فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ فَقُلْنَا يَا أَبَا عَمْرٍو مَنْ حَدَّثَكَ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله: «بَاب سُنَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَائِزِ» سماها صلاة، واستدل على ذلك بقول النبي ﷺ: مَنْ صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ [(432)] وبقوله: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ [(433)] وبقوله: صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ [(434)]، والصلاة لابد فيها من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة وغير ذلك، فصلاة الجنازة حكمها حكم الصلوات الخمس من الشرائط والأركان، لكن ليس فيها ركوع ولا سجود.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب سُنَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَائِزِ» قال الزين ابن المنير: المراد بالسنة ما شرعه النبي ﷺ فيها، يعني: هو أعم من الواجب والمندوب، ومراده بما ذكره هنا من الآثار، والأحاديث، أن لها حكم غيرها من الصلوات، والشرائط، والأركان، وليست مجرد دعاء، فلا تجزئ بغير طهارة مثلاً» يعني: كما قاله بعض العلماء، وهو قول ضعيف..
قوله: «وَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هذا طرف من حديث لسلمة بن الأكوع سيأتي موصولاً في أوائل الحوالة، أوله: كنا جلوسًا عند النبي ﷺ إذ أتي بجنازة فقالوا: صل عليها، فقال: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ [(435)]».
قوله: «سَمَّاهَا صَلاَةً» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أي: يشترط فيها ما يشترط في الصلاة، وإن لم يكن فيها ركوع ولا سجود، فإنه لا يتكلم فيها، ويكبر فيها ويسلم منها بالاتفاق، وإن اختلف في عدد التكبير والتسليم» وهذا هو الصواب.
قوله: «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يُصَلِّي إِلاَّ طَاهِرًا» يعني: متوضئًا. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وصله مالك في الموطأ عن نافع بلفظ: إن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: لا يصلي الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر».
قوله: «وَلاَ تُصَلَّى عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبِهَا» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وصله سعيد بن منصور من طريق أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سئل عن الجنازة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، يقول: ما صليتا لوقتهما» وكل هذا دليل على أنها صلاة؛ ولهذا جاء في حديث عقبة بن عامر في صحيح مسلم: «ثلاث ساعات كان رسول الله ﷺ ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة» [(436)] فدل ذلك على أنها صلاة، ويشترط لها ما يشترط للصلاة، وأراد المؤلف رحمه الله بهذا الرد على من قال: صلاة الجنازة ليست صلاة، وإنما هي دعاء وذكر.
قوله: «وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ» يعني: في التكبيرات، وجاء هذا عن بعض الصحابة مرفوعًا، ومسألة رفع اليدين في تكبيرات الجنازة فيها خلاف، والصواب أنه يرفع يديه في جميع التكبيرات.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ» وصله البخاري في كتاب رفع اليدين والأدب المفرد من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة على الجنازة، وقد روي عنه مرفوعًا؛ أخرجه الطبراني في «الأوسط» من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر[(437)] بإسناد ضعيف».
وذكر سماحة شيخنا الشيخ ابن باز رحمه الله أنه: أخرجه الدارقطني في العلل بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا وصوب وقفه؛ لأنه لم يرفعه سوى عمر بن شبة، وذكر أن الأظهر عدم الالتفات إلى هذه العلة؛ لأن عمر المذكور ثقة وقد زاد الرفع، وزيادة الثقة مقبولة على الراجح عند أئمة الحديث، ويكون ذلك دليلاً على شرعية رفع اليدين في تكبيرات الجنازة[(438)].
وهذه المسألة يكثر السؤال عنها، وعن الحديث الوارد فيها، وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرفع يديه عند كل تكبيرة على الجنازة، وروي مرفوعًا لكن قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: بإسناد ضعيف، ورواه الطبراني بإسناد جيد، لكنه صوب الوقف؛ لأنه لم يرفعه سوى عمر بن شبة، وذلك وفقًا لطريقة المتقدمين من أهل الحديث أنه يقدم قول الأكثر أو الأحفظ، وأما المتأخرون كابن حجر والخطيب البغدادي والعراقي فإنهم يقبلون قول من وصل إذا كان ثقة؛ ولهذا يقول العراقي في ألفيته: واحكم لوصل ثقة في الأظهر[(439)].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «نخبة الفكر»: «وزيادة راويهما مقبولة ـ يعني الصحيح والحسن ـ ما لم تقع منافية لمن هو أوثق، فإن خولف بأرجح، فالراجح المحفوظ ومقابله الشاذ» [(440)]، وسماحة شيخنا رحمه الله مشى على قبول زيادة الثقة على طريقة المتأخرين.
ونقول: حتى لو أخذنا بطريقة المتقدمين، وهو أن الصواب الوقف على ابن عمر، فالمسألة ثابتة عن الصحابة فيؤخذ بقولهم. وقول الصحابي حجة عند الإمام أحمد رحمه الله إذا كان الأمر مبني على الرأي، فهو يقول: الكتاب، ثم السنة، ثم قول الصحابي، إذا لم يخالفه صحابي آخر.
وقال بعض العلماء: إنما يكون رفع اليدين في تكبيرة الإحرام فقط، وهي التكبيرة الأولى. وقال البعض: إنما ورد هذا في الفريضة فقط. وكل هذا يحتاج إلى دليل.
قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَأَحَقُّهُمْ عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُمْ لِفَرَائِضِهِمْ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لم أره موصولاً»، وهذا فيه: أن صلاة الجنازة كصلاة الفريضة، فكما أنه يقدم للفريضة أقرؤهم لكتاب الله ثم أعلمهم بالسنة كما في الحديث: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا [(441)] فكذلك في الجنائز يقدم لها من هو أحق بالإمامة.
قوله: «رَضُوهُمْ» الفعل الناقص إذا أضيف لواو الجماعة حذف حرف العلة وضم ما قبل الواو، يقال: رضي رضُوا. أما إذا كان معتل الآخر بالألف فيفتح ما قبله مثل: غزا، ودعا، يقال: غزَوْا، ودعَوْا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفائدة أثر الحسن هذا بيان أنه نقل عن الذين أدركهم وهم جمهور الصحابة، أنهم كانوا يلحقون صلاة الجنازة بالصلوات التي يجمع فيها، وقد جاء عن الحسن أن أحق الناس بالصلاة على الجنازة الأب ثم الابن، أخرجه عبد الرزاق، وهي مسألة اختلاف بين أهل العلم؛ فروى ابن أبي شيبة عن جماعة منهم سالم والقاسم وطاوس: أن إمام الحي أحق، وقال علقمة والأسود وآخرون: الوالي أحق من الولي، وهو قول مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال أبو يوسف والشافعي: الولي أحق من الوالي».
قوله: «وَإِذَا أَحْدَثَ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ عِنْدَ الْجَنَازَةِ يَطْلُبُ الْمَاءَ وَلاَ يَتَيَمَّمُ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يحتمل أن يكون هذا الكلام معطوفًا على أصل الترجمة، ويحتمل أن يكون بقية كلام الحسن، وقد وجدت عن الحسن في هذه المسألة خلافًا؛ فروى سعيد بن منصور عن حماد بن زيد عن كثير بن شنظير قال: سئل الحسن عن الرجل يكون في الجنازة على غير وضوء فإن ذهب يتوضأ تفوته، قال: يتيمم ويصلي. وعن هشيم عن يونس عن الحسن مثله. وروى ابن أبي شيبة عن حفص عن أشعث عن الحسن قال: لا يتيمم ولا يصلي إلا على طهر.
وقد ذهب جمع من السلف إلى أنه يجزي لها التيمم لمن خاف فواتها لو تشاغل بالوضوء، وحكاه ابن المنذر عن عطاء وسالم والزهري والنخعي وربيعة والليث والكوفيين، وهي رواية عن أحمد، وفيه: حديث مرفوع عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه ابن عدي[(442)] وإسناده ضعيف».
والقول بأن التيمم يجزئ لمن خاف الفوت لو تشاغل بالوضوء قولٌ ضعيف، والأرجح ما قاله سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله أن لا يتيمم إلا عند عدم الماء؛ لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النِّسَاء: 43] الآية، وقول النبي ﷺ: وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ [(443)] والواجب الأخذ بعموم النصوص حتى يوجد المخصص وليس هنا مخصص يعتمد عليه[(444)].
وكذلك قول بعض العلماء: إنه إذا خشي أن تفوته صلاة الجمعة يتيمم قول ضعيف، فلا يجوز أن يتيمم في حالة وجود الماء؛ لأن حضور الجماعة واجب والوضوء شرط، ولا يمكن أن يقدم الواجب على الشرط، بل يتوضأ ولو فاتته الجمعة والجماعة، وهو معذور في هذا.
قوله: «وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْجَنَازَةِ وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهمْ بِتَكْبِيرَةٍ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وجدت هذا الأثر عن الحسن وهو يقوي الاحتمال الثاني... والمخالف في هذا بعض المالكية. وفي مختصر ابن الحاجب: وفي دخول المسبوق بين التكبيرتين أو انتظار التكبير قولان. انتهى».
قوله: «وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ أَرْبَعًا» ، وقد ورد أنه يكبر خمس تكبيرات، وورد ست تكبيرات، ولكن الذي استقر عليه الأمر أربع تكبيرات.
قوله: «تَكْبِيرَةُ الْوَاحِدَةِ اسْتِفْتَاحُ الصَّلاَةِ» يعني: التكبيرة الأولى استفتاح الصلاة.
واستدل المؤلف رحمه الله بقوله تعالى: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا [التّوبَة: 84]؛ حيث سماها الله في كتابه صلاة، فيشترط لها ما يشترط للصلاة من الطهارة واستقبال القبلة والتكبير والتسليم والجماعة، خلافًا لمن يقول: إنها ليست صلاة وإنما هي ذكر ودعاء.
وقوله: «وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإِمَامٌ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «معطوف على قوله: «وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ» ، قرأت بخط مغلطاي كأن البخاري أراد الرد على مالك، فإن ابن العربي نقل عنه أنه استحب أن يكون المصلون على الجنازة سطرًا واحدًا، قال: ولا أعلم لذلك وجهًا».
والمؤلف رحمه الله ذكر هذه الآثار، وهذه الأدلة؛ ليؤيد بها القول الراجح والصواب، وهو أن صلاة الجنازة صلاة يشترط لها ما يشترط للصلاة.
1322 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وموضع الترجمة منه قوله: «فَأَمَّنَا فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ» ، قال ابن رشيد، نقلاً عن ابن المرابط وغيره ما محصله: مراد هذا الباب الرد على من يقول: إن الصلاة على الجنازة إنما هي دعاء لها واستغفار، فتجوز على غير طهارة، فأول المصنف الرد عليه من جهة التسمية التي سماها رسول الله ﷺ صلاة، ولو كان الغرض الدعاء وحده لما أخرجهم إلى البقيع، ولدعا في المسجد وأمرهم بالدعاء معه أو التأمين على دعائه، ولما صفهم خلفه كما يصنع في الصلاة المفروضة والمسنونة، وكذا وقوفه في الصلاة وتكبيره في افتتاحها وتسليمه في التحلل منها كل ذلك دال على أنها على الأبدان لا على اللسان وحده، وكذا امتناع الكلام فيها، وإنما لم يكن فيها ركوع ولا سجود؛ لئلا يتوهم بعض الجهلة أنها عبادة للميت فيضل بذلك. انتهى.
ونقل ابن عبد البر الاتفاق على اشتراط الطهارة لها إلا عن الشعبي، قال: ووافقه إبراهيم بن علية وهو ممن يرغب عن كثير من قوله. ونقل غيره أن ابن جرير الطبري وافقهما على ذلك وهو مذهب شاذ.
ثم نقل الحافظ رحمه الله اعتراض ابن رشيد على استدلال البخاري بأحاديث الباب على تسميتها صلاة، بمعارضة ذلك للعرف الشرعي بعدم الركوع والسجود فيها، وبمعارضة ذلك للحقيقة اللغوية لما اشترط فيها، ثم تعقبه فقال: «ولم يستدل البخاري على مطلوبه بمجرد تسميتها صلاة، بل بذلك وبما انضم إليه من وجود جميع الشرائط إلا الركوع والسجود، وقد تقدم ذكر الحكمة في حذفهما منها فبقي ما عداهما على الأصل.
وقال الكرماني: غرض البخاري بيان جواز إطلاق الصلاة على صلاة الجنازة، وكونها مشروعة، وإن لم يكن فيها ركوع وسجود، فاستدل تارة بإطلاق اسم الصلاة والأمر بها، وتارة بإثبات ما هو من خصائص الصلاة، نحو عدم التكلم فيها، وكونها مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، وعدم صحتها بدون الطهارة، وعدم أدائها عند الوقت المكروه، وبرفع اليد، وإثبات الأحقية بالإمامة، وبوجوب طلب الماء لها، وبكونها ذات صفوف وإمام. قال: وحاصله أن الصلاة لفظ مشترك بين ذات الأركان المخصوصة وبين صلاة الجنازة، وهو حقيقة شرعية فيهما. انتهى كلامه. وقد قال بذلك غيره. ولا يخفى أن بحث ابن رشيد أقوى، ومطلوب المصنف حاصل كما قدمته بدون الدعوى المذكورة، بل بإثبات ما مر من خصائصها كما تقدم. والله أعلم».
وهذه المسألة مهمة، والخلاف فيها قوي، وأدلة المؤلف رحمه الله واضحة، والصواب أنها صلاة؛ لأنها يشترط لها ما يشترط للصلاة من الطهارة، واستقبال القبلة، والوضوء، وستر العورة، والتكبير، والتسليم؛ وأنه لا يجزئ لها التيمم، خلافًا لما قال بعض أهل العلم: إذا خاف فوات صلاة الجنازة يتيمم.
المتن:
باب فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : «إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ».
وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ: «مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجَنَازَةِ إِذْنًا وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ».
1323 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ: حُدِّثَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ فَقَالَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا.
1324 فَصَدَّقَتْ يَعْنِي عَائِشَةَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ عَلَى مَا فَرَّطْتُ ضَيَّعْتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.
الشرح:
قوله: «بَابُ فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ» هذه الترجمة معقودة لبيان فضل اتباع الجنائز، وأن من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى يصلى عليها وتدفن فله قيراطان.
1323 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر عن أبي هريرة مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ، وجاء في الحديث الآخر: حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ [(446)] فيكون قيراط للصلاة وقيراط للاتباع.
1324 وفيه: فضل ابن عمر رضي الله عنهما حيث تأسف على ما فاته من الخير فقال: «لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ» .
قوله: « مَا فَرَّطْتُ فِي ضَيَّعْتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» فسر المؤلف رحمه الله الكلمة الغريبة في السنة بما يماثلها في القرآن، ففسر التفريط في الحديث بالتفريط في قوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزُّمَر: 56].
وفي اتباع الجنائز فوائد ومصالح منها:
1- حصول قيراط من الأجر.
2- جبر المصابين وتعزيتهم ولو لم يكن الميت معروفًا له، كما أن في التعزية إحياء لسنة الرسول ﷺ.
3- إنكار ما قد يحصل من البدع في القبر وعند الدفن، كالأذان والإقامة، والتلقين الذي يفعله بعض الناس حيث يقول للميت: يا فلان اذكر ما كنت خرجت به من الدنيا أنك تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا لا يصح. وإنما ورد ذلك في حديث ضعيف[(447)].
قوله: «إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ» يعني: لا يشترط الاستئذان.
قوله: «مَا عَلِمْنَا عَلَى الْجَنَازَةِ إِذْنًا وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ» فيه: إشارة إلى الخلاف في هذه المسألة حيث قال بعض العلماء: إذا صلى وأراد الانصراف فلا بد أن يستأذن، والصواب أنه لا يستأذن.
واتباع الجنائز ودفنها من فروض الكفاية، وكذا تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فإذا تركته الأمة أثمت، وإذا قام به من يكفي فقد حصل الواجب وسقط عن الباقين.
والقيراط إنما يحصل بالاتباع، فمن اتبع الجنازة فله قيراط. واختلف العلماء في حد الاتباع؛ فقيل: حد الاتباع أن يوضع الميت على اللحد، وقيل: أن يدفن، وهذا هو الأقرب؛ لما جاء في بعض الأحاديث من النص على الدفن[(445)]، وقال بعض العلماء: لا ينال القيراط إلا من اتبع وصلى.
وفي الحديث من الفوائد:
1- ما وهبه الله لأبي هريرة من قوة الذاكرة التي حفظت لنا سنة الرسول ﷺ؛ حتى إن ابن عمر رضي الله عنهما خفي عليه بعض منها وقال: «أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا» ، وكان أبو هريرة يلازم النبي ﷺ بملء بطنه، ولما قالوا له: إنك أكثرت علينا، قال: إنهم يقولون: إنك أكثرت، والله الموعد، إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وكان إخواني الأنصار يشغلهم العمل في أموالهم، وإنما كنت امرأً مسكينًا ألزم رسول الله ﷺ بملء بطني، فأحضر ما لا يحضرون، وأشهد ما لا يشهدون، وأسمع ما لا يسمعون[(448)]؛ فلهذا حفظ من العلم شيئًا كثيرًا، فقد حفظ ما يزيد على خمسة آلاف حديث.
2- جواز إنكار العلماء بعضهم على بعض، وذلك لما أنكر ابن عمر على أبي هريرة رضي الله عنهما.
3- ما كان عليه الصحابة من التثبت في الحديث.
المتن:
باب مَنْ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَنَ
1325 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ، ح حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ قال: حدثني أَبِي حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَحَدَّثَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ الأَْعْرَجُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ.
الشرح:
1325 في الحديث: بيان فضل من انتظر الجنازة حتى تدفن، وأن له قيراطين؛ قيراطًا للصلاة، وقيراطًا للدفن، ولهذا قال النبي ﷺ: مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ، وقال بعض العلماء: إن القيراطين لمن شهدها حتى تدفن.
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله الخلاف في ابتداء الحضور متى يكون؟ وذكر أنه جاء في بعض الروايات للمقبري قال: مَنْ تَبِعَهَا مِنْ أَهْلِهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا [(449)] وفي رواية خباب: من خرج مع الجنازة من بيتها [(450)] وفي رواية أحمد: فَمَشَى مَعَهَا مِنْ أَهْلِهَا [(451)] وظاهر هذا أن القيراط يختص بمن حضر من أول الأمر إلى الصلاة.
والأقرب ـ كما رجح الحافظ رحمه الله ـ أن القيراط يحصل لمن صلى عليها ولو لم يتبعها من بيتها؛ لأن الغاية هي الصلاة عليها، وأما الحضور معها من بيتها أو تشييعها من بيتها فهذا وسيلة.
مسألة: من شهد الجنازة حتى تدفن؛ هل يحصل له القيراط بوضعها في اللحد، أم عند الانتهاء من الدفن؟
الجواب: الأقرب أنه لا بد أن ينتهى من الدفن؛ ولهذا بوب البخاري فقال: «بَابُ مَنْ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَنَ» ، قال الحافظ رحمه الله: «ولكن هذا يخالف ظاهر سياق الحديث الذي في الصحيح المتقدم في كتاب الإيمان، فإن فيه أن لمن تبعها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها قيراطين»[(452)].
والمقصود أنه إذا جمعت الأحاديث دلت على أن له قيراطًا للصلاة وقيراطًا للاتباع حتى يفرغ من الدفن.
ولا بأس بالمشي أمام الجنازة أو خلفها أو عن يمينها أو يسارها، أما الركبان فيسيرون خلفها كما قال بعض أهل العلم، وهذا على سبيل الاستحباب.
المتن:
باب صَلاَةِ الصِّبْيَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى الْجَنَائِزِ
1326 حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَامِرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْرًا فَقَالُوا: هَذَا دُفِنَ أَوْ دُفِنَتْ الْبَارِحَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَصَفَّنَا خَلْفَهُ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا.
الشرح:
قوله: «بَاب صَلاَةِ الصِّبْيَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى الْجَنَائِزِ» هذه الترجمة معقودة لبيان جواز صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز، فالصبيان يصلون مع الرجال على الجنائز كما يصلون مع الناس في الفرائض، وفي غيرها من الصلوات.
1326 قوله: «أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْرًا فَقَالُوا: هَذَا دُفِنَ أَوْ دُفِنَتْ الْبَارِحَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَصَفَّنَا خَلْفَهُ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا» فيه: مشروعية الصلاة على الميت بعدما دفن.
وفيه: مشروعية صلاة الجماعة على الميت بعد دفنه؛ لأن النبي ﷺ صفهم خلفه وصلى على القبر.
وفيه دليل على جواز الصلاة على الميت في المقبرة، وأن هذا مستثنى من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنها في صحيح مسلم: لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا [(453)] وفي لفظ آخر: لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا [(454)]، وكذلك حديث: لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ [(455)] وصلاة الجنازة مستثناة من هذا النهي؛ لأنها صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، ولأن المقصود من الصلاة على الميت الدعاء له، وأما الصلاة التي لها ركوع وسجود فلا تجوز في المقبرة.
وفيه: دليل على استحباب اتخاذ الصفوف في صلاة الجنازة.
والحديث يحتمل أنهم لم يصلوا عليها قبل ذلك، أو أنهم صلوا عليها ثم أعادوا الصلاة، ويفهم هذا من قولهم للنبي ﷺ: «هَذَا دُفِنَ أَوْ دُفِنَتْ الْبَارِحَةَ» ، وظاهره أنهم صلوا عليها ثم أعادوا الصلاة.
وفيه: دليل على جواز تكرار صلاة الجنازة، ويؤيده ما جاء في «صحيح مسلم» من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ خرج من آخر الليل إلى المقابر فرفع يديه ودعا لهم[(456)]، وكذا حديث المرأة السوداء التي دفنت ليلاً؛ لأن المقصود منها الدعاء فلا حرج في تكرارها.
المتن:
باب الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ
1327 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ يَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لأَِخِيكُمْ.
الشرح:
1328 وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ قال: حدثني سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا.
قوله: «بَاب الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ» فيه: جواز الصلاة على الجنازة بالمصلى والمسجد.
والمصلى: مكان خارج المسجد قريب من البلد يصلى فيه العيد وصلاة الجنازة.
1328 قوله: «فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا» فيه: أن النبي ﷺ لما صلى على النجاشي كبر عليه أربع تكبيرات.
1327 قوله: «نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ» يعني: أخبر بموته، وهذا من النعي المباح الجائز، وهو الإخبار بموت الإنسان حتى يصلى عليه. وأما النعي المنهي عنه فهو ما كان يفعله أهل الجاهلية من الطواف بالقبائل والدور والمحلات، وذكر مآثره ومناصبه تباهيًا وتفاخرًا.
قوله: اسْتَغْفِرُوا لأَِخِيكُمْ هذه شهادة من النبي ﷺ للنجاشي بأنه مؤمن وأنه أخ لنا.
قال النووي: «قد كان لبعض الصحابة وغيرهم خلاف في أن التكبير المشروع خمس أم أربع أم غير ذلك، ثم انقرض ذلك الخلاف، وأجمعت الأمة الآن على أنه أربع تكبيرات بلا زيادة ولا نقص»[(460)].