المتن:
الشرح:
1329 قوله: «قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِز» فيه: أن هناك موضعًا للجنائز غير المسجد يصلى عليها فيه.
وفي الحديث: أن النبي ﷺ أقام حد الرجم على اليهوديين ـ الرجل والمرأة ـ اللذين زنيا؛ لأنهما لما رفعا إلى النبي ﷺ حكم فيهما بالشريعة، ولأن الرجم جاء في التوراة، فرجمهما النبي ﷺ بما دلَّ عليه القرآن وبما جاء في التوراة. وجاء في الرواية الأخرى قول الراوي: «فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة بنفسه» [(462)]، وفي رواية: أن النبي ﷺ سأل اليهود لما رفعوهما إليه قال: «ماذا تفعلون في الزاني والزانية؟» قالوا: نحممهم ـ يعني نسود وجوههم ـ ويجلدون، فقال النبي ﷺ: ائتُوا بِالتَّوْرَاة [(463)] فأتوا بالتوراة فقرأ القارئ، فلما وصل إلى آية الرجم وضع يده عليها، فقال له بعض الصحابة: ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم تلوح، فرجمهما النبي ﷺ.
وما ذكره المؤلف رحمه الله هنا من جواز صلاة الجنازة في المسجد دلَّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها: «ما صلى رسول الله ﷺ على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد» أخرجه الإمام مسلم[(457)]؛ ولهذا قال جمهور أهل العلم: إنه لا بأس بالصلاة على الجنازة في المسجد، وقال بعض أهل العلم: لا يصلى على الجنازة في المسجد وإنما يصلى عليها خارج المسجد، وهذا عن مالك[(458)] وأبي حنيفة[(459)] وجماعة، وعللوا ذلك فقالوا: إن الميت نجس فلا يوضع في المسجد، وأجابوا عن حديث سهيل بن بيضاء أنه وضع خارج المسجد وصلى عليه النبي ﷺ داخل المسجد، وهذا بعيد.
والصواب أنه لا بأس بالصلاة على الجنازة في المسجد وفي المصلى ولا حرج؛ فقد ثبت أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وصهيب صلى على عمر في المسجد، وهذا يقتضي أن الصحابة اتفقوا على هذا وأجمعوا عليه فمن ذهب إلى كراهة الصلاة في المسجد فإن قوله ضعيف مرجوح.
المتن:
باب مَا يُكْرَهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ
وَلَمَّا «مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ » ضَرَبَتْ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ رُفِعَتْ، فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ: أَلاَ هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا، فَأَجَابَهُ الآْخَرُ بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا
1330 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ هِلاَلٍ هُوَ الْوَزَّانُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا، قَالَتْ: وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.
الشرح:
قوله: «بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ» ، المراد بالكراهة إذا أطلقت عند السلف كراهة التحريم غالبًا، وهو المراد أيضًا بالكراهة إذا وردت في النصوص في الكتاب والسنة في الغالب؛ فلما ذكر الله الكبائر المحرمات من القتل وتطفيف المكيال والميزان والخيلاء والكبر وعقوق الوالدين والشرك قال بعد ذلك: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسرَاء: 38]، يعني: محرَّمًا، وفي الحديث: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ [(464)] فهذه الأشياء محرَّمة.
وقد تأتي الكراهة ويراد بها التنزيه قليلاً، كما في حديث: كان النبي ﷺ يكره النوم قبلها والحديث بعدها[(465)] ـ يعني: صلاة العشاء ـ فالمراد هنا كراهة التنزيه.
أما المتأخرون فإنهم اصطلحوا على أن المراد بالكراهة إذا أطلقت كراهة التنزيه.
قوله: «بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ» ينبغي أن يحمل مراد البخاري رحمه الله على كراهة التحريم؛ إحسانًا للظن به وعملاً بالنصوص، كحديث الباب الذي ذكره.
قوله: «وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ضَرَبَتْ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً» يعني: من شدة الحزن، وهذا يدل على أن الشر قديم منذ العهد الأول، وأشر منه الرافضة السبئية الذين سجدوا لعلي وعبدوه، فأحرقهم بالنار من شدة غيظه وحنقه عليهم، وقال في ذلك:
لَمّا رَأَيتُ الأَمرَ أَمراً مُنكَراً | أَجَّجتُ ناري وَدَعَوتُ قَنبَرا |
وعمل هذه المرأة منكر؛ ولهذا لما رفعت الخيمة بعد سنة «فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ: أَلاَ هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا فَأَجَابَهُ الآْخَرُ بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا» ، ونظن أن هذا الهاتف إما من الملائكة أو من مؤمني الجن.
وقوله: «أَلاَ هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا» يعني: ماذا استفادت لما ضربت القبة سنة؟
وقوله: «بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا» يعني: فرجعوا.
1330 ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث عائشة: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا واللعن يدل على أن هذا من الكبائر؛ لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، كما أنه وسيلة من وسائل الشرك وتعظيم الميت وفي حديث آخر: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ [(466)] ثم قال: ألا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ [(467)] فجاء النهي من أوجه ثلاثة:
أولاً: اللعن، واللعن لا يكون إلا على محرم.
ثانيًا: النهي الصريح في قوله: فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ .
ثالثًا: التصريح بلفظ النهي بالفعل في قوله: فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ، وجاء في الحديث الآخر: إن الذين يتخذون القبور مساجد من شرار الناس [(468)] وفي حديث آخر قرنهم بالذين تقوم عليهم الساعة ـ وهم الكفرة ـ فقال ﷺ: إنَّ مِن شِرَارِ النَّاسِ مَن تُدرِكُهُمُ السَّاعَةُ وهُمْ أَحياءٌ والَّذين يتَّخِذونَ القُبورَ مَساجَدَ [(469)] أي: إن شرار الناس صنفان:
الصنف الأول: الذين تقوم عليهم الساعة وهم الكفرة وذلك بعد قبض أرواح المؤمنين والمؤمنات.
الصنف الثاني: الذين يتخذون القبور مساجد؛ لأنه وسيلة للشرك، وهذا كله يقوي ما ذهبنا إليه من أن مراد البخاري بقوله: «بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ» هو التحريم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومناسبة هذا الأثر لحديث الباب أن المقيم في الفسطاط لا يخلو من الصلاة هناك، فيلزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة فتزداد الكراهة. وقال ابن المنير: إنما ضربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه تعليلاً للنفس، وتخييلاً باستصحاب المألوف من الأنس، ومكابرة للحس، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية ومخاطبة المنازل الخالية، فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا، وكأنهما من الملائكة أو من مؤمني الجن، وإنما ذكره البخاري لموافقته للأدلة الشرعية لا لأنه دليل برأسه».
المتن:
باب الصَّلاَةِ عَلَى النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا
1331 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ : صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا.
الشرح:
قوله: «فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا» والوسْط ـ بإسكان السين ـ يكون للشيء الذي له جوانب تجتمع، أما الذي ليس له جوانب فإنه يقال وسَط بفتح السين كقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البَقَرَة: 143]، يعني: خيارًا عدولاً.
1331 في الحديث: دليل على جواز الصلاة على النفساء ولو كان في المسجد.
وفيه: دليل على أن الإمام يقوم وَسْط المرأة في صلاة الجنازة ـ يعني مقابل عجيزتها ـ ولو قام مقابل أي جهة من جسمها كرجليها أو رأسها فلا حرج، لكن الأفضل أن يقوم وسطها، وأما الرجل فإنه يقوم عند رأسه؛ لحديث أنس أن النبي ﷺ صلى على رجل فقام عند رأسه[(470)].
المتن:
باب أَيْنَ يَقُومُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ
1332 حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ قَالَ : صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وَسَطَهَا.
الشرح:
صنيع البخاري رحمه الله يدل على أنه لم يثبت عنده حديث أنس «أن النبي ﷺ صلى على رجل فقام عند رأسه» [(471)]؛ فكونه يقول: «بَابٌ أَيْنَ يَقُومُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ» ثم يذكر حديث المرأة التي ماتت في نفاسها، فهذا يدل على أنه يرى أن موقف الإمام من الرجل والمرأة واحد.
1332 سياق هذا الحديث في الترجمة فيه دلالة على أن البخاري يرى أن الموقف واحد من الرجل والمرأة؛ لأنه لم يثبت عنده حديث أنس، والصواب أن حديث أنس صحيح.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَابٌ أَيْنَ يَقُومُ ـ أي: الإمام ـ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ» أورد فيه حديث سمرة المذكور من وجه آخر عن حسين المعلم، وفيه: مشروعية الصلاة على المرأة، فإن كونها نفساء وصف غير معتبر، وأما كونها امرأة فيحتمل أن يكون معتبرًا، فإن القيام عليها عند وسطها لسترها، وذلك مطلوب في حقها بخلاف الرجل، ويحتمل أن لا يكون معتبرًا، وأن ذلك كان قبل اتخاذ النعش للنساء».
وتعليل الحافظ رحمه الله قيام الإمام عند وسط المرأة بأنه لسترها تعليل ضعيف يحتاج إلى دليل، فوقت الصلاة قصير وهي أمام الناس قبل الصلاة وبعدها، فكيف يقال: إنه يقام عند وسطها لكي يسترها، وأخشى أن يكون هذا التعليل من القول على رسول الله ﷺ بلا علم، والواجب على المسلم العمل بالسنة؛ سواء فهم العلة أو لم يفهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فأما بعد اتخاذه فقد حصل الستر المطلوب ولهذا أورد المصنف الترجمة مورد السؤال، وأراد عدم التفرقة بين الرجل والمرأة، وأشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود والترمذي من طريق أبي غالب عن أنس بن مالك: أنه صلى على رجل فقام عند رأسه وصلى على امرأة فقام عند عجيزتها، فقال له العلاء بن زياد: أهكذا كان رسول الله ﷺ يفعل؟ قال: نعم» [(472)] يعني: أن المؤلف كأنه ما ثبت عنده هذا الحديث، والحديث ثابت.
قال سماحة شيخنا الشيخ ابن باز رحمه الله: «وأخرجه أحمد وابن ماجه ولفظ الترمذي: «عند رأس الرجل ووسط المرأة» [(473)]، وإسناده جيد وهو حجة قائمة على التفرقة بين الرجل والمرأة في الموقف، ودليل على أن السنة الوقوف عند رأس الرجل ووسط المرأة، والله أعلم»[(474)].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وحكى ابن رشيد عن ابن المرابط أنه أبدى لكونها نفساء علة مناسبة، وهي استقبال جنينها ليناله من بركة الدعاء، وتعقب بأن الجنين كعضو منها، ثم هو لا يصلى عليه إذا انفرد وكان سقطًا، فأحرى إذا كان باقيًا في بطنها أن لا يقصد والله أعلم».
قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: «القول بعدم الصلاة على السقط ضعيف، والصواب شرعية الصلاة عليه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه، وكان محكومًا بإسلامه بأنه ميت مسلم، وشرعت الصلاة عليه كسائر موتى المسلمين، ولما روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن المغيرة بن شعبة أن النبي ﷺ قال: وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ [(475)] وإسناده حسن، والله أعلم»[(476)].
وهذا هو الصواب أن السقط إذا تبيَّن فيه خلق الإنسان ونفخ فيه الروح يصلى عليه، أما إذا أسقطت قطعة لحم ما تبين فيه يد ولا رجل ولا إصبع ولا رأس فلا يصلى عليه.
والجنين في الغالب إذا مضى عليه أربعة أشهر يخلق وتنفخ فيه الروح، لكن جاء في بعض الأحاديث أن ملك الموت يدخل على الجنين إذا مضى اثنان وثمانون يومًا، فكأنه ـ والله أعلم ـ يختلف باختلاف الأجنة؛ فبعضها بعد مضي أربعة أشهر، وبعضها قبل ذلك.
والمرأة إذا خرج منها دم بدون إسقاط شيء فليس لها حكم النفاس، أما إذا أسقطت ما تبين فيه خلق الإنسان، فهذا ليس فيه إشكال بأنه نفاس وله حكمه.
وإذا أسقطت ما لا يتبين فيه خلق الإنسان، فهناك من يرى أنها تكون نفساء، وهناك من يرى أنها لا تكون نفساء ويكون دم فساد.
المتن:
باب التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَرْبَعًا
وَقَالَ حُمَيْدٌ: «صَلَّى بِنَا أَنَسٌ ، فَكَبَّرَ ثَلاَثًا ثُمَّ سَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ».
1333 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ.
1334 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وعَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ سَلِيمٍ أَصْحَمَةَ وَتَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ.
الشرح:
والنجاشي اسمه أصحمة وقيل: صحمة بدون الهمزة، والنجاشي لقب لكل من ملك الحبشة، كما أن فرعون لقب لمن ملك مصر، وكسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، ونمرود لمن ملك بابل والعراق، وبطليموس لمن ملك اليونان، فهذه أعلام لمن ملك هذه الأقاليم، لكن النجاشي الذي مات في عهد النبي ﷺ والذي آمن اسمه أصحمة أو صحمة.
1333، 1334 جزم المؤلف رحمه الله في الترجمة بالحكم فقال: «بَابُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَرْبَعًا» لقوة الأدلة، فرغم أنه ورد خمس تكبيرات، وورد ست تكبيرات، ولكن استقر الأمر من النبي ﷺ على أربع تكبيرات، ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله قصة صلاة النبي ﷺ على النجاشي فقال: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ» .
قوله: «صَلَّى بِنَا أَنَسٌ فَكَبَّرَ ثَلاَثًا ثُمَّ سَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ ثُمَّ سَلَّمَ» ظاهره أنه نسي فكبر ثلاث تكبيرات ثم سلم، فلما ذكروه استقبل القبلة وكبر الرابعة؛ لأنه لم يطل الفصل، وإن طال الفصل استأنف التكبيرات الأربعة؛ قياسًا على الصلاة، كما لو سلم من الصلاة الرباعية وقد بقيت عليه ركعة ثم تذكر، فإنه يستقبل القبلة ويأتي بالركعة الرابعة ويتشهد ويسلم ويسجد السجدتين ويسلم.
والاقتصار على أربع تكبيرات هو قول جمهور العلماء، ونقل النووي أنه إجماع ـ كما تقدم ـ، لكن النووي وكذا ابن عبدالبر وابن المنذر وغيرهم إذا نقلوا الإجماع تساهلوا ومرادهم قول الأكثر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن المنذر: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع وفيه: أقوال أخر فذكر ما تقدم، قال: وذهب بكر بن عبدالله المزني إلى أنه لا ينقص من ثلاث ولا يزاد على سبع، وقال أحمد مثله لكن قال: لا ينقص من أربع، وقال ابن مسعود: كبر ما كبر الإمام. قال: والذي نختاره ما ثبت عن عمر، ثم ساق بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب قال: وكان التكبير أربعًا وخمسًا فجمع عمر الناس على أربع، وروى البيهقي بإسناد حسن إلى أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله ﷺ سبعًا وستًا وخمسًا وأربعًا فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة»[(477)].
المتن:
باب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: «يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»
وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا»
1335 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدٍ عَنْ طَلْحَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ح حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ: لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ.
الشرح:
هذه الترجمة لم يجزم فيها المؤلف بالحكم لوجود الخلاف، فقال: «بَابُ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ» يعني: هل يشرع؟ وهل هو واجب؟
وقد اختلف العلماء في هذا، فنقل ابن المنذر عن جماعة من أهل العلم منهم ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور بن مخرمة أنها مشروعة، وإلى هذا ذهب الإمام الشافعي[(478)] وأحمد[(479)] وإسحاق، وذهب بعض الصحابة إلى أنه ليس فيها قراءة، وذهب لهذا الإمام مالك[(480)]، وهو قول الكوفيين، لكن ظاهر الأدلة وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؛ لأنها صلاة، فهي داخلة في عموم قوله ﷺ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ [(481)] فهذا عام يشمل صلاة الفريضة والنافلة والجنازة، ويشرع أيضا قراءة آيات معها، فقد ثبت عن ابن عباس أنه قرأ الفاتحة وسورة قصيرة وجهر بها لتعليم الناس.
1335 هذا الحديث حجة؛ حيث إن ابن عباس رضي الله عنهما صلى على جنازة فقرأ فيها بفاتحة الكتاب وقال: «لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ» والصحابي إذا قال: إنها سنة يكون له حكم الرفع، يعني: هي سنة ثابتة عن النبي ﷺ، فليس من اجتهاده، وهذا يدل على أن قراءة الفاتحة لابد منها في صلاة الجنازة؛ فكل صلاة لابد فيها من قراءة الفاتحة لقول النبي ﷺ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ [(484)].
وصلاة الجنازة صلاة لها تكبير ولها سلام ولها طهارة ولها استقبال القبلة فيشرع فيها ما يشرع في صلاة النافلة والفريضة.
وقوله: «لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ» ، يعني: طريقة متبعة ولازمة، وليس المراد بالسنة السنة الاصطلاحية المعروفة عند الفقهاء وهي المستحب المقابل للواجب.
قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ: يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا» فرطًا يعني: متقدمًا.
وينبغي أن يكون قوله: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا» بعدما يقول ما دعا به النبي ﷺ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا، وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ [(482)].
ويؤثر عن بعضهم دعاؤه: «اللهم اجعله ذخرًا لوالديه وفرطًا وأجرًا وشفيعًا مجابًا اللهم ثقل موازينهما وأعظم به أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم» [(483)].
المتن:
باب الصَّلاَةِ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا يُدْفَنُ
1336 حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قال: حدثني سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ: أَخْبَرَني مَنْ مَرَّ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ قُلْتُ: مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا يَا أَبَا عَمْرٍو؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
1337 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلاً أَوْ امْرَأَةً كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ وَلَمْ يَعْلَمْ النَّبِيُّ ﷺ بِمَوْتِهِ فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: مَا فَعَلَ ذَلِكَ الإِْنْسَانُ؟ قَالُوا: مَاتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:أَفَلاَ آذَنْتُمُونِي فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُ قَالَ: فَحَقَرُوا شَأْنَهُ قَالَ: فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ
الشرح:
1336، 1337 في هذين الحديثين: مشروعية الصلاة على القبر بعدما يدفن الميت، وأنه لا حرج في ذلك.
وفيهما: تواضع النبي ﷺ.
وفيهما: أن قَمَّ المسجد من الفضائل.
وجاء في بعض الروايات عند البخاري: «أنه دفن ليلاً» [(485)] ففيه: جواز الدفن ليلاً إذا لم يفض إلى تقصير في شأن الميت من تغسيله ودفنه والصلاة عليه، وأما ما جاء في الحديث الآخر: «أن النبي ﷺ زجر عن الدفن ليلاً» [(486)] فهو محمول على ما إذا حصل تقصير في حق الميت إما من جهة التغسيل أو الكفن أو الصلاة عليه، أما إذا لم يحصل تقصير في شأن الميت فلا حرج جمعًا بين النصوص؛ فإن النبي ﷺ دفن ليلاً وأبا بكر دفن ليلاً وعمر دفن ليلاً فلا حرج.
وأمد الصلاة على الميت فيه خلاف بين أهل العلم؛ فقيل: شهر من دفنه، وقيل: ما لم يبل جسده، وقيل: يجوز أبدًا، والأقرب أنه إلى شهر من دفنه؛ لأن هذا هو أكثر ما ورد عن النبي ﷺ، والصلاة على الميت إلى شهر هو المروي عن الإمام أحمد[(487)].
المتن:
باب الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ
1338 حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَْعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ قَالَ: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ: فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ ﷺ؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوْ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالَ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ.
الشرح:
هذه الترجمة جزم فيها المؤلف رحمه الله بالحكم قال: «باب الميت يسمع خفق النعال» لوروده في النص صريحًا، فإذا كان النص صريحًا فإن المؤلف رحمه الله يجزم بالحكم، وإن كان في المسألة خلاف قوي ترك الحكم.
1338 في هذا الحديث إثبات السؤال في القبر، وإثبات عذاب القبر ونعيمه، وهذا دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفَال: 50]، فهذا من عذاب القبر، وقال سبحانه في آل فرعون: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غَافر: 46]، وقال : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الأنعَام: 93].
ومن النعيم في القبر قوله: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً [الفَجر: 27-28]، قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فُصّلَت: 30].
وفي الحديث أن الميت يسمع قرع النعال؛ ولهذا قال النبي ﷺ: إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ وهو مستثنى من قول الله : وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فَاطِر: 22]، وقوله: إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النَّمل: 80]، فالأصل أن الميت لا يسمع، لكن ما دلَّ النص على أنه يسمعه فإنه يستثنى من ذلك، مثل ما جاء في هذا الحديث أنه يسمع قرع نعال مشيعيه، وأنه يسمع سؤال الملكين.
وكما ورد أن أهل قليب بدر لما قتلوا وسحبوا في البئر، ناداهم النبي ﷺ وقال لهم: أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فقال الصحابة: يا رسول الله ما تخاطب من قوم جيفوا؟ قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا [(488)] فهذا السماع خاص بأهل القليب.
وقال بعض أهل العلم: إنهم لا يسمعون مطلقًا، وجاء هذا عن عائشة رضي الله عنها واستدلت بالآية: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ والصواب أن هذا عام يخصص بهذه الأدلة.
وقال بعض أهل العلم: يسمعون كل شيء.
والخلاصة أن الأصل عدم سماع الميت؛ لقوله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ، ويستثنى من ذلك ما خصه الدليل كسماع الميت قرع نعال المشيعين وسماع أصحاب القليب، وأجاب بعض العلماء بأن المراد بعدم السماع في الآيتين: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ، وقوله تعالى: إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ، أي: سماعًا ينفعهم.
وفي الحديث: أن المؤمن حينما يسأل عن النبي ﷺ يقول: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وهذا من آيات الله، حيث يكشف له مكانه من الجنة ومكانه من النار، فيراهما جميعًا.
وفيه: أن الكافر والمنافق إذا سئل عن ربه وعن دينه وعن نبيه يقول: لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالَ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ لا دريت يعني: لا علمت ولا فهمت الحق بنفسك، ولا تليت أي: لا سمعت غيرك من أهل الحق، والمعنى أنك ما فهمت الحق بنفسك ولا فهمته من غيرك من أهل الحق والعاملين به، فعملت به تبعًا لهم.
وفيه: أنه يضرب بمطرقة من حديد فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين.
قوله: يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ هذا السماع خاص بالقريب من المقابر دون البعيد، وجاء في اللفظ الآخر: يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ [(489)] لكن هنا قيد السماع بمن يليه.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الخيل كان إذا أصابها مرض في بطونها يؤتى بها إلى قبور الرافضة والنصارى فتسمع أصوات المعذبين فيحصل لها إسهال في بطونها فيكون هذا علاجًا[(490)].
تنبيه: الحديث لا يدل على جواز المشي بين القبور بالنعال، وإنما جاء في المشي بين القبور؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «واستدل به على جواز المشي بين القبور بالنعال، ولا دلالة فيه، قال ابن الجوزي: ليس في الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر وذلك لا يقتضي إباحة ولا تحريمًا انتهى».
ثم قال الحافظ رحمه الله: «وإنما استدل به من استدل على الإباحة أخذًا من كونه ﷺ قاله وأقره، فلو كان مكروهًا لبينه، لكن يعكر عليه احتمال أن يكون المراد سماعه إياها بعد أن يجاوز المقبرة، ويدل على الكراهة حديث بشير بن الخصاصية: أن النبي ﷺ رأى رجلاً يمشي بين القبور وعليه نعلان سبتيتان فقال: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ أَلْقِ نَعْلَيْكَ [(491)] أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم».
والأصل في الأمر الوجوب؛ فالحديث يدل على أنه لا يجوز المشي بالنعال بين القبور إلا لحاجة، كأن يكون شوك أو رمضاء، والحديث لا بأس بسنده؛ فلهذا يؤمر الإنسان بخلع نعله إذا كان يمشي بين القبور، أما إذا كان يدفن الميت ولا يمشي بين القبور فهذا لا بأس فيه، والسبتية هي النعل التي ليس لها شعر مثل نعالنا الآن.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأغرب ابن حزم فقال: يحرم المشي بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها، وهو جمود شديد».
ثم قال رحمه الله: «وأما قول الخطابي: يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الخيلاء، فإنه متعقب بأن ابن عمر كان يلبس النعال السبتية ويقول: إن النبي ﷺ كان يلبسها» [(492)]، لكن هذا ضعيف.
ثم قال رحمه الله: «وقال الطحاوي: يحمل نهي الرجل المذكور على أنه كان في نعليه قذر، فقد كان النبي ﷺ يصلي في نعليه[(493)] ما لم ير فيهما أذى» وهذا تأويل باطل، والصواب أنه ينهى عن المشي بالنعال بين القبور مطلقًا.
والعلة في النهي عن المشي بين القبور بالنعال يحتمل ـ والله أعلم ـ أنها لاحترام الميت؛ إذ إن حرمته ميتًا كحرمته حيًّا؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: لَأَنْ يَجْلِسَ يَطَأُ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ، فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَطَأَ عَلَى قَبْرٍ [(494)] فالجلوس على القبر محرَّم لما فيه من امتهان الميت، كما أن البناء على القبر وتجصيصه وبناء القبة عليه ووضع الرياحين والزهور والأنوار والكهرباء كل هذا محرم؛ لما فيه من تعظيم الميت، ولأنه من وسائل الشرك.
ويشمل هذا الحكم اللحد أيضًا.
المتن:
باب مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ فِي الأَْرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَوْ نَحْوِهَا
1339 حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ: فَالآْنَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الأَْرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَْحْمَرِ.
الشرح:
1339 الأرض المقدسة هي أرض الشام وفلسطين، وفتحت في زمن يوشع بن نون فتى موسى ، الذي ركب معه البحر، كما يقول الله تعالى في سورة الكهف: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف: 60]، والله تعالى لما أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وأن يجاهدوا هؤلاء الكفار امتنعوا ورفضوا، كما أخبر الله في سورة المائدة: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المَائدة: 21-22]، فنصحهم رجلان بالدخول ووعدوهم بالنصر، قال تعالى: قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المَائدة: 23]، فرفضوا ونكلوا، وهذا من عتوهم، قال تعالى: قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المَائدة: 24]، فعاقبهم الله تعالى، كما في قوله: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المَائدة: 26]، فحرَّم الله عليهم دخولها فساروا يدورون في التيه، وهي صحراء سيناء التي بين فلسطين ومصر، وظلُّوا أربعين سنة ما يهتدون؛ ومع هذا أنعم الله عليهم وأعطاهم المن والسلوى؛ وأظلهم بالغمام، ومات موسى في التيه في مدة الأربعين، ومات هارون، ومات هذا الجيل الذين رفضوا ولم يستجيبوا لأمر الله ورسوله، ونشأ أبناؤهم في قوة ونشاط، فسار بهم يوشع بن نون فتى موسى ، وفتح بهم الأرض المقدسة، وكان ذلك في آخر النهار قرب غروب الشمس، فقال يوشع بن نون للشمس: إنك مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا حتى يتم الفتح، فحبسها الله نهارًا؛ وهذا ثابت في «الصحيحين» [(4)]، ولهذا يقال لم تحبس الشمس إلا ليوشع بن نون، أما ما جاء في بعض الآثار أنها حبست لعلي فهي آثار لا تثبت[(496)].
فالمقصود أن موسى أحب أن يُقرَّب من الأرض المقدسة، وسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر، فقال النبي ﷺ: فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَْحْمَرِ.
وفي هذا الحديث: أن ملك الموت أُرسِل إلى موسى في صورة رجل، فكأنه لم يعرفه، «فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ» وجاء في اللفظ الآخر: «فلما جاءه صكه ففقأ عينه» [(497)].
وفيه: أن موسى غفر الله له زلَّته واعتداءه على الملك بسبب وحشته من الموت.
وفيه: أن الأنبياء قد يقع منهم الخطأ، لكن هذه الزلة غفرت لموسى لما له من الحسنات العظيمة، والصبر، والجهاد، والدعوة إلى الله، وتبليغ رسالته.
وفيه: أن موسى خُيِّر في آخر الأمر، وكذلك نبينا ﷺ خُيِّر فاختار ما عند الله، فموسى أرسل إليه ملك الموت يقبض روحه فصكه وفقأ عينه، ثم بعد ذلك جاءه التخيير، أما ما ورد من أن نبينا ﷺ استأذن عليه ملك الموت فهذا يحتاج إلى تثبت.
وفيه: أن ما كتبه الله وقدره وقضاه لابد منه، وأن الموت لا يتقدم ولا يتأخر، كما قال الله: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [يُونس: 49]، فإن موسى لما خُيِّر في آخر الأمر أوقع الله في نفسه أن يختار الموت عاجلاً؛ ليوافق ما قدره الله، ولم يختر الموت بعد مضي سنين بعدد شعر الثور الذي غطته يده بعد وضعها عليه.
المتن:
باب الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ
وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلاً.
1340 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رَجُلٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ بِلَيْلَةٍ قَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَكَانَ سَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: فُلاَنٌ دُفِنَ الْبَارِحَةَ فَصَلَّوْا عَلَيْهِ .
الشرح:
1340 في الحديث: جواز الدفن ليلاً، وذلك إذا لم يحصل تقصير في حق الميت؛ فقد دُفن أبو بكر ليلاً، وصلَّى النبي ﷺ على رجل بعدما دفن في الليل، أما الحديث الآخر: «أن النبي ﷺ زجر عن الدفن ليلاً» [(498)] فله سبب، وهو أن هذا الرجل كفن في كفن غير طاهر، فيكون الزجر عن الدفن ليلاً محمولاً على ما إذا حصل تقصير في حق الميت، سواء في الدفن أو التغسيل أو الصلاة عليه، وإن لم يحصل تقصير فلا حرج، وبهذا يجمع بين الأدلة.
وأما نقل الميت من بلد إلى بلد فقد أشار الشارح رحمه الله إلى الخلاف فيه، فقال: «قيل: يكره لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لانتهاك حرمته، وقيل: يستحب»، وقال: «الأولى تنزيل ذلك على حالين: المنع حيث لم يكن هناك غرض راجح كالدفن في البقاع المفضلة، والاستحباب حيث يكون بقرب مكان فاضل».
والأقرب أنه ينقل إذا لم يكن في البلد مسلمون، وإلا فإنه يدفن في البلد التي مات فيها؛ لأن نقله فيه مشقة وتأخير للدفن، وليس هناك مصلحة في نقله؛ فليس له إلا عمله، وحتى لو أوصى الميت أن ينقل فلا ينقل إلا إذا لم يكن ثم مسلمون في البلد الي مات فيه ـ كما تقدم ـ.
المتن:
باب بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ
1341 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قال: حدثني مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ رضي الله عنهما أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ.
الشرح:
قول المؤلف رحمه الله: «بَاب بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقَبْرِ» يعني: ما حكم بناء المساجد على القبر؟
والجواب أنه من الكبائر؛ لأن النبي ﷺ قال عمن يفعل ذلك: أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ ولأنه إذا بنيت المساجد على القبور صار ذلك تعظيمًا لها ودعوة لتعظيمها والتوسل والتمسح والطواف بها، وهو من أعظم وسائل الشرك، والواجب أن تكون القبور بعيدة عن المساجد؛ فالمساجد هي بيوت الله، وهي مخصصة للصلاة، والدعاء، والتعلم، والتعليم.
وإذا بنيت المساجد على القبور لم تصح فيها الصلاة؛ لأن المقبرة من الأشياء السبعة المنهي عن الصلاة فيها.
1341 في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ رضي الله عنهما أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ» وذلك في الهجرة الأولى، لما اشتد أذى قريش للمؤمنين، والمستضعفين، أذن النبي ﷺ لهم بالهجرة إلى الحبشة، وقال: إن فيها ملكًا عادلاً لا يظلم الناس عنده [(499)] فهاجرت أم حبيبة، وأم سلمة إلى أرض الحبشة فرارًا من تعذيب قريش وإيذائهم، ورأتا بأرض الحبشة كنيسة ـ وهي معبد النصارى ـ ورأتا فيها تصاوير، وذكرتا للنبي ﷺ حسن تصاويرها «فَرَفَعَ رَأْسَهُ» ؛ لأنه كان مريضًا وقال: أُولَئِكِ ـ خطاب لعائشة رضي الله عنها ـ إِذَا مَاتَ مِنْهُمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ ، وفي لفظ: تِلْكَ الصُّورَةَ [(500)] فهؤلاء النصارى كانوا إذا مات الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، فأصبح هذا وسيلة ودعوة للشرك؛ ولهذا قال النبي ﷺ: أولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ.
وفي الحديث الآخر: إنَّ مِن شِرَارِ النَّاسِ مَن تُدرِكُهُمُ السَّاعَةُ وهُمْ أَحياءٌ والَّذين يتَّخِذونَ القُبورَ مَساجَدَ [(501)]، يعني: شرار الناس صنفان:
الصنف الأول: الذين تدركهم الساعة وهم أحياء؛ لأن الساعة لا تقوم إلا على الكفرة بعد قبض أرواح المؤمنين.
الصنف الثاني: الذي يتخذون القبور مساجد؛ لأن ذلك وسيلة إلى الشرك، وفي هذا تحذير من النبي ﷺ لعائشة رضي الله عنها، وهو تحذير لهذه الأمة كلها أن تفعل مثل فعلهم فيصيبهم ما أصابهم.
المتن:
باب مَنْ يَدْخُلُ قَبْرَ الْمَرْأَةِ
1342 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ؟ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا قَالَ: فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا.
قَالَ ابْنُ مُبَارَكٍ: قَالَ فُلَيْحٌ: أُرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: لِيَقْتَرِفُوا أَيْ لِيَكْتَسِبُوا.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان حكم من يدخل قبر المرأة، وهل يشترط أن يكون من محارمها أو لا؟
1342 دلَّ الحديث على أنه لا بأس أن يُدْخل المرأةَ في قبرها من ليس من محارمها؛ لأن المقام مقام خشوع واتعاظ لا مقام فتنة؛ ولذلك فإن أبا طلحة دفن بنت رسول الله ﷺ مع وجود أبيها رسول الله ﷺ وزوجها عثمان .
وفي الحديث: جواز البكاء على الميت من غير نياحة؛ لقوله: «وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ» فهذا من الرحمة، ولا يلام الإنسان على دمع العين وحزن القلب، وإنما يلام على النياحة والبكاء ورفع الصوت.
وهذه البنت هي أم كلثوم رضي الله عنها بنت النبي ﷺ على الصحيح؛ لأن رقية رضي الله عنها ماتت قبلها يوم بدر، ولم يحضرها النبي ﷺ وتخلف زوجها عثمان عن بدر يمرضها بأمر النبي ﷺ، وأسهم له النبي ﷺ مع من حضر، والنبي ﷺ زوج عثمان بنتين: زوجه رقية فلما توفيت زوجه أم كلثوم.
قوله: هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ؟ اختلف في معنى يقارف، والصواب أن المراد به الجماع، وقال بعضهم في المعنى: لم يقارف الذنب، وهو خطأ.
قوله: «قَالَ فُلَيْحٌ: أُرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ» يعني: أظنه الذنب، وهذا الذي ظنه فليح ضعيف، والصواب أن المقارف يعني: المجامع.
قوله: «فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا قَالَ: فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا» ، وهو ليس من محارمها، مع وجود أبيها وزوجها عثمان؛ لأن المقام مقام خشوع واتعاظ وليس مقام فتنة؛ فلا بأس أن يُدخل المرأة في قبرها غير محارمها.
المتن:
باب الصَّلاَةِ عَلَى الشَّهِيدِ
1343 حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قال: حدثني ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ.
الشرح:
قوله: «بَاب الصَّلاَةِ عَلَى الشَّهِيدِ» يعني: ما حكم الصلاة على الشهيد؟ هل يصلى عليه أو لا يصلى عليه؟
والحديث دلَّ على أنه يدفن بدمه وثيابه فلا يغسل ولا يصلى عليه، وهذا خاص بشهيد المعركة، أما الشهيد شهادة الفضل والأجر كالمبطون والغريق والحريق والمقتول ظلمًا، فإنه يصلى عليه.
ومن قاتل كي تكون كلمة الله هي العليا، فهذا شهيد في الآخرة، ومن قاتل لغير ذلك فهو شهيد في الدنيا، أي: في أحكام الدنيا، فلا يغسل ولا يصلَّى عليه، وأما في الآخرة فليس بشهيد وكلٌّ على حسب نيته.
والمؤلف رحمه الله لا يجزم بالحكم؛ لأن المسألة فيها خلاف، فبعض أهل العلم يرى أنه يصلى عليه، والصواب أنه لا يصلى عليهم كما دل عليه الحديث.
1343 في الحديث: جواز دفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد للحاجة إذا كثر القتلى وشق على الناس حفر القبور؛ ولهذا لما كثر القتلى يوم أحد وقتل سبعون «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ» ، واللحد: هو الشق الذي يكون في جهة القبلة، كما أنه يقدَّم فيمن يلي الإمام في الصلاة مَنْ كان أكثر أخذًا للقرآن، يعني: حفظًا للقرآن.
وإذا ذعت الحاجة ككثرة الموتى في قتال او طاعون وشق على الناس حفر القبور فإنه يجمع في قبر واحد بين رجل وامرأة.
قوله: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: أشهد عليهم، وهذه منقبة لشهداء أحد ؛ فالنبي ﷺ شهيد عليهم.
قوله: «وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ» دلَّ على أن الشهيد لا يصلى عليه، خلافًا لبعض أهل العلم الذين يرون أنه يصلى على الشهيد، وما جاء في الأحاديث «أن النبي صلَّى على قتلى أحد في آخر حياته كالمودع للأحياء والأموات» فالمراد المعنى اللغوي للصلاة وهو الدعاء.