شعار الموقع
شعار الموقع

شرح كتاب الجنائز من صحيح البخاري (23-8) تابع بَابُ الصَّلاَةِ عَلَى الشَّهِيدِ - إلى باب مَا جَاءَ فِي قَاتِلِ النَّفْسِ

00:00

00:00

تحميل
53

المتن:

1344 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآْنَ وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَْرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَْرْضِ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا.

الشرح:

1344 هذا الحديث فيه: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ» ، وجاء في الحديث الآخر: «أنه في آخر حياته صلى عليهم كالمودع للأحياء والأموات» [(502)]، والصواب أن المراد بالصلاة عليهم أنه دعا لهم دعاءه للميت، ولو قدر أن المراد بالصلاة المعنى الشرعي فيكون هذا خاصًّا بقتلى أحد، وكان ذلك بعد ثمان سنين من وقعة أحد.

وقوله ﷺ: «ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ والفرط: هو السابق الذي يتقدم الجيش ويعد لهم الماء، والمراد أن النبي ﷺ يتقدمهم ويكون أمامهم عند الحوض.

قوله: وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآْنَ وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَْرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَْرْضِ فيه: أن النبي ﷺ كشف له عن حوضه، وهذا من آيات الله العظيمة، وهذا من الغيب الذي كشف له ﷺ.

قوله: وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا أي: في الدنيا، والمراد: الصحابة الذين ثبت الإيمان في قلوبهم دون الأعراب الذين ارتدوا ممن لم يثبت الإيمان في قلوبهم، والصحابة الذين ثبت الإيمان في قلوبهم عصمهم الله من الشرك؛ لما أعطاهم الله من البصيرة، ولأنهم خبروا الشرك وعرفوا الجاهلية وذاقوا مرارة الشرك فلا يقعون فيه مرة أخرى، وإنما خاف عليهم ﷺ الشرك الأصغر من الرياء والتنافس في الدنيا؛ ولهذا قال: «وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا» ، أي: إني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي؛ لما جعل الله عندهم من البصيرة، ولما في قلوبهم من الثبات، ولكن يخشى عليهم التنافس في الدنيا والشرك الأصغر، وإذا خيف على الصحابة الشرك الأصغر فمن بعدهم يخاف عليهم الشرك الأصغر والأكبر.

المتن:

باب دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ فِي قَبْرٍ

1345 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ.

الشرح:

1345 تقدم الكلام على هذا الحديث في الباب قبله، وكرره المؤلف رحمه الله لاستنباط الأحكام، فأراد جوزا دفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد، كما تقدم في فوائد الحديث.

المتن:

باب مَنْ لَمْ يَرَ غَسْلَ الشُّهَدَاءِ

1346 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ.

الشرح:

1346 في الحديث: دليل على أن الشهيد لا يُغَسَّل وإنما يدفن في دمه وثيابه؛ لقول النبي ﷺ في شهداء أحد: ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ.

وكأن المؤلف رحمه الله يريد الرد على من يقول: إن الشهيد يُغَسَّل، وهو مروي عن سعيد بن المسيب، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أشار بذلك إلى ما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: يغسل الشهيد؛ لأن كل ميت يجنب فيجب غسله»، وبه قال الحسن البصري وجماعة وهذا ضعيف. والصواب ما دلَّت عليه الأحاديث أن الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه، لكن يدفن بثيابه، وبدمائه، ويغطى رأسه؛ وحديث تغطية رأس مصعب[(503)] وحمزة[(504)] ثابت في كتب السنة، وأما الذي لا يغطى رأسه فهو المحرم[(505)].

المتن:

باب مَنْ يُقَدَّمُ فِي اللَّحْدِ

وَسُمِّيَ اللَّحْدَ لأَِنَّهُ فِي نَاحِيَةٍ وَكُلُّ جَائِرٍ مُلْحِدٌ مُلْتَحَدًا مَعْدِلاً وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِيمًا كَانَ ضَرِيحًا.

1347 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ.

1348 وَأَخْبَرَنَا الأَْوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ: أَيُّ هَؤُلاَءِ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ وَقَالَ جَابِرٌ: فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا .

الشرح:

هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله لبيان من يقدَّم في اللحد، واللحد: هو الشق في ناحية القبر جهة القبلة.

قوله: «وَسُمِّيَ اللَّحْدَ لأَِنَّهُ فِي نَاحِيَةٍ» أي: سمّي اللحد بذلك؛ لأنه يعمل في جانب القبر ويميل عن وسط القبر إلى جانبه بحيث يسع الميت فيوضع فيه ويطبق عليه اللبن.

يقول المؤلف ـ كما في بعض النسخ ـ: «وَكُلُّ جَائِرٍ مُلْحِدٌ» ، والملحد: هو المنحرف عن الدين، فالجاحد والمعطل يقال له: ملحد، لكونه مال عن الدين وجار عنه أخذًا من اللحد.

قوله: « مُلْتَحَدًا [الكهف: 27] مَعْدِلاً» فسر قوله تعالى: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف: 27]، يعني: لن تجد من دونه معدلاً.

1347 ذكر المؤلف رحمه الله حديث جابر: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ» ، وهذا للضرورة والحاجة؛ لكثرة القتلى ولمشقة حفر القبور، «ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ» أي: جعله في اللحد في سمت القبلة والثاني يوضع في الشق، «وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ» ، فدلَّ على أن شهيد المعركة لا يُغَسّل ولا يصلَّى عليه.

وفي تقديم من هو أكثر أخذًا للقرآن فضيلة ظاهرة لقارئ القرآن وللعالم.

1348 وفي الرواية الثانية: «وَقَالَ جَابِرٌ: فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ» وذكر الواقدي في المغازي وابن سعد أنهما كُفِّنا في نمرتين، فإن ثبت حمل على أن النمرة الواحدة شقت بينهما نصفين.

والواقدي أخباره ضعيفة، وما في الصحيح مقدَّم على كلام الواقدي، والصحيح أنهما كفنا في نمرة واحدة، والنمرة: كساء فيه خطوط، يعني: أنهما كفنا في ثوب واحد، وهذا للضرورة، لكن عند السعة يكفن كل واحد في كفن يستر جميع بدنه والواجب في الكفن ثوب يستر جميع بدنه، وإذا كفن في ثلاثة لفائف كما فعل بالنبي ﷺ فهو أفضل، ولكن عند الضرورة لا بأس أن يكفن اثنان في ثوب واحد.

المتن:

باب الإِْذْخِرِ وَالْحَشِيشِ فِي الْقَبْرِ

1349 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ لأَِحَدٍ بَعْدِي أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ فَقَالَ الْعَبَّاسُ : إِلاَّ الإِْذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : عَنْ النَّبِيِّ ﷺ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا.

وَقَالَ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ: عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ مِثْلَهُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها بيان حكم وضع الإذخر والحشيش في القبر.

1349 هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما في تحريم النبي ﷺ مكة حيث قال: حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ، والتحريم هو المنع، والمعنى: منع لقتال فيها وكذا جميع ما ذكره ﷺ مما نهى عنه.

وفي هذا الحديث أن الذي حرم مكة هو الله، وفي الحديث: الآخر: حرَّم إبراهيم مكة وإني أحرم المدينة [(507)] والمعنى: أظهر إبراهيم تحريمها والمحرم هو الله تعالى.

وقوله: فَلَمْ تَحِلَّ لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ لأَِحَدٍ بَعْدِي يعني: يقاتل فيها.

ثم قال النبي ﷺ: أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وهي يوم فتح مكة حيث أحل الله القتال فيها؛ لأن هذا القتال كان فيه تطهير لمكة من الشرك وفتح لها، والمراد بالساعة: الجزء من الزمن ـ فليس المراد بالساعة الوقت المعروف عندنا ـ وهذه الساعة كانت من الضحى إلى بعد صلاة العصر، ومن ذلك ما جاء في الحديث في يوم الجمعة من راح في الساعة الأولى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً والثالثة كبشا والرابعة دجاجة والخامسة بيضة [(508)] فهذه الساعات تكون من طلوع الشمس إلى دخول الخطيب، وتكون طويلة في الصيف وتكون قصيرة في الشتاء، والإمام يخرج في الساعة السادسة، ففي الصيف تزيد عن الساعة المعروفة الآن وفي الشتاء تقصر، فالمراد الجزء من الزمن وليس المراد الساعة المعروفة.

وقوله: لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا يعني: لا يُحَشُّ حشيشها، والمراد الحشيش الذي لم يستنبته الآدميون، أما الذي يزرعه الآدميون فلا بأس بحشه.

وقوله: وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا يعني: لا يقطع شجرها.

وقوله: وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا أي: لا يُزجر ولا يُطرد ولا يُصاد.

وقوله: وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ، يعني: لا يجوز للإنسان أن يأخذ لقطة الحرم إلا إذا كان يريد أن يعرفها مدى الدهر، وهذا من خصائص مكة، أما غير مكة فإن الإنسان إذا وجد اللقطة فإنه يذكر أوصافها ويعرِّفها سنة، فإذا مرت سنة فإنها تكون له، وإن جاء طالبها يومًا من الدهر دفعها إليه، كما في الحديث: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً [(509)]، والآن في المسجد الحرام موجود لجنة تأخذ اللقطة، فيدفعها الإنسان إليهم ويأتي أصحابها فيأخذونها.

قوله: « فَقَالَ الْعَبَّاسُ : إِلاَّ الإِْذْخِرَ» ، يعني: رَخِّصْ لنا في الإذخر، والإذخر: نبت طيب الريح.

قوله: «لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا» ، يعني: نحتاجه للصاغة، والصاغة: الحدادون الذين يحتاجون إلى إشعال النار، فهم يشعلون بالإذخر لأجل إحماء الذهب، وكذلك في القبور يجعل في الخلل الذي بين اللبنات، وكذلك يجعل في سقوف البيوت.

قوله: «وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : عَنْ النَّبِيِّ ﷺ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا» ،يعني: أنه يحتاجه أهل مكة للقبور، ولسقوف البيوت بدل الخوص، فقال النبي ﷺ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ.

ويحتمل أن النبي ﷺ أراد أن يستثني، فسبقه العباس بالسؤال فأجابه، ويحتمل أن العباس لما سأل نزل الوحي بالترخيص فيه.

المتن:

باب هَلْ يُخْرَجُ الْمَيِّتُ مِنْ الْقَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ

1350 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا.

قَالَ سُفْيَانُ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَمِيصَانِ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْبِسْ أَبِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ.

قَالَ سُفْيَانُ: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ.

الشرح:

هذه الترجمة في بيان جواز إخراج الميت من القبر واللحد للحاجة، والحاجة قد تتعلق بالميت أو تتعلق بالحي، فإذا وجد سبب وحاجة دعت لإخراج الميت فلا بأس بإخراجه، كما لو لم يصلَّ عليه أو لم يُغَسَّل، فيخرج ويُغَسَّل ويصلَّى عليه.

1350 في حديث جابر أن النبي ﷺ أخرج عبدالله بن أُبَيّ بعدما أدخل في حفرته، وفي اللفظ الثاني أنه لما دلي في حفرته، أمر به النبي ﷺ فأخرج، فوضعه على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، وصلى عليه؛ وعبدالله بن أُبَيّ رئيس المنافقين، والنبي ﷺ فعل هذا قبل أن ينهى عن الصلاة عليه.

فألبسه قميصه مكافأة له حينما كسا العباس قميصه يوم بدر وكان العباس طويلاً، ولم يجد له ثوبًا طويلاً إلا ثوب عبدالله بن أُبَيّ.

وأما كونه أمر به، فأخرج، ووضعه على ركبتيه، ونفث فيه من ريقه رجاء أن ينفعه ذلك؛ فكان مراعاة لابنه عبدالله بن عبدالله بن أُبَيّ، وهو من أصلح الناس، فعبدالله رئيس المنافقين، وابنه عبدالله من خيار المؤمنين، ولهذا قال ابنه عبدالله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْبِسْ أَبِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ» ـ وكان عليه قميصان ـ لعل الله أن ينفعه.

قوله: «قَالَ سُفْيَانُ: فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ» أي: مع العباس حين ألبسه قميصه، فكافأه، ونفث فيه من ريقه، وأراد أن يصلي عليه، فجاء عمر وأخذ بثوبه فقال له النبي ﷺ: «أخر عني يا عمر»، قال: يا رسول الله، رئيس المنافقين تصلي عليه؟ قال: أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ، فإِنِّي خُيِّرْتُ، فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، فلو أعلم أني زدت على السبعين ويغفر له لزدت على السبعين [(510)]. ثم صلى عليه، ثم أنزل الله بعد ذلك: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التّوبَة: 84]، فلما أنزل الله هذه الآية لم يصلِّ النبي بعدها على أحد من المنافقين، وكان عمر يقول: تعجبت من جرأتي على رسول الله ﷺ، كيف أخذت بقميصه وقلت له ذلك؟!

المتن:

1351 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلاَّ مَقْتُولاً فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَإِنِّي لاَ أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآْخَرِ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ.

الشرح:

1351 في الحديث: أن جابرًا أخبره والده عبدالله بن حرام رضي الله عنهما أنه سيقتل في غزوة أحد، فكأنه رأى رؤيا فعلم أنه سيقتل في ليلة أحد، فقال: «مَا أُرَانِي إِلاَّ مَقْتُولاً فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَإِنِّي لاَ أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» لأن نفس الرسول مقدَّمة؛ ولهذا يقول النبي ﷺ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [(511)] هذا هو الكمال؛ فمحبة النبي ﷺ مقدَّمة على محبة الولد.

وقوله: «فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ» أي: أوصاه وصية؛ لأن الميت ينبغي أن يوصي، وتكون الوصية واجبة إذا كان عليه حقوق.

قوله: «وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا» ، وكان قد خلف له أخوات كثيرات وقد عمل جابر بوصية أبيه فقد تزوج بعد وفاته امرأة ثيِّبًا، ولما سأله النبي ﷺ قال: تَزَوَّجْتَ؟ قال: نعم. قال: بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قال: ثيِّبًا. قال: هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك؟ قال: يا رسول الله إن أبي مات، وإنه ترك أخوات، وإني كرهت أن آتيهن بجارية مثلهن، ولكن أتيت بامرأة كبيرة تمشطهن وتقوم عليهن؛ فقال: أحسنت [(512)] فقد صَوَّبه النبي ﷺ، فهذا من عنايته بأخواته، وأخذه بوصية أبيه.

قوله: «فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآْخَرِ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ» ، يعني: جسمه باقٍ ما تغير بعد ستة أشهر إلا تغيرًا يسيرًا في أذنيه، وهذا هو الشاهد في الحديث، وهو جواز إخراج الميت بعد دفنه بمدة للحاجة كما فعل جابر ؛ لأن هذا فُعل في زمن النبي ﷺ وأقره ولم ينكر عليه، وما لم ينكره النبي ﷺ في حياته فلا بأس به، فإخراج الميت للحاجة لا بأس به، وهذه الحاجة تتعلق بالحي، ولا تتعلق بالميت، فالميت لا يضره إن كان معه آخر، لكن جابرًا ما طابت نفسه أن يجعل أباه مع رجل آخر، فاستخرجه، ووضعه في قبر مستقل.

المتن:

1352 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ.

الشرح:

1352 هذا الحاجة تتعلق بجابر .

المتن:

باب اللَّحْدِ وَالشَّقِّ فِي الْقَبْرِ

1353 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قال: حدثني ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ فَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ.

الشرح:

1353 اللحد: هو الشق المائل إلى جهة القبلة، والشق: القبر المستقيم، ويسمى الضريح، واللحد أفضل، وجاء في الحديث الآخر: اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا [(513)] وإذا لم يلحد وجعل في شق فلا بأس كما يوجد في بعض البلدان يجعلون شقًّا ثم يضعون الميت ثم يضعون اللَّبِنَات فوقه، لكن الأفضل اللحد.

وفيه: جواز جمع الرجلين والثلاثة في قبر واحد عند الحاجة والضرورة، كما إذا كثر القتلى وشق حفر القبور.

وفيه: أن شهداء المعركة يدفنون بدمائهم، ولا يغسَّلون، ولا يصلَّى عليهم؛ وهذا خاص بشهداء المعركة؛ أما الشهيد في الفضل فإنه يُغَسَّل ويصلَّى عليه، كالمقتول ظلمًا، والمبطون، والغريق، والحريق.

المتن:

باب إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الإِْسْلاَمُ

وَقَالَ الْحَسَنُ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَالْوَلَدُ مَعَ الْمُسْلِمِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَعَ أُمِّهِ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ وَقَالَ: الإِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى.

1354 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَني سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: لاَبْنِ صَيَّادٍ تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُْمِّيِّينَ فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: لِلنَّبِيِّ ﷺ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَضَهُ وَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَْمْرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيأً فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ :هُوَ الدُّخُّ فَقَالَ: اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ فَقَالَ عُمَرُ : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ.

1355 وَقَالَ سَالِمٌ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ فَرَآهُ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ: لاِبْنِ صَيَّادٍ يَا صَافِ وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ هَذَا مُحَمَّدٌ ﷺ فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ.

وَقَالَ شُعَيْبٌ: فِي حَدِيثِهِ فَرَفَصَهُ رَمْرَمَةٌ أَوْ زَمْزَمَةٌ.

وَقَال عُقَيْلٌ: رَمْرَمَةٌ.

وَقَالَ مَعْمَرٌ: رَمْزَةٌ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان حكم إسلام الصبي، هل يحكم بإسلامه؟ وإذا مات هل يصلَّى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام؟

الجواب: يحكم بإسلامه، وإذا مات يصلَّى عليه حتى ولو كان سقطًا إذا نفخ فيه الروح.

ويعرض على الصبي الإسلام كما سيأتي في حديث عرض النبي ﷺ الإسلام على غلام يهودي فأسلم.

قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا» يعني: أحد الأبوين «فَالْوَلَدُ مَعَ الْمُسْلِمِ» أي: إذا أسلمت أمه وأبوه لم يسلم فالولد مسلم ويحكم بإسلامه تبعًا لأمه، وإذا أسلم أبوه ولم تسلم أمه فالولد يحكم بإسلامه تبعًا لأبيه.

قوله: «وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَعَ أُمِّهِ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ» ؛ فابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين، فقد أسلم هو وأمه، وكان مع أمه وحكم بإسلامه، ولم يكن مع أبيه العباس قبل أن يسلم، وقد أسلم العباس بعد ذلك.

1354 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر في قصة ابن صياد، وابن صياد هذا دجال من الدجاجلة، وكان صبيًّا من اليهود قارب الحُلُم، فعمل أشياء كان يُظَنُّ بسببها أنه الدجال الأكبر، حتى إن النبي ﷺ أشكل عليه الأمر، ولهذا لما استأذن عمر أن يقتله قال: إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ أي: إن كان هو الدجال فلن تسلط عليه حتى يخرج ويجري الله على يديه الخوارق التي كتبها. وقال: وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ، أي: وإن كان غير الدجال فلا خير لك في قتله، وهذا يدل على أن النبي ﷺ أشكل عليه الأمر في أوله، ثم بُيَّن الله له أنه ليس الدجال، وأن الدجال يخرج في آخر الزمان.

واختلف العلماء لماذا لم يقتله النبي ﷺ وهو كاهن؟ فقيل: لأنه صبي لم يبلغ، وقيل: لأنه من اليهود، وبين اليهود وبين النبي ﷺ عهد، فلهذا لم يقتله.

قوله: «َنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي رَهْطٍ» والرهط: العدد من ثلاثة إلى تسعة.

قوله: «قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ» هذا يدل على أنه كان صبيًّا.

قوله: «وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ» ويقال له: ابن صائد.

قوله: «الْحُلُمَ» يعني: قارب البلوغ.

قوله: «فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: لاَبْنِ صَيَّادٍ تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُْمِّيِّينَ» يعني: العرب، فلم يقر بنبوته، بمعنى أن رسالة النبي خاصة بالعرب، وأما هو فمن اليهود ولا تشمله رسالته بزعمه.

قوله: «فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: لِلنَّبِيِّ ﷺ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» ؛ لأن ابن صياد ادعى النبوة؛ لأنه دجال، «فَرَفَضَهُ» أي: النبي ﷺ وقال: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ، ثم قال النبي ﷺ لابن صياد: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ» كأن له رأيًّا من الجن يأتيه صادقًا وكاذبًا، «فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَْمْرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيأً يعني: أضمرت لك شيئًا في نفسي، ما هو الذي أضمرته؟ «فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ :هُوَ الدُّخُّ» يعني: الدخان، فدخ اختصار الدخان، فقال النبي ﷺ: اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ، قالوا: أي: إنما أنت من إخوان الشياطين، أو من إخوان الكهان ، واخسأ كلمة زجر؛ لأنه ادعى أنه يعلم ما في نفس النبي ﷺ.

قوله: «فَقَالَ عُمَرُ : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ» ؛ لأنه هو كاهن، والكاهن كافر، قوله: «فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، أي: إن يكن هو الدجال الأكبر فلن تسلط عليه حتى يجري الله على يده الخوارق التي كتبها.

قوله: وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ الدجال فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ، وهذا قاله النبي ﷺ قبل أن يعلم أنه ليس الدجال، ثم أعلمه الله بعد ذلك أنه ليس هو الدجال.

1355 قوله: «انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا» ، يعني: أتاه من خلفه يتسمع ماذا يقول ابن صياد.

قوله: «فَرَآهُ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ» ، ورويت: «رمرمة أو زمزمة» [(514)] يعني: متغط في قطيفة وله صوت. قوله: «فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ» ؛ حتى لا يراه ابن صياد.

قوله: «فَقَالَتْ: لاِبْنِ صَيَّادٍ يَا صَافِ» تخاطب ابنها.

وقوله: «وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ» أي: اسمه صاف.

قوله: «هَذَا مُحَمَّدٌ ﷺ فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ» من مكانه وقام.

قوله: «فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ، يعني: لو تركته ولم تخبره تبين حاله، وفي الحديث: دليل استدل به المؤلف على عرض الإسلام على الصبي؛ لأن النبي ﷺ عرض الإسلام على ابن صياد وقال: تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فدل على أن الإسلام يعرض على الصبي.

المتن:

1356 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ.

الشرح:

1356 في الحديث: شاهد لعرض الإسلام على الصبي، وللصلاة عليه، فإن النبي ﷺ عرض الإسلام على الصبي اليهودي وصلَّى عليه لما مات.

وفيه: جواز عيادة المرضى من الكفار إذا كان يرجى إسلامهم؛ ولهذا زار النبي ﷺ هذا اليهودي وعرض عليه الإسلام، ومن ذلك عيادة النبي ﷺ عمه أبي طالب، فقد جاءه لما حضرته الوفاة، وعرض الإسلام عليه وعنده عبدالله بن أبي أمية، وأبو جهل، فقالوا: أترغب عن ملة أبيك عبدالمطلب، فأصروا عليه حتى مات على الشرك ـ نعوذ بالله ـ.

وفيه: جواز استخدام المشرك إذا كان لا يؤثر على المسلمين، ولعل هذا كان أولاً ثم أمر النبي ﷺ بعد هذا بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فقال: أخرجوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ [(515)] وقال: لا يبقى في جزيرة العرب دينان [(516)].

المتن:

1357 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ أَنَا مِنْ الْوِلْدَانِ وَأُمِّي مِنْ النِّسَاءِ.

الشرح:

1357 في هذا الأثر حكم لابن عباس رضي الله عنهما بالإسلام ـ وهو من الصبيان ـ؛ لأن الصبي إذا أسلم يحكم بإسلامه.

المتن:

1358 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإِْسْلاَمِ يَدَّعِي أَبَوَاهُ الإِْسْلاَمَ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الإِْسْلاَمِ إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّيَ عَلَيْهِ وَلاَ يُصَلَّى عَلَى مَنْ لاَ يَسْتَهِلُّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ . كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الرُّوم: 30] الآْيَةَ.

1359 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الرُّوم: 30].

الشرح:

1358 ذكر المؤلف رحمه الله بالسند إلى ابن شهاب ـ وهو الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الإمام المعروف ـ أنه قال: «يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ» يعني: وإن كان ابن زنا، قوله: «مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإِْسْلاَمِ يَدَّعِي أَبَوَاهُ الإِْسْلاَمَ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الإِْسْلاَمِ» ؛ لأنه جاء أن الزاني ليس بكافر؛ ولأن ولد الزنا ليس عليه من إثم أبويه شيء، فالإثم على من فعل الزنا، أما هو فليس عليه شيء من الإثم، فيحكم بإسلامه، ويصلَّى عليه.

يقول ابن شهاب رحمه الله: «إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّيَ عَلَيْهِ وَلاَ يُصَلَّى عَلَى مَنْ لاَ يَسْتَهِلُّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ» .

وهذا التفصيل لابن شهاب رحمه الله ليس بجيد، والصحيح أنه يصلَّى على السقط حتى ولو لم يستهل صارخًا إذا نفخ فيه الروح وتبين فيه خلق الإنسان؛ لأنه آدمي، ويُسَمَّى أيضًا، ويعق عنه، وتكون أمه نفساء ودمها دم النفاس، فتترك الصلاة حتى ينقطع الدم أو تبلغ أربعين؛ فلا فرق بين أن يستهل صارخًا أو لا يستهل.

وقد استدل ابن شهاب بحديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، والفطرة هي الإسلام، وهذا يشمل كل مولود، ويشمل ابن الزنا، فلذلك يصلَّى عليه وإن كان ابن زنا؛ لأنه مولود على الفطرة، والمعنى أنه مفطور على توحيد الربوبية، ولو ترك ونفسه لمال إلى الخير وقبل الخير.

قوله: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» ، ولم يقل: أو يسلمانه؛ لأنه مولود على الإسلام، وهي الفطرة، ثم قرأ أبو هريرة قول الله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الرُّوم: 30].

1359 قوله: كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ، وفي اللفظ الآخر: إلا أنكم تجدعونها [(517)] يعني: أن البهيمة إذا ولدت بهيمة تلدها جمعاء يعني: مجتمعة الحواس والأطراف، فهل تحسون أنها مقطوعة الأذن أو مقطوعة القرن أو مقطوعة اليد أو الرجل؟ لا، بل تولد جمعاء، إلا أنكم تجدعونها، فتقطعون الأذن وتقطعون اليد، وكذلك الإنسان يولد على الفطرة ثم بعد ذلك تأتيه المغيرات، يأتي أبواه فينقلانه إلى اليهودية أو النصرانية، وقوله: «تُنْتَجُ» على صيغة المبني للمجهول، وهي مبنية للمعلوم، وتوجد ألفاظ معدودة جاءت على صيغة المبني للمجهول وهي مبنية للمعلوم وذلك مثل: يهرعون، وتزهى.

المتن:

باب إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ

1360 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قال: حدثني أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَني سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لأَِبِي طَالِبٍ: يَا عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ: آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ [التّوبَة: 113] الآْيَةَ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان حكم قول المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، هل يحكم بإسلامه أو لا يحكم بإسلامه؟ ولم يجزم المؤلف بالحكم؛ لأن المسألة فيها تفصيل.

1360 إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله ففيه تفصيل، فإذا قالها عن إيمان وتوحيد وإخلاص قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم فإنها تنفعه ويصير مسلمًا ويدخل بها الجنة، كما هو ظاهر هذا الحديث يَا عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، وكما زار النبي ﷺ الصبي اليهودي الذي يخدمه عند الموت ودعاه إلى الإسلام فنظر إلى أبيه فقال: أطع أبا القاسم، فنطق اليهودي بالشهادة، فقال النبي ﷺ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ [(518)] وأمر بتغسيله ودفنه.

أما إذا نطق بالشهادة بعد بلوغ الروح إلى الحلقوم فإنها لا تنفعه؛ لأنه بعد بلوغ الروح إلى الحلقوم يكشف له عن المستقبل، ويعاين الملائكة.

وفي الحديث: التحذير من جلساء وقرناء السوء، وشدة خطرهم على الإنسان؛ فإن النبي ﷺ دعا عمه إلى الإسلام، لكن كان عنده عبدالله بن أبي أمية وأبو جهل وهم قرناء السوء؛ حيث ذكّراه دين قومه، ولقنّاه الحجة الملعونة، وهي اتباع الآباء والأجداد على دينهم الباطل، وقالا: أترغب عن ملة أبيك عبدالمطلب، والحجة الملعونة هي قول المشركين: وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزّخرُف: 22]، وهي حجة فرعون حينما قال لموسى: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه: 51]، وهي حجة قرشية، قال تعالى حكاية عنهم: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ [ص: 7]، فأبى أبو طالب أن يقول: لا إله إلا الله.

وإذا قال: لا إله إلا الله مخلصًا موحدًا تائبًا من الشرك والمعاصي جميعًا دخل الجنة من أول وهلة، وإن قالها تائبًا من الشرك دون المعاصي ومات مصرًّا عليها فهو تحت مشيئة الله، أما من قالها عن غير إيمان فلا تنفعه.

وقال النبي ﷺ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فأنزل الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التّوبَة: 113]، ففي الآية تحريم الدعاء والاستغفار للمشركين.

المتن:

باب الْجَرِيدِ عَلَى الْقَبْرِ

وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الأَْسْلَمِيُّ أَنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَانِ.

وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: انْزِعْهُ يَا غُلاَمُ فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ.

وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ رَأَيْتُنِي وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حَتَّى يُجَاوِزَهُ.

وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ: أَخَذَ بِيَدِي خَارِجَةُ فَأَجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ وَأَخْبَرَنِي عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ.

1361 حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَأَمَّا الآْخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا فَقَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا.

الشرح:

قوله: «بَابُ الْجَرِيدِ عَلَى الْقَبْرِ» ، يعني: هل يشرع للإنسان أن يضع جريدة على القبر؟

قال: «وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الأَْسْلَمِيُّ أَنْ يُجْعَلَ فِي قَبْرِهِ جَرِيدَانِ» ، يعني: اقتداء بالنبي ﷺ لما أخذ جريدة رطبة وشقها نصفين وغرز في كل قبر واحدة.

قوله: «وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: انْزِعْهُ يَا غُلاَمُ فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ» يعني: لا ينبغي أن يوضع الفسطاط والخيمة على القبر، إنما يظله عمله.

قوله: «وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ رَأَيْتُنِي وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حَتَّى يُجَاوِزَهُ» يعني: أقوانا من يقفز على قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه، يعني: من ارتفاعه.

قوله: «وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ: أَخَذَ بِيَدِي خَارِجَةُ فَأَجْلَسَنِي عَلَى قَبْرٍ وَأَخْبَرَنِي عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ» يعني: إنما يكره الجلوس على القبر لمن أَحدث عليه، يعني: بال أو تغوط. لكن الصواب أن المراد القعود.

قوله: «َقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ» صنيع البخاري رحمه الله وتصرفه يدل على أنه يؤيد الترجمة بهذه الآثار، ويرى أنه لا بأس أن يوضع الجريد على القبر لأجل أن تخفف عن الميت، والصواب أن وضع الجريد خاص بصاحبي القبرين؛ لأن النبي ﷺ كشف له عن حالهما، والوحي أخبره أنهما يعذبان، أما نحن فلا نفعل هذا، وما فعله بريدة بأن جعل في قبره جريدتان اجتهاد منه، والاجتهاد يخطئ ويصيب، ومن الاجتهاد الخاطئ كذلك وضع الفسطاط على قبر عبدالرحمن بن أبي بكر؛ لأنه لا يجوز وضع الفسطاط ولا غيره على القبر كما قال ابن عمر، ولا يجوز رفع القبر أكثر من شبر خلافًا لما قيل في قبر عثمان بن مظعون، ولا يجوز القعود على القبر، ولا الجلوس عليه؛ لحديث أبي مرثد الغنوي في «صحيح مسلم»: لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا [(519)] ولحديث جابر: «نهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه» [(520)]، ولحديث أبي هريرة مرفوعًا عند مسلم: لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ، حَتَّى تَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ [(521)].

فهذه ثلاثة أحاديث صحيحة في النهي عن الجلوس على القبر، وهي تعارض قول خارجة: إن الممنوع الإحداث عليها، فتأويلها بالجلوس عليها للتخلي باطل، والنبي ﷺ أفصح الناس ولم يقل: إن الجلوس عليها للتخلي، ولا يجوز للمسلم أن يتعلق بهذه الآثار مع وجود الأحاديث الصحيحة.

فنقول: إن هذه الآثار عن السلف ـ إن صحت ـ فإنها تحمل على الاجتهاد، والأحاديث والنصوص صحيحة في النهي عن الجلوس على القبر، والنهي عن رفع القبر أكثر من شبر، فالذي يتعلق بالآثار ويترك السنة يخشى عليه من الفتنة وزيغ القلب، كما قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النُّور: 63].

وغاية ما يعتذر لهؤلاء الصحابة أن النص لم يبلغهم، وليت البخاري رحمه الله لم يذكر هذه الآثار؛ فإن هذه الآثار معارضة للنصوص، فالبخاري ـ مع جلال قدره ـ قد احتج بهذه الآثار مع وجود الأحاديث الصحيحة التي تردها وتبطلها، ولكن كل أحد يؤخذ من قوله ويُرَدّ.

ومن الممكن أن يؤوّل جلوس ابن عمر على القبور بأنه يجلس عندها، كما يقال: فلان جلس على العشاء، فمن المعلوم أنه لا يجلس فوقه، وهذا الذي يظن بالصحابة، ويحتمل أنه خفي عليه النص.

ولا يجوز أن يكتب على القبر اسم الميت؛ لأنه جاء في الحديث أن النبي ﷺ: «نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ» [(522)] فالكتابة عليه لا تجوز، ولا يجصص، ولا يرفع أكثر من شبر، ولا توضع عليه الزهور، والرياحين، والأطياب؛ فكل هذا لا يجوز، ولكن توضع علامة على القبر كأن يجعل شيء من زجاج أو شيء من خشب أو عظم أو ما أشبه ذلك ليعرف قبر الميت بدون كتابة.

المتن:

باب مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ

يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ [المعَارج: 43] الأَْجْدَاثُ الْقُبُورُ.

بُعْثِرَتْ [الانفِطار: 4] أُثِيرَتْ، بَعْثَرْتُ حَوْضِي: أَيْ جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلاَهُ الإِْيفَاضُ الإِْسْرَاعُ.

وَقَرَأَ الأَْعْمَشُ إِلَى نُصُبٍ [المعَارج: 43] إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ، وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ وَالنَّصْبُ مَصْدَرٌ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42] مِنْ الْقُبُورِ يَنْسِلُونَ [الأنبيَاء: 96] يَخْرُجُونَ.

1362 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قال: حدثني جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا النَّبِيُّ ﷺ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليْل: 5-6] الآْيَةَ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها مشروعية موعظة المحدث عند القبر، وقعود أصحابه حوله لكن الموعظة تكون كلمات معدودة خلاف ما يفعله بعض الناس حيث يجلس نصف ساعة أو ربع ساعة.

1362 في هذا الحديث: أن النبي ﷺ وعظ الناس وحوله أصحابه لما كانوا في جنازة في بقيع الغرقد حيث قعد النبي ﷺ وقعدوا حوله «وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ» ثم وعظهم فقال: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلاَّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ، يعني: اعملوا؛ لأن كتابة المقادير لا تنافي فعل الأسباب.

ففي الحديث: إثبات المقادير.

وفيه: أن كتابة المقادير لا تنافي فعل الأسباب المأمور بها شرعًا، فالله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ.

قوله: « بُعْثِرَتْ [الانفِطار: 4] أُثِيرَتْ» أي: في قوله تعالى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفِطار: 4]، وكما في قوله تعالى: بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [العَاديَات: 9]، ومنه قولهم: «بَعْثَرْتُ حَوْضِي أَيْ جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلاَهُ» .

المتن:

باب مَا جَاءَ فِي قَاتِلِ النَّفْسِ

1363 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِْسْلاَمِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.

1364 وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا جُنْدَبٌ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ.

1365 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان الوعيد الذي جاء في قاتل النفس، وأنه من كبائر الذنوب.

1363 قول النبي ﷺ: مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِْسْلاَمِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، فيه: الوعيد الشديد على من حلف بملة غير الإسلام، وأنه من الكبائر، مثل أن يحلف فيقول: واليهودية أو والنصرانية لأفعلن كذا، أو يقول: هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا، أو إن لم يفعل كذا.

وقوله: وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ هذا وعيد أيضًا على قتل النفس، وأنه من الكبائر، وأن قاتل نفسه يعذب بما قتل به نفسه، فمن قتل نفسه بحديدة فإنه يجأ بطنه بحديدة يوم القيامة، وإن قتل نفسه بسُمِّ فإنه يتحساه في نار جهنم، كما في الحديث الآخر[(523)].

وفيه: أن الواجب على العبد الصبر عند المصائب التي تحصل له، وأنه لا يجوز له الانتحار.

1364 في حديث جندب قال النبي ﷺ: كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وهذا من أحاديث الوعيد، وهو لا يدل على كفر القاتل إذا لم يستحله، سواء القاتل لنفسه أو القاتل لغيره، فإذا استحل قتل نفسه أو قتل غيره كفر؛ لأنه استحل أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، حرمته كما لو استحل الزنا أو الربا أو الخمر، أما إذا لم يستحله وإنما حمله على ذلك الجزع وعدم الصبر فإنه يكون مرتكبَ كبيرة.

وقوله: حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ المعنى: أنه لا يدخلها مع الأولين إن لم يعف الله عنه، أو يدخلها على صفة خاصة، وليس في هذا حجة للخوارج والمعتزلة الذين يقولون بكفر صاحب الكبيرة.

1365 قوله: الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ هذا من الوعيد الشديد، ويدل على أنه من الكبائر.

ويخنُق بضم النون وهذا على القياس، والمشهور بكسر النون سماعًا.

وكذلك يَطْعُن فالقياس طعن يَطْعُن، والسماع يَطْعِن مثل كَسَبَ يَكْسِب.

وهذه الأحاديث فيها التحذير من قتل النفس، وأن من قتل نفسه أو قتل غيره فإن عليه الوعيد الشديد، وأنه متوعد أن يعذب به في نار جهنم، ولا يكفر إلا إذا استحلها، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة جمعًا بين النصوص؛ لأن الله تعالى قال: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النِّسَاء: 48]، والقتل دون الشرك، فلا يكون كفرًا إلا إذا استحله.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد