الشرح:
ولو كان أوراقًا نقدية فإنها تجعل صفائح من نار، ويوسع الجلد حتى يتسع لهذه الدنانير وهذه الدراهم، ويكوى حتى يزداد عذابه.
فينبغي على من لم يخرج زكاة أمواله أن يسارع في إخراجها، وإن ترك أداء الزكاة أعوامًا سابقة فعليه أن يؤدي زكاة تلك الأعوام، بأن يخرج زكاة كل عام بمقدار النقود والدراهم التي عنده، فإن لم يعلم فإنه يقدرها على حسب غلبة الظن ويقضيها بعدد السنوات.
المتن:
الشرح:
1402 في الحديث: بيان إثم وعقوبة مانع الزكاة إذا كانت الزكاة في الإبل والغنم خاصة، وأنه يعذب بها يوم القيامة، والحديث الذي بعده يبين إثم وعقوبة مانع الزكاة إذا كانت الزكاة في المال عمومًا من أي: نوع كان.
قوله: تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وعند مسلم بلفظ: مَا مِنْ صَاحِبُ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّار [(587)].
وأيضا في هذا الحديث بيان أن الزكاة حق واجب مطلق، وأن المال فيه حقوق أخرى غير الزكاة، فمن هذه الحقوق:
قوله: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ أي: لمن يحضرها من الفقراء والمساكين.
ومنها: إطراق فحلها، فقد جاء عند مسلم بلفظ: قلنا: يا رسول الله ما حقها؟ قال: إِطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَمَنِيحَتُهَا، وَحَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ [(588)].
وفيه: دليل على مشروعية إعارة الجمل أو الثور أو التيس بدون أجرة؛ لأن النبي ﷺ نهى عن عَسْب الفحل[(589)]، وهو ضراب الفحل، فلا يجوز أخذ أجرة عليه.
ومنها: إعارة دلوها؛ لأن الله ذم من يمنع العارية، وتوعده بالويل، فقال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [المَاعون: 4-7].
ومنها: إطعام الجائع، وفك الأسير، كما في الحديث: أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ [(590)].
ومنها: النفقة على الأقارب، والزوجات، والمماليك، فكل هذه من حقوق المال.
قوله: وَلاَ يَأْتِي أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ فيه: تحذير شديد من أن يُغلّ من الغنائم.
قوله: يُعَارٌ هو: صوت الشاة.
قوله: وَلاَ يَأْتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وزاد في كتاب الجهاد: أو رِقَاعٌ تَخْفِقُ [(591)]. فيه: دليل على أن الغال يحمل ما غله يوم القيامة ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ.
المتن:
الشرح:
1403 في الحديث: بيان إثم مانع الزكاة وعقوبته، وأنه يعذب بأنواع مختلفة من العذاب، ومنها: أنه يمثل له المال شجاعًا أقرع.
قوله: شُجَاعًا هو الذكر من الحيات.
قوله: أَقْرَعَ هو الذي سقط شعر رأسه من كثرة السم، والمعنى أن مانع الزكاة يمثل له هذا المال حية عظيمة ممتلئة سماًّ، تتبعه وتؤذيه.
قوله: لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَيْهِ يَعْنِي شِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ وعند مسلم: يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ، وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، وَيُقَالُ: هَذَا مَالُكَ الَّذِي كُنْتَ تَبْخَلُ بِهِ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ [(592)].
ومانع الزكاة إذا لم يجحد وجوبها ولم يقاتل على منعها لا يكفر، ولكن تؤخذ منه ويعزر؛ لأنه قال في الحديث لما ذكر عذابه: ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ [(593)] ولو كان كافرًا لكان سبيله إلى النار ولم يكن له سبيل إلى الجنة.
أما إذا منعها وقاتل على منعها حكم بكفره؛ لأن الصحابة قاتلوا من منعها، وحكموا بردته.
وقال بعض العلماء: إنه يكفر حتى ولو لم يجحد وجوبها ولم يقاتل عليها، فبعض العلماء يرى أن منع الزكاة عمومًا كفر، وكذلك ترك الصوم كفر، وترك الحج كفر.
والصواب: أن هذا خاص بالصلاة، فمن تركها فقد كفر، أما إذا ترك الزكاة ولم يجحد وجوبها، ولم يقاتل عليها، فهذه معصية وكبيرة، ولكن لا يكفر صاحبها، وكذلك ترك الصوم كبيرة ولا يكفر صاحبها، وكذلك إذا ترك الحج.
وعلى هذا فمانع الزكاة له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يجحد وجوبها، وهذا كافر.
الحالة الثانية: أن يمنعها ويقاتل عليها، وهذا أيضا يحكم بكفره.
الحالة الثالثة: أن يمنعها ولا يقاتل عليها مع الإقرار بوجوبها، فهذا لا يكفر، وإنما يحكم عليه أنه عاصٍ وضعيف الإيمان، وتؤخذ منه، ويؤدب، ويعزر.
المتن:
باب مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ.
1404 وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التّوبَة: 34]؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلأَْمْوَالِ.
1405 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ أَخْبَرَنَا الأَْوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» هذه الترجمة جزم فيها المؤلف رحمه الله بالحكم؛ لوضوح الأدلة التي سيذكرها في الباب، وهذا هو الصواب الذي عليه جماهير العلماء خلافا لأبي ذر الغفاري كما سيأتي.
1404 قوله: «ِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ» استدل به أيضًا على الترجمة والمعنى أن الوعيد على الاكتناز ـ وهو حبس ما فضل عن الحاجة ـ إنما كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة وتبيين نصابها.
1405 قوله: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ فيه: تحديد بعض الأنصبة التي تجب فيها الزكاة.
الأوقية: أربعون درهمًا؛ فيكون النصاب الذي تجب فيه الزكاة مائتي درهم من الفضة.
الذود: الإبل.
الوسق: ستون صاعًا من الحبوب والثمار.
ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي ﷺ حدد الأنصبة التي تجب فيها الزكاة، فلما حدد الأنصبة دل على أن الزكاة إذا أخذت منها طهرت الأموال، ولا يدخل صاحبها في الوعيد المذكور في الآية، ولو كان الإنسان يجب عليه أن ينفق كل ما زاد عن حاجته لما كان لتحديد أنصبة الزكاة فائدة.
المتن:
الشرح:
1406 قوله: «بِالرَّبَذَةِ» هي: قرية تبعد عن المدينة قريبا من مائة وثلاثين كيلو متر أو أكثر.
قوله: «قْدَمْ الْمَدِينَةَ» قدِم يقدَم: إذا ورد البلد من باب تعَب يتعِب، وقدَم يقدُم من باب نصَر ينصُر: إذا تقدم القوم، ومنه قوله تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ [هُود: 98]، وأما قدُم يقدُم على وزن شرُف يشرُف، إذا صار قديمًا، فهذه أحوال ثلاثة لضبط الكلمة.
قوله: «فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ» أي: استغربوا رأيه، وهذا دليل على أن الصحابة مجمعون على خلاف رأيه.
قوله: «فَقَالَ لِي: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا» ؛ دفعًا للتشويش وإثارة الخلاف. وفيه: أن عثمان خيّره في ذلك.
قوله: «وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ» فيه: حرص أبي ذر على اتباع السنة في طاعة أولي الأمر وعدم الخروج عليهم.
وأراد البخاري رحمه الله بإيراده هذا الحديث بيان مذهب أبي ذر في أن عموم الكنز والادخار مذموم شرعًا سواء أُدي زكاته أم لا، وهذا المذهب مخالف لمذهب جمهور الصحابة والعلماء.
المتن:
1407 حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَْعْلَى حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ عَنْ الأَْحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَسْتُ وحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قال: حدثني أَبِي حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلاَءِ بْنُ الشِّخِّيرِ أَنَّ الأَْحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَلإٍَ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ بَشِّرْ: الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لاَ أَدْرِي مَنْ هُوَ فَقُلْتُ لَهُ: لاَ أُرَى الْقَوْمَ إِلاَّ قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ قَالَ: إِنَّهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا.
1408 قَالَ لِي خَلِيلِي: قَالَ: قُلْتُ: مَنْ خَلِيلُكَ؟ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلاَّ ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ وَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَعْقِلُونَ إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لاَ وَاللَّهِ لاَ أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلاَ أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ.
الشرح:
1407 فيه: بيان مذهب أبي ذر أنه لا يجوز لأحد أن يبقي عنده من الذهب والفضة زائدًا عن حاجته ـ وهذا في الذهب والفضة خاصة دون العقارات ـ فإذا أبقى شيئًا من الذهب والفضة زائدًا عن حاجته فهو كنز يكوى به يوم القيامة.
قوله: «بِرَضْفٍ» هي: الحجارة المحماة.
قوله: «نُغْضِ» هو: العظم الدقيق الذي على طرف الكتف أو على أعلى الكتف.
1408 قوله: «قَالَ لِي خَلِيلِي: قَالَ: قُلْتُ: مَنْ خَلِيلُكَ؟» لا تعارض بين قول أبي ذر هذا وقوله ﷺ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا [(594)]؛ لأن النبي ﷺ لم يقل لقد اتخذتُ أبا ذر خليلاً، وإنما كان ذلك من جهة أبي ذر ، فهو الذي اتخذ الرسول ﷺ خليلاً.
والخلة: هي كمال المحبة ونهايتها، فهي أعلى درجة في المحبة.
والخليل هو الذي امتلأ قلبه بمحبة خليله، ووصلت المحبة إلى سويداء قلبه.
والخليل لا يتسع قلبه لأكثر من خلة واحدة، بينما يتسع القلب لأكثر من حبيب، فقد كان النبي ﷺ يحب عائشة رضي الله عنها، ويحب أباها أبا بكر ، ويحب زيدًا ـ وهو حِب رسول الله ﷺ ـ ويحب ابنه أسامة رضي الله عنهما، وغيرهم كثير، وأما الخلة فإن النبي ﷺ امتلأ قلبه بخلة الله؛ فليس فيه مكان لخلة أحد غير الله، ولو كان في القلب متسع لكان لأبي بكر ، فهذا معنى قوله ﷺ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ ـ يعني نفسه ـ خَلِيلُ اللهِ [(595)]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [(596)].
وبعض الناس يغلط فيقول: محمد ﷺ حبيب الله، وإبراهيم خليل الله، ويقول: الحبيب المصطفى، صلوا على الحبيب؛ لأنهم يظنون أن درجة المحبة أعلى من درجة الخلة، وهذا غلط؛ فالخلة أعلى درجات المحبة.
قوله: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟ يعني: جبل أحد، وهو جبل عظيم في شمال المدينة وقعت عنده غزوة أحد.
قوله: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلاَّ ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ وفي اللفظ الآخر في كتاب الرقاق: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا، تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه» [(597)] ففهم أبو ذر من هذا الحديث أنه لا يجوز للإنسان أن يدخر أكثر من حاجته، ورأيه هذا لا شك أنه خطأ؛ لأنه تمسك بالمنسوخ، وخالف جمهور الصحابة وعامتهم كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم .
تنبيه:
استغل الاشتراكيون الشيوعيون هذا الحديث، فجعلوا يسلبون أموال الناس، ويقولون: إن أبا ذر اشتراكي، ومذهبه هذا هو نفس مذهبنا.
وهؤلاء افتروا كذبًا مبينًا وغلطوا غلطًا عظيمًا، وبيان ذلك من ثلاثة أوجه:
الأول: أبو ذر موحد، وهو من خيار الصحابة الكرام، ومشهور بالزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، وأما الاشتراكيون الشيوعيون لا ملة لهم ولا دين. فهل تستوي الظلمات والنور؟!
الثاني: مذهب أبي ذر هو عدم جواز ادخار وكنز ما فضل عن حاجة الإنسان من الذهب والفضة بوجه خاص دون العقارات وما يشبهها، وأما الاشتراكيون فهم يرون عدم جواز تملك الأفراد الأموال والعقارات وما يشبهها على وجه العموم.
الثالث: الاشتراكيون يسرقون الناس وينهبون أموالهم ويبتزونهم تحت هذا الشعار البرَّاق الكاذب، ثم ينفقون هذه الأموال على شهواتهم وأطماعهم الشخصية تحت ستار المساواة بين طبقات الشعب، والواقع خير شاهد على كشف هذه الحقيقة، وأما أبو ذر فيدعو الناس لمذهبه بهدف سامٍ وهو الزهد في الدنيا والبعد عن شهواتها وملذاتها والانشغال بالآخرة، وتطبيقًا لما فهمه من القرآن الكريم وكلام الرسول الأمين، فاختلف المذهب، واختلف الهدف، فلا يستويان مثلاً.
وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف من الأغنياء، ولم ينكر عليهم النبي ﷺ.
وذات يوم حث النبي ﷺ على الصدقة فتسابق أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فجاء عمر بنصف ماله فقال: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قال: أبقيت لهم نصف مالي. فلم ينكر عليه، ولم يقل له: أنفقه كله فلا يجوز لك أن تبقيه. وجاء أبو بكر بجميع ماله، فقال له ﷺ: مَا أَبْقَيْتَ لَهُم؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله[(598)].
واستدل العلماء بهذا الحديث على أنه يجوز للإنسان أن ينفق جميع ماله إذا كان له كسب يومي؛ لأن أبا بكر يستطيع التكسب يوميًّا بما يكفيه وأهله، وأما من لا كسب له فلا يتصدق بماله كله؛ ولهذا لما قال كعب بن مالك : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله؛ قال له النبي ﷺ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ [(599)]، ولم يأمره أن ينفقه كله.
وعثمان جهز جيش العسرة في ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، واشترى بئر رومة، وبقي عنده مال، ولم ينكر عليه النبي ﷺ، ولم يأمره ألا يبقي شيئا من ماله إلا لحاجته فقط.
فدلت النصوص على أن إخراج الزكاة يطهر الأموال.
والخطأ جائز أن يقع من الصحابي؛ فهذا ابن عمر رضي الله عنهما أخطأ وهو راوي حديث: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ [(600)] فهذا أمر عام، ومع ذلك اجتهد فكان يأخذ من لحيته إذا حج أو اعتمر ما زاد على القبضة، ويتأول أن هذا من التفث ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحَجّ: 29] وأن التحلل يكون بالأخذ من الرأس واللحية! وصار بعض الناس اليوم يحتجون بفعل ابن عمر ، وهو مخالف لعموم الحديث الذي رواه بنفسه.
وكذلك أبو هريرة روى حديث ولوغ الكلب: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَار [(601)] ومع هذا اجتهد فكان يفتي بأنه يغسل ثلاث مرات فأخطأ.
فالحجة كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ، والقاعدة أن الكتاب والسنة حاكمان على كل أحد، على الصحابة وغيرهم، فالله تعالى يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النِّسَاء: 59]، وقال سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشّورى: 10] ولم يقل: ردوه إلى رأي فلان أو فلان.
فإذا كان الخطأ يقع من الصحابة فغيرهم من أهل العلم من باب أولى؛ ولهذا كان من الأئمة من يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وآخر يقول: إذا قلت قولاً وقولي يخالف الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط وخذوا بالحديث.
وكان الإمام أحمد رحمه الله يكره أن تكتب أقواله وفتاويه، ويقول: اكتبوا النصوص لا تأخذوا بأقوالي، كما نقل ذلك عنه ابن القيم رحمه الله، ثم قال ـ أي: ابن القيم: «فعلم الله حسن نيته، فجمعت فتاويه حتى جاءت كذا وكذا حمل بعير»[(602)].
فالمقصود: أن رأي أبي ذر هنا خطأ؛ لأنه تمسك بالرأي الأول وهو منسوخ، وأجمع الصحابة على خلافه، ولا ينقص الخطأ من مقامه ولا مكانته .
المتن:
باب إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي حَقِّهِ
1409 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قال: حدثني قَيْسٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا.
الشرح:
قوله: «بَابُ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي حَقِّهِ» هذه الترجمة فيها: الحث على إنفاق المال في حقه، وقصد بالحق هنا: وجوهه المشروعة، فالنصوص دلت على أنه يستحب أن يُنفَق المال في الوجوه المشروعة؛ قال الله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البَقَرَة: 274] وقد ذكر المصنف رحمه الله الحديث الدال على الترغيب في إنفاق المال في وجوهه المشروعة، فهذا يبين أن أحاديث الوعيد محمولة على من لا يؤدي الزكاة.
1409 قوله: لاَ حَسَدَ المراد به: الغبطة، فالحسد نوعان:
النوع الأول: حسد مذموم، وهو: تمني زوال النعمة عن الغير، وهذا حرام، وهذا الذي فيه الحديث: الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ [(603)]، وقال الله : وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفَلَق: 5] فإن سعى إلى زوالها بقول أو فعل كان ذلك ظلمًا مع الحسد.
النوع الثاني: ألا تتمنى زوال النعمة عن أخيك، ولكن تتمنى أن يكون لك مثله، فهذا الحسد يسمى الغبطة، وهو لا بأس به.
قوله: إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ يعني: إلا في خصلتين.
قوله: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ هذا موضع الشاهد من الحديث.
قوله: وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا الحكمة تطلق على معان، والمراد بها هنا العلم النافع، ورأس ذلك وأساسه القرآن العظيم؛ ولهذا جاء في الرواية الأخرى: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ [(604)].
والمقصود من الترجمة أن إنفاق المال في الزكاة واجب، وما زاد عن الزكاة فهو مرغب فيه.
المتن:
باب الرِّيَاءِ فِي الصَّدَقَةِ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البَقَرَة: 264]
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما صَلْدًا: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَابِلٌ: مَطَرٌ شَدِيدٌ وَالطَّلُّ النَّدَى.
الشرح:
قوله: «بَابُ الرِّيَاءِ فِي الصَّدَقَةِ» هذه الترجمة والآيات بعدها قصد بها بيان حكم الرياء في الصدقة، وأنه يبطلها؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البَقَرَة: 264].
قوله: «لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البَقَرَة: 264]» دلت الآية على أن الصدقة تبطل بواحد من أمرين: بالمن والأذى، أو بالرياء، فالمن أن يعدد الغني ما تصدق به على الفقير، فكلما لقيه يقول له: أنا أعطيتك وأعطيتك، فيؤذيه ويجرح شعوره، وكذلك الرياء يبطلها؛ لأن المرائي مشرك لم يقصد وجه الله، قال الله تعالى في الحديث القدسي: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ [(605)].
والمؤلف رحمه الله استدل على أن الرياء يبطل الصدقة بالقياس على المن والأذى، فكما أن المن يبطل الصدقة فالرياء كذلك يبطل الصدقة.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما صَلْدًا: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ» لما ذكر المؤلف رحمه الله الآية الكريمة وفيها كلمات قد يشكل معناها رأى أن يشرحها.
ذكر أبو عبيدة في كتاب «المجاز» تفسير قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البَقَرَة: 264] أن هذا مثل لمن يبطل صدقاته بالمن والأذى، فمثله كمثل صفوان ـ والصفوان: هو الحجر الأملس ـ عليه تراب، فأصابه وابل ـ وهو المطر الشديد ـ فهل يبقى على هذا الحجر شيء؟!
قوله: «وَالطَّلُّ النَّدَى» ضرب الله مثلاً آخر للذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله فقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةِ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البَقَرَة: 265].
والمعنى: أن الذي ينفق ماله ابتغاء مرضات الله كمثل بستان بأرض مرتفعة، فأصابها مطر شديد، فآتت ثمرًا مضاعفًا، فإن لم يأت المطر فأقل شيء يصيبها الندى، فهي دائمًا تكون فيها خير، إن أتاها مطر أخرجت ضعف الثمر، وإن لم يأتها مطر فيكفيها الطل، فكذلك الذي ينفق ماله ابتغاء مرضات الله عمله صالح مقبول.
المتن:
باب لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ وَلاَ يَقْبَلُ إِلاَّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ
لِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البَقَرَة: 276- 277].
الشرح:
قوله: «بَابٌ لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ وَلاَ يَقْبَلُ إِلاَّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ» هذه الترجمة فيها بيان أن الصدقة من غلول لا تقبل؛ لأن الغلول سرقة من الغنيمة، وهي خيانة وكسب خبيث لا يقبله الله.
والمؤلف رحمه الله لم يذكر الحديث الذي رواه الإمام مسلم: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ [(606)]؛ لأنه ليس على شرطه، واكتفى بالإشارة إليه في الترجمة.
والغلول من كبائر الذنوب، ومن ذلك أن عبدًا للنبي ﷺ قد جاءه سهم فأصابه في بعض المغازي فقتل فقال ناس: هنيئًا له الجنة فقال النبي ﷺ: كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا [(607)] فهذه قطعة قماش أخذها قبل أن تقسم الغنائم تشتعل عليه نارًا.
ومثله أيضًا: الأخذ من بيت المال بغير حق، أو يأخذ من صدقات يجمعها ثم يسرق منها، أو من الأوقاف، كل هذا يعتبر من الخيانة، ويعتبر غلولاً.
فإذا غل أموالاً وخان ثم تصدق منها فإن الله لا يقبل صدقته؛ لأنها من كسب خبيث والله طيب لا يقبل إلا طيبًا.
قوله: «لِقَوْلِهِ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ فمعناه أنه يضاعفها وينميها.
المتن:
1410 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ.
تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ عَنْ ابْنِ دِينَارٍ.
وَقَالَ وَرْقَاءُ: عَنْ ابْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَسُهَيْلٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
قوله: «إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البَقَرَة: 277] أي: وعدهم الله تعالى بأجر وثواب عظيم وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ في المستقبل، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من أموال وأولاد؛ لإيمانهم، وعمل الصالحات، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
1410 قوله: بِعَدْلِ تَمْرَةٍ يقال عَدل: بفتح أوله، يعني: قيمتها، ويقال عِدل بالكسر أي: مثلها.
قوله: وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ هذه جملة معترضة؛ لبيان أن الكسب الخبيث لا يقبل.
قوله: وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ فيه: إثبات اليمين لله تعالى، وأما الحافظ ابن حجر رحمه الله فقد نقل عن بعضهم أنهم أنكروا اليمين، وقالوا: إن هذه جارحة، والجارحة لا تليق بالله. وهذا قول باطل على طريقة أهل البدع، وفي الحديث: الآخر: فإن الله لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى القبض [(608)] وفي اللفظ الآخر: وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ [(609)].
قال بعض العلماء: إن كلتا يديه يمين، ولا يقال: إن له يمين وشمال. وقولهم فيه نظر؛ للحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وفيه: إثبات الشمال، لكن بعض أهل العلم طعن في هذه اللفظة في الحديث، وقال: تفرد بها بعض الرواة، وقال في الحديث الآخر: وَبِيَدِهِ الأُخْرَى، والأقرب إثبات اليمين والشمال لله تعالى؛ لأن إثبات اليمين يقابلها الشمال، وأما قول النبي ﷺ: وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ يعني: كلتا يديه يمين في الشرف، والفضل، والبركة، وعدم النقص؛ بخلاف المخلوق، فالشمال عنده صفة نقص وضعف. وجاء في الحديث: يطوي الله السموات بيمينه ويطوي الأرضين بشماله [(610)] وكما في الآية: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزُّمَر: 67].
وفيه: أن الله تعالى يربي الصدقة للمسلم بشرط أن يكون كسبه طيبًا.
قوله: فَلُوَّهُ هو ولد الفرس، وفي الحديث: الآخر في صحيح مسلم: كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ [(611)] والفصيل: ولد الناقة.
المتن:
باب الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ
1411 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا يَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَْمْسِ لَقَبِلْتُهَا فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ حَاجَةَ لِي بِهَا.
1412 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ: الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ لاَ أَرَبَ لِي.
الشرح:
قوله: «بَابُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الرَّدِّ» هذه الترجمة للحث على المسارعة في إخراج الصدقة وعدم التسويف قبل أن يأتي وقت لا يستطيع الإنسان أن يتصدق ولا يجد من يقبل صدقته.
1411 قوله: تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ... الحديث، وفي «الصحيحين»: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرَّجُلُ فِيهِ، بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ، ثُمَّ لاَ يَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ [(612)] فإذا كانت الصدقة من الذهب يطوف بها ثم لا يجد أحدًا يقبلها منه فغير الذهب من باب أولى.
وهذا إنما يكون في آخر الزمان، كما جاءت الأحاديث تبين أن حدوث ذلك يكون بعد نزول عيسى ، فأخرج مسلم حديثًا طويلاً عن النواس بن سمعان ذكر فيه النبي ﷺ خروج الدجال ونزول عيسى ثم خروج يأجوج ومأجوج وموتهم، ثم قال ﷺ بعد ذلك: ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ [(613)] فهذا يقع في أيام عيسى وأيام المهدي فتكثر الأموال وتفيض، فإذا كان ذلك كذلك فلا يقبل الصدقة أحد، وقد اشتغل الناس بالآخرة بسبب ظهور أشراط الساعة الكبرى.
وفي الحديث: الحث على الصدقة، والمسارعة في إخراجها قبل أن يأتي زمان لا يجد من يقبلها منه.
وإذا لم يجد المتصدق من يقبل منه صدقته فإنه يثاب على نيته، ويثاب على طوافه ومشيه للبحث عمن يقبل صدقته، لكن لا يستوي مع من نوى ومشى وبحث عمن يقبل صدقته ثم وجد من يقبلها، فهذا أفضل؛ لأنه حصل له أمر زائد وهو أخذ ماله وقبول صدقته، وكل مثاب إن شاء الله.
1412 قوله: حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ يعني: حتى يحزن ويهتم مَنْ يأخذ الصدقة منه، ففيه: الحث على الصدقة والمسارعة وعدم التسويف.
المتن:
الشرح:
1413 قوله: خَفِيرٍ يعني: حافظ أو حارس، وكانت العرب إذا خرجت بِعِيرٍ لها وأرادت أن تمر بقبيلة أخذت أحد أفراد القبيلة يكون خفيرًا لها، فإذا رأته قبيلته تركتهم، وكان هذا في هذه البلاد إلى عهد قريب قبيل حكم الملك عبد العزيز، كان الناس لا يستطيعون الذهاب للحج إلا بخفير بسبب قطاع الطريق، ثم بعد ذلك أمن الله السبل واجتمعت الكلمة على الولاة من حكام آل سعود.
قوله: الْعَيْلَةُ يعني: الفقر.
قوله: فَإِنَّ السَّاعَةَ لاَ تَقُومُ حَتَّى يَطُوفَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ لاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ؛ لكثرة المال.
قوله: ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلاَ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ استدل به بعض العلماء على رؤية الكفار لله في عرصات القيامة بدون حجاب، وقالوا: إن الحجب يكون بعد ذلك، فإنهم في أول الأمر يرون الله ولا ينتفعون بهذه الرؤية، بل تكون الرؤية عذابًا لهم كالسارق الذي يرى الحاكم الذي سيقطع يده أو يسجنه.
وقيل: إن هذا الخطاب خاص بالمؤمنين.
وقيل: إن الكفار يخاطبهم الله ولا يرونه؛ لأن الله يقول: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطفّفِين: 15].
قوله: تَرْجُمَانٌ هو: المعبر الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة.
والمعنى: إن الله تعالى يكلم كل أحد بدون حجاب ولا واسطة، فيقرره بنعمه عليه فلا ينكر شيئًا.
قوله: فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ وفي لفظ: فَيَنْظُرُ أَمَامَهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ [(614)] وورد في بعض الروايات: فَلاَ يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ [(615)] فيجمع بينهما بأنه يرى ما قدم من المال ويرى ما قدم من العمل جميعًا.
قوله: فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمْ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ شق التمرة أي: نصفها. وفيه: أن الصدقة حجاب من النار، فلا يحقرن الإنسان شيئًا من الصدقة ولو شق تمرة. وفي «صحيح مسلم» عن عائشة أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله ﷺ فقال: إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أو أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ [(616)]. وسيأتي عند المصنف رحمه الله بنحوه[(617)].
والتمرة التي يحتقر البعض أن يتصدق بها كانت لها أهمية شديدة في سرية الخَبَط «سِيف البحر»، عندما أَمَّر النبي ﷺ أبا عبيدة بن الجراح على سرية وأعطاه جرابًا من تمر، لم يجد غيره، وكان الجيش ثلاثمائة، وكان أمير الجيش يوزع عليهم كل يوم تمرة واحدة من الصباح إلى الليل، قيل لراوي الحديث: فما تغني عنك تمرة؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبي ونشرب عليها الماء وتكفينا إلى الليل، وقد وجدنا فقدها لما انتهت[(618)]، أي: لما انتهى ما في الجراب عرفنا أهمية التمرة.
فكذلك الصدقة القليلة ربما كانت حاجة الفقير إليها كحاجة هؤلاء الصحابة .
قوله: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ أي: إذا جاءه الفقير فلم يجد شيئًا يرده بكلمة طيبة فتقوم مقام الصدقة، فتكون الكلمة الطيبة وقتئذ حجابًا من النار.
المتن:
الشرح:
1414 قوله: بِالصَّدَقَةِ مِنْ الذَّهَبِ إذا كانت الصدقة من الذهب لا تقبل فغير الذهب من باب أولى، وعدم قبول الصدقة يدل على الورع؛ لأنهم يتورعون من أخذ ما لا يستحقون وهم أغنياء ليسوا بحاجة إليه.
قوله: وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ هذا يكون بسبب الحروب التي تقضي على الرجال، ففي آخر الزمان تكثر الحروب والملاحم، وهي من أشراط الساعة، فعند ظهور المهدي وخروج الدجال تكون حروب طاحنة بين المسلمين وبين النصارى ينتصر فيها المسلمون، وقد ساق الإمام مسلم رحمه الله أحاديث كثيرة في هذا المعنى، فمنها: عن أبي هريرة ، أن رسول الله ﷺ قال: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا، قَالَتِ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا، وَاللهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ، أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ، لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ، قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ، إِذْ صَاحَ فِيهِمِ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ، يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ، إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﷺ، فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللهُ بِيَدِهِ، فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ [(619)].
فهناك حروب طاحنة بين المسلمين والنصارى في وقت ظهور المهدي وخروج الدجال، والأمر ليس ببعيد، والله أعلم. وهذه الحروب تقضي على الرجال، حتى لا يبقى من القبيلة إلا رجل واحد فيتبعه أربعون امرأة يلذن بهذا الرجل، وينتمين إليه، وينتسبن إليه، ويحتمين به؛ حتى لا يعتدي عليهن أحد، ويقوم بحوائجهن، وذلك من كثرة النساء وقلة الرجال.
المتن:
باب اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالْقَلِيلِ مِنْ الصَّدَقَةِ
مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [البَقَرَة: 265- 266].
1415 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ فَقَالُوا: مُرَائِي وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا فَنَزَلَتْ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ [التّوبَة: 79] الآْيَةَ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالْقَلِيلِ مِنْ الصَّدَقَة» هذه الترجمة معقودة للحث على الصدقة ولو بالشيء القليل، وألا يحتقر الإنسان يسير الصدقة، ولو كانت مثقال ذرة، قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزّلزَلة: 7] فالمهم للإنسان أن يتصدق؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ [(620)]. وفي الحديث: الآخر: سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ [(621)] وذلك أن رجلاً عنده درهمان تصدق بواحد وأبقى الآخر لأهله، ورجل آخر تصدق بألف درهم، لكن عنده من المال ملايين، فصار الأول الذي تصدق بدرهم أفضل من الذي تصدق بألف؛ لأن الذي تصدق بدرهم لا يوجد عنده إلا درهمان، فيكون قد تصدق بنصف ماله، وأما الآخر تصدق بألف وعنده ملايين، فيكون تصدق بالقليل، فبهذا سبق درهم ألف درهم.
وقول المصنف رحمه الله: «بَابٌ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالْقَلِيلِ مِنْ الصَّدَقَة» عطف القليل على شق التمرة، فهذا من باب عطف العام على الخاص.
قوله: « مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [البَقَرَة: 265- 266]» أي: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ مع الإخلاص، وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، مثلهم كَمَثَلِ جَنَّةٍ أي: البستان الذي فوق الربوة يأتيه المطر فيخرج ضعفين من الثمرات، فإن تأخر المطر أصابه الطل والندى فاكتفى به، وكذلك الذي ينفق ماله ابتغاء مرضات الله أجره مستمر وثوابه لا ينقطع.
1415 قوله: «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ...» الحديث، رواه الإمام مسلم في «صحيحه» بلفظ: «لما أمرنا بالصدقة كنا نحامل، قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاع، قال: وجاء إنسان بشيء أكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء، « الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ» [(622)].
قوله: «كُنَّا نُحَامِلُ» يعني: نحمل للناس بالأجرة.
وهذا فيه: حرص الصحابة على إخراج الصدقة.
وفيه: مشروعية عمل الحمال والأجرة عليه، وأنه عمل لا عيب فيه.
وفيه: أن لمز المؤمنين من صفات المنافقين.