شعار الموقع

شرح كتاب الزكاة من صحيح البخاري (24-3) تابع بَابٌ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَالقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ - إلى باب الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ

00:00
00:00
تحميل
170

المتن:

1416 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أَحَدُنَا إِلَى السُّوقِ فَتَحَامَلَ فَيُصِيبُ الْمُدَّ وَإِنَّ لِبَعْضِهِمْ الْيَوْمَ لَمِائَةَ أَلْفٍ.

الشرح:

1416 قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ...» يعني: كان عملهم هذا من الحمالة في أول الأمر؛ لأجل سرعة استجابتهم لأمر الرسول ﷺ بالتصدق، ثم بعد ذلك وسع الله عليهم فكانوا أكثر وأعظم صدقة، بعكس كثير من أهل زماننا فإن الله تعالى بسط لهم في الأموال، والأرزاق، ومع ذلك يبخلون بالصدقات.

المتن:

1417 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ.

الشرح:

1417 قوله: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فيه: دليل على أن الصدقة حجاب ووقاية من النار، ولو كانت نصف تمرة، والفائدة للفقير من نصف التمرة أنه يجتمع عنده من أنصاف التمر ما يكون له أهمية، والمهم أن يعود الإنسان نفسه ويربيها على البذل والعطاء والصدقة ولو بالقليل، أما كونه لا يتصدق فهذا الذي يضره.

وإذا التبس على المتصدق أن السائل فقير أم لا، وغلب على الظن أنه فقير، فلا بأس أن يتصدق عليه، فإن بان أنه ليس بفقير فأجره كامل غير منقوص كما سيأتي في قصة الرجل الذي تصدق على غني فتحدث الناس بذلك[(623)]، وهذا أيضا ينطبق على الزكاة ـ على الصحيح ـ؛ لأنه أدى ما عليه من الزكاة وحصل الأجر إن شاء الله تعالى.

المتن:

1418 حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قال: حدثني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ.

الشرح:

قوله: مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ، وفي رواية: مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ مِن هَذَا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ [(625)] فلابد يعني: الإحسان في التربية، والأولاد كلهم ابتلاء، سواء كانوا ذكورًا أم إناثًا، لكن الذكور قد يستقلون عن أبيهم إذا كبروا بخلاف الإناث، فإنهن يحتجن إلى رعاية حتى بعد الكبر.

1418 قوله: «فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ» فيه: زهد النبي ﷺ وأهله، فإن عائشة ما وجدت في بيتها إلا تمرة، وربما جاءت عليهم أوقات لم يجدوا فيها حتى التمرة.

وفي قصة أخرى أن امرأة جاءت النبي ﷺ معها ابنتان تسأل، فوجدت عائشة في البيت ثلاث تمرات، فأعطتها هذه المرأة، فأعطت المرأة كل واحدة من ابنتيها تمرة وأبقت لنفسها تمرة، لكن البنتين أسرعتا فأكلت كل واحدة منهما التمرة قبل أن تأكل الأم، فلما أرادت الأم أن تأكل التمرة الثالثة، ورفعتها إلى فيها، نظرت إليها ابنتاها يريدانها، فلما رأت أنهما ينظران إليها عدلت عن أكلها، وشقتها بين ابنتيها، وأعطت كل واحدة نصفها، وعائشة تنظر، فلما خرجت وجاء النبي ﷺ أخبرته عائشة بالذي فعلت، فقال: إن الله أوجب لها بها الجنة [(624)] يعني: بهذه الرحمة التي آثرت بها ابنتيها على نفسها.

المتن:

باب أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ وصَدَقَةُ الشَّحِيحِ الصَّحِيحِ

لِقَوْلِهِ: ُ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ

وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ.

1419 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ.

الشرح:

قوله: «أَفْضَلُ وصَدَقَةُ الشَّحِيحِ الصَّحِيحِ» هذه الترجمة معقودة لبيان فضل صدقة الشحيح الصحيح وهو الذي يشح بالمال؛ لكونه في وقت الصحة والعافية ويأمل أن تمتد به الحياة، ويخشى الفقر، ويأمل الغنى، فإذا أنفقه مع صحته وشحه فهذا هو الأفضل، بخلاف المريض الذي أشرف على الموت فإنه يهون عنده المال ويرخص؛ ولهذا قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنَافِقون: 10]. وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ [البَقَرَة: 254].

1419 قوله: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى أي: تتصدق وأنت قوي نشيط، و صَحِيحٌ يعني: ليس به علة ولا مرض، شَحِيحٌ يعني: يبخل بالمال عند صحته وقوته بخلاف المريض؛ فالمريض يرخص عنده المال، أما إذا كان صحيحًا وقويًّا ونشيطًا يكون المال محببًا للنفس، فإذا أنفق في هذه الحالة دل ذلك على قوة إيمانه.

وهذا أفضل الصدقة بالنسبة لحال الشخص أن يتصدق وهو صحيح شحيح، أما بالنسبة للمال فخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وبالنسبة للمتصدق عليه فالصدقة على القريب المحتاج أفضل، وبالنسبة لكيفية الإنفاق فصدقة السر أفضل من صدقة العلانية.

قوله: وَلاَ تُمْهِلُ يعني: لا تؤخر.

قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ يعني: الروح، فإذا أشرف الإنسان على الموت، فعندئذ يكون المال رخيصًا، لكن في وقت الصحة تجد المال عزيزًا وغاليًا، فإذا أنفق في هذه الحالة ـ أي وقت الصحة والقوة والنشاط ـ فإن هذا هو الأفضل.

المتن:

باب

1420 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ قُلْنَ: لِلنَّبِيِّ ﷺ أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا؟ قَالَ: أَطْوَلُكُنَّ يَدًا، فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَدًا فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ.

الشرح:

1420 هذا الحديث حصل فيه وهم من بعض الرواة، والصواب في الرواية: «وكانت زينب أطولهن يدًا» وليست سودة، نبه على هذا الشارح رحمه الله، ويؤيده الواقع؛ فإن زينب رضي الله عنها أسرعهن لحوقًا بالنبي ﷺ، أما سودة رضي الله عنها تأخرت وفاتها إلى خلافة معاوية ؛ ولهذا قال ابن بطال: «هذا الحديث سقط منه ذكر زينب باتفاق أهل السير» وجاء على الصواب في «صحيح مسلم» عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: «فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق»[(626)].

المتن:

باب صَدَقَةِ الْعَلاَنِيَةِ

قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البَقَرَة: 274].

صَدَقَةِ السِّرِّ

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 271] الآية.

الشرح:

هاتان الترجمتان:

أولاهما: لبيان صدقة العلانية.

الثانية: لبيان صدقة السر.

والأصل أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية، ولكن قد تكون صدقة العلانية أفضل إذا ترتب عليها مصلحة، كأن يُقتدى به في ذلك، كما في «صحيح مسلم» في قصة الأعراب الذين وفدوا على النبي ﷺ مجتابي النمار، ثيابهم مقطعة مخرقة، فحث النبي ﷺ على الصدقة، وقال: تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حتى قال: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس، يقول الراوي: حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله ﷺ يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله ﷺ: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ [(627)]. فهذا الرجل تصدق علانية، فاقتدى به الناس فصارت صدقة العلانية أفضل في هذه الحالة، ولابد في هذه الحالة من الإخلاص، وأما إذا لم يكن يترتب على صدقة العلانية مصلحة فصدقة السر أفضل؛ لقول الله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البَقَرَة: 274] فيها بيان أن هؤلاء المؤمنين ينفقون أموالهم أحيانًا سرًّا وأحيانًا علانية على حسب المصلحة لكنه ابتدأ بصدقة السر، وقال في الآية الأخرى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البَقَرَة: 271] فتدل الآية على أن الإخفاء هو الخير، وهو الأفضل.

قوله: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ، وفي لفظ: مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ [(628)]. استدل به المصنف رحمه الله على أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية، وهذا هو الأصل، إلا إذا ترتب على صدقة العلانية مصلحة، كأن يُقتدى به ـ كما في قصة الرجل الذي تصدق بصرة عجزت كفه عنها واقتدى به الناس ـ فتكون صدقة العلانية في هذه الحالة أفضل من صدقة السر.

المتن:

باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ

1421 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ.

الشرح:

1421 في الحديث: بيان أن من تصدق وهو يتحرى أن يقع في يد محتاج أو فقير، وأخلص في صدقته ثم أخطأ في اجتهاده فوقعت صدقته في يد غني فهي صدقة مقبولة، وذلك الحكم بالقبول يشمل صدقة التطوع أو الصدقة المفروضة من الزكاة فهي تجزئ، خلافًا للنووي رحمه الله، القائل: إنها لا تجزئ[(631)].

قوله: فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أي: أتي في المنام، كما في رواية الطبراني التي ذكرها الشارح: فأتي في منامه [(632)].

قوله: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ... وفي رواية موسى بن عقبة: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ [(633)] وفي رواية الطبراني: إن الله قد قبل صدقتك [(634)].

ويؤخذ من هذا الحديث فائدة، وهي: جواز الصدقة على من لا يستحقها لعله أن يعتبر ويتعظ، فالغني لعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله، والزانية لعلها أن تستعف عن زناها، والسارق لعله أن يستعف عن سرقته.

وفيه: أن نية المتصدق إذا كانت صالحة تقبل صدقته ولو لم تقع موقعها.

المتن:

باب إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ

1422 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ أَنَّ مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ حَدَّثَهُ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها بيان أن من تصدق على ابنه وهو لا يشعر فله أجر المتصدق. وعلاقة هذه الترجمة بالترجمة السابقة أنه قال في الترجمة السابقة: «إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ» ، وقال هنا: «بَابٌ إِذَا تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ» ، فالأولى: عبر عنها بنفي العلم؛ لأن المتصدق باشر التصدق بنفسه. وأما الثانية: عبر بنفي الشعور؛ لأن المتصدق وَكَلَ الصدقة إلى شخص آخر ينفقها فوضعها في يد ابنه، فناسب أن ينفي الشعور عن صاحب الصدقة.

1422 في هذه القصة أن معن بن يزيد خاصم أباه، وذلك أن أباه يزيد وضع دراهم عند رجل في المسجد، وعهد إليه أن يتصدق بها، فجاء ابنه فأخذها، فأتى بها إلى أبيه، وقال: هذه الدراهم التي وضعتها في المسجد، «فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ» يعني: لم أقصد أن أعطيك إياها، وإنما قصدت فقيرًا غيرك، فتخاصما إلى النبي ﷺ فأبقى الصدقة لمعن وقال: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ فإن يزيد نوى بالصدقة أن تعطى للفقراء، فحصل بنيته على الثواب وقبلت صدقته، وأما ابنه معن فأخذ الصدقة، وصارت في يده، فهي له.

وهذا والله أعلم في غير الزكاة؛ لأن الزكاة لا يجوز دفعها إلى أصله، ولا إلى فرعه؛ لكونه يجب عليه أن ينفق عليه كما دلت على ذلك النصوص.

قوله: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي وَخَطَبَ عَلَيَّ فَأَنْكَحَنِي» فيه: دليل على جواز أن يتحدث الإنسان بنعم الله عليه، ويذكر المواهب الربانية التي أعطاه الله إياها.

قوله: «وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ» فيه: جواز التحاكم بين الأب والابن، وأن ذلك بمجرده لا يكون عقوقًا، لكن هذا إذا لم يكن فيه إيذاء لأبيه، والحاكم يفصل بينهما فيما اختلفا من وجهات النظر.

قوله: «كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا» فيه: دليل على العمل بالمطلقات؛ لأن يزيد أعطى هذا الرجل في المسجد، وقال له: تصدق به، فأطلق ولم يقيده بفقير أو مسكين أو ما أشبه ذلك، فعمل هذا الرجل بالأمر المطلق، فأعطاها معن بن يزيد.

قوله: «وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ» فيه: جواز الاستحلاف على الصدقة.

قوله: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ فيه: أن المتصدق له أجر النية، سواء صادف المستحق أم لم يصادف.

قوله: وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ فيه: أن الأب لا رجوع له في الصدقة على ولده؛ بخلاف الهبة، فله أن يرجع في هبته له.

المتن:

باب الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ

1423 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قال: حدثني خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ إِمَامٌ عَدْلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.

الشرح:

قوله: «بَابُ الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ» هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان أن الصدقة تعطى باليد اليمنى.

وقد وقع هنا قلب من بعض الرواة كما في «صحيح مسلم»، فقال: حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ [(647)] فجعل اليد التي تنفق هي الشمال، والتي لا تعلم هي اليمين؛ فهذا يسمى حديث مقلوب.

وفي هذا الحديث: بيان فضل هؤلاء السبعة المذكورين, المراد: سبعة أصناف من الناس.

قوله: يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ اختلف العلماء في هذا الظل على ثلاثة أقوال :

أحدها: أنه ظل العرش، وهذا قول أكثر العلماء.

الثاني: أنه ظل الله فيكون صفة لله تعالى، لأن الله أضافه إليه، والأصل فيما يضاف إلى الله أن يكون صفة لله تعالى.

الثالث: أنه ظل يخلقه الله يوم القيامة.

والراجح : أنه ظل العرش، لما جاء في رواية الحديث: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ وقد رواها سعيد بن منصور كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله[(636)]، ورواها محمد بن عثمان بن أبي شيبة في العرش وما روي فيه[(637)]، والطحاوي في شرح مشكل الآثار[(638)]، والبيهقي في الأوسط[(639)]، والأسماء والصفات[(640)]، وتمام في فوائده[(641)]، وابن شاذان في مشيخته الصغرى[(642)]، وأبو نعيم في فضيلة العادلين[(643)]، وابن عبدالبر في التمهيد[(644)]، بأسانيد متعددة مرفوعة من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وموقوفة على سلمان، فهذه متابعات يقوي بعضها بعضا، هذا مع قول الذهبي رحمه الله: وقد بلغ في ظل العرش أحاديث تبلغ التواتر[(645)]، والله أعلم.

1423 قوله: سَبْعَةٌ المراد: سبعة أصناف من الناس، وهي تشمل الرجال والنساء ما عدا الإمام العادل، فلا يكون إلا من الرجال؛ لحديث: لَا يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً [(635)].

قوله: إِمَامٌ عَدْلٌ بدأ بالإمام العادل؛ لعموم نفعه، والمراد به ولي الأمر، وإمام المسلمين، والملك، ورئيس الدولة. وللإمام العادل فضل عظيم؛ لأن الله تعالى يؤمن به السبل، ويقيم به الحدود، ويفصل بين المنازعات، وينصف به المظلوم من الظالم، ويقيم الله به العدل، ويحصل بوجود إمام عادل مصالح عظيمة لا تعد ولا تحصى، وقد علق الله بولاة الأمر أمورًا ومصالح كثيرة؛ فلذلك أمر الله تعالى الناس أن يسمعوا ويطيعوا لولاة أمورهم، ولو كان الإمام عاصيًا أو فاسقًا ما لم ير كفرًا بواحًا واضحًا لا لبس فيه.

ولا يجوز الخروج على ولي الأمر ولو عصى وفسق؛ لأن المفسدة التي تنشأ عن الخروج عليه أعظم ضررًا من مفسدة المنكر الذي يفعله، والقاعدة في المصالح والمفاسد إنما جاءت في درء المفاسد وتقليلها، وجلب المصالح وتكثيرها؛ فمفسدة الخروج على ولي الأمر يترتب عليها فتن عظيمة: إراقة الدماء، واختلال الأمن، وتربص الأعداء بهم الدوائر، واختلال أحوال الناس من الاقتصاد، والزراعة، والتجارة؛ ويموج الناس بعضهم في بعض، وتتدخل الأعداء والدول الكافرة، إلى غير ذلك من المفاسد؛ وتأتي فتن كثيرة لا أول لها ولا آخر، فتقضي على الأخضر واليابس؛ فهذه مفاسد عظيمة لا ترتكب في مقابلة منكر يفعله ولي الأمر، أو معصية، أو كبيرة، كظلم بعض الناس، أو قتل بعض الناس، أو أخذ بعض حقوق الناس، أو عدم توزيع المال توزيعًا شرعيًّا؛ فهذه مفاسد، لكنها مفاسد قليلة بالنسبة إلى مفسدة الخروج عليه. والنصيحة تبذل من قبل أهل الحل والعقد والعلماء، فإن قبلها فالحمد لله، وإن لم يقبلها فقد أدى الناس ما عليهم، وليس لهم الخروج إلا إذا كفر كفرًا بواحًا واضحًا لا لبس فيه، ووجد البديل المسلم، وكان الناس عندهم استطاعة، كما في الحديث: إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ [(646)]. وكذلك لابد من الاستطاعة والقدرة، وإلا فلا.

فالإمام العادل له فضل عظيم؛ ولهذا بدأ به؛ لأن الله يصلح به العباد والبلاد؛ ولهذا لما تولى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله أصلح إصلاحات عظيمة لا حصر لها ولا نهاية على الرغم من أن المدة قليلة لم تتجاوز السنتين، حتى إنه ضُم إلى الخلفاء الراشدين الأربعة .

فالإمام العادل هو أول من يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

قوله: وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ ويشمل المرأة الشابة إذا نشأت في عبادة الله.

قوله: وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ ليس معنى هذا ألا يخرج من المسجد، ويعطل الواجبات والمصالح، ولا يطلب الرزق له ولأهله، ولكن معناه: أنه يهتم ويعتني ويحافظ على إقامة الصلوات في المسجد، مقبل بقلبه وجوارحه على ذلك، كما قيل في قول الله : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ۝ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النُّور: 36-37] كانوا يبيعون ويشترون فإذا سمع أحدهم قول المؤذن: حي على الصلاة، وميزانه في يده خفض ميزانه، وقام إلى الصلاة، وإذا جلس في بعض الأحيان ينتظر الصلاة فهذا نور على نور.

قوله: وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ أي: تحابا من أجل الله ـ ولو كانا بعيدين، ولو كان أحدهما عربيًّا والآخر أعجميًّا ـ لا من أجل المصالح الدنيوية، فليس بينهما نسب ولا تجارة ولا صناعة ولا شراء ولا شركة، إنما أحب كل منهما الآخر، لكونه مستقيمًا على طاعة الله، وكذلك المرأتان إذا تحابتا في الله فلهما هذا الفضل.

قوله: وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، أي: دعته إلى فاحشة الزنا، بعكس الفاسق، فإنه هو الذي يطلب المرأة للفاحشة، أما الرجل الذي يخاف الله إذا هيئت له الفاحشة، وسُهلت له، وتوافرت عنده جميع أسباب ارتكابها، فالمرأة هي التي تطلبه وتدعوه، وهي ذات جمال، وذات منصب من شرف وحسب ونسب، وعلى الرغم من توافر كل هذه الدواعي إلا أن إيمانه بالله قوي، ومحبته لله أكبر، وخوفه من غضب الله أعظم؛ لذلك كان جوابه: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ.

وقوله: وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ، هذا عام للرجال والنساء، فالمرأة إذا دعاها رجل ذو منصب وجمال فقالت: إني أخاف الله يكون لها هذا الفضل.

قوله: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وكذلك المرأة إذا تصدقت بصدقة فأخفتها حتى لا تعلم شمالها ما تنفق يمينها فلها الفضل نفسه؛ والمراد أن هذا المتصدق حصل منه مبالغة شديدة في إخفاء الصدقة؛ وهذا هو الشاهد من إيراد المصنف رحمه الله لهذا الحديث.

قوله: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ؛ لأن هذا بعيد عن الرياء، بخلاف إذا ذكر الله عند الناس ففاضت عيناه، فقد يكون هذا رياء، وقد لا يكون؛ أما من ذكر الله خاليًا فهو مظنة الإخلاص، وكذلك المرأة إذا ذكرت الله خالية ففاضت عيناها فلها هذا الأجر.

فينبغي على كل مسلم أن يحرص على أن يُحَصِّل شيئًا من تلك الصفات، أو يحصلها كلها، ليحصل هذا الأجر العظيم.

والشاهد من الحديث قوله: حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ففيه: أن الصدقة تكون باليمين وكذا الأخذ والإعطاء.

وقوله: لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، نسب العلم لليد؛ ومن المعلوم أن العلم يكون بالقلب، لكن المراد المبالغة في إخفائها.

المتن:

1424 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَني مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: تَصَدَّقُوا فَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَْمْسِ لقَبِلْتُهَا مِنْكَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا.

الشرح:

1424 تقدم شرح هذا الحديث، وأن حدوث ذلك سيكون في زمن عيسى إذا نزل في آخر الزمان وفي زمن المهدي؛ حيث يفيض المال، والله أعلم.

وفيه: الحث على المبادرة بالصدقة قبل أن يأتي اليوم الذي لا يجد الإنسان فيه من يقبل صدقته.

المتن:

باب مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ

وَقَالَ أَبُو مُوسَى: عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ.

1425 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لاَ يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا.

الشرح:

1425 هذا الحديث مفسر للترجمة؛ لأن كلًّا من الخازن، والخادم، والمرأة أمين لا يتصرف إلا بإذن المالك نصًّا أو عرفًا، إجمالاً أو تفصيلاً.

قوله: هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَينَ ضبطت بفتح القاف، ـ يعنى مثنى متصدق ـ، والمعنى: الخازن متصدق، وصاحب المال متصدق. وفي رواية: هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ بكسر القاف، يعني: جمع متصدق، والمعنى: هو واحد من المتصدقين الكثيرين.

وفي الحديث: سعة فضل الله وإحسانه إلى عباده.

وفيه: أن الله يأجر ويثيب ثلاثة في الصدقة الواحدة: الزوج، والزوجة، والخادم؛ فيثيب الزوج لأنه هو الذي كسب، ويثيب الزوجة لأنها هي التي تناول وتعطي للخادم، ويثيب الخادم لأنه هو الذي يناول المسكين. والمراد بالخازن: الذي وُكِل إليه حفظ المال والطعام واؤتمن عليه، سواء كان أجيرًا أو خادمًا، فله أجر إذا أدى ما أمر به بنفس سمحة راضية ولم يؤذ الفقير.

المتن:

باب لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى

«وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ، أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنْ الصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ».

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ «كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ » حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ «وَكَذَلِكَ آثَرَ الأَْنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ» فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ.

وَقَالَ: كعْبٌ  قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ ﷺ قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ.

الشرح:

قوله: «بَابٌ لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» يعني: لا يتصدق إلا الغني، أما الفقير الذي ليس عنده إلا ما يكفي أهله وأولاده فلا يتصدق، بل ينفق على نفسه وأولاده؛ لأن أولاده مقدمون، وتلزمه نفقتهم، فهم أولى الناس ببره، والصدقة عليهم مضاعفة في الأجر، ولا يتصدق على الأباعد إلا بعد أن يقضي حاجة الأقارب، فيتصدق أولا على نفسه، ثم على أولاده ويقوم بحوائجهم، ثم إذا فضل شيء تصدق به على الأباعد، ولا يجوز له أن يتصدق على الأباعد ويترك أولاده يتكففون الناس، وهذا معنى الترجمة؛ وهو لفظ حديث ذكره البخاري بعد هذا، قال رسول الله ﷺ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى.

قوله: «وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنْ الصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالْهِبَةِ» فالمصنف رحمه الله يبين أن الإنسان لا يتصدق، أو يعتق، أو يهب وهو محتاج، أو عليه دين، فقضاء الدين أحق، ثم بعد ذلك يتصدق.

قوله: «وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ» أي: فهو مردود عليه.

قوله: «لَيْسَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ» ،أي: إذا كان عليه دين فتصدق، ولم يؤد الدين، فإنه يتلف أموال الناس بالصدقة، والعتق، والهبة، بدلاً من أداء الدين؛ وليس له ذلك، بل يجب عليه أن يؤدي حقوق الناس أولاً، ثم بعد ذلك يتصدق، أو يهب، أو يعتق.

قوله: «وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ أسنده البخاري رحمه الله في موضع آخر: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ [(648)].

قوله: «إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالصَّبْرِ فَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ بِهِ، خَصَاصَةٌ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَكَذَلِكَ آثَرَ لأَْنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ» أي: من كان عنده صبر واحتساب، فله أن يتصدق بجميع ماله.

ومثال ذلك: فعل أبي بكر حين تصدق بماله كله، فلما حث النبي ﷺ على الصدقة جاء عمر بنصف ماله ووضعه عند النبي ﷺ، فقال: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قال: أبقيت لهم نصف مالي، وجاء أبو بكر ووضع ماله كله عند النبي ﷺ فقال له: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقال عمر : لا أسبقك بعد اليوم أبدًا[(649)].

فأبو بكر عنده قوة صبر، وأيضًا له كسب يومي فيستطيع أن يكسب كل يوم ما يكفيه لنفسه وأهله، فإذا كان الحال كذلك فلا بأس.

ومثال ذلك أيضًا: إيثار الأنصار إخوانهم المهاجرين ، فلما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة، وتركوا أهلهم وأولادهم آثرهم الأنصار وقاسموهم أموالهم، بل منهم من عرض على اخيه المهاجري أن يطلق إحدى زوجته ـ من يختارها المهاجري ـ فتعتد فيتزوجها.

قوله: «وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ» استدل به المؤلف رحمه الله على أن الإنسان ليس له أن ينفق ويتصدق ويترك ما عليه من الديون والواجبات؛ فإن هذا من إضاعة المال، وليس له أن يضيع أموال الناس بعلة الصدقة.

قوله: «وَقَالَ: كعْبٌ  قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ ﷺ» يعني: صدقة أتقرب بها لوجه الله، وصدقة إلى رسوله ليتصرف فيها كما يشاء، فقال النبي ﷺ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ فالنبي ﷺ لم يأذن لكعب أن يتصدق بجميع ماله، وفي هذا رد على أبي ذر الذي يرى أنه يجب على الإنسان أن ينفق ما زاد عن حاجته.

قوله: «قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ» أي: أبقى لنفسه سهمًا أصابه بخيبر، وهو قطعة أرض.

فذهب المؤلف رحمه الله إلى أن الإنسان إذا تصدق وهو محتاج وأهله محتاجون فإنه مردود عليه، وليس له ذلك، ويكون محجورًا عليه.

والصحيح أنه لا يحجر عليه إذا كان رشيدًا، ويستطيع أن يكتسب ليسدد الدين، أما إن كان سفيهًا، أو لا يستطيع أن يسدد الدين، فهذا الذي يحجر عليه حتى يؤدي أموال الناس، ولا يحجر عليه إلا بعد النظر، والتأمل، والتأكد من قبل المحكمة أنه لا يستطيع الوفاء بدينه، كما حجر النبي ﷺ على معاذ لما أفلس[(650)]، وطلب غرماؤه ديونهم، حجر عليه لمصلحة غرمائه.

وقوله: «وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ» ينبغي أن يقيد بأن هذا يكون ردًّا عليه بعد حجر الحاكم لا قبله كما يفيده إطلاق المصنف رحمه الله.

المتن:

1426 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَني سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَأبْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ.

الشرح:

1426 قوله: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى المراد بالغنى ما زاد عن حاجتك وحاجة أولادك، ومن تعول شرعاً.

قوله: وَأبْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ يعني: ابدأ بمن تلزمك نفقتهم، ويجمع بين هذا الحديث وبين حديث: أي: الصدقة أفضل؟ قال: جَهْدُ الْمُقِلِّ [(651)] ـ يعني: الذي ماله قليل ـ بأنه محمول على أنه تصدق بما زاد عن كفايته.

المتن:

1427 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّه.

1428 وَعَنْ وُهَيْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا.

الشرح:

1427، 1428 قوله: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وقع في رواية: قال حكيم بن حزام : سألت رسول الله ﷺ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثلاث مرات، ثم قال له النبي ﷺ ـ ناصحًا له ـ: يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، والْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ فانتفع حكيم بن حزام بهذه النصيحة فقال: «والذي بعثك بالحق لا أرزأ بعدك أحدًا حتى ألقى الله» يعني: لا أنقص أحدًا شيئًا من ماله، فلما توفي النبي ﷺ دعاه أبو بكر ليعطيه حقه من الفيء فرفض وامتنع، ثم لما توفي أبو بكر وولي عمر الخلافة دعاه ليعطيه حقه من بيت المال لم يأخذ منه شيئًا؛ عملاً بتلك النصيحة، فأشهد عليه عمر ، وقال: «يا أيها الناس أشهدكم على حكيم أعطيه نصيبه من الفيء الذي قسمه الله له فيأبى» فلم يرزأ حكيم بعد النبي ﷺ أحدًا أبدًا[(652)].

قوله: الْيَدُ الْعُلْيَا هي: اليد المعطية، يد الغني.

قوله: الْيَدِ السُّفْلَى هي: اليد الآخذة، يد الفقير.

قوله: وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ يعني: بمن تلزمك نفقتهم وعولهم.

قوله: وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ فيه: دليل على أن الجزاء من جنس العمل، فمن استعف جعل الله العفة في قلبه، ومن استغنى أغناه الله، وجعل قناعته بما آتاه، وجعل غناه في قلبه؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ [(653)] يعني: ليس الغنى عن كثرة الأموال والأمتعة والعقارات، ولكن الغنى غنى القلب بالله، فبعض الناس عنده أموال كثيرة، وأراضي، وعقارات، لكنه فقير القلب ـ والعياذ بالله ـ يشح بالواجبات، ولا يزال قلبه يتلهف ويطلب ويجمع المال من حلال وحرام، وإذا حصل له نقص أو كساد في التجارة يحصل له ندم وحسرة، وربما من شدة حزنه على فوات المال لا ينام الليل، فهذا فقير القلب والعياذ بالله؛ وأما من رزقه الله غنى القلب فتجد عنده قناعة ورضا وطمأنينة وراحة؛ لهذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ [(654)] والكفاف: هو الذي يكفي الإنسان ويسد حاجته فلا يحتاج إلى أحد، وليس عنده مال كثير يؤذيه.

المتن:

1429 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قال: حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ ح وحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ.

الشرح:

1429 في الحديث: الحث على التكسب؛ ليكون المسلم صاحب اليد العليا، وشرط التكسب أن يكون من الوجوه المشروعة.

المتن:

باب الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى

لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذىً [البَقَرَة: 262] الآْيَةَ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها حكم صدقة المنان، وأن صدقته باطلة، واستدل المؤلف رحمه الله بالآية الكريمة الآتي ذكرها لبيان أن المؤذي، حكم صدقته كحكم صدقة المنان الذي يقول: أعطيتك وأعطيتك، وأنت لا تُقَدِّر ما أفعله لك من معروف، فهذا المنان المؤذي للفقير لا يقبل الله صدقته، والأذى يقع بالقول وبالفعل.

قوله: «لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذىً [البَقَرَة: 262] الآْيَةَ» مناسبة الآية أن النفقة في سبيل الله لما كان المنان بها مذمومًا، كان ذم المعطي المنان في غيرها من باب أولى.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «المن غالبًا يقع من البخيل، والمعجب بنفسه؛ فالبخيل تعظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنه منعم بماله على المعطى، وإن كان أفضل منه في نفس الأمر، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان نعمة الله فيما أنعم به عليه، ولو نظر مصيره لعلم أن المنة للآخذ لما يترتب له من الفوائد».

وذكر الشارح رحمه الله أن المؤلف رحمه الله كأنه يشير بهذه الترجمة إلى ما رواه مسلم عن أبي ذر مرفوعًا بلفظ: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان بما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب [(655)] أي: أن هؤلاء الثلاثة متوعدون وعيدًا شديدًا، وهم مرتكبون للكبائر، والمسبل إزاره هو الذي يطيل إزاره بحيث يكون تحت الكعب.

وفي الحديث الآخر عند مسلم أيضا: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ [(656)].

وفي الصحيحين: ثَلَاثٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ [(657)].

وفي الحديث الآخر: ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه [(658)]. نسأل الله السلامة والعافية.

المتن:

باب مَنْ أَحَبَّ تَعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا

1430 حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ ﷺ الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فَقُلْتُ أَوْ فَقِيلَ لَهُ: فَقَالَ: كنْتُ خَلَّفْتُ فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ.

الشرح:

قوله: «تِبْرًا» التبر: هو سبيكة من الذهب لم تضرب دنانير.

1430 في هذا الحديث: أن النبي ﷺ صلى العصر فأسرع، ثم دخل البيت، فلم يلبث أن خرج، فكأن الناس تعجبوا من سرعته؛ لأنه في العادة يجلس بعد التسليم من الصلاة، ويتمهل بعض الشيء؛ فلما قام على غير عادته سُئل عن ذلك، فقال: كنْتُ خَلَّفْتُ فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ.

وفي الحديث: المبادرة والمسابقة والمسارعة في الخيرات، وعدم التأخير قبل أن تعرض العوارض من الموت، أو ذهاب المال، أو عدم وجود من يقبل الصدقة.

وفيه: أن الزكاة تخرج من الذهب ولو لم يضرب.

المتن:

باب التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا

1431 حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَدِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ.

الشرح:

قوله: «التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ» ، يعني: الحض على الصدقة.

قوله: «وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا» يعني: كونه يشفع عند رجل غني بأن يتصدق في أبواب الخير، ويقول له: يا فلان لو تصدقت في المشروع الفلاني، أو لو أنفقت على بناء مسجد كذا، أو مدرسة تحفيظ القرآن، أو طلبة العلم، أو الفقراء والمساكين، أو رباط الخيل، أو غير ذلك من أبواب الخير، فيحصل لهذا الشافع أجر عظيم؛ لأن النبي ﷺ قال: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ.

1431 قوله: «لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ» فيه: دليل على أن صلاة العيد ليس لها سنة قبلها ولا بعدها؛ لأنها تصلى في الصحراء، فليس لها حكم المسجد؛ فإذا جاء المصلي لصلاة العيد فإنه يجلس ولا يصلي ركعتين، وأما إذا كانت صلاة العيد في المسجد فإنه إذا دخل يصلي تحية المسجد، والسنة أن صلاة العيد وصلاة الاستسقاء تصلى في الصحراء القريبة من البلد.

وبعض عوام المسلمين الذين يحبون الخير إذا صلى العيد أو الاستسقاء في المسجد أو الفضاء فإنه يقوم فيصلي صلاة الضحى، والأولى الترك، وأن يصليها في بيته؛ فالنافلة في البيت أقرب للإخلاص واتباع السنة، ولأن هذا يشبه أنه صلى بعد صلاة العيد أو الاستسقاء سنة لهما.

قوله: «ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلاَلٌ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ» هذا هو الشاهد للتحريض على الصدقة والشفاعة فيها.

قوله: «فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ» القُلب ـ بضم القاف وسكون اللام ـ: السوار الذي في اليد، والخرص ـ بضم المعجمة وسكون الراء ـ: الحلق الذي يوضع في الأذن. أي: فجعلت المرأة تتصدق، فتلقي بالسوار من يدها، والحلق من أذنيها، وبلال قد بسط ثوبه يجمع الصدقات.

وفيه: دليل على أن المرأة لها أن تتصدق من مالها إذا كانت رشيدة، ولو لم تستأذن زوجها. ويؤيد ذلك الأحاديث الصحيحة، كحديث ميمونة في الصحيحين: أنها قالت للنبي ﷺ لما جاء يومها: أشعرت أني أعتقت وليدتي ـ أي: أعتقت جارية لها شأن ـ فلم ينكر عليها النبي ﷺ وقال: أما إنك لو أعطيت أخوالك لكان أعظم لأجرك [(660)]. ولم يقل لماذا لم تستأذنيني؟ فدل على أن المرأة الرشيدة لها أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها، ولكن إذا استأذنته من باب حسن العشرة وطيب النفس كان هذا أحسن.

المتن:

1432 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ مَا شَاءَ.

الشرح:

1432 قوله: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا هذا شاهد الشطر الثاني من الترجمة؛ حيث قال: «بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا» والشفاعة معناها في اللغة ضم الشيء إلى الشيء، فأنت تضم صوتك إلى صوت السائل فيصير شفعًا بعد أن كان وترًا. والشفاعة في الصدقة: أن يتكلم بما يعلمه عن السائل أو صاحب الحاجة؛ فإن ذلك يشجع المشفوع عنده على الصدقة، خصوصًا إذا لم يكن يعرفه.

فإذا جاء إنسان يسأل حاجة، أو كانت له حاجة عند أحد من الناس وأنت تعرفه، فمستحب لك أن تقول لهذا الرجل الغني: أنا أعرف فلانًا هذا، وأعرف أنه محتاج، أو فقير، أو نحو ذلك.

قوله: وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ مَا شَاءَ يبين النبي ﷺ أنه إذا جاء إلى الغني سائل ليسأله، فاشفعوا له ـ يعني: تكلموا عن حال السائل إن كنتم تعلمون حاله ـ فتؤجروا، ثم يجري الله على لسان نبيه ما شاء من موجبات قضاء الحاجة أو عدمها؛ لأن الأمور لا تجري إلا بتقدير الله تعالى وقضائه.

ففي الحديث: أن الشافع له أجره، سواء قبلت شفاعته عند الرجل الغني أم لم تقبل شفاعته، وما قدره الله سيكون.

المتن:

1433 حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها قالت: قَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ: لاَ تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدَةَ وَقَالَ: «لاَ تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ».

الشرح:

1433 قوله: لاَ تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ ومعنى لاَ تُوكِي: لا تمسكي، مأخوذ من الوكاء وهو الرباط؛ لأن الممسك يأتي بالكيس الذي فيه النقود ويربطه بالرباط حتى لا يأخذ منه شيئًا، فهو كناية عن البخل والشح بالصدقة.

وفي الحديث: الحث على الصدقة، وعدم الإمساك.

وفيه: أن الجزاء من جنس العمل.

قوله: «لاَ تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» الإحصاء: هو عَدُّ ما مضى، أو معرفة قدره، والمعنى: لا تدققي الحساب؛ لأن الإنسان إذا كان يعد ما مضى ويحسب فإن العين تسبق على الصدقة، فحرض النبيُّ ﷺ المسلمَ أن يتصدق ويسأل الله الخلف، ولا يعد ما مضى، وألا يقول: تصدقت بكذا وكذا. وفي اللفظ الآخر: انْفَحِي أَوْ انْضَحِي أَوْ أَنْفِقِي، وَلَا تُحْصِي، فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ [(661)]. ومعنى وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ  مأخوذ من الوعاء، أي: لا تجمعي في الوعاء، ثم تبخلي بالصدقة؛ لأن الجزاء من جنس العمل وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سَبَإ: 39]، فمن أنفق أخلف الله عليه، ومن أوكى أوكى الله عليه، ومن عد ودقق دقق الله عليه.

وسيأتي في كتاب الرقاق عن عائشة رضي الله عنها قالت: «توفي رسول الله ﷺ وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني» [(662)] فكانت عائشة رضي الله عنها تأكل منه ولا ينتهي، واستمرت مدة والله يبارك لها فيه، ثم كالته ذات مرة، فلما كالته فني وانتهى.

المتن:

باب الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ

1434 حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ.

وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَني ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: لاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ.

الشرح:

قوله: «الصَّدَقَةِ فِيمَا اسْتَطَاعَ» أي: الصدقة بقدر الاستطاعة، وعلى قدر الحال.

1434 قوله: لاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ مأخوذة من الوعاء، والمعنى: لا تمسكي فيمسك الله عليك، والفاء للسببية، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة.

قوله: ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ هذا شاهد الترجمة، والمعنى: أنفقي قدر الاستطاعة، وفي لفظ: انْفَحِي أَوْ انْضَحِي [(663)] وكلها بمعنى واحد، وهو: تصدقي بما تيسر وبما استطعت ولو بالقليل، وجاء في الحديث الآخر: درهم سبق ألف درهم [(664)]؛ لأن هذا رجل عنده درهمان، درهم يكفيه لأهله فأنفقه عليهم، ودرهم آخر أنفقه في سبيل الله، فما أنفقه يعدل نصف ثروته، وهذا رجل يملك أموالاً كثيرة، أنفق منها ألف درهم في سبيل الله، فما أنفقه يعدل شيئًا يسيرًا في ثروته، فعلى هذا يكون الأول أسبق؛ لأنه أنفق نصف ماله بينما الثاني أنفق شيئًا يسيرًا من مجموع ثروته، وكل أنفق، وكل فيه خير.

ويتفاوت الأجر والثواب في الصدقات على حسب:

1- نوع الصدقة.

2- نية المتصدق، وما استقر في القلب من حقائق الإيمان.

3- تحريه وضعها في المحل اللائق بها، والزمان والمكان المناسب.

المتن:

باب الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ

1435 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : قَالَ عُمَرُ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ: قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ فَكَيْفَ قَالَ:؟ قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمَعْرُوفُ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ كَانَ يَقُولُ: الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ: لَيْسَ هَذِهِ أُرِيدُ وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَيْسَ عَلَيْكَ بِهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَأْسٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ قَالَ: فَيُكْسَرُ الْبَابُ أَوْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لاَ بَلْ يُكْسَرُ قَالَ: فَإِنَّهُ إِذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أَبَدًا قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنْ الْبَابُ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ سَلْهُ قَالَ: فَسَأَلَهُ فَقَالَ عُمَرُ قَالَ: قُلْنَا: فَعَلِمَ عُمَرُ مَنْ تَعْنِي قَالَ نَعَمْ كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَْغَالِيطِ.

الشرح:

قوله: «بَابٌُ الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ» هذا الباب معقود لبيان أن الصدقة تكفر الخطايا، وجزم المؤلف بالحكم؛ لوضوح الدليل.

1435 قوله: «إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ» يعني: عندك جزم جازم بهذا الشيء؛ وذلك لأن حذيفة متأكد.

قوله: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمَعْرُوفُ والمقصود بفتنة الرجل في أهله، وولده، وجاره، ما يحصل من النزاع، والخصام بين الإنسان وبين أهله وولده، وكذلك فتنته في كونه ينشغل بعض الأحيان بماله المباح، والإنسان لا يخلو من شيء من هذا، فهذه الخطيئة تكفرها الصدقة، والصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه.

قوله: «لَيْسَ هَذِهِ أُرِيدُ وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ؟» أي: إني لا أقصد هذه الفتنة التي تكون بالكلام بين الإنسان وبين أهله، أو ولده، أو جاره، ولكني أريد الفتنة التي تموج كموج البحر، يعني: فتنة الحروب، وفتنة الشهوات، وفتنة الشبهات، والفتن العظيمة.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد