الشرح:
قوله: «الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا» من سئل الزكاة من قبل ولاة الأمور على وجهها فليعطها، «وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطِ» أي: إذا طلب منه أكثر من الزكاة فلا يعط، ولا يجب عليه، فإذا كان رجل عنده أربعة من الإبل، وجاءه المصدق فقال: أعطني الزكاة، فيقال له: ليس فيها زكاة؛ لأن أقل نصابها هو خمس وهذه لم تبلغ النصاب، ولها شرطان آخران حتى تجب فيها الزكاة:
الشرط الأول: أن تكون سائمة ـ ومعنى السائمة: هي التي ترعى من البر أكثر الحول، أي: أغلب السنة ترعى من الحشيش ـ وأما إذا كانت تعلف أكثر الحول أو نصف الحول فليس فيها زكاة إلا إذا كان أعدها للتجارة فإنها تزكى زكاة العروض، بأن يقوّمها ويخرج الزكاة من قيمتها ربع العشر، وإذا كان يعلفها ولم يعدها للبيع والشراء كأن يكون أعدها مثلاً للنمو وللأكل وللضيف فليس فيها زكاة.
الشرط الثاني: أن يمضي عليها حول، أي: سنة هجرية.
قوله: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِْبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ يعني: إذا بلغ ما يملكه من الإبل أربعًا وعشرين، وهي سائمة ـ ترعى من البر أكثر الحول ـ ومر عليها حول، فيجب فيها مِنْ الْغَنَمِ ـ يعني: زكاتها تكون من الغنم ـ في كل خمس يدفع شاة واحدة، فتكون أربع وعشرون فيها أربع شياه، ما دامت أنها لم تبلغ الخمس والعشرين.
قوله: إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى بنت المخاض: هي التي لها سنة من الإبل، وسميت بنت مخاض؛ لأن أمها في المخاض من الحمل. والأوقاص هنا: من ستٍّ وعشرين إلى خمسٍ وثلاثين ففيها بنت مخاض، وعلى هذا قس كل ما سيأتي.
قوله: فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى بنت لبون: هي التي لها سنتان، وسميت بنت لبون؛ لأن أمها نتجت وصارت ذات لبن.
قوله: فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ الحقة: هي التي لها ثلاث سنين من الإبل، وسميت بهذا الاسم؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل.
قوله: فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ الجذعة: هي التي لها أربع سنين، وسميت جذعة؛ لأنها تجذع أسنانها.
قوله: فَإِذَا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ بنتا لبون، كل واحدة لها سنتان من الإبل.
قوله: فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ حقتان كل واحدة لها ثلاث سنين.
قوله: فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ أي: فإذا زادت على عشرين ومائة واحدة تستقر الفريضة، في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
فمثلاً: إذا كان صاحب المال عنده مائة وخمسون ففيها ثلاث حقاق، فإذا صار عنده مائتان، فهنا يخير بين أربع حقاق أو خمس بنات لبون؛ لأنه في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
قوله: وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ أَرْبَعٌ مِنْ الإِْبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ؛ لأنها لم تبلغ نصاب الزكاة إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا أي: إن شاء صاحب الإبل أن يتصدق بنفس طيبة، فهذه صدقة تطوع وليست بفريضة.
قوله: فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الإِْبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ بين هنا أول النصاب وهو خمس. وبهذا انتهت زكاة الإبل، ثم انتقل إلى صدقة الغنم يبينها ويوضح أحكامها فقال: وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا تقدم بيان أن السائمة: هي التي ترعى من البر، إذا حال عليها الحول.
قوله: إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ أول نصاب الغنم يبدأ بأربعين، تجب فيها شاة واحدة، فإذا كانت تسعًا وثلاثين فليس فيها زكاة.
قوله: فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ أي: من مائة وواحد وعشرين إلى مائتين يجب فيها شاتان.
قوله: فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاَثِ مِائَةٍ فَفِيهَا ثَلاَثٌ أي: فإذا زادت واحدة على مائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة.
قوله: فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاَثِ مِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ أي: إذا زادت الغنم على ثلاثمائة تستقر الفريضة، ففي كل مائة شاة واحدة، ففي الخمسمائة خمس شياه، وفي الستمائة ست شياه، وهكذا.
قوله: فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ أي: إذا كانت تسعًا وثلاثين فليس فيها زكاة؛ لأنها لم تبلغ النصاب إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا أي: إذا شاء أن يتصدق فلا بأس.
قوله: وَفِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ الرقة: الفضة، وفيها ربع العشر، والنصاب مائتا درهم، فيكون في مائتي درهم ربع العشر أي: خمسة دراهم.
قوله: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ؛ لأن النصاب مائتا درهم، فإذا كان عنده مائة وتسعون درهمًا فليس فيها زكاة، إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا أي: إلا إذا أحب أن يتبرع ويتصدق فلا بأس.
فهذا الحديث فيه بيان نصاب زكاة الإبل والغنم والفضة.
المتن:
باب لاَ تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ وَلاَ تَيْسٌ
إِلاَّ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ
1455 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: حدثني أَبِي قال: حدثني ثُمَامَةُ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ: وَلاَ يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ وَلاَ تَيْسٌ إِلاَّ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ.
الشرح:
1455 قوله: وَلاَ يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ الهرمة هي كبيرة السن.
قوله: وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ أي: عوراء، والعَوار بفتح العين: العيب كله، والعُوار بضم العين: ذهاب العين الواحدة.
وقوله: وَلاَ تَيْسٌ إِلاَّ مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ الاستثناء يرجع إلى التيس فقط، وهو الأرجح، ويحتمل أنه يعود إلى الجميع، ويكون العامل مؤتمنًا في ذلك، ومشيئته ترجع إلى المصلحة؛ فإذا رأى العامل أن في الهرمة مصلحة للفقراء لأنها سمينة أخذ الهرمة، وكذلك ذات العوار، إذا رأى أنها سمينة ومفيدة وفيها لحم كثير فله أخذها، وكذلك التيس إن رأى أنه مفيد لسمنه فله أخذه، فكل ذلك يرجع إلى العامل.
وحديث معاذ بن جبل الآتي أنه بعثه النبي ﷺ إلى اليمن وقال: فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ [(676)] سيأتي، ومعنى الكرائم: ما يؤخذ من نفائس الأموال، فأمره أن يأخذ من الوسط.
قوله: الْمُصَدِّقُ المراد به: العامل على الصدقة.
المتن:
باب أَخْذِ الْعَنَاقِ فِي الصَّدَقَةِ
1456 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا.
1457 قَالَ عُمَرُ : فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ بِالْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ أَخْذِ الْعَنَاقِ فِي الصَّدَقَةِ» ، والعناق: السخلة التي لها ستة أشهر أو أقل، فهل تؤخذ السخلة في الزكاة أو لا تؤخذ؟
والمؤلف رحمه الله لم يجزم بالحكم فترك ذلك لطالب العلم حتى يتأمل في النصوص التي ذكرها، وينظر هل هذه النصوص تدل على أن السخلة تؤخذ أو لا تؤخذ.
والصواب أن الغنم إذا كانت كلها صغارًا يخرج منها، مع أن بعض العلماء يقول: يشتري كبيرة، وهذا خطأ؛ لأن الزكاة إنما وجبت مواساة.
1456، 1457 ذكر هنا قصة أبي بكر وقوله في قتال مانعي الزكاة؛ فإنه لما أراد أن يقاتل مانعي الزكاة راجعه عمر والصحابة، وقالوا: كيف تقاتلهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلون؟! فقال أبو بكر: «وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا» ، وفي لفظ: «لو منعوني عقالاً»، والعقال: هو الحبل الذي تربط به يد البعير.
وأحسن ما قيل في معنى الحديث وجهان:
الوجه الأول: أن المراد ضرب المثل في الحقير، والمعنى أنهم لو منعوني شيئًا حقيرًا كالعناق، كانوا يعطونه لرسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه؛ ولهذا جاء في الرواية الأخرى: «عقالاً»، وهو الحبل.
الوجه الثاني: أن المراد إذا كانت الغنم كلها صغارًا جاز أخذ العناق منها؛ لأن الزكاة شرعت للمواساة، فإذا كانت الغنم عنده أربعين سخلة كلها صغيرة فإنه يأخذ الزكاة منها ـ على الصحيح ـ.
المتن:
باب لاَ تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ
1458 حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ لْقَاسِمِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا عَلَى الْيَمَنِ قَالَ: إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ.
الشرح:
1458 قوله: تَقْدَمُ تأتي على ثلاثة أوجه: قَدُم ـ بضم الدال على وزن كرُم ـ بمعنى عَتُق الشيء، أي: صار الشيء قديمًا، وتأتي قَدَم ـ بفتح الدال على وزن نصر ـ يقدُم بمعنى سبق، ومنه قوله تعالى في فرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هُود: 98] يعني: يتقدمهم، والثالث: قَدِم ـ بكسر الدال على وزن حسِب ـ يقدَم بمعنى ورد الشيء وهو المراد هنا، يعني: تأتي اليمن وتردها.
وفي هذا الحديث بيان أن الداعية ينبغي أن يعرف حال المدعوين حتى تكون الدعوة مناسبة لحالهم؛ ولهذا قال النبي ﷺ: إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، يعني: أهل علم، فاستعد لمناظرتهم، فإنهم ليسوا جهالاً، وقد كان في اليمن في ذلك الوقت يهود.
قوله: فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فيه: أن الداعي أول ما يدعو إلى عبادة الله وتوحيده، وفي اللفظ الآخر: فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [(677)]، وفي لفظ: إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ [(678)] فدل على أنه ليس المراد بالشهادة النطق باللسان فقط، وإنما المراد المعنى، يعني: ادعوهم إلى التوحيد، أما من قال: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه ونقضها بأفعال الشرك فلا تنفعه، والنصوص يفسر بعضها بعضًا.
وأما قوله: فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاة، وفيه: أن الدعوة تكون بالتدرج، أولاً: الدعوة إلى التوحيد، ثم الدعوة إلى الصلاة، فإذا استجابوا دعاهم إلى الزكاة.
ثم قال: فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ يعني: احذر من أن تأخذ الشريفة، والثمينة، والجميلة؛ وإنما تأخذ الزكاة من الوسط؛ فلا تؤخذ الزكاة من شرار المال ولا من خياره، بل تؤخذ من الوسط، إلا إذا سمحت نفس صاحب المال، وتبرع بالكريمة؛ وزاد على الزكاة، فلا بأس؛ أما أن تؤخذ بدون اختياره، فهذا ظلم؛ ولهذا قال بعده في رواية أخرى: وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ [(679)]، يعني: أن أخذ الكرائم من الظلم، فاحذر دعوة المظلوم، وهذا هو الشاهد.
وإذا كانت كلها من الشرار أو الخيار أُخذ منها على الصحيح، فإذا كانت كلها صغارًا، أو كلها مريضة، أو كلها كرائم فإن الزكاة تؤخذ منها.
المتن:
باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ
1459 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الإِْبِلِ صَدَقَةٌ.
الشرح:
1459 في الحديث: بيان الأنصبة من الحبوب والثمار والفضة والإبل، والمؤلف رحمه الله ترجم بواحدة منها وهي الذود، والذود: هي الإبل.
فذكر في حديث أبي سعيد هذا نصاب التمر، أن النبي ﷺ قال: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ؛ لأن النصاب خمسة أوسق، والوسق ستون صاعًا، فيكون النصاب ثلاثمائة صاع، والصاع أربعة أمداد، وكل مد حفنة، والحفنة ملء كفي الرجل المتوسط.
وقوله: وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ يعني: أن نصاب الفضة خمس أواق، والأوقية: أربعون درهمًا، فيكون النصاب مائتي درهم.
وقوله: وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الإِْبِلِ صَدَقَةٌ يعني: أن نصاب الإبل خمس، والأربعة ليس فيها شيء.
المتن:
باب زَكَاةِ الْبَقَرِ
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ وَيُقَالُ: «جُؤَارٌ» تَجْأَرُونَ، يَجْأَرُونَ: تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ كَمَا تَجْأَرُ الْبَقَرَةُ.
1460 حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَوْ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ أَوْ كَمَا حَلَفَ مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلاَّ أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ رَوَاهُ بُكَيْرٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لزكاة البقر، ولم يذكر المؤلف رحمه الله في الباب حديثًا يتعلق بالنصاب؛ وذلك لأن الحديث الوارد في السنن ليس على شرط المؤلف، وهو عن معاذ بن جبل قال: «بعثني النبي ﷺ إلى اليمن فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعًا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة» [(680)]. وفيه: أن مقدار النصاب في البقر ثلاثون، أما التسع والعشرون فليس فيها شيء.
فإذا كانوا ثلاثين من البقر ترعى من البر سائمة أكثر الحول ففيها تبيع أو تبيعة ـ أي: ذكر أو أنثى له سنة ـ فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة ـ لها سنتان ـ ولكن لم يذكر المؤلف هذا الحديث لأنه ليس على شرطه، واكتفى ببيان الوعيد على من لم يؤد حقها، وهذا الوعيد يدل على أن فيها الزكاة؛ ولهذا قال: «لَأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ» ، يعني: الوعيد الشديد للذي يغل البقرة أي: يخفيها من الغنيمة ويأخذها، ويقال: «جُؤَارٌ» أي: خوار، وتجأرون أي: ترفعون أصواتكم كما تجأر البقر.
1460 ذكر في حديث أبي ذر ، أن النبي ﷺ قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَوْ وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ أَوْ كَمَا حَلَفَ مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلاَّ أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، فهذا الوعيد الشديد على من لم يؤد حقها يدل على وجوب الزكاة في البقر؛ لأن الزكاة من أعظم حقوقها، وإنها تأتي يوم القيامة فتطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، وفي اللفظ الآخر: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ [(681)]، وهذا وعيد شديد ـ نسأل الله السلامة والعافية
ـالمتن:
باب الزَّكَاةِ عَلَى الأَْقَارِبِ
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ.
1461 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَْنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عِمرَان: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُلَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ: وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَْقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
تَابَعَهُ رَوْحٌ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَإِسْمَاعِيلُ: عَنْ مَالِكٍ رَائِحٌ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة للزكاة على الأقارب، واستدل البخاري رحمه الله على جواز دفعها لهم بعموم قول النبي ﷺ: لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ، والصدقة عامة؛ فتشمل الزكاة وغيرها.
ووجه استدلال البخاري رحمه الله للترجمة أن الزكاة على الأقارب من العموم في النفقة في قوله تعالى: حَتَّى تُنْفِقُوا يشمل نفقة الزكاة ونفقة الصدقة، والإنفاق الواجب والمندوب.
ويجوز دفع الزكاة للأقارب إذا كانوا في بلد آخر للمصلحة الراجحة، كأن يكون له أخوات أو إخوة أو بني أعمام في بلد آخر.
1461 في الحديث: فضل النفقة على القريب، ويؤيده الحديث الآخر في مسلم: دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ [(682)]، وقوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عِمرَان: 92]، المراد بالبر: الإيمان والتقوى، والمراد كمال البر.
وهذا الحديث في قصة أبي طلحة لما تصدق بالبستان المسمى: بيرحاء، فقال: «وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ» ، فقال النبي ﷺ: بَخٍ تعظيم ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، يعني: ربحه عظيم، وأجره وثوابه عظيم، وفي لفظ للبخاري: ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، [(683)]، يعني: أن أجره يروح لصاحبه ولا ينقطع عنه، وذلك حصّله بالنفقة وإلا لذهب وضاع.
واستدل المؤلف بأمر النبي ﷺ له أن يجعلها في الأقربين، «فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.» على أن الأقارب تدفع إليهم الزكاة، وهم أولى من غيرهم.
المتن:
الشرح:
1462 قوله: وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، يعني: الزوج، والمراد: تنكرن إحسان الزوج وجميله، وفي الحديث: التحذير من السب والشتم، وقد ورد في حديث آخر: إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ، وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [(685)].
فالنساء يدخلن النار بشيئين:
1- بكثرة اللعن والسباب والشتم.
2- بإنكار جميل الزوج وإحسانه.
وفي اللفظ الآخر: لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ [(684)].
وقوله: أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ، يعني: أن المرأة تأخذ بلب الرجل وإن كان حازمًا فكيف بغير الحازم؟!
قوله زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ، استدل المؤلف رحمه الله بذلك على أن الزكاة يجوز دفعها إلى الأقارب، ومن ذلك أن امرأة ابن مسعود دفعت زكاتها إلى زوجها وأبنائها. وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن هذا في صدقة التطوع لا الفرض.
وفيه: دليل على أن الأقارب هم أولى الناس بالبر.
وهل يشمل ذلك صدقة الفرض أو يقاس عليها؟ هذا محل نظر ومحل تأمل، فالمؤلف رحمه الله توسع في الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر حينما أتى بهذا الحديث وتلك الترجمة «بَابُ الزَّكَاةِ عَلَى الأَْقَارِبِ» ، فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه يرى أن المرأة يجوز لها أن تدفع زكاتها إلى زوجها إذا كان فقيرًا وإلى أولادها، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من قال: إنه يجوز دفع الزكاة إلى الزوج إذا كان فقيرًا، ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأنها إذا دفعتها إلى الزوج أنفقها عليها فرجعت إليها زكاتها، وكذلك الأولاد؛ لأنها تجب عليها نفقتهم.
المتن:
باب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ
1463 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ: عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلاَمِهِ صَدَقَةٌ.
لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ
1464 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ خُثَيْمِ بْنِ عِرَاكٍ قال: حدثني أَبِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ. حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا خُثَيْمُ بْنُ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فِي فَرَسِهِ.
الشرح:
1463، 1464 هاتان الترجمتان معناهما واحد، والحديث فيهما واحد، ولكن كرره البخاري لفائدة حديثية، وهي إيراد الحديث من طرق مختلفة، فالحديث ثابت من طريقين:
أحدهما: عن سليمان بن يسار عن عراك عن أبي هريرة .
الثاني: عن خثيم بن عراك عن أبيه عن أبي هريرة.
وفي هاتين الترجمتين: دليل على أن الفرس الذي يركبه الإنسان ليس فيه زكاة، وكذلك العبد ـ الغلام ـ ليس فيه زكاة، وقياسًا على ذلك فالسيارة التي يستعملها الإنسان في حوائجه ليس فيها زكاة، وكذلك الفرش والأمتعة التي في البيت ما دام لم يعدها للبيع فليس فيها زكاة، وكذلك البعير الذي عنده، وما أشبه ذلك ما لم يعده للبيع فليس فيه زكاة، أما إذا كان العبيد قد أعدهم للبيع ومرت عليهم سنة فإنه يزكي عنهم زكاة التجارة، لكن عبده أو عبيده الذين يخدمونه ولم يعدهم للبيع فليس فيهم زكاة؛ لهذا الحديث: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فِي فَرَسِهِ.
المتن:
باب الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى
1465 حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ ﷺ فَفَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ وَلاَ يُكَلِّمُكَ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَ: فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
الشرح:
1465 في الحديث: التحذير من الاغترار بالدنيا وزهرتها والركون إليها.
وفيه: التحذير من جمع المال بغير حقه وعدم إنفاقه في وجوهه المشروعة، والنبي ﷺ ضرب في هذا الحديث مثلين ـ مثلاً للذي يأخذ المال بحقه، ومثلاً للذي يأخذه بغير حقه ـ.
فالذي يأخذ المال بغير حقه مثله كمثل الدابة التي تأكل من المرعى ومن الخضر، وتستمرئ هذا الأكل لما فيه من النضرة والخضرة، فلا تزال تأكل حتى تتخم ثم تموت أو تقارب الهلاك.
والذي يأكل المال بحقه وينفقه في وجوهه المشروعة، مثله كمثل الدابة التي تأكل من المرعى، ثم تتعرض لأشعة الشمس، ثم تخرج ما في بطنها فتسلم من الهلاك؛ فهذا مثل من يسلم من شر هذا المال؛ أما من أخذ المال، ولم يؤد الواجب، ولم يؤد الزكاة، ولم يؤد الحقوق، فإنه يهلكه هذا المال، ويكون سببًا في هلاكه.
فقوله: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ: إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، يعني: أن تتنافسوا في الدنيا وتجمعوا المال من حله ومن غير حله، ثم تبخلوا به عن أداء الواجب، «فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ ﷺ فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ وَلاَ يُكَلِّمُكَ» ، وفي اللفظ الآخر أن النبي ﷺ قال: لاَ يَأْتِي الخَيْرُ إِلَّا بِالخَيْرِ [(686)]، وفي لفظ أنه كررها ثلاثًا[(687)]، وفي لفظ قال: أَوَخَيْرٌ هُوَ؟ [(688)] يعني: هل هذا المال خير كله؟ أم هو ابتلاء وامتحان؟ ولو كان خيرًا محضًا فإن الخير لا يأتي إلا بالخير، وفي هذا اللفظ أن النبي ﷺ سكت وتوقف عن الإجابة، قال الراوي: «فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ» ، يعني: ينزل عليه الوحي.
وفيه: أن العالم ينبغي له أن يتوقف عن جواب ما لا يعلمه؛ فالنبي ﷺ أعلم الناس، ورغم هذا توقف عن الجواب فيما لا يعلم.
وفيه: دليل على أن السنة وحي من الله؛ ولهذا سكت النبي ﷺ حتى أنزل عليه، قال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النّجْم: 3-4]، فالسنة وحي ثان من الله ؛ المعنى فيها من الله واللفظ من الرسول ﷺ؛ أما الحديث القدسي فلفظه ومعناه من الله، لكنه ليس كالقرآن.
قوله: «قَالَ: فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ» يعني: العرق. «فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ، يعني: يقتل الدابة التي تأكل من المرعى إذا رأت المرعى أخضر وجميلاً يستهويها فتأكل حتى تصيبها التخمة فتهلك؛ ولهذا قال في اللفظ الآخر: وَإِنَّهُ كُلَّمَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ [(689)]، حبطًا يعني: تخمة، أو يلم يعني: أو يقارب الهلاك.
وقوله: إِلاَّ آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ، وفي لفظ: الخَضِرِ [(690)]، يعني: أكلت العشب والنبات الأخضر، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ، ثلطت يعني: أخرجت ما في جوفها من الروث والفضلات؛ فسلمت من شره، ولو بقي في بطنها أهلكها كالأولى التي يقتلها، ثم لما أخرجت ما في بطنها رتعت، يعني: جعلت ترعى مرة ثانية.
قوله: وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ مثل النبات الأخضر الذي تأكله الدابة، فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ، يعني: نعم المال، مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ، هذا هو الذي يكون المال خيرًا في حقه؛ ينفق منه، ويعطي المسكين وهو الفقير الذي لا يجد شيئًا أو يجد بعض الكفاية، واليتيم وهو الذي فقد أباه وهو صغير دون البلوغ، وابن السبيل وهو المسافر الذي انقطع به السفر فلم يجد ما يوصله إلى بلده؛ فإنه يعطى ما يوصله إلى بلده من الزكاة ومن غير الزكاة «أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:» .
قوله: وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ، هذا هو الثاني الهالك، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فالنبي ﷺ ضرب مثلين، والأمثال تقرب المعنى، فينتقل الذهن من الأمر المعنوي إلى الأمر الحسي فيسهل على الناس فهم المراد؛ ولهذا أكثر الله تعالى من ضرب الأمثال في القرآن الكريم، قال سبحانه: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العَنكبوت: 43]، والنبي ﷺ ضرب كثيرًا من الأمثال في سنته ﷺ، والمؤلف رحمه الله أتى بالشاهد من قوله: فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ ، فبوب عليه المصنف رحمه الله: «بَابُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى».
ومسلم رحمه الله ذكره في النفقات، في إنفاق المال، والبخاري رحمه الله دقيق في استنباطاته، ويأتي أحيانًا بالحديث في غير مظانه المباشرة فلو أردت أن تبحث عن هذا الحديث فلا تبحث عنه في باب الصدقة على اليتامى بل تبحث عنه في باب التحذير من الدنيا وزخرفها، لكن المؤلف أتى به من قوله ﷺ: فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ، وهذا من استنباطات البخاري رحمه الله الدقيقة، حتى إنه خفي على بعض الشراح كثير من الأحاديث، وقالوا: ليست موجودة في البخاري، وهي موجودة، لكن في مظان يبعد عنها الباحث البسيط ويدركها العلماء، مثل هذا الحديث وما أشبهه، ومثل حديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها، وكانت تحت المقداد في الحج أنها قالت: إني أجدني وجعة، وإني أريد الحج وإني أجدني شاكية، قال: حُجِّي، وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي [(691)]، وهذا الحديث لو بحثت عنه تبحث عنه في الحج، لكن جاء المؤلف به في النكاح.
وقيل: إن العموم هنا في الحديث فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ يشمل صدقة الفرض وصدقة النفل.
وفيه: أن الإنسان إذا اكتسب المال من وجوه مشروعة وأنفقه في وجوه مشروعة سلم من شره، أما إذا أبقاه فإنه يهلك نفسه، كالدابة التي تبقى التخمة في بطنها حتى تموت.
المتن:
باب الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالأَْيْتَامِ فِي الْحَجْرِ قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
1466 حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ قال: حدثني شَقِيقٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ : فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ فَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِهِ سَوَاءً قَالَتْ: كنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا قَالَ: فَقَالَتْ: لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الأَْنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاَلٌ فَقُلْنَا: سَلْ النَّبِيَّ ﷺ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي؟ وَقُلْنَا: لاَ تُخْبِرْ بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَنْ هُمَا؟ قَالَ: زَيْنَبُ قَالَ: أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ.
1467 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ؟ فَقَالَ: أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ.
الشرح:
قوله: «قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ» يشير إلى الحديث الذي سبق قبل بابين، «بَابُ الزَّكَاةِ عَلَى الأَْقَارِبِ» ، فذكر حديث أبي سعيد، وفيه: أن النبي ﷺ لما حثهن على الصدقة جاءت امرأة عبدالله بن مسعود وقالت: يا رسول الله إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي فأردت أن أتصدق، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليه، فقال النبي ﷺ: صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ [(692)].
1466 حديث أبي سعيد المتقدم في «بَابُ الزَّكَاةِ عَلَى الأَْقَارِبِ» ظاهر في الصدقة، والصدقة عامة تشمل الفرض والنفل؛ لكن المؤلف رحمه الله أتى بهذا اللفظ الذي فيه قول زينب: «أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ؟» ؛ لأن قولها: «أَيَجْزِي» استدل به البخاري على أن المراد دفع الزكاة. وكذلك قولها لبلال: «سَلْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ؟» .
فاستدل المؤلف رحمه الله بهذا الحديث على جواز دفع المرأة الزكاة لزوجها إذا كان فقيرًا، وللأولاد إذا كانوا فقراء أيتامًا في حجرها؛ ولهذا جزم المؤلف رحمه الله بالحكم، فقال: «بَابُ الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالأَْيْتَامِ فِي الْحَجْرِ» ، يعني: من قبل الزوجة.
وهي مسألة خلافية بين أهل العلم؛ فمن العلماء من أجاز دفع الزكاة إلى الوالد وإلى الولد وإلى الزوج، وهو اختيار البخاري رحمه الله، وجمهور العلماء على أن الزكاة لا تُدفع إلى أحد الوالدين ولا إلى الولد ولا إلى الزوج، حكى هذا ابن المنذر إجماعًا، وإذا حكى ابن المنذر الإجماع فإنما يقصد به الجمهور في الغالب ـ وكذلك ابن حزم وابن عبد البر والنووي، فكلهم إذا نقلوا الإجماعات فمقصدهم الجمهور ـ فنقل ابن المنذر إجماع العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الزوج ولا إلى الولد ولا إلى الوالد، والأولى والأحوط الأخذ بقول الجمهور، وينفق عليهم من صدقة التطوع، فتنفق المرأة على زوجها إذا كان فقيرًا من صدقة التطوع احتياطًا، وكذلك النفقة على الولد والوالد؛ احتياطًا لهذه العبادة وخروجًا من الخلاف.
ووجه استدلال البخاري رحمه الله مأخوذ من قولها: « أيجزي عني» ، ظاهره أن المراد صدقة الفرض.
ومن العلماء من ذهب إلى أن للمرأة أن تدفع زكاتها إلى زوجها إذا كان فقيرًا؛ لأنه ينفق عليها وعلى غيرها ولا يتحقق عود النفقة عليها، أما الزوج فلا يصح دفع زكاته إلى زوجته؛ لأنه إذا دفع الزكاة إلى زوجته ـ وهو يجب عليه أن ينفق عليها ـ نفع نفسه وأسقط الواجب عن نفسه، وكذلك الوالد والولد، فيجب على الإنسان أن ينفق على الوالد إذا كان فقيرًا، ويجب عليه أن ينفق على ولده إذا كان فقيرًا من غير الزكاة، فيجب عليه أن ينفق على ولده ووالده ووالدته وأبنائه ما يكفيهم، وإذا أنفق عليهم ما يكفيهم فلا يصح أن يدفع الزكاة إليهم.
1467 قوله: أَنْفِقِي عام، يعني: من الزكاة أو من الصدقة.
فالمؤلف رحمه الله استدل بالعموم في هذا الحديث على جواز دفع المرأة الزكاة لزوجها إذا كان فقيرًا، وللأولاد إذا كانوا فقراء أيتامًا في حجر المرأة.
وذكر الشارح رحمه الله الخلاف في جواز دفع المرأة زكاتها لزوجها، قال: «وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد».
كما استدل البخاري رحمه الله بالعموم في كون النبي ﷺ لم يستفصل، عندما قالت أم سلمة: «أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ» ، فلم يقل: إذا كان من صدقة الفريضة فلا تنفقي عليهم، وإذا كان من صدقة التطوع فأنفقي عليهم، قالوا: فلما ترك الاستفصال دل على العموم، وهذه قاعدة معروفة عند الأصوليين، وهي: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، يعني: إذا كان الدليل محتملاً ولم يستفصل دل على أن المراد العموم، فقوله: «أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ» يحتمل نفقة الفريضة ـ الزكاة ـ ونفقة التطوع.
المتن:
بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 60]
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِي فِي الْحَجِّ».
وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنْ الزَّكَاةِ جَازَ وَيُعْطِي فِي الْمُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ تَلاَ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التّوبَة: 60] الآْيَةَ فِي أَيِّهَا أَعْطَيْتَ أَجْزَأَتْ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي لاَسٍ حَمَلَنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ.
1468 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالصَّدَقَةِ فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا.
تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ هِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ حُدِّثْتُ عَنِ الأَْعْرَجِ بِمِثْلِهِ.
الشرح:
هذه الترجمة أراد بها المؤلف رحمه الله أن يبين مصارف الزكاة؛ ولهذا قال: «بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التّوبَة: 60]» ، وهما بعض آية مصارف الزكاة، وهي الآية التي في سورة براءة، ذكر الله فيها مصارف الزكاة، وأنها ثمانية، وهي قول الله : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [التّوبَة: 60] فلا تدفع الزكاة لغير هؤلاء الأصناف الثمانية، والله تعالى لم يكل صرف الزكاة إلى غيره، لا إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، بل قسمها بنفسه ؛ ولهذا جاء في الحديث أن رجلاً أتى النبي ﷺ يسأله الزكاة، فقال النبي ﷺ: إن الله جزأها ثمانية أجزاء، ولم يكلها إلى أحد غيره، فإن كنت من هذه الأجزاء أعطيتك [(693)]. فلا يصح دفعها إلى غير هؤلاء الأصناف الثمانية.
والمؤلف رحمه الله أتى في عنوان الباب بنوعين من الثمانية حيث قال: «بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التّوبَة: 60]» وقد بدأ الله بالفقير أول الآية وجعله الصنف الأول ؛ ولهذا قال جمع من أهل العلم: إن الفقير أشد حاجة من المسكين؛ ولهذا بدأ الله به حيث قال: لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التّوبَة: 60]، فالفقير والمسكين كل منهما يحتاج إلا أن الفقير أشد حاجة، وإذا أطلق الفقير وحده دخل فيه المسكين، وإذا أطلق المسكين وحده دخل فيه الفقير، وإذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى، فصار الفقير هو الذي لا يجد شيئًا أي: معدم بالمرة، أو يجد أقل من نصف الكفاية، والمراد بالكفاية: كفاية سنة، فليس عنده نصف كفاية سنة من النفقة والكسوة أو السكنى. والمسكين أحسن حالاً، وهو الذي يجد نصف الكفاية، إلا أنه لا يجد تمام الكفاية، فهذا يعطى من الزكاة ما يكمل كفايته؛ لأن الزكاة من العام إلى العام، فيعطى ما يكفيه لمدة سنة من النفقة والكسوة والسكنى وهو الصنف الثاني .
الصنف الثالث: العاملون عليها، وهم الذين يوظفهم ولي الأمر في جباية الزكاة، فيجبونها من الناس ويحفظونها ويحسبونها ويكتبونها، فلهم أن يأخذوا شيئًا منها ـ ولو كانوا أغنياء ـ لكن بقدر عمالتهم، أما إذا وكل الإنسان شخصًا ليوزع زكاته ويقول: هذا من العاملين، فيعطيه منها فهذا خطأ، فلا يعد هذا من العاملين عليها، ولكنه وكيل عنه فيما يؤديه، فإما أن يوزعها متبرعًا ولا يأخذ شيئًا منها وإلا فلا يقبل الوكالة، فإذا أعطيت شخصًا يوزع زكاة مالك فلا تعطه من الزكاة شيئًا؛ لأنه وكيل، إنما العاملون هم الذين يوظفهم ولاة الأمور؛ ليجبوا الزكاة من الناس، أو من أصحاب الإبل والبقر والغنم وأصحاب الزروع، فهؤلاء المعينون من قبل ولاة الأمور يسمون عمالاً، وهم الذين لهم نصيب من الزكاة، ويعطون بقدر عمالتهم إلا إذا كان لهم مكافأة من ولي الأمر فلا يعطون منها.
الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم صنفان:
الصنف الأول : مسلمون ضعفاء الإيمان، فيعطون من الزكاة حتى يقوى إيمانهم، كرئيس القبيلة ورئيس العشيرة؛ لأنه إذا أعطي قوي إيمانه؛ لأن ثباته على الإسلام ثبات لجميع أفراد القبيلة، حتى يدفعوا الزكاة ويلتزموا بالإسلام، أو لأجل أن يسلم نظراؤه من رؤساء القبائل الآخرين.
الصنف الثاني من المؤلفة قلوبهم : كفار يخشى شرهم؛ فيعطون لأحد الأمرين: إما لكف شرهم عن المسلمين، أو ترغيبًا لهم في الإسلام.
الصنف الخامس: الرِّقَابِ، واختلف العلماء في قوله تعالى: وَفِي الرِّقَابِ، فقيل: المراد شراء الرقبة لتعتق، وذهب إلى هذا البخاري رحمه الله وابن المنذر وإسحاق، وقيل: إنها في المكاتب، وهذا قول الجمهور، والمكاتب: هو العبد الذي اشترى نفسه من سيده وتركه سيده يعمل ويشتغل، فمثلاً يشتري العبد نفسه من سيده بخمسين ألف ريال أو ستين ألف ريال، ويقسمها عليه سيده، كل سنة يعطيه خمسة آلاف أو عشرة آلاف، فهذا يدفع له من الزكاة حتى يحرر نفسه، والأرجح أنها تشمل إعطاء المكاتب، ويشترى بها أيضًا عبيد ويعتقون، وكذلك أيضًا يفك بها الأسير، فإذا كان عند الكفار أسير من المسلمين يفك منها، كل ذلك داخل في قوله: وَفِي الرِّقَابِ.
الصنف السابع: قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، اختلف أيضًا العلماء في قوله: وَفِي سَبِيلِ الله، فالجمهور على أنها تختص بالغازي، غنيًّا كان أو فقيرًا، وإذا كان له راتب يكتفى بالراتب، إلا أن أبا حنيفة خصه بالغازي المحتاج. وقيل: يختص بالغازي وبالحاج، فيعطى الذي لم يحج من الزكاة.
قوله: «وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِي فِي الْحَجِّ» ، فيه أن مصارف الزكاة تشمل العتق، وتشمل أيضًا الذي لم يحج فيعطى من الزكاة لأداء الفريضة، وهذا قول أحمد[(694)]، وإسحاق؛ وهو اختيار البخاري رحمه الله، كما ذكر في الأثر.
وقيل: يشمل جميع وجوه البر وطرق الخير، كالمساجد والمدارس والمستشفيات وغيرها، لكن هذا قول ضعيف جدًّا؛ لأن هذا القول يصادم تحديد الأصناف الثمانية، ويجعل مصارف الزكاة لا حصر لها، وإن رجحه بعض المتأخرين، لكن هذا قول ضعيف لا وجه له.
الصنف الثامن: ابن السبيل وهو المسافر الذي انتهت نفقته، وليس عنده شيء يوصله إلى بلده، فيعطى من النفقة ما يوصله إلى بلده ولو كان غنيًّا، وسمي ابن السبيل لملازمته للطريق، فإذا سافر إلى بلد وانقطع عن أهله وبلده، ولا يستطيع أن يتصل ببلده؛ جعل له نصيب من الزكاة، فيعطى بقدر ما يوصله إلى بلده، ولو كان غنيًّا في بلده، ولا يرد ما أخذه من مال بعد أن يرجع إلى بلده؛ لأنه ينفقه، كأن يستأجر مثلاً سيارة، أو راحلة أو طائرة؛ لأنه من أهل الأصناف الثمانية.
قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنْ الزَّكَاةِ جَازَ» ، قول الحسن هذا ضعيف؛ لأنه يجب على الابن أن يشتري أباه من غير الزكاة؛ فبر والده واجب عليه، ومن البر أن يعتقه إذا وجده رقيقًا، وهذا من جنس النفقة. وهذا يتصور إذا كان الأب رقيقًا والابن رقيقًا، ثم الابن يعتقه سيده وتصير له الأموال، والأب يبقى رقيقًا، فيأتي الابن ويشتري أباه.
وقوله: «وَيُعْطِي فِي الْمُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ» هذا أحد القولين في تفسير قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ، وهو اختيار البخاري.
قوله: «وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، يعني: أن قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يشمل حبس الأدرع والعتاد والسلاح للمجاهدين.
قوله: «وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي لاَسٍ حَمَلَنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ» يريد المؤلف أن يستدل به على القول بأن نفقة الحج داخلة في قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ.
1468 قوله: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالصَّدَقَةِ» ، المراد بالصدقة هنا الزكاة، فأرسل عليه الصلاة والسلام من يأخذ الصدقة، فجاء عامل الصدقة إلى ابن جميل وإلى خالد بن الوليد وإلى العباس بن عبد المطلب، فرجع إلى النبي ﷺ وقال: إن هؤلاء منعوا الزكاة.
فقال النبي ﷺ: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يعني: ما يمنعه من دفع الزكاة؟! أما يذكر أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله ومع ذلك لم يشكر الله، ولم يدفع الزكاة، وقيل: إنه كان منافقًا ثم تاب.
وفيه: أن الإغناء يكون من الله ومن الرسول، بخلاف الرغبة فلا تكون إلا إلى الله، كما قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التّوبَة: 59]، تقول: آتاه الله وآتاه الرسول، وأغناه الله وأغناه الرسول، أي: يغنيه بالمال الذي يعطيه إياه، أما الرغبة فهي خاصة بالله، فلا يقال: يرغب إلى الله وإلى الرسول، إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ، ولا يقال: إنا إلى الرسول راغبون، أو إلى الله ورسوله، وكذلك الحسب والكفاية خاص بالله، حَسْبُنَا اللَّهُ، فلا يقال: حسبنا الله والرسول، والطاعة تكون لله وللرسول، والمحبة تكون لله وللرسول، أما الحسب والرغبة والدعاء والذبح والنذر والصلاة والصيام، فهذه عبادات خاصة بالله، ولا تكون إلا لله .
قوله: وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يعني: لا يمكن أن يمنع خالد الفرض، وقد تطوع بحبس أدرعه وأعتاده في سبيل الله، أي: إن كان لم يدفع الزكاة، فهو متأول بإجزاء ما حبسه عن الزكاة.
وأما العباس فكان متأولاً؛ لاعتقاده أنه دفعها مقدمًا عن عامين؛ ولهذا قال النبي ﷺ: وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا؛ لأنه دفعها مقدمًا عن عامين. فالنبي ﷺ تحمل عنه زكاة عامين.
الصنف السادس: قوله تعالى: وَالْغَارِمِينَ والغارم هو المدين الذي عليه ديون، وهو نوعان:
النوع الأول: الغارم لنفسه: هو الذي يلحقه ديون من أجل النفقات التي ينفقها على نفسه وعلى أولاده، فيشتري نفقة لأولاده بدين، وليس عنده شيء، أو يشتري كسوة لنفسه أو لأولاده، أو يستأجر بيتًا بالدين، فيعطى من الزكاة ما يسد هذا الدين.
وإذا كان يملك ما يسد به دينه ولو على فترات فلا يصير غارمًا؛ فالغارم هو الذي ليس عنده شيء يسد به دينه.
وإذا حل ميعاد دينه ولا يستطيع أن يسد دينه، يعطى من الزكاة.
النوع الثاني : غارم لغيره، وهو الذي يتحمل في ذمته ديونًا لأجل الصلح بين الناس، كأن يكون بين شخصين شحناء أو نزاع، بين أخ وأخيه، أو بين زوج وزوجته، أو بين قبيلة وقبيلة، فيأتي ويصلح بينهم، فيصلح بين القبائل وبين المتخاصمين أو بين أبناء العم، فيقول لهؤلاء: أنا أتحمل؛ أعطيكم عشرين ألفًا، وهؤلاء أعطيهم عشرين ألفًا، وهؤلاء خمسين ألفًا، وهؤلاء ستين ألفًا، قد يتحمل ديونًا إلى مائة ألف أو إلى مائتي ألف، فهذا يعطى من الزكاة ما يسد به هذه الديون التي تحملها؛ تقديرًا لعمله النبيل، حتى ولو كان غنيًّا أو كان يمتلك راتبًا يستطيع أن يسد منه دينه فإنه يعطى من الزكاة؛ لأنه أزال الشحناء والعداوة وألف بين القلوب؛ ولذلك جعل له نصيب من الزكاة، قال الله تعالى: لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النِّسَاء: 114].
المتن:
باب الاِسْتِعْفَافِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ
1469 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ ابْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَاسًا مِنْ الأَْنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ.
الشرح:
1469 في الحديث: الحث على الصبر والاستعفاف عن المسألة، وأنه ينبغي للإنسان أن يستعف، ولا يسأل إلا من حاجة أو ضرورة.
قوله: «أَنَّ نَاسًا مِنْ الأَْنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَعْطَاهُمْ» يعني: سألوه شيئًا من المال.
قوله: «ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ» ، أي: ثلاث مرات يسألونه المال ويعطيهم، «حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ» ، ثم بين لهم ﷺ أنه ما منعهم إلا لنفاد ما عنده، فقال ﷺ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ أي: ما كان عندي من المال فلن أدخره عنكم وسأعطيكم منه، لكن وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، أي: من يستعفف يجازى بالمثل، فيرزقه الله العفة والقناعة في قلبه.
قوله: وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، فيه: أن الله تعالى يجازي بالمثل، وأن من استعف فإن الله تعالى يعفه، وأن من يستغن فإن الله تعالى يغنيه بما يجعل في قلبه من القناعة والرضا والطمأنينة، ومن يتصبر يصبره الله.
ثم قال النبي ﷺ: وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ، فيه: بيان أن الصبر عطاء عظيم من الله، وهبة عظيمة، فمن أعطي الصبر ورزق القناعة والعفة والاستغناء فقد أوتي فضلاً عظيمًا.
ومن شواهد الاستعفاف عن المسألة حديث قبيصة بن مخارق الذي رواه الإمام مسلم أن النبي ﷺ قال: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُولَ: ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا الْفَاقَةُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ المَسْأَلَةِ، يَا قَبِيصَةُ، سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا [(695)].