شعار الموقع
شعار الموقع

شرح كتاب الزكاة من صحيح البخاري (24-6) تابع بَابُ الِاسْتِعْفَافِ عَنِ المَسْأَلَةِ - إلى باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ

00:00
00:00
تحميل
85

الشرح:

فالمسألة سحت حرام، لا تحل إلا لواحد من الثلاثة؛ رجل تحمل حمالة أي: في ذمته ديون، يصلح بين الناس أو ما أشبه ذلك فله أن يسأل حتى يسدد الحمالة، ورجل أصابته جائحة؛ حريق أو آفة اجتاحت ماله ولم يبق عنده شيء، فيسأل حتى يحصل له ما يقيم حاجته؛ لينفق على نفسه وأولاده، ورجل أصابه فقر شديد حتى شهد له ثلاثة من أصحاب العقول من قبيلته، وقالوا: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيشه، وما سوى ذلك فهو سحت، يقول النبي ﷺ لقبيصة: وما سوى ذلك يا قبيصة فهو سحت يأكلها صاحبها سحتًا، فدل هذا الحديث على أن الذي له أن يسأل إنما هو واحد من الثلاثة، وما عدا ذلك فينبغي أن يتصبر ويستعف ويستغني، ومن فتح على نفسه باب مسألة فتح الله عليه باب الفقر والذل ـ نسأل الله السلامة ـ.

وبعض الناس لا يبالي في السؤال فتجده يسأل الناس من غير حاجة تكثرًا، وهذا جاء عليه الوعيد الشديد كما سيأتي: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ [(696)]، وفي الحديث: الآخر: مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ [(697)]، وفي الحديث: الآخر: أن المسألة تأتي خدوش أو كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة [(698)].

فبعض الناس تجده ـ والعياذ بالله ـ يمتهن الشحاذة والسؤال، ويجعلها حرفة، يسأل وهو غير محتاج، وبعضهم قد يكون محتاجًا وعنده مستند لدينه، ثم يسد الدين الذي عليه ويستمر في السؤال تكثرًا فهذا كله سحت حرام عليه -نسأل الله السلامة والعافية.

المتن:

1470 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ.

الشرح:

1470، 1471 أقسم النبي ﷺ ـ وهو الصادق ـ للبيان وتأكيد المقال فقال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وفيه: إثبات اليد لله ، وإثبات أن الأنفس بيد الله .

وفيه: أن النبي ﷺ كان كثيرًا ما يحلف بهذا: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ

قوله: لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، يعني: يذهب إلى الصحراء ويجمع حزمة حطب، ثم يحملها على ظهره فيبيعها خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ؛ فيكف الله بها نفسه عن سؤال الناس، وكذا سائر الحرف والصناعات المباحة ولما سئل النبي ﷺ عن أطيب المكاسب، قال: عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُور [(699)]، فقد كان الأنبياء والصحابة والأخيار والعلماء يعملون، ويشتغلون، قال النبي ﷺ: «ما من نبي إلا رعى الغنم» قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة [(700)]، وكان نبي الله داود حدادًا يصنع الدروع، وكان يأكل من عمل يده، وكان نوح نجارًا، والعلماء كذلك، منهم الجصاص، ومنهم الدهان، حتى إنهم كانوا ينسبون إلى المهن، فلا ينبغي للإنسان أن يكون عالة على الناس ويذل نفسه بالسؤال.

ولما ولي أبو بكر الخلافة كان يعمل ويكسب لأهله كل يوم ما يكفيه؛ ولهذا لما حثهم النبي ﷺ على الصدقة جاء عمر وتصدق بنصف ماله، فقال له رسول الله ﷺ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قال: أبقيت لهم نصف مالي، ثم جاء أبو بكر بجميع ماله فتصدق به، فقال له رسول الله ﷺ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله[(701)].

قال العلماء: لا بأس أن يتصدق بجميع ماله إذا كان له كسب يومي، أما إذا لم يكن له كسب يومي ولا يستطيع إغناءهم بغيره فلا ينبغي له أن يتصدق المرء بجميع ماله ويبقى عالة، فأولاده أحق الناس بما في يده، ولابد أن يترك لأهله ما ينفق به عليهم.

والنصوص والأحاديث الكثيرة فيها أن الإنسان يبدأ بأولاده: اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ [(702)]، وكقوله: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ [(703)]، أي: يتصدق بأمواله ويترك أولاده يسألون الناس، وهم أولى الناس ببره! ولهذا لما تاب الله على كعب بن مالك قال للنبي ﷺ: يا رسول الله، «إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله ـ يعني: أتصدق بجميع مالي ـ فقال النبي ﷺ له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ [(704)] ـ أي: أمسك عليك بعض مالك، لا تتصدق به كله فهو خير لك ـ فقال: إني أمسك سهمي الذي في خيبر»، أرض كانت له.

المقصود: أن على الإنسان أن يعمل ويشتغل ولا يمتهن السؤال، أو يبقى ينتظر الصدقات حتى يعطيه الناس: «اليد العليا خير من اليد السفلى» ، اليد العليا هي اليد المعطية المنفقة، والسفلى هي الآخذة، فينبغي للإنسان أن تكون عنده همة عالية وتكون يده عليا لا سفلى، ولما حث النبي ﷺ أصحابه على الصدقة وليس عندهم شيء صاروا يحاملون أي: يحملون أمتعة الناس بالأجرة، فإذا حصلوا شيئًا تصدقوا ببعضه وأنفقوا على أهلهم بعضه.

المتن:

1471 حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ.

1472 وحَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى تُوُفِّيَ.

الشرح:

1472 قوله: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي» أي: ثلاث مرات يسأله المال وهو يعطيه في كل مرة؛ لأن النبي ﷺ كان لا يرد سائلاً، ثم نصح حكيمًا نصيحة وقعت في قلبه موقعها واستفاد منها حتى توفي، قال له: يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، يعني: أخذه من وجوهه المشروعة ولم يتطلع إلى ما عند الناس، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، يعني: يتطلع إلى أموال الناس ويتعرض للسؤال ويلح، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ وهذه هي الرواية المعروفة في الحديث، وفي رواية: وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ [(705)]، كما ذكره العيني في «عمدة القاري».

ثم قال له النبي ﷺ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى اليد العليا هي اليد المنفقة، والسفلى هي اليد الآخذة، فيد الفقير هي السفلى، ويد الغني هي العليا، وهذا من أدلة من قال بتفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر، قال حكيم: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا» ، أي: أقسم بالله؛ فالله تعالى هو الذي بعث نبيه بالحق.

قوله: «لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا» أي: لا أنقص، يعني: لا آخذ شيئًا من أحد أبدًا، فلما توفي النبي ﷺ وتولى الصديق الخلافة كان يدعو حكيمًا إلى العطاء، وهي الأموال التي تأتي من الفيء ومن غيره، فكان أبو بكر يوزعها على الناس بالتساوي ولا يفرق بين من تقدم إسلامه ومن تأخر، يقول: من تقدم إسلامه فأجره على الله، وفي زمن عمر فاوت بينهم، فصار من تقدم إسلامه يعطيه أكثر، وأهل بدر يعطيهم أكثر، فكان حكيم يرفض ويمتنع، ثم بعد ذلك لما توفي أبو بكر وجاء عمر وجاءه العطاء نادى حكيمًا ليعطيه فرفض وامتنع؛ فقد استفاد من نصيحة النبي ﷺ، حتى إن عمر أشهد عليه، فقال: أشهدكم على حكيم، أعطيه نصيبه الذي قسمه الله له ويأبى، وإنما حكيم امتنع خشية أن يستمر به الحال فيأخذ ويتعود الأخذ، وأشهد عليه عمر حتى لا يقع في نفس أحد أن عمر منعه حقه، فيبين للناس أنه ما منعه حقه وإنما هو الذي لم يقبل، قال الراوي: «فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى تُوُفِّيَ» .

فاستفاد من هذه النصيحة التي وقعت في قلبه، وهذا يدل على فضل الصحابة على من بعدهم، تؤثر فيهم النصائح والمواعظ، فيطبقون الأمر ويمتثلون له، أما المتأخرون فإن كثيرًا منهم لا يبالي، فكثير من الناس قد يسمع النصائح ولا يستفيد منها، والصحابة أسبق الناس إلى الخير والبر؛ ولهذا اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء رضوان الله عليهم.

المتن:

باب مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إِشْرَافِ نَفْسٍ

1473 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ: خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان حكم من أعطي شيئًا من المال دون سؤال ولم تتطلع نفسه إليه، هل يقبله أو لا يقبله؟

والجواب: يقبل.

قوله: «بَابُ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إِشْرَافِ نَفْسٍ» ، يعني: يقبل العطاء بهذين الشرطين:

الشرط الأول: من غير مسألة.

الشرط الثاني: من غير إشراف نفس.

وإشراف النفس؛ هو أن يظهر المرء فاقته وحاجته للناس، أو يتعرض لهم إبان الزكاة.

أما الإنسان الذي يأتيه شيء من المال ولم يشرف ولا تطلع ولا سأل ولا خطر بباله فإنه يقبله، بل يستحب له أن يقبله إلا في حالة ما إذا كان ثمنًا لدينه، كما قال بعض السلف: إن كان ثمنًا لدينك فدعه، ويكون ثمنًا لدينه بأن يعطى ليسكت عن الحق أو يتكلم بالباطل فهذا يكون رشوة؛ فلا يأخذه، أما إذا لم يكن ثمنًا لدينه ولم يتعرض للسؤال، فلم يسأل ولم تتطلع نفسه فإن الأفضل أن يقبله، وإن تركه فلا حرج؛ إلا أن يكون زكاة، وهو ليس من أهلها فلا يقبله.

والزكاة لا يقبلها الإنسان إلا إذا كان من أهل الأصناف الثمانية.

استدل المؤلف رحمه الله بقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۝ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ۝ كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۝ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ۝ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذّاريَات: 15-19] وهذا في وصف المتقين.

فالسائل معروف، وهو الذي يتعرض للناس ويسألهم أن يعطوه من فضول أموالهم، وله أحوال ثلاثة:

الحالة الأولى: أن تعلم أنه محتاج وأنه فقير، فهذا يعطى بقدر ما يسد حاجته من الزكاة ومن صدقة التطوع.

الحالة الثانية: أن تعلم أنه غير محتاج، فهذا يزجر ويمنع؛ لأنه سأل بغير حق، ولا يجوز له أن يسأل بغير حق، وإذا لم يرتدع يرفع أمره إلى ولاة الأمور حتى يؤدب.

الحالة الثالثة: أن تجهل حاله، ولا تدري هل هو محتاج أو لا، فهذا يعطى ولو بعض الشيء؛ لأنه قد يكون محتاجًا، وأنت لا تعلم حاله، ولا تدري عنه شيئا.

والمحروم: هو الذي حرم المال بأن يكون فقيرًا ليس عنده شيء، أو لأنه أصابت ماله جائحة لكن لا يسأل الناس شيئًا، فهذا يعطى من الزكاة.

1473 قوله: «سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي» ، فالنبي ﷺ كان يعطي عمر، فيقول: يا رسول الله، أعطه أحدًا أفقر مني، فقال له النبي ﷺ: خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ أي: يجوز الأخذ بهذين القيدين: غير سائل ولا مشرف، يعني: لم تتطلع نفسك إليه، ولم تتعرض للسؤال.

قوله: فَخُذْهُ هذا الأمر للاستحباب، يعني: ما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل وغير مشرف يستحب لك أن تأخذه وتنفقه في وجوه الخير، أو تنفقه على نفسك، أو تتموله.

قوله: وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ، هذا إرشاد من النبي ﷺ، يعني: وما لم يأتك فلا تتبعه نفسك، ولا تتعرض له، ولا يقع في قلبك، فتقول: ليتني أُعطى، فيجب أن يكون عندك قناعة وعندك تعفف عما في أيدي الناس.

ويتبين من هذا أن الترجمة: «بَابُ مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إِشْرَافِ نَفْسٍ» ، يعني: فليقبله.

المتن:

باب مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا

1474 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ.

1475 وَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُْذُنِ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ ﷺ.

وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ.

وَقَالَ مُعَلًّى: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَسْأَلَةِ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لذم من سأل الناس ليتكثر، فقوله: «بَابُ مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا» ، يعني: فهو مذموم وملوم.

1474 قوله: مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ هذا الحديث فيه: التحذير من السؤال بغير حق وأن صاحبه يأتي يوم القيامة وقد سقط لحم وجهه ـ نعوذ بالله ـ وفي اللفظ الآخر: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ [(706)]، وفي اللفظ الآخر: «من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته خموشًا أو كدوحًا في وجهه يوم القيامة» [(707)].

1475 قوله: إنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُْذُنِ، هذا في الوقوف بين يدي الله يوم القيامة، وهو مختصر من حديث الشفاعة الطويل.

قوله: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ يعني: عندما يكون الناس في الموقف والشمس تدنو من رءوسهم «اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ ﷺ» ، وهذه الاستغاثة بالحي الحاضر لا بأس بها، وقد قال الله تعالى عن موسى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القَصَص: 15]، أما الاستغاثة بالميت أو بالغائب فشرك، فلا يجوز للإنسان أن يستغيث بالميت أو بالغائب الذي لا يسمع، أما إذا كان حيًّا حاضرًا فلا بأس، كأن يستغيث غريق بسباح وهو من يحسن السباحة ويقول: أغثني؛ لأنه قادر على أن ينزل في الماء ويخرجه.

قوله: اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، معروف أنهم استغاثوا بخمسة أنبياء: بآدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد، وكل واحد من الأنبياء يعتذر ويقول: لست أهلاً لذلك، فآدم اعتذر بأكله من الشجرة، ونوح اعتذر بدعائه على أهل الأرض دعوة أغرقتهم، وإبراهيم اعتذر بكذباته الثلاث، وموسى اعتذر بقتله القبطي قبل النبوة، وعيسى لم يذكر ذنبًا إلا أنه اعتذر باتخاذ الناس له وأمه إلهين من دون الله، حتى وصلت النوبة إلى نبينا محمد ﷺ فقال: أْنَا لَهَا، أْنَا لَهَا، ثم ذهب ﷺ وسجد تحت العرش، ففتح الله عليه بمحامد، ثم جاء الإذن من الرب فقال: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ[(708)]، ولا يبدأ بالشفاعة ولا يشفع أحد، حتى نبينا ﷺ الذي هو أوجه الناس إلا بعد الإذن مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البَقَرَة: 255]، وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون.

قوله: فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ أي: باب الجنة. وبعد ذلك يشفع شفاعة أخرى لأهل الجنة، فيؤذن له بالدخول، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، وهو مقام الشفاعة يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ أي: أهل الموقف المجتمعون، وهذه الشفاعة هي الشفاعة العظمى الخاصة بنبينا ﷺ، وكذلك الشفاعة في عمه أبي طالب ـ شفاعة التخفيف ـ والشفاعة لأهل الجنة في الإذن لهم في دخولها.

وهذا الحديث متواتر.

المتن:

باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البَقَرَة: 273] وَكَمْ الْغِنَى

وَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: وَلاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ .لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البَقَرَة: 273]

1476 حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأُْكْلَةَ وَالأُْكْلَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِي أَوْ لاَ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان قول الله تعالى: « لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا [البَقَرَة: 273]» . فالله تعالى وصف هذه الحالة، يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ يعني: يتعففون. ولاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، فهؤلاء مدحهم الله وأثنى عليهم، فهم لا يسألون الناس إلحافًا ولا يستطيعون التكسب والضرب في الأرض، ولا يسألون الناس شيئًا، فيحسبهم الجاهل أغنياء بسبب تعففهم، فهؤلاء هم الذين ينبغي البحث عنهم وتطلبهم وإعطاؤهم الصدقة؛ لأنهم فقراء ومحتاجون ولا يعرفهم الناس، وقد يموت الواحد وهو في بيته وليس عنده شيء، وما تُعلم حاله؛ لأنه لا يتعرض للسؤال وليس عليه علامة الفقر.

فهل هناك حد للغنى إذا ملكه الإنسان يكون غنيًّا؟

بعض العلماء حدد قدر الغنى، فقالوا: من كان عنده أربعون درهمًا فهو غني. والصواب: أنه لا يحد، وأنه كما قال النبي ﷺ: وَلاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ أي: لا يجد الكفاية في النفقة والكسوة والسكنى، وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة، فقديمًا وإلى عهد قريب كان من يملك درهمًا أو درهمين يعد غنيًّا، لكن الآن الإنسان يكون عنده ألف وألفان وهو فقير لا يجد الكفاية؛ فالتحديد بقدر معين ليس بوجيه، والصواب أن الفقير هو الذي لا يجد غنى يغنيه.

1476 قوله: «سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الأُْكْلَةَ وَالأُْكْلَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِي أَوْ لاَ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا» .

الأُكلة بالضم: اللقمة، والأَكلة بالفتح: المرة الواحدة، كالغَدوة والعَشوة.

وفي اللفظ الآخر: وَلَكِنِ المِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ، فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ [(709)]. فيه: بيان أن هذا هو المسكين الأشد حاجة، فالنبي ﷺ نفى المسكنة عن السائل وأثبتها لمن هو أشد منه حاجة، وفي اللفظ الآخر: لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ المِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ، فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ [(710)]، والمعنى: أن المسكين الذي يشحذ ويمد يده، فهذا يعطيه تمرة، وهذا يعطيه لقمة، وهذا يعطيه درهمًا، فيحصّل بعض الشيء من حاجته، وهناك من هو أشد منه مسكنة، وهو الشخص الذي يستحي أن يسأل الناس وهو فقير، ولا يفطن له وليس عليه علامات الفقر، وإن كان الأول مسكينًا، لكن هذا أشد منه، فالنبي ﷺ ينفي الوصف عمن هو متصف به ليثبته لمن هو أولى منه، مثل الحديث الآخر: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ [(711)]، الصرعة: الذي يصرع الناس ويطرحهم، فهذا شديد قوي، لكن هناك من هو أشد منه، وهو الذي يملك نفسه عند الغضب، فنفى النبي ﷺ الشدة عمن هو متصف بها؛ ليثبتها لمن هو أولى منه، وهو الذي يملك نفسه عند الغضب، كذلك المسكين الذي يمد يده، أشد منه من يستحي فلا يسأل وليست عليه علامات الفقر ولا يفطن له فيتصدق عليه.

المتن:

1477 حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ ابْنِ أَشْوَعَ عَنْ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنْ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ.

الشرح:

1477 في الحديث: فضل بيان الصحابة وبحثهم عن العلم والفائدة.

قوله: «كتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنْ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» المراد بالكراهة هنا كراهة التحريم؛ لأنه ورد في اللفظ الآخر: «نهى عن ثلاث» [(712)]، والنهي للتحريم، خلافًا للنووي القائل بأن الكراهة للتنزيه[(713)]، والصواب: أن الكراهة هنا للتحريم، فكره لكم ثلاثًا، يعني: حرم عليكم ثلاثًا.

قوله: قِيلَ وَقَالَ، المعنى: أنه ينبغي للإنسان أن يمحص ويختار الكلام ولا ينقل كل كلام يسمعه، فلا ينقل إلا عن الأثبات، أما الذي ينقل كل شيء فيقع في الكذب ولابد.

وقوله: وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، المال هو عصب الحياة، فيجب ألا ينفقه الإنسان إلا في مصارفه الشرعية، قال تعالى: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النِّسَاء: 5].

وقوله: وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، إيراد المؤلف رحمه الله للحديث يدل على أن المراد كثرة السؤال في المال؛ لأنه قال: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البَقَرَة: 273].

وهو يشمل أيضًا السؤال في العلم، فيحرم في حالات: منها أن يريد السائل الرياء وإظهار أنه يَعرِف ويَفهم، ومنها أن يريد بسؤاله إحراج المسئول وإيقاعه في الغلط.

أما السؤال للفائدة والاستفادة فهذا مطلوب، قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النّحل: 43].

المتن:

1478 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَني عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ قَالَ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْهُمْ رَجُلاً لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ: أَوْ مُسْلِمًا قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا أَوْ قَالَ: مُسْلِمًا قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلاً ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا أَوْ قَالَ مُسْلِمًا يَعْنِي فَقَالَ: إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ.

وَعَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ هَذَا فَقَالَ: فِي حَدِيثِهِ فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ فَجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلْ أَيْ سَعْدُ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: فَكُبْكِبُوا قُلِبُوا مُكِبًّا أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أَحَدٍ فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ قُلْتَ: كَبَّهُ اللَّهُ لِوَجْهِهِ وَكَبَبْتُهُ أَنَا.

الشرح:

1478 قوله: «أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ قَالَ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْهُمْ رَجُلاً لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ» يعني: أعطاهم شيئًا من المال يتألفهم به على الإسلام ولم يعط شخصًا، وكان سعد يرى أنه أفضل من هؤلاء الذين أعطاهم النبي ﷺ، فقال ثلاث مرات: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا أَوْ قَالَ: مُسْلِمًا» ، ثم بين النبي ﷺ أنه إنما يعطي المرء ليثبت على الإسلام، ولا يعطي قِويْ الإيمان بل يتركه لإيمانه، وضعيف الإيمان يعطيه حتى يتقوى إيمانه ولا يرتد؛ ولهذا قال النبي ﷺ: إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ، يعني: خشية أن يرتد فيموت على الكفر، فبعض الناس ضعيف الإيمان إذا لم يعط ارتد؛ ولذا ما أعطى الأنصار ولا أعطى المهاجرين، ولهذا قال بعض شباب الأنصار الصغار: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشًا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فجمعهم النبي ﷺ وبين لهم، فقال: «إني أتألفهم على الإسلام، فالناس يذهبون بالشاة والبعير والإبل الذي أعطيتهم، وأنتم تذهبون برسول الله إلى رحالكم» ، فأيكم أفضل؟ من يذهب بالرسول ﷺ أو من يذهب بالأموال؟ حتى رضوا وبكوا حتى بلوا لحاهم من البكاء، وقالوا: الله ورسول أمنّ[(714)].

فالنبي ﷺ قال لسعد: يا سعد أنا لا أعطي قوي الإيمان بل أعطي ضعيف الإيمان؛ حتى لا يرتد، وحتى يقوى إيمانه؛ خشية أن يكبه الله في النار على وجهه.

وفي رواية: إني لأعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع [(715)]، فيه دليل على أن الإمام يعطي من الغنيمة حسب ما يراه من المصلحة للإسلام والمسلمين.

وفيه: دليل على أن الإيمان غير الإسلام؛ ولهذا قال سعد: «إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا أَوْ قَالَ: مُسْلِمًا» فيه: دليل على أن الإسلام أوسع من الإيمان، وأن من قصر في أداء بعض الواجبات، أو ارتكب بعض المحرمات يسمى مسلمًا ولا يسمى مؤمنًا؛ لأنه ناقص الإيمان إلا بالتقييد، فإذا سميته مؤمنًا تقول: مؤمن ضعيف الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يطلق عليه الإيمان، وإنما يطلق عليه الإسلام، تقول: مسلم عاص، ولا تقول: مؤمن، قال سعد: «إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا أَوْ قَالَ: مُسْلِمًا» ، يعني: لم يصل إلى درجة الإيمان حتى يطلق عليه الإيمان.

وهذا احتج به الجمهور على أن الإسلام غير الإيمان، وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد وهو اختيار البخاري، والصواب ما عليه الجمهور؛ ولهذا قال الله تعالى في سورة الحجرات: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحُجرَات: 14]؛ لأنهم ضعفاء الإيمان.

وفي رواية أن سعدًا قال: «فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ فَجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلْ أَيْ سَعْدُ» [(716)] يعني: تعال، وفي لفظ: أَقِتَالًا؟ أَيْ سَعْدُ [(717)] يعني: المسألة ليست قتالاً، أنا أعطي الرجل لمصلحة الإسلام والمسلمين، ولا أعطي قوي الإيمان حتى تقول: إني لأراه مؤمنًا.

قوله: فَكُبْكِبُوا قُلِبُوا، من عادة المؤلف رحمه الله إذا جاءت كلمة غريبة يفسرها، ففسر قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ [الشُّعَرَاء: 94]، أي: قلبوا، ويأتي هذا الفعل لازمًا ومتعديًا «أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أَحَدٍ» فهو لازم، «فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ قُلْتَ: كَبَّهُ اللَّهُ لِوَجْهِهِ وَكَبَبْتُهُ أَنَا» فهو متعد، فكب متعد وأكب لازم، فإذا زادت الحروف كان لازمًا وإذا نقصت كان متعديًا، وهذا من النوادر.

وفيه: أنه لا ينبغي الإلحاح في السؤال.

المتن:

1479 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: حدثني مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ.

الشرح:

1479 هذا ـ كما سبق ـ فيه: أن المسكين نوعان:

أحدهما: المسكين الطواف الذي يطوف على الناس، فهذا يعطيه تمرة وهذا يعطيه لقمة، وهذا يعطيه درهمًا، فيتجمع له شيء فيسد حاجته.

والآخر: ـ وهو الأشد مسكنة ـ الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس، فذكر له ثلاثة أوصاف: ليس عنده شيء ينفق على نفسه ولا على أولاده، ولا يفطن له ـ وليس عليه علامة فقر ـ فيتصدق عليه، وهو يستحي فلا يقوم فيسأل الناس، فهذا الذي يموت في بيته لا يُدرى عنه شيء؛ ولهذا قال: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ أي: الأشد منه حاجة.

المتن:

1480 حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُوَ أَحْسِبُهُ قَالَ: إِلَى الْجَبَلِ فَيَحْتَطِبَ فَيَبِيعَ فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ.

قَالَ أَبُو عَبْداللَّهِ: صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَكْبَرُ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَدْ أَدْرَكَ ابْنَ عُمَرَ.

الشرح:

1480 هذا ـ كما سبق ـ فيه: بيان أنه ينبغي للإنسان أن يعمل، وأن كونه يحتطب فيبيع، حتى يحصل شيئًا من الدراهم، ثم يأكل ويتصدق، هذا خير له من أن يسأل الناس، ويريق ماء وجهه، فبعضهم يعطيه وبعضهم يرده.

وفيه: التحذير من المسألة بغير حق.

المتن:

باب خَرْصِ التَّمْرِ

1481 حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ غَزْوَةَ تَبُوكَ فَلَمَّا جَاءَ وَادِيَ الْقُرَى إِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لأَِصْحَابِهِ: اخْرُصُوا، وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ فَقَالَ لَهَا: أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ قَالَ: أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلاَ يَقُومَنَّ أَحَدٌ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ فَعَقَلْنَاهَا وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَيِّءٍ وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ ﷺ بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ فَلَمَّا أَتَى وَادِيَ الْقُرَى قَالَ لِلْمَرْأَةِ: كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ؟ قَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلْ فَلَمَّا قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ: كَلِمَةً مَعْنَاهَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: هَذِهِ طَابَةُ فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا قَالَ: هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَْنْصَارِ قَالُوا: بَلَى قَالَ: دُورُ بَنِي النَّجَّارِ ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الأَْشْهَلِ ثُمَّ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ أَوْ دُورُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَفِي كُلِّ دُورِ الأَْنْصَارِ يَعْنِي خَيْرًا.

1482 وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ: حَدَّثَنِي عَمْرٌو: ثُمَّ دَارُ بَنِي الْحَارِثِ ثُمَّ بَنِي سَاعِدَةَ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ: عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ عَنْ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كُلُّ بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَهُوَ حَدِيقَةٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَائِطٌ لَمْ يُقَلْ حَدِيقَةٌ.

الشرح:

هذا الباب معقود لبيان حكم خرص التمر، والخرص معناه: تقدير ما على النخل من الرطب تمرًا إذا يبس.

1481 في الحديث: مشروعية الخرص، والخرص هو حزر وتقدير ما على النخل من الرطب تمرًا إذا يبس، فالخرص معناه الحزر والتقدير، يعني: تقدر هذا التمر ـ الذي ما يزال رطبًا ـ على رءوس النخل كم يساوي وزنه إذا يبس؛ لأنه إذا يبس يخف وزنه، وإذا كان رطبًا يكون ثقيلاً.

وسبب مشروعية الخرص وبعث الخارصين أن يتوسع أهل النخيل والثمار في الأكل والإهداء من ثمارهم، فإنه إذا بدا الصلاح في التمر أو في الحبوب والثمار يأتي الخارصون ويقدرون كم يساوي، فإذا علموا مقدار التمر في النخيل، فإنه يترك أهل النخيل يأكلون ويتصدقون ويتوسعون بعد علمهم بمقدار الزكاة، فإذا جاء الجذاذ، جاء المصدق وأخذ الزكاة، لكن لو ترك الخرص حتى يأتي الجذاذ صار في هذا تضييق على أهل النخل فلا يستطيعون أن يأكلوا أو يتوسعوا أو يهدوا شيئًا؛ لأن مقدار التمر لم يعلم بعد، هذه هي الحكمة من الخرص، والخرص يكون عند بدو الصلاح، والزكاة تؤخذ بعد الجذاذ والصرام، بعد أن تصرم النخيل يأتي العمال ويأخذون الزكاة.

ولهذا لما غزا النبي ﷺ غزوة تبوك وجاء وادي القرى فإذا امرأة في حديقة ـ بستان لها ـ فقال النبي ﷺ: اخْرُصُوا أي: هذه الحديقة «وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ» يعني: قدرها عشرة أوسق، والوسق ستون صاعًا، وهي عشرة في ستين بستمائة صاع، فقال لها النبي ﷺ: فَقَالَ لَهَا: أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا .

قال الراوي: «فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ قَالَ: أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلاَ يَقُومَنَّ أَحَدٌ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ، هذا من علم الغيب الذي أطلع الله عليه رسوله ﷺ، أرشد أصحابه ﷺ إلى أنه ستهب ريح شديدة، وأرشدهم ماذا يفعلون؛ بأن لا يقوم أحد من مكانه ومن كان معه بعير فليعقله، وعقل البعير هو ربط يديه بالحبل حتى لا يقوم.

قوله: «فَعَقَلْنَاهَا وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَيِّءٍ» ، وقد امتثل الصحابة لأمر النبي ﷺ ولم يقوموا وعقلوا إبلهم، إلا أن رجلاً لم يمتثل لأمر النبي ﷺ، وهذا الرجل قام فعوقب عقوبة عاجلة لما لم يعمل بالأمر، فحملته الريح بغير اختياره من تبوك إلى حائل في جبل طيئ.

قوله: «وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ ﷺ بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ» ، يعني: أنه صالحه على دفع الجزية، فأهدى له بغلة بيضاء؛ فالنبي ﷺ قبل هدية ملك أيلة، «وَكَسَاهُ بُرْدًا» أي: ثوبًا، «وكتب له ببحرهم» ، يعني: ببلدهم، أو بأهل بحرهم؛ لأنهم كانوا سكانًا بساحل البحر، ومعناه أن النبي ﷺ أقرهم عليها بما التزموه من الجزية.

فلما رجع النبي ﷺ من تبوك، ومر بوادي القرى قال النبي ﷺ للمرأة: كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ؟، يعني: كم بلغت الثمار من الأوسق، « قَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:» ، أي: جاءت الثمار عشرة أوسق بمقدار ما خرصها النبي ﷺ.

فقال النبي ﷺ لأصحابه: إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، يعني: سالك الطريق القريبة التي توصلني إلى المدينة، «فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل» ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلْ فَلَمَّا قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ: كَلِمَةً مَعْنَاهَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: هَذِهِ طَابَة ، طابة: اسم من أسماء المدينة، فمن أسمائها طيبة وطابة والمدينة، أما يثرب فهذا اسم جاهلي، قال تعالى في سورة الأحزاب: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزَاب: 13]، وهذا من قول المنافقين.

قوله: «فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا قَالَ: هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، وفي الرواية التي بعد هذه قال: أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ [(719)]، وهذا فيه أن الله تعالى جعل في جبل أحد من الإحساس، فصار يحب المسلمين ويحبونه، فهذا من الإحساس الذي جعله الله في الجبال وإن كانت صمًّا، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ [البَقَرَة: 74].

وقوله: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَْنْصَارِ المراد بالدور: القبائل، ودورهم: قبائلهم، «قَالُوا: بَلَى قَالَ: دُورُ بَنِي النَّجَّارِ، وهم أخوال النبي ﷺ، أخوال جده عبد المطلب؛ لأن أم عبد المطلب سلمى من بني النجار، ونزل النبي ﷺ لما جاء المدينة على أخواله بني النجار. قال: ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الأَْشْهَلِ ثُمَّ دُورُ بَنِيسَاعِدَةَ أَوْ دُورُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وفي الرواية الأخرى: ثُمَّ دَارُ بَنِي الْحَارِثِ ثُمَّ بَنِي سَاعِدَةَ [(720)].

قوله: وَفِي كُلِّ دُورِ الأَْنْصَارِ يَعْنِي خَيْرًا، أي: كل قبائل الأنصار فيها خير، خص النبي ﷺ ثم عمم، فأفضلها وخيرها دور بني النجار ـ أخوال النبي ﷺ ـ ثم دور بني عبد الأشهل، ثم دور بني ساعدة، ثم دور بني الحارث، وفي كل دور الأنصار خير.

1482 قوله: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ» يعني: البخاري.

قوله: «كُلُّ بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَهُوَ حَدِيقَةٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَائِطٌ لَمْ يُقَلْ حَدِيقَةٌ» ، فالبخاري يفسر الحديقة، متى تسمى حديقة ومتى لا تسمى حديقة، فقال: إنها تسمى حديقة إذا كان عليها حائط من الأشجار أو غيرها، وإذا لم يكن عليها حائط تسمى بستانًا.

وفي نسخة الشارح أن أبا عبيد ـ القاسم بن سلام اللغوي المعروف ـ هو الذي فسر هذا، ونقل عنه البخاري ذلك.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: «بَابُ خَرْصِ التَّمْرِ» أي: مشروعيته، والخرص ـ بفتح المعجمة، وحكي كسرها وبسكون الراء بعدها مهملة ـ هو حزر ما على النخل من الرطب تمرًا، ثم حكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن تفسيره أن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب مما تجب فيه الزكاة بعث السلطان خارصًا ينظر فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيبًا، وكذا وكذا تمرًا فيحصيه، وينظر مبلغ العشر فيثبته عليهم ويخلي بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الجذاذ أخذ منهم العشر، انتهى».

ثم قال الحافظ: «وفائدة الخرص التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها والبيع من زهوها وإيثار الأهل والجيران والفقراء؛ لأن في منعهم منها تضييقًا لا يخفى».

هذه هي الفائدة: التوسعة على أرباب الثمار في التناول والبيع والأكل.

قال الحافظ: «وقال الخطابي: أنكر أصحاب الرأي الخرص، وقال بعضهم: إنما كان يفعل تخويفًا للمزارعين؛ لئلا يخونوا لا ليلزم به الحكم؛ لأنه تخمين وغرور أو كان يجوز قبل تحريم الربا والقمار».

والأحناف أصحاب الرأي[(718)] ينكرون الخرص، يقولون: لا يوجد خرص؛ لأنه تخمين وغرر، ويجاب عنه بجوابين:

الجواب الأول: أن هذا معارضة للنص، وما كان كذلك فهو ساقط، فلا تعارض النصوص بالآراء، فالنبي ﷺ خرص، والحديث صريح في أن النبي ﷺ خرص للمرأة عشرة أوسق، فكيف ينكر الأحناف الخرص ويقولون: تخمين وغرر، هذا رأي في مقابلة النص، ولا يجوز أن يصادم النص الرأي والقياس؛ لأن هذا باطل فاسد مردود.

الجواب الثاني: أن نقول: إن هذا ليس غررًا ولا تخمينًا، بل هو اجتهاد مبني على التأمل والنظر، وأنه ينظر فيه ويقدره أهل الخبرة، وليس كل أحد يكون له النظر والتأمل.

قال الحافظ: «وتعقبه الخطابي بأن تحريم الربا والميسر متقدم، والخرص عمل به في حياة النبي ﷺ حتى مات».

ثم قال: «ثم أبو بكر وعمر فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولا من التابعين تركه إلا عن الشعبي. قال: وأما قولهم: إنه تخمين وغرر فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار التمر وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير. وحكى أبو عبيد عن قوم منهم أن الخرص كان خاصًّا بالنبي ﷺ؛ لأنه كان يوفق من الصواب ما لا يوفق له غيره، وتعقبه بأنه لا يلزم من كون غيره لا يسدد لما كان يسدد له ـ يعني: كون الإنسان لا يسدد مثل تسديد النبي ﷺ  سواء أن تثبت بذلك الخصوصية، ولو كان المرء لا يجب عليه الاتباع إلا فيما يعلم أنه يسدد فيه كتسديد الأنبياء لسقط الاتباع».

فالقول بأن الخرص خاص بالنبي ﷺ قول باطل أيضًا.

قال الحافظ: «وترد هذه الحجة أيضًا بإرسال النبي ﷺ الخراص في زمانه والله أعلم. واعتل الطحاوي بأنه يجوز أن يحصل للثمرة آفة فتتلفها فيكون ما يؤخذ من صاحبها مأخوذًا بدلاً مما لم يسلم له. وأجيب بأن القائلين به لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص، قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان».

قال الحافظ: «وفي هذا الحديث مشروعية الخرص، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه أول الباب، واختلف القائلون به هل هو واجب أو مستحب؟ فحكى الصَّيْمري من الشافعية وجهًا بوجوبه، وقال الجمهور: هو مستحب إلا إن تعلق به حق لمحجور مثلاً، أو كان شركاؤه غير مؤتمنين فيجب لحفظ مال الغير، واختلف أيضًا هل يختص بالنخل أو يلحق به العنب أو يعم كل ما ينتفع به رطبًا وجافًّا؟ وبالأول قال شريح القاضي وبعض أهل الظاهر، والثاني قول الجمهور، وإلى الثالث نحا البخاري، وهل يمضي قول الخارص أو يرجع إلى ما آل إليه الحال بعد الجفاف؟ الأول قول مالك وطائفة، والثاني قول الشافعي ومن تبعه، وهل يكفي خارص واحد عارف ثقة أو لابد من اثنين، وهما قولان للشافعي، والجمهور على الأول».

وأرى أنه يكفي خارص واحد؛ لأن النبي ﷺ كان يرسل واحدًا، ولا يرجع إلى غيره؛ فيكفي قوله.

قال: «واختلف أيضًا هل هو اعتبار أو تضمين؟ وهما قولان للشافعي أظهرهما الثاني، وفائدته جواز التصرف في جميع الثمرة ولو أتلف المالك الثمرة بعد الخرص أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص. وفيه: أشياء من أعلام النبوة كالإخبار عن الريح وما ذكر في تلك القصة، وفيه: تدريب الأتباع وتعليمهم وأخذ الحذر مما يتوقع الخوف منه، وفضل المدينة والأنصار، ومشروعية المفاضلة بين الفضلاء بالإجمال والتعيين، ومشروعية الهدية والمكافأة عليها».

وفي السنن و«صحيح ابن حبان» من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعًا: إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ، فَدَعُوا الرُّبُعَ [(721)]».

يعني: يترك ثلث أو ربع ما يخرص؛ لأن أهل الأموال يأكلون ويهدون ويتصدقون.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال بظاهره الليث وأحمد وإسحاق وغيرهم، وفهم منه أبو عبيد في «كتاب الأموال» أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه فقال: يترك قدر احتياجهم، وقال مالك وسفيان: لا يترك لهم شيء، وهو المشهور عن الشافعي. قال ابن العربي: والمتحصل من صحيح النظر أن يعمل بالحديث وهو قدر المؤنة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رطبًا».

وهذا هو الصواب الذي يعمل به، يترك الثلث أو الربع مما يخرص.

والخرص واجب؛ لأن الأصل في الأوامر ظاهرها الوجوب، قوله: «اخْرُصُوا» هذا أمر، وكون النبي ﷺ يبعث عماله للخرص، ظاهره أنه واجب على الإمام أن يرسل العمال ليخرصوا.

المتن:

باب الْعُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَبِالْمَاءِ الْجَارِي

وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: «فِي الْعَسَلِ شَيْئًا».

1483 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَني يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: هَذَا تَفْسِيرُ الأَْوَّلِ لأَِنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ فِي الأَْوَّلِ يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَفِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَبَيَّنَ فِي هَذَا وَوَقَّتَ وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ وَالْمُفَسَّرُ يَقْضِي عَلَى الْمُبْهَمِ إِذَا رَوَاهُ أَهْلُ الثَّبَتِ كَمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُصَلِّ فِي الْكَعْبَةِ وَقَالَ بِلاَلٌ: قَدْ صَلَّى فَأُخِذَ بِقَوْلِ بِلاَلٍ وَتُرِكَ قَوْلُ الْفَضْلِ.

الشرح:

هذا الباب معقود لمقدار الزكاة فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، وما يسقى أيضًا بالكلفة والمئونة.

قال المؤلف رحمه الله: «بَابُ الْعُشْرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَبِالْمَاءِ الْجَارِي» ، يعني: وما يسقى بالمئونة عن طريق النضح يجب فيه أقل من هذا.

1483 قوله: فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، يعني: ما كان يسقى بالمطر، أو كان يسقى بالعيون الظاهرة على وجه الأرض أو بالماء الجاري.

قوله: أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ العثري ما يشرب بعروقه من غير سقي أو من رطوبة الأرض، وهذا فيه العشر أي: عشرة بالمائة، فإذا أخرج ألف وسق مثلاً ففيه مائة وسق؛ لأنه ليس فيه مشقة ولا كلفة.

قوله: وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ أما إذا صار الماء يستجلب بكلفة عن طريق الآلات، أو عن طريق الإبل أو البقر بالنضح ـ ففيه نصف العشر ـ.

فهذا الحديث فيه: بيان مقدار الزكاة في الحبوب والثمار الخارجة من الأرض، وأنها تختلف باختلاف المئونة وعدمها، فإن كان يسقى بلا مئونة وبلا كلفة ففيه العشر، كما إن كان يسقى عن طريق المطر أو العيون الجارية كالسيل الذي يأتي على الوادي، وكذلك الذي يشرب بعروقه أو برطوبة الأرض؛ فهذا فيه العشر، أما ما كان يسقى بتكلفة ومشقة فإن فيه نصف العشر. وما اجتمع فيه الأمران ـ بعضه بكلفة وبعضه بدون كلفة ـ يكون فيه ثلاثة أرباع العشر.

قوله: «وَلَمْ يَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْعَسَلِ شَيْئًا» ، هذا هو الصواب أن العسل لا زكاة فيه؛ لعدم الدليل، وهو قول الجمهور، وقال بعض العلماء: فيه الزكاة، وليس في هذا إلا آثار ضعيفة لا تثبت، والصواب أن العسل ليس فيه زكاة.

وهذا الحديث ليس فيه ذكر النصاب، لكن جاء في الحديث الذي بعد هذا وهو حديث أبي سعيد في تحديد النصاب، يعني: هل كل ما يخرج من الأرض فيه زكاة أو هناك نصاب؟ فالحديث التالي خصص عموم هذا الحديث، كما سيبينه المؤلف رحمه الله.

قوله: «هَذَا تَفْسِيرُ الأَْوَّلِ» ، هذا الكلام من قول البخاري وقع هنا، ووقع في رواية غير أبي ذر بعد حديث أبي سعيد؛ وقد جزم أبو علي الصدفي بأن هذا من بعض النساخ.

يعني: كلام البخاري يجب أن ينقل للحديث الذي بعد هذا.

المتن:

باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ

1484 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِكٌ قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَلاَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الإِْبِلِ الذَّوْدِ صَدَقَةٌ وَلاَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ قَالَ أَبُو عَبْداللَّهِ: هَذَا تَفْسِيرُ الأَْوَّلِ إِذَا قَالَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَيُؤْخَذُ أَبَدًا فِي الْعِلْمِ بِمَا زَادَ أَهْلُ الثَّبَتِ أَوْ بَيَّنُوا».

الشرح:

هذا الباب معقود لبيان مقدار النصاب في زكاة الحبوب والثمار والإبل والفضة.

1484 قوله: لَيْسَ فِيمَا أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ يعني: أقل النصاب في الحبوب والثمار هو خمسة أوسق، والوسق: ستون صاعًا بصاع النبي ﷺ، وصاع النبي ﷺ: أربعة أمداد، والمُد: حفنة ملء كفي الرجل المتوسط اليدين، فيكون قدر النصاب ثلاثمائة صاع بصاع النبي ﷺ، فمن أخرجت أرضه من الحبوب والثمار ثلاثمائة صاع فعليه الزكاة، وإن أخرجت أقل من ثلاثمائة صاع فليس فيها زكاة؛ لأنها لم تبلغ النصاب.

قوله: وَلاَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الإِْبِلِ الذَّوْدِ أي: نصاب زكاة الإبل خمس، والذود: القطيع من الإبل بين الثلاث إلى العشر، يعني: إذا كان عنده خمسة ترعى في البر أكثر الحول ففيها الزكاة، وإن كان عنده أربعة من الإبل ترعى فليس فيها زكاة؛ لأنها لم تبلغ النصاب.

قوله: وَلاَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ الورِق ـ بكسر الراء ـ أي: الفضة، يعني: نصاب زكاة الفضة خمس أواق، والأوقية: أربعون درهمًا، فيكون نصاب الفضة مائتي درهم، أما الأوراق النقدية إذا بلغت ما قيمته مائتي درهم فإن فيها الزكاة، وهي تعادل بالريال العربي السعودي ستة وخمسين ريالاً فضة.

وحديث أبي سعيد يفسر حديث ابن عمر السابق: فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ. [(722)]، هذا عام يشمل النصاب وغير النصاب، فجاء حديث أبي سعيد ففسره، ومعنى فسره أي: خصصه، فحديث أبي سعيد خصص عموم حديث ابن عمر، وبين أن الذي تجب فيه الزكاة إنما هو ما بلغ النصاب، وهو خمسة أوسق، يعني: حديث ابن عمر مطلق يشمل في ظاهره القليل والكثير، لكن جاء حديث أبي سعيد وفسره، وهذا معنى قول المؤلف: «هَذَا تَفْسِيرُ الأَْوَّلِ»، أي: حديث أبي سعيد تفسير لحديث ابن عمر؛ حيث إنه خصص عمومه.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد