الشرح:
لأنه لم يذكر في الأول حدًّا للنصاب، وجاء التفسير في حديث أبي سعيد فخصص العموم، فلا تجب الزكاة إلا فيما بلغ النصاب.
وزاد في حديث أبي سعيد قدرَ النصاب وهو خمسة أوسق، والزيادة من الحافظ مقبولة، والمفسر ـ يعني: الخاص كما في حديث أبي سعيد ـ يقضي على المبهم ـ أي: العام الذي هو حديث ابن عمر ـ، فجاءت الزيادة في حديث أبي سعيد، وهو التخصيص في النصاب، فتقبل الزيادة من أهل الثبت والحفظ.
ومن ذلك ما روى الفضل بن عباس «أن النبي ﷺ لم يصل في الكعبة» [(723)]، وقال بلال: «قد صلى» [(724)]، فأُخذ بقول بلال وتُرك قول الفضل، يعني: أن النبي ﷺ لما دخل الكعبة في حجة الوداع ومعه عثمان الحجبي وبلال وأغلقوا عليهم الباب، وجلسوا ساعة، وكان ابن عمر واقفًا عند الباب، فلما خرجوا سأل بلالاً: أصلى النبي ﷺ؟ قال: نعم، بين الأسطوانتين ركعتين، وجاء عن الفضل بن عباس أنه لم يصل، فالصواب أن نأخذ بقول المثبت؛ لأن معه زيادة علم، فإذا روى أهل الثبت زيادة يؤخذ بها ويقدم، فأخذ الناس بقول بلال الذي قال: صلى، ولم يأخذوا بقول الفضل بن عباس الذي قال: إنه كبر في نواحيه ولم يصل؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
فكذلك هنا حديث أبي سعيد جاء بزيادة فيؤخذ بها، فهذا هو مقصود المؤلف رحمه الله.
المتن:
بَابُ أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ وَهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ فَيَمَسُّ تَمْرَ الصَّدَقَةِ
1485 حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الأَْسَدِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ ابْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ فَيَجِيءُ هَذَا بِتَمْرِهِ وَهَذَا مِنْ تَمْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِنْتَمْرٍ فَجَعَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنهما يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا تَمْرَةً فَجَعَلَهَ فِي فِيهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ ﷺ لاَ يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ.
الشرح:
قوله: «أَخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ» المراد بصدقة التمر هنا: الزكاة المفروضة، والصدقة تشمل الفريضة والنافلة.
قوله: «عِنْدَ صِرَامِ النَّخْلِ» يعني: عند الجذاذ والقطاف.
قوله: «وَهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ فَيَمَسُّ تَمْرَ الصَّدَقَةِ» ، المس جائز لكل أحد، والأكل ممنوع، فهناك فرق بين الأكل وبين المس؛ ولهذا زجر النبي ﷺ الحسن لما جعل تمر الصدقة في فيه وأخرجه منه.
1485 قوله: «فَجَعَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنهما» أي: وهما صبيان صغيران.
أي أنه في وقت حصاد التمر وقطافه أتى كل صاحب تمر بزكاة تمره حتى صار عند النبي ﷺ كوم من تمر، فجعل الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بالتمر، حتى إذا أخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه زجره النبي ﷺ، وأخرجها من فيه، وقال: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ ﷺ لاَ يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ، يعني: حرم الله على محمد وعلى آل محمد أن يأكلوا الزكاة؛ لأنها أوساخ الناس، وعوضهم عنها من الخمس ـ خمس الغنيمة ـ قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفَال: 41]. أي: أن الفيء يقسم خمسة أقسام: لله وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
وفيه: تعليم الصبيان ـ ولو كانوا صغارًا ـ وضربهم للتعليم؛ فلا يترك الصبي فيسوء خلقه.
وفيه: أن الصغير يمنع مما يمنع منه الكبير، فإذا كان ذكرًا لا يلبس خاتم الفضة والذهب، ولا يلبس الحرير، ولا يجعل ثوبه تحت الكعب، وغير ذلك.
المتن:
بَابُ مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ
وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ الصَّدَقَةُ فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: لاَ تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا فَلَمْ يَحْظُرْ الْبَيْعَ بَعْدَ الصَّلاَحِ عَلَى أَحَدٍ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ.
1486 حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلاَحِهَا قَالَ: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ.
1487 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا.
1488 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ قَالَ: حَتَّى تَحْمَارَّ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لحكم بيع الثمار أو النخل أو الأرض أو الزرع وقد وجبت فيه الزكاة، فهل يجوز أو لا يجوز؟
المسألة خلافية بين أهل العلم، فبعض أهل العلم يقولون: لا يجوز أن يبيعها حتى يؤدي الزكاة منها، لا يجوز البيع إلا بعد بدو الصلاح، كما في الأحاديث التي ذكرها المؤلف, في الحديث الأول في الباب: «نهى النبي ﷺ عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها» ، وفي حديث جابر أيضًا: «نهى النبي ﷺ عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» [(725)]، وكان ابن عمر إذا سئل عن صلاحها قال: حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ[(726)].
وفي حديث ثالث عن أنس: «أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الثمار حتى تزهي ، قال : وما تزهي ؟ قيل : تَحْمَارَّ. [(727)]، وبدو الصلاح في كل شيء بحسبه إن كان نخلاً فإذا احمر أو اصفر، وإن كان عنبًا فإذا اسود، وإن كان حبًّا فإذا اشتد الحب في سنبله، ولا يجوز بيعها قبل بدو الصلاح؛ لأنها معرضة للآفة والتلف، بخلاف ما إذا بلغت الصلاح فإنها في الغالب تسلم من الآفات، فهذه هي الحكمة من النهي،
1487 قوله: «حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا» سبق أن ذكرنا أن بدو الصلاح في كل شيء بحسبه، فإن كان نخلاً فإذا احمر أو اصفر، وإن كان عنبًا فإذا اسود، وإن كان حبًّا فإذا اشتد في سنبله، فلا يجوز بيع الثمار قبل بدو الصلاح؛ لأنها معرضة للآفة والتلف، بخلاف ما إذا بلغت الصلاح فإنها في الغالب تسلم من الآفات، إلا إذا باعه بشرط القبض في الحال، إذا أراده علفًا للدواب مثلاً, إلا إذا باعه بشرط القبض في الحال ـ إذا أراده علفًا للدواب مثلاً ـ فهذا لا بأس به، أما إذا أراده تمرًا فلا يبعه حتى يبدو الصلاح.
فالبيع بعد بدو الصلاح لا إشكال فيه، لكن متى يكون بدو الصلاح؟
بعض العلماء يقول: إذا بدا الصلاح في بعض أنواع النخيل فهو صلاح للجميع، لكن ليس هذا بظاهر، بل الظاهر أن كل نوع من النخل أو التمر له حكمه الخاص؛ لأن النخل أنواع متعددة، وبينها تفاوت في بدو الصلاح في الزمان، فقد يبدو الصلاح في بعضها، وبعضها يحتاج إلى شهر أو شهرين حتى يبدو صلاحه, فإذا بدا الصلاح جاز له البيع. فإذا باع هل يجوز أن يبيعها قبل أن يخرج الزكاة أو لابد أن يخرج الزكاة أولا ثم يبيع ؟ هذا مسألة خلافية بين أهل العلم.
البخاري رحمه الله اختار أنه يجوز أن يبيعها إذا بدا الصلاح ولو وجبت فيها الزكاة، والزكاة يخرجها منها أو من غيرها؛ لأن الزكاة في ذمته، هكذا قال البخاري في الترجمة، قال: «بَابُ مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ الصَّدَقَةُ فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ» ، يعني: له أن يؤدي الزكاة من غير هذا الثمر.
وقوله: «أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ» ، أي: إذا باع الثمار ولم تجب فيه الصدقة ـ كما إذا كانت دون النصاب، يعني: أقل من خمسة أوسق ـ فليس فيه إشكال، وهذا بعد بدو الصلاح.
واستدل البخاري بهذا الحديث على مذهبه أنه يجوز بيع الثمرة إذا بدا صلاحها ولو وجبت فيها الزكاة، ففي الحديث لم يحظر البيع بعد الصلاح على أحد، ولم يخصص بوجوب الزكاة من عدمها، وهذا تفقه من البخاري رحمه الله في النص، فالحديث فيه نهي عن بيع الثمرة إلا إذا بدا الصلاح، فإذا بدا الصلاح جاز البيع لكل أحد، ولم يقل: إلا من وجبت عليه الزكاة فلا يبيع، وهذا استدلال البخاري رحمه الله.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَابُ مَنْ بَاعَ ثِمَارَهُ أَوْ نَخْلَهُ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ وَقَدْ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ الصَّدَقَةُ فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ بَاعَ ثِمَارَهُ وَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ» ظاهر سياق هذه الترجمة أن المصنف يرى جواز بيع الثمرة بعد بدو الصلاح ولو وجبت فيها الزكاة بالخرص مثلاً؛ لعموم قوله ﷺ في حديث الباب: «حتى يبدو صلاحها» وهو أحد قولي العلماء.
والثاني : لا يجوز بيعها بعد الخرص؛ لتعلق حق المساكين بها وهو أحد قولي الشافعي، وقائل هذا حمل الحديث على الجواز بعد الصلاح وقبل الخرص؛ جمعًا بين الحديثين.
وأما قوله: «الْعُشْرُ أَوْ الصَّدَقَةُ» فمن العام بعد الخاص، وفيه: إشارة إلى الرد على من جعل في الثمار العشر مطلقًا من غير اعتبار نصاب، ولم يرد أن الصدقة تسقط بالبيع.
وأما قوله: «فَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ» فلأنه إذا باع بعد وجوب الزكاة فقد فعل أمرًا جائزًا كما تقدم، فتعلقت الزكاة بذمته، فله أن يعطيها من غيره أو يخرج قيمتها على رأي من يجيزه، وهو اختيار البخاري كما سبق».
قال الحافظ: «وأما قوله: «وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ» فيتوقف على مقدمة أخرى، وهي أن الحق يتعلق بالصلاح، وظاهر القرآن يقتضي أن وجوب الإيتاء إنما هو يوم الحصاد على رأي من جعلها في الزكاة، إلا أن يقال: إنما تعرضت الآية لبيان زمن الإيتاء لا لبيان زمان الوجوب.
والظاهر أن المصنف اعتمد في تصحيح هذه المقدمة استعمال الخرص عند الصلاح؛ لتعلق حق المساكين، فطواها بتقديمه حكم الخرص فيما سبق، أشار إلى ذلك ابن رشيد وقال ابن بطال: أراد البخاري الرد على أحد قولي الشافعي بفساد البيع كما تقدم، وقال أبو حنيفة: المشتري بالخيار ويؤخذ العشر منه ويرجع هو على البائع، وعن مالك: العشر على البائع إلا أن يشترطه على المشتري وهو قول الليث، وعن أحمد: الصدقة على البائع مطلقًا وهو قول الثوري والأوزاعي، والله أعلم».
هذا خلاف في هذه المسألة؛ فالبخاري يرى أنه لا بأس أن تباع، وبعض العلماء يقول: تعلق به حق المساكين فلابد أن يخرج العشر.
والأقرب عندي ـ والله أعلم ـ أنه لابد أن يخرج الزكاة منها؛ لأنه تعلق به حق المساكين، والله تعالى يقول: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعَام: 141]، فيخرج الزكاة منه ويرجع على المشتري؛ لأنه تعلق به حق المساكين، وكونه يشتري تمرًا آخر أو يعطيهم دراهم ليس بظاهر.
المتن:
بَابُ هَلْ يَشْتَرِي صَدَقَتَهُ وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ صَدَقَتَهُ غَيْرُهُ
لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ إِنَّمَا نَهَى الْمُتَصَدِّقَ خَاصَّةً عَنْ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَنْهَ غَيْرَهُ.
1489 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَاسْتَأْمَرَهُ فَقَالَ: لاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لاَ يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلاَّ جَعَلَهُ صَدَقَةً.
1490 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: لاَ تَشْتَرِي وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ.
الشرح:
هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان حكم شراء الصدقة، يعني: إذا أخرج شخص زكاته، وأعطاها للفقير، ثم أراد هذا الفقير أن يبيعها فليس للمعطي أن يشتريها منه؛ لأنه أخرجها لله فلا ينبغي أن تتعلق بها نفسه، ولأنه إذا اشتراها من الفقير الذي دفعها إليه فقد يستحي منه فيسامحه في بعض القيمة، فيكون كأنه رجع وعاد في زكاته.
فالزكاة التي دفعتها والصدقة التي أعطيتها للفقير لا يجوز لك أن تشتريها مطلقًا، ولو عرضها بالسوق، لكن لك أن تشتري زكاة غيرك.
وهذا بخلاف ما إذا دعا الفقير المعطي لحضور وليمة ثم قدم للضيوف من الصدقة والزكاة فإنه يجوز له أن يأكل مع غيره.
1490 قوله: «حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، يعني: حمله حمل تمليك، والمعنى أنه ملَّك شخصًا فرسًا ليجاهد في سبيل الله، «فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ» يعني: أن هذا الشخص الذي أعطاه عمر الفرس أراد أن يبيعه، فأراد عمر أن يشتريه، وظن أنه يبيعه برخص، فسأل النبي ﷺ: هل أشتريه؟ فقال النبي ﷺ: لاَ تَشْتَرِي وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ؛ فإن هذا يعتبر عودًا، كأنك وهبت ثم عدت في هبتك؛ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ، وفي اللفظ الآخر: كَالكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ [(728)] فهذا تنفير شديد.
فإذا تصدق الإنسان بشيء، أو دفع زكاته لأحد، أو ملَّك أحدًا سلاحًا أو عتادًا يجاهد به، فلا يرجع إليه مرة ثانية ولا يشتريه مطلقًا؛ لأنه أولاً أخرجه لله فلا تتعلق نفسه به، وثانيًا لأنه قد يسامحه في بعض الشيء استحياء منه.
1489 قوله: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما لاَ يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعًَ» يعني: أن يشتري «شَيْئًا تَصَدَّقَ بِهِ إِلاَّ جَعَلَهُ صَدَقَة» ، كأن ابن عمر فهم من هذا الحديث أن الإنسان إذا اشترى الشيء الذي تصدق به كان لابد أن يتصدق به مرة ثانية.
وهذا الفهم كان اجتهادًا من ابن عمر، وهو اجتهاد خاطئ؛ فإن الحديث دل على أنه لا يجوز للإنسان أن يشتري صدقته ولو ليتصدق بها مطلقًا؛ لأمرين:
الأمر الأول: أنه إذا اشتراها قد تضعف نفسه ولا يتصدق بها.
الأمر الثاني: أن البائع الذي تصدق عليه قد يسامحه في بعض قيمتها.
فيكون هذا الفهم اجتهادًا من ابن عمر، والصواب أنه لا يشتريها مطلقًا؛ فالنبي ﷺ حسم ذلك وسد الباب حيث قال في الحديث التالي: لاَ تَشْتَرِي وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وبإثبات النفي يتم المعنى، أي: كان إذا اتفق له أن يشتري شيئًا مما تصدق به لا يتركه في ملكه حتى يتصدق به».
قال الحافظ: «وكأنه فهم أن النهي عن شراء الصدقة إنما هو لمن أراد أن يتملكها لا لمن يردها صدقة».
يعني: أن ابن عمر فهم أن النهي عن شراء الصدقة لمن أراد أن يتملكها، أما من أراد أن يتصدق بها مرة ثانية فلا يشمله النهي. لكن الأولى عدم شراء الصدقة حتى ولو تصدق بها مرة ثانية؛ لما ذكرنا من أنه ربما ضعفت نفسه فأبقاها عنده، ولأن البائع قد يسامحه في بعض ثمنها.
قال الحافظ: «وفي الحديث كراهة الرجوع في الصدقة، وفضل الحمل في سبيل الله والإعانة على الغزو بكل شيء، وأن الحمل في سبيل الله تمليك، وأن للمحمول بيعه والانتفاع بثمنه».
فمثلاً إذا أعطت امرأة خادمة عندها ملابس وأشياء أخرى، فلا يجوز لها أن تسترجع هذه الملابس والأشياء ولا ترجع في الهبة؛ لقول النبي ﷺ: العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ [(729)].
المتن:
بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الصَّدَقَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ
1491 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنهما تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: كَِخٍ كَِخٍ لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قَالَ: أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الصدقة للنبي ﷺ وأهل بيته.
قوله: أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ فيه: تحريم الصدقة على النبي ﷺ وأهل بيته؛ تكريمًا لهم؛ لأن الصدقة أوساخ الناس، كما جاء في الحديث الآخر، إلا إذا اضطروا إليها كالميتة؛ فالميتة حلال عند الضرورة.
وقال بعض أهل العلم: إذا منعوا حقهم من الفيء والغنيمة جاز لهم أخذ الصدقة، لكن هذا قول ضعيف، والصواب أنه لا يجوز لهم إلا في حالة الضرورة كالميتة.
1491 قول النبي ﷺ للحسن: كَِخٍ كَِخٍ بفتح الكاف وكسرها وسكون الخاء، ويجوز كسرها مع التنوين، وهي كلمة زجر للصبي، وما زالت هذه الكلمة مستخدمة في لغتنا الدارجة.
أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وفيه: حث على تعليم الصبيان وتأديبهم ومنعهم مما يضرهم، ومنعهم من المحرم عليهم كالكبار، فيمنع الصغار ـ إن كانوا ذكورًا ـ من لبس الحرير والذهب كما يمنع الكبار ومن النجاسات كذلك، ومن الصدقة إذا كانت لا تحل لهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الصَّدَقَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ» لم يعين الحكم؛ لشهرة الاختلاف فيه، والنظر فيه في ثلاثة مواضع: أولها المراد بالآل هنا بنو هاشم وبنو المطلب على الأرجح من أقوال العلماء، وسيأتي دليله في أبواب الخمس في آخر الجهاد.
قال الشافعي رحمه الله: أشركهم النبي ﷺ في سهم ذوي القربى ولم يعط أحدًا من قبائل قريش غيرهم، وتلك العطية عوض عُوضوه بدلاً عما حرموه من الصدقة» يعني: أن الله تعالى عوضهم بالخمس لما حرموه من الزكاة والصدقة، قال سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [الأنفَال: 41].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله أيضًا: «وعن أبي حنيفة ومالك: بنو هاشم فقط» يعني: أن أبا حنيفة[(730)] ومالكًا[(731)] يقولان: آل النبي هم بنو هاشم فقط.
وقال أيضًا: «وعن أحمد في بني المطلب روايتان. وعن المالكية فيما بين هاشم وغالب بن فهر قولان، فعن أصبغ منهم هم بنو قصي وعن غيره بنو غالب بن فهر».
والأرجح أن آل النبي ﷺ هم بنو هاشم وبنو المطلب؛ لأن بني المطلب شاركوا بني هاشم في الجاهلية والإسلام ولم يفارقوهم، ودخلوا معهم الشعب، بخلاف بني عبد شمس وبني نوفل فإنهم ليسوا كذلك.
وآل البيت لا يعطون من الزكاة مطلقًا، لا فقراء ولا غير فقراء؛ وإنما يعطون من الخمس.
قال الحافظ: « ثانيها: كان يحرم على النبي ﷺ صدقة الفرض والتطوع كما نقل فيه غير واحد، منهم الخطابي الإجماع».
ثم قال: « ثالثها : هل يلتحق به آله في ذلك أم لا؟ قال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، كذا قال، وقد نقل الطبري الجواز أيضًا عن أبي حنيفة، وقيل عنه: يجوز لهم إذا حرموا سهم ذوي القربى، حكاه الطحاوي ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم، وهو وجه لبعض الشافعية.
وعن أبي يوسف: يحل من بعضهم لبعض لا من غيرهم. وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، والمنع، وجواز التطوع دون الفرض، وعكسه. وأدلة المنع ظاهرة من حديث الباب ومن غيره؛ ولقوله تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفُرقان: 57]. ولو أحلها لآله لأوشك أن يطعنوا فيه، ولقوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التّوبَة: 103]. وثبت عن النبي ﷺ: الصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ [(732)] كما رواه مسلم. ويؤخذ من هذا جواز التطوع دون الفرض وهو قول أكثر الحنفية».
والصواب كما سبق أنها تحرم على النبي ﷺ وعلى آله؛ لأنها أوساخ الناس، ولا تحل إلا للضرورة.
وقوله: أَوْسَاخُ النَّاسِ أي: أن الزكاة وسخ، يخرجها الإنسان ليطهر ماله؛ فلذلك كرم النبي ﷺ وأهل بيته فلا يأكلون منها.
المتن:
بَابُ الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ
1492 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: وَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلاَةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: هَلاَّ انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟ قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا.
1493 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَْسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلاَءَهَا فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ قَالَتْ: وَأُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِلَحْمٍ فَقُلْتُ: هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ.
الشرح:
هذه الترجمة في بيان حكم الصدقة على موالي أزواج النبي ﷺ، والموالي يعني: العبيد، فهل عبيد أزواج النبي ﷺ حكمهم حكم آل النبي ﷺ في تحريم الصدقة عليهم أو يختلف؟
الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله دليل على أن المولى من القوم؛ ففي الحديث: مَوْلَى القَوْمِ مِنْهُمْ [(733)]، فإذا حرمت الزكاة على شخص تحرم على مواليه، لكن أزواج النبي ﷺ وإن كانوا من أهل بيت النبي ﷺ فلا تحرم الزكاة على مواليهم كما ذكر، والمسألة فيها خلاف، لكن هذا هو المختار؛ ولهذا بوب الإمام البخاري فقال: «بَابُ الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ» ، وأنه لا بأس بالأكل من الصدقة التي تصدق بها على موالي أزواج النبي ﷺ.
1492 قوله: «وَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلاَةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ الصَّدَقَةِ» أي: أن مولاة لميمونة ـ زوج النبي ﷺ ـ تُصدق عليها بشاة ميتة.
قوله: هَلاَّ انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟ قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا فيه: دليل على أن جلد الميتة مأكولة اللحم يطهره الدباغ؛ لأنه بمثابة ذكاته، لقوله ﷺ: يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ [(734)]، فكما أن الذكاة تحل الإبل والبقر والغنم، فكذلك جلد ميتتها يطهره الدباغ، وأما غير مأكول اللحم - كالسباع - فلا تطهرها الذكاة، وجلدها فيه خلاف، والقول بأن الدباغ يطهره قول قوي وهو اختيار البخاري، لكن الاقتصار على مأكول اللحم أولى؛ لأنه ظاهر الأحاديث.
وفيه: دليل على جواز سلخ الميتة وأخذ جلدها بعد الدبغ.
وفيه: دليل على جواز الأكل والانتفاع بما تصدق به على الفقير، فالمؤلف رحمه الله قاس على ذلك الصدقة على مولاه الفقير، بل أخذها من نفس الحديث، قال: «وَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلاَةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ الصَّدَقَةِ» أي: تصدق على مولاتها بشاة فماتت، فأمر النبي ﷺ بأخذ جلدها والانتفاع به، فدل على جواز الانتفاع بما تصدق به على الفقير.
1493 قوله: «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ» ، كانت بريرة مولاة لبعض الأنصار، وكانت قد كاتبت أهلها على تسع أواق منجمة على تسع سنوات، كل سنة تعطيهم أوقية، فجاءت بريرة إلى عائشة وقالت: يا أم المؤمنين، أعينيني، فإني اشتريت نفسي من أهلي، كل سنة أدفع لهم أوقية، فقالت لها كما في بعض الأحاديث: «إن شاء أهلك عددتها لهم عدة واحدة، ويكون الولاء لي» [(735)] ـ والولاء يعني: الانتساب والإرث إذا لم يكن لها قريب ـ فذهبت إلى أهلها وأخبرتهم بقول عائشة، فأبى أهلها وقالوا: إذا أرادت عائشة تشتري لله، ويكون الولاء لنا، فاشتكت عائشة للنبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.
قوله: «قَالَتْ: وَأُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِلَحْمٍ فَقُلْتُ: هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ .
وفيه: أحكام وفوائد كثيرة، حتى أخذ بعض العلماء منه أكثر من مائة فائدة، لكن أهمها ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: أن الجارية إذا عتقت تحت عبد فلها الخيار بالبقاء معه أو فسخ النكاح، وكانت بريرة تحت زوج لها يقال له: مغيث، وكان عبدًا وهي أمة، فلما عتقت قال لها النبي ﷺ: اختاري، فاختارت الفسخ، وقالت: قد فارقته[(736)]. وكان زوجها يحبها حبًّا كثيرًا وهي تكرهه، حتى إنه كان يطوف بالأسواق ودموعه تجري على خديه، فلما رأى النبي ﷺ هذا شفع فيه لدى بريرة وقال: يا بريرة لو راجعتيه ـ أي: لو راجعتي زوجك، لكنها كانت فقيهة ـ فقالت: يا رسول الله أتأمرني أو تشفع؟ إن كان أمرًا فسمعًا لله ولرسوله، وإن كان شفاعة فأنا أنظر في الأمر، فقال النبي ﷺ: لا، إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه، فتركته[(737)].
فدل هذا على أن الأمة إذا عتقت وزوجها عبد فلها الخيار؛ إن شاءت بقيت معه، وإن شاءت فسخت؛ لأنها صارت أعلى منه.
الفائدة الثانية: أن الفقير إذا تصدق عليه بشيء جاز لغيره أن يقبله هدية، وأن يأكل منه ضيافة، أو هدية، أو وليمة عرس؛ لأن صفته تغيرت.
الفائدة الثالثة: أن زوجات النبي ﷺ لسن في حكم آل البيت في تحريم الصدقة ـ وإن كن منهم في غير ذلك ـ فلو كن منهم لما جاز إعطاء الصدقة لمولاة عائشة؛ لأنها إذا جازت في مولاتها جازت لها؛ لأن مولى القوم منهم، فلما أجاز النبي ﷺ الصدقة على مولاتها دل على أنه تجوز الصدقة لأزواج النبي ﷺ، وأن هذا الحكم مستثنى منه أزواج النبي ﷺ.
المتن:
بَابُ إِذَا تَحَوَّلَتْ الصَّدَقَةُ
1494 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَْنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قالت: دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ: لاَ إِلاَّ شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ إِلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنْ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثَتْ بِهَا مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا.
1495 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعَ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
هذه الترجمة فيها: بيان أنه إذا تحولت الصدقة فإنه يختلف الحكم.
قوله: «بَابُ إِذَا تَحَوَّلَتْ الصَّدَقَةُ» ، يعني: إذا تحولت الصدقة ووصلت إلى الفقير ثم بعثها هدية فقد تغير حكمها، وجاز للهاشمي تناولها وأكلها.
1494 قوله: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ: لاَ إِلاَّ شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ إِلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنْ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثَتْ بِهَا مِنْ الصَّدَقَةِ» أي: أن النبي ﷺ سأل عائشة عن الطعام فقالت: لا يوجد عندنا شيء إلا شيء بعثت به نسيبة ـ وهي مولاة فقيرة تستحق الصدقة ـ من شاة تُصدق بها عليها، فقال النبي ﷺ: إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا أي: انتقلت، فلم تعد صدقة، فأكل منها.
استدل المؤلف رحمه الله بهذا الحديث على أنه إذا تحولت الصدقة فقد تغير حكمها.
1495 قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ فَقَالَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ أي: أنها لما دُفعت إلى بريرة كانت صدقة، فلما أهدتها للنبي ﷺ أكل منها؛ لأنها تغيرت، فتحولت من كونها صدقة إلى كونها هدية.
المتن:
بَابُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الأَْغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِي الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا
1496 حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لحكم إعطاء الصدقة للفقراء حيث كانوا في أي: بلد، وهل تنقل الزكاة من بلد المال أو لا تنقل؟ وقد ذهب البخاري إلى جواز ذلك؛ ولهذا قال: «بَابُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الأَْغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِي الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا» يعني: يجوز لك أن تنقل الزكاة من الرياض مثلاً إلى القصيم أو إلى مكة، وهذا هو مذهب الأحناف، وهو اختيار البخاري خلافًا للجمهور الذي يقول: لا تنقل؛ فالزكاة تكون في بلد المال، فإذا كانت في الرياض لا تنقلها من الرياض، بل تتركها وتخرجها في الرياض، وإذا كانت في القصيم تخرجها في القصيم، وفي مكة تخرجها في مكة، وفي الأحساء تخرجها في الأحساء، ولا تنقلها؛ ولذلك اختلفوا في تفسير قوله ﷺ: تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ [(738)]، فالجمهور يقول: تؤخذ من أغنياء أهل اليمن وترد في فقرائهم؛ لأن معاذًا كان في اليمن، والبخاري والأحناف[(739)] قالوا: تؤخذ من أغنياء المسلمين، وترد على فقرائهم في أي: بلد.
واختار بعض المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية[(740)] نقلها لمصلحة راجحة، كأن يكون في البلد الآخر من هو أشد فقرًا وحاجة، أو يكون بها أقارب محتاجون، أما إذا لم يكن هناك مصلحة راجحة فلا تنقل.
1496 في الحديث: أهمية التوحيد وأنه يبدأ به في الدعوة إلى الله؛ لأنه أصل الدين وأساس الملة؛ ولهذا قال: فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
وفيه: استحباب تكرار الدعوة لمن بلغتهم.
وفيه: أن الداعي ينبغي له أن يعرف حال المدعوين؛ فالنبي ﷺ قال: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ» ، يعني: عندهم علم، فاستعد لمجادلتهم ومناظرتهم.
وفيه: الترتيب في الدعوة، وأن الداعي يبدأ بالأهم فالأهم، فيبدأ أولاً بالتوحيد ثم بالصلاة ثم بالزكاة، واقتصر على هذه الثلاثة؛ لأنها أصول الدين، وغيرها من الواجبات تابع لها، فمن استقام عليها أدى غيرها؛ لأنها تدفعه إلى القيام بها.
وفيه: جواز نقل الزكاة من بلد المال أخذًا من عموم أغنيائهم وفقرائهم الشامل لجميع المسلمين، لاسيما إذا كانت هناك مصلحة شرعية، كقريب أو فقير أشد حاجة، ومذهب الأحناف[(741)] واختيار البخاري قوي في هذا. وما اختاره بعض المحققين ـ كشيخ الإسلام رحمه الله[(742)] ـ أنها تنقل لمصلحة راجحة له وجاهته.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَابُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الأَْغْنِيَاءِ وَتُرَدَّ فِي الْفُقَرَاءِ حَيْثُ كَانُوا» قال الإسماعيلي: ظاهر حديث الباب أن الصدقة ترد على فقراء من أخذت من أغنيائهم، وقال ابن المنير: اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال؛ لعموم قوله: فترد في فقرائهم؛ لأن الضمير يعود على المسلمين، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة في أي: جهة كان، فقد وافق عموم الحديث، انتهى. والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث عدم النقل، وأن الضمير يعود على المخاطبين، فيختص بذلك فقراؤهم».
وقال الحافظ أيضًا: «لكن رجح ابن دقيق العيد الأول، وقال: إنه وإن لم يكن الأظهر إلا أنه يقويه أن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر، فلا تعتبر في الزكاة كما لا تعتبر في الصلاة، فلا يختص بهم الحكم، وإن اختص بهم خطاب المواجهة... انتهى.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فأجاز النقل الليث وأبو حنيفة وأصحابهما؛ ونقله ابن المنذر عن الشافعي واختاره، والأصح عند الشافعية والمالكية والجمهور ترك النقل، فلو خالف ونقل أجزأ عند المالكية على الأصح، ولم يجزئ عند الشافعية على الأصح إلا إذا فقد المستحقون لها».
أي: إذا فُقد المستحقون ولم يوجد فقراء في البلد نقل إلى أقرب بلد، ثم إلى أقرب بلد.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ولا يبعد أنه اختيار البخاري؛ لأن قوله: «حَيْثُ كَانُوا» يشعر بأنه لا ينقلها عن بلد وفيه: من هو متصف بصفة الاستحقاق».
المتن:
بَابُ صَلاَةِ الإِْمَامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ
وَقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التّوبَة: 103].
1497 حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، قال الله تعالى: « ُ ُ َ ٍ ٌ ً ي ِ » ، يعني: ادع لهم؛ فالصلاة معناها في اللغة: الدعاء.
وهذا خطاب للنبي ﷺ: « خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التّوبَة: 103]» ، وأن الإمام عليه أن يأخذ الزكاة من الناس والولاة والعمال؛ لأن هذا أمر من الله تعالى لنبيه ﷺ وأئمة المسلمين من بعده. خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً، والمراد بالصدقة هنا الزكاة، فالصدقة تشمل صدقة التطوع والفريضة، وسميت صدقة؛ لأنها تصدق إيمان صاحبها.
قوله تعالى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا فيه: أن إخراج الزكاة تزكية للنفس وتطهير لها من أدران الشح والبخل، وتزكية للمال وتطهير له، وحفظ له من المهلكات، فالزكاة طهارة للنفس وطهارة للمال؛ ولهذا فإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا آل محمد ﷺ؛ لأنها أوساخ الناس، فيخرجها صاحبها من المال فيطهر المال بعدها، فإن لم تخرج الزكاة فإن المال لم يطهر، بل يبقى؛ ولهذا يعذب به صاحبه.
وقوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، فيه: مشروعية الدعاء والصلاة على من دفع الزكاة.
1497 قوله: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى فيه: مشروعية الصلاة على من أتى بصدقته، فيقال: اللهم صل على فلان، أو آل فلان؛ والمؤلف رحمه الله عطف الدعاء عليه فقال: «صَلاَةِ الإِْمَامِ وَدُعَائِهِ»؛ لأنه جاء في حديث أخرجه النسائي عن وائل بن حجر أنه ﷺ قال في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَفِي إِبِلِهِ [(743)]، فهذا دعاء، والدعاء أعم من الصلاة. وأصح ما قيل في تعريف الصلاة هنا ما رواه البخاري عن أبي العالية أنه قال: «صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى»، ويدخل في ذلك رحمته وإحسانه.
وفيه: دليل على جواز الصلاة على غير الأنبياء، إذا لم يتخذ ذلك عادة أو شعارًا كما تفعله الرافضة بتخصيص علي وآل البيت، فيقولون: علي عليه الصلاة والسلام، وفاطمة عليها الصلاة والسلام، والصواب: أن أهل البيت لا يخصصون بشيء كغيرهم، فيقال: علي ، وفاطمة رضي الله عنها، ولا بأس بالصلاة على غير الأنبياء في بعض الأحيان، فنقول: اللهم صل على أبي بكر، اللهم صل على عمر، اللهم صل على عثمان إذا لم يتخذ ذلك شعارًا، ومن ذلك هذا الحديث أن النبي ﷺ قال: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى، لكن الصلاة تكون في العادة المتبعة للأنبياء، والترضي يكون عن الصحابة، والترحم لمن بعدهم.
المتن:
بَابُ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «لَيْسَ الْعَنْبَرُ بِرِكَازٍ هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ».
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ «الْخُمُسُ» فَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ» لَيْسَ فِي الَّذِي يُصَابُ فِي الْمَاءِ.
1498 وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ فَأَخَذَهَا لأَِهْلِهِ حَطَبًا فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لما يستخرج من البحر، هل تجب فيه الزكاة أو لا، والراجح أنه عفو من الله ليس فيه زكاة كما هو مذهب جمهور العلماء، ولكن إذا كان ذهبًا أو فضة، أو أُعِدَّ للبيع فإنه يستقبل به حولاً جديدًا.
والدليل على أن ما يستخرج من البحر لا زكاة فيه، قوله ﷺ: «وفي الركاز الخمس» [(744)]، فمفهومه أن غير الركاز لا خمس فيه، وما يستخرج من البحر ليس ركازًا، فلا خمس فيه.
وذهب بعض العلماء كالحسن وغيره إلى أن العنبر واللؤلؤ فيه الخمس، لكن هذا قول ضعيف رده المؤلف رحمه الله؛ ولهذا قال: «بَابُ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ» ، يعني: هل فيه زكاة أو لا؟ ولم يجزم في الترجمة لوجود الخلاف في المسألة.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَيْسَ الْعَنْبَرُ بِرِكَازٍ هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ» ، هذا هو الصواب، أن العنبر ليس بركاز؛ لأنه شيء دفعه البحر ورماه.
ولا يعتبر الذهب والفضة الذي دفعه البحر ورماه لقطة؛ لأن اللقطة تعني: مال آدمي يكون في البر عليه علامات أهل الإسلام، أما ما خرج من البحر من اللؤلؤ والجواهر والذهب فليس ملكًا لأحد، وكذلك لو سقط من أحد في البحر، وشيء ضاعت ملكيته، فإنه يتبع البحر.
قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ» وقول الحسن هذا ضعيف، رد عليه البخاري بقوله: «فَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ لَيْسَ فِي الَّذِي يُصَابُ فِي الْمَاءِ» ، فالبخاري رحمه الله رد قول الحسن بأن النبي ﷺ جعل الخمس في الركاز، ولم يجعل في الذي يستخرج من الماء شيئًا.
1498 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال ابن المنير: موضع الاستشهاد منه أخذ الرجل الخشبة على أنها حطب، فإذا قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا فيستفاد منه إباحة ما يلفظه البحر من مثل ذلك مما نشأ في البحر أو عطب فانقطع ملك صاحبه، وكذلك ما لم يتقدم عليه ملك لأحد من باب الأولى، وكذلك ما يحتاج إلى معاناة وتعب في استخراجه أيضًا، وقد فرق الأوزاعي بين ما يوجد في الساحل فيخمس، أو في البحر بالغوص، أو نحوه، فلا شيء فيه، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب فيه شيء، إلا ما روي عن عمر بن عبد العزيز، كما أخرجه ابن أبي شيبة، وكذا الزهري، والحسن كما تقدم، وهو قول أبي يوسف ورواية عن أحمد».
المتن:
بَابُ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ: الرِّكَازُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخُمُسُ وَلَيْسَ الْمَعْدِنُ بِرِكَازٍ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: فِي الْمَعْدِنِ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ الْمَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً.
وَقَالَ الْحَسَنُ مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَعَرِّفْهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْعَدُوِّ فَفِيهَا الْخُمُسُ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ لأَِنَّهُ يُقَالُ: أَرْكَزَ الْمَعْدِنُ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ: أَرْكَزْتَ ثُمَّ نَاقَضَ وَقَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ فَلاَ يُؤَدِّيَ الْخُمُسَ.
1499 حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الركاز، وذكر المؤلف رحمه الله في هذه الترجمة آثارًا كثيرة، وأقوالاً تدل على سعة علمه، ورسوخ قدمه في الفقه رحمه الله.
فصحيح البخاري رحمه الله ليس كتابًا يحوي الأحاديث الصحيحة فحسب، لكنه ضمنه فقهًا عظيمًا، واختيارات، واستدلالات بنصوص وأقوال أهل العلم؛ فهو كتاب ضرب فيه من كل فن بنصيب: الفقه، والحديث، والتفسير، واللغة.
والبخاري رحمه الله فاق في هذا الكتاب بتراجمه التي حيرت العلماء، والتي استنبط فيها من الفقه الشيء العظيم.
قوله: «بَابٌ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» الركاز: هو كنز، أو أموال وُجد عليها علامات أهل الجاهلية.
قوله: «فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخُمُسُ» أي: من وجد شيئًا من دفن الجاهلية قليلاً أو كثيرًا فإنه يخرج الخمس، يدفعه إلى بيت المال، أو إلى الفقراء، وأربعة أخماسه له، فحكمه حكم الغنيمة، يخرج خمسها، وأربعة أخماسها للغانمين.
أما إذا كان عليها علامات أهل الإسلام فهي لقطة، وحكمها أن يعرفها الملتقط سنة، ثم تكون له بعد أن يضبطها بالعلامات، كما في الحديث: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا [(745)] يعني: يعرف الرباط والوعاء، ويضبطها بالأوصاف، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر دفعها إليه.
وقال بعض العلماء: لا تجب الزكاة في الركاز حتى يبلغ نصاب الزكاة، لكن هذا قول ضعيف؛ لأنه مخالف للنص: «وفي الركاز الخمس» [(746)]، والذي عليه الجمهور أنه إذا وجد ركازًا فإن فيه الخمس، سواء بلغ نصاب الزكاة أو لم يبلغ.
قوله: «وَلَيْسَ الْمَعْدِنُ بِرِكَازٍ» قد غاير النبي ﷺ بين الركاز وبين المعدن، فقال: الْمَعْدِنِ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، فلما غاير النبي ﷺ بينهما دل على أن الحكم مختلف.
قوله: فِي الْمَعْدِنِ جُبَارٌ؛ يعني: هدر؛ لأن المعدن يحتاج في استخراجه إلى مئونة وجهد، سواء كان المعدن ذهبًا، أو فضة، أو رصاصًا، أو نحاسًا، أو غيرها؛ ومن حكمة الشارع التخفيف فيما يحتاج إلى مئونة، بخلاف الركاز فإنه لا يحتاج إلى مئونة؛ ولذلك فالركاز فيه الخمس، أما المعدن فليس فيه الزكاة.
قوله: «وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ مِنْ الْمَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً» ، يعني: جعل في المعدن الزكاة، ولم يجعله ركازًا، كما في كتابه للأمصار، وهذا هو الصواب.
قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ» قول الحسن هذا ضعيف؛ ولهذا قال ابن المنذر ـ كما جاء في «فتح الباري» للحافظ ابن حجر ـ: «لا أعلم أحدًا فرق هذه التفرقة غير الحسن».
وقول الحسن: «وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَعَرِّفْهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْعَدُوِّ فَفِيهَا الْخُمُسُ» ضعيف أيضًا.
قوله: «وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ» هذا قول الإمام أبي حنيفة[(747)]، فالبخاري رحمه الله إذا أراد الأحناف قال: «وقال بعض الناس» .
قال أبو حنيفة: «الْمَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ لأَِنَّهُ يُقَالُ: أَرْكَزَ الْمَعْدِنُ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ: أَرْكَزْتَ» يعني: إذا كانت هذه شبهتك وهذا دليلك أنه يقال: أركز المعدن، إذا خرج منه شيء، فإنه يقال أيضًا لمن وهب له شيء، أو ربح ربحًا كثيرًا، أو كثر ثمره: أركزت؛ فهل معنى هذا أنه يكون فيه الركاز؟!
قوله: «ثُمَّ نَاقَضَ» يعني: ثم ناقض أبو حنيفة نفسه[(748)] «وقال : لا بأس أن يكتمه ولا يؤدي الخمس» ، يعني: قصد البخاري رحمه الله لما نقل قول أبي حنيفة أن يبين بطلانه وأنه متناقض، فأبو حنيفة يقول: المعدن ركاز، وشبهته في ذلك المعنى اللغوي، والبخاري يقول: الرسول ﷺ فرق بين المعدن وبين الركاز، ثم ناقض أبو حنيفة نفسه فقال: «لاَ بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ فَلاَ يُؤَدِّيَ الْخُمُسَ» فهذا تناقض؛ فمرة يقول: يجب الخمس، ومرة يقول: يجوز أن يكتمه ولا يؤدي الخمس، فقصد البخاري بهذا أن يرد على أبي حنيفة، وأن قوله: إن المعدن ركاز ليس بصحيح.
1499 ذكر هنا الحديث الذي فيه التفرقة بين الركاز وبين المعدن، فقال: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، والعجماء: هي الدابة، وجبار يعني: هدر، والمعنى: أن ما أصابت الدابة بفمها أو برجلها فأصابت أحدًا فهو هدر إذا كانت تمشي وحدها، وإذا كان معها سائق، أو قائد، فإنه يكون مسئولاً.
وقوله: وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، يعني: أن البئر إذا سقط فيه أحد فمات فهو هدر؛ فلا تجب ديته على أحد، إلا إذا حفره في طريق الناس، أو تسبب في سقوطه فيه، فهذا يضمن؛ أما إذا كان ما حفره في الطريق فجعل له حاجزًا ثم جاء إنسان وسقط فهو هدر أيضًا.
قوله: وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ هذا هو الشاهد؛ فالنبي ﷺ غاير بين المعدن والركاز، فجعل المعدن هدر، وجعل في الركاز الخمس؛ فدل على أن المعدن يزكى، والركاز يخمس؛ هذا وجه الدلالة.
وفيه: الرد على أبي حنيفة[(749)] القائل بأن المعدن مثل الركاز يخمس.