المتن:
(26)كِتَاب الْحَجِّ
باب وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ، وقول الله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
1513 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآْخَرِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاع.
الشرح:
ذكر المؤلف رحمه الله كتاب الحج وقدمه على كتاب الصيام؛ لما جاء في بعض الأحاديث من تقديم الحج على الصيام ، لكن أكثر الأحاديث على أن الصيام مقدم على الحج؛ فالحج هو الركن الخامس والصيام الركن الرابع كما ثبت في «صحيح مسلم» من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ، عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ [(1)].
فهذه عُمُد الإسلام وأُسسه التي لا يقوم ولا يستقيم أصل الدين إلا عليها، وأساس الملة الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه محمد ﷺ بالرسالة، فمن لا يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فلا إسلام له, ولا دين له, ولا يقبل منه أي عمل؛ فهذا الركن الأول؛ ثم الصلاة الركن الثاني؛ ثم الزكاة الركن الثالث؛ ثم الصيام الركن الرابع؛ ثم الحج الركن الخامس؛ فمن أقامها واستقام عليها دفعه ذلك إلى أن يأتي ببقية شرائع الإسلام، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
والحج مصدر حَج يَحُج حَجًّا بالفتح، ويطلق على الاسم فيقال: الحَج بالفتح، والحِج بالكسر لغة أهل نجد، والحج في اللغة: القصد، وشرعًا: القصد إلى بيت الله الحرام في وقت مخصوص بأعمال مخصوصة، وهي أداء المناسك في وقت معين، والعمرة في اللغة: الزيارة، وشرعًا: قصد البيت الحرام لأداء أعمال مخصوصة، وهي أعمال العمرة.
ولا يجب الحج إلا بشروط خمسة دلت عليها النصوص، وهي:
الشرط الأول: الإسلام ؛ فالكافر لو حج لم يصح حجه ولا يقبل؛ لأن الحج لا يصح إلا بعد التوحيد، وبعد الإيمان بالله ورسوله، والكافر يعاقب على ترك الحج، وعلى ترك الإيمان والتوحيد، ولكن لا يصلح منه الحج في حال كفره، بل يدعى للإسلام أولا، فإذا دخل في الإسلام وشهد لله تعالى بالوحدانية، وللنبي ﷺ بالرسالة، فإنه يؤمر بعد ذلك بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج.
الشرط الثاني: البلوغ ؛ فالصبي الذي لم يبلغ لا يجب عليه الحج، لكن لو حج بإذن وليه صح حجه وله أجر الحج ولوليه أجر المعونة؛ لما ثبت في صحيح مسلم: أن امرأة رفعت صبيًّا فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ [(2)] فهذا دليل على أن حجه صحيح ولها أجر المعونة والسبب؛ خلافًا لما يظنه بعض العامة، أن حجه صار لأبيه أو لأمه أو لجده أو لجدته، وإذا بلغ فإنه يحج حجة الإسلام لقوله ﷺ: أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى [(3)].
الشرط الثالث: العقل ؛ ففاقد العقل لا يجب عليه الحج؛ لأنه مرفوع عنه القلم.
الشرط الرابع: الحرية ؛ فالعبد الذي يباع ويشترى لا يجب عليه الحج، لكن لو أَذِن له سيده بالحج صح حجه، وإذا أعتق فإنه يحج حجة الإسلام ولا يجزئ حجه في حال رقه؛ لما ورد في الحديث عن النبي ﷺ قال: «وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى [(4)].
الشرط الخامس: القدرة والاستطاعة ، ودليلها قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عِمرَان: 97].
والقدرة تكون قدرة كاملة بالاستطاعة بالبدن والاستطاعة بالمال:
والاستطاعة بالبدن : أن يستطيع الثبات على الدابة التي يحج عليها أو على السيارة أو على الطائرة أو على الاخرة، فإن كان لا يستطيع الثبات على المركوب؛ لكونه شيخًا كبيرًا أو امرأة كبيرة، أو لكونه مريضًا مرضًا لا يرجى برؤه فإنه يكون غير مستطيع ببدنه.
والاستطاعة بالمال: أن يكون عنده مال يكفيه للحج ذهابًا وإيابًا زائدًا عن نفقة أهله وأولاده وحوائجه الأصلية، فالنجار لابد له من آلة النجارة، والحداد لابد له من آلة الحدادة، وطالب العلم لابد له من كتب العلم، فلا يقال لطالب العلم أن يبيع كتب العلم ويحج بها، أو للنجار أن يبيع آلة النجارة ويحج بها، لأنها حوائج لابد منها، فما زاد عن حوائجه الأصلية ونفقة أولاده وكفاه للحج فيعتبر قادرًا بماله.
فإن عدمت القدرتان القدرة بالبدن والقدرة بالمال فإنه لا يجب عليه الحج.
وإن وجدت إحداهما فإن فيه تفصيلا:
- إن وُجدت القدرة بالبدن ولكن ليس عنده قدرة بالمال فليس عليه حج.
- وإن وُجدت القدرة بالمال وليس عنده القدرة بالبدن فإنه ينيب من يحج عنه.
1513 قوله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاع» يدل على أن الحج فريضة؛ لأن النبي ﷺ قد أقرها عى قولها: «إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ» ولم ينكر عليها، ولهذا استدل المؤلف رحمه الله بالآية والحديث على وجوب الحج؛ فقوله : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عِمرَان: 97] يدل على وجوب حج البيت على الناس حال الاستطاعة، وقوله : وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عِمرَان: 97] فيه: الوعيد الشديد على من أخر الحج وهو مستطيع، ولهذا جاء في سنن الدارمي: من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًّا وإن شاء نصرانيًّا [(5)] وجاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لقد هممت أن أبعث رجالا إلى أهل الأمصار فينظرون كل من له جدة ـ يعني مال ـ ثم لم يحج فيضرب عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين» [(6)].
المتن:
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحَجّ: 27-28] فِجَاجًا: الطُّرُقُ الْوَاسِعَةُ.
1514 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قَائِمَةً.
1515 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ سَمِعَ عَطَاءً يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ إِهْلاَلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ .
الشرح:
هذه الترجمة فيها أن المسلم عليه أن يؤدي شعيرة الحج، وأن يأتي إلى بيت الله الحرام راكبًا أو ماشيًا؛ ولهذا قال : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً يعني: راجلين ماشين على الأرض وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يعني: ركبانًا على كل ضامر، وهي الدواب، وكذلك المراكب الجديدة.
قوله «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحَجّ: 28]» المنافع نوعان:
الأول: منافع دينية : من التعارف والتآلف والترابط والتناصح بين المسلمين ومعرفة أحوالهم، وبحث المشاكل التي تكون بين المسلمين وإيجاد الحلول لها، والدعوة إلى الله ، وقد جمع الناس من كل مكان على اختلاف أجناسهم وألوانهم.
الثاني: منافع دنيوية : من بيع وشراء وغير ذلك.
1514 واختلف العلماء في الحج ماشيًا أو راكبًا أيهما أفضل؟
القول الأول: أن الحج ماشيًا أفضل؛ لأن الله قدم المشاة على الركبان فقال: يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحَجّ: 27].
القول الثاني: أن الحج راكبًا أفضل؛ لأنه فعل النبي ﷺ.
قد قيل: إن البخاري رحمه الله أراد أن يرد على من قال إن الحج ماشيًا أفضل؛ حيث ذكر أن النبي ﷺ حج راكبًا، فدل على أن الحج راكبًا أفضل.
قوله: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ» ، ذو الحليفة: ميقات أهل المدينة.
وقوله: «ثُمَّ يُهِلُّ» ، الإهلال: رفع الصوت بالتلبية، يعني يقول: لبيك عمرة لبيك حجًّا، لبيك عمرة وحجًّا، وكان الصحابة يصرخون بالتلبية صراخًا.
وقوله: «حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قَائِمَةً» ، يعني: الدابة.
1515 قوله: «أَنَّ إِهْلاَلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ؛ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ» فيه: دليل على أن الإهلال يستحب أن يكون بعد الاستواء على الراحلة، أي بعد ما يستوي على الدابة أو المركوب، وفي الوقت الحاضر فبعد ما يستوي على السيارة يهل؛ هذا هو الأفضل كما فعل النبي ﷺ في هذا الحديث، فإنه أهل حين استوت به راحلته، وكأن الحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ أنه قبل ذلك قد يحتاج إلى طيب مثلا أو إلى شيء آخر، فإذا ركب ـ في الغالب ـ تكون انتهت حوائجه فيهل، ولو أهل وأحرم قبل أن يركب فلا بأس، لكنه خلاف الأفضل.
وجاء في حديث رواه خصيف عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ أهل في مصلاه[(7)]؛ لكنه حديث ضعيف؛ لأن خصيفًا الجزري ضعيف.
وجاء عن بعض العلماء أنه أهل به على البيداء ـ يعني الصحراء ـ فيحمل على أنه أهل مرة أخرى، أي: أهل لما ركب، ثم لما استوى على البيداء أهل مرة أخرى، فسمعه قوم فقالوا إنه أهل على البيداء.
المتن:
باب الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ
1516 وَقَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ.
وَقَالَ عُمَرُ : شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ.
1517 وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ.
1518 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ فَاعْتَمَرَتْ.
الشرح:
هذه الترجمة والنصوص والآثار استدل بها المؤلف رحمه الله على أنه ينبغي للحاج والمعتمر أن يتواضع، وأن يبتعد عن المباهاة في المراكب، ولهذا قال: «عَلَى الرَّحْلِ» وهو ما يوضع على البعير، ويسمى الشداد عند بعض العامة.
1516 قوله: «وَقَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها» ذكر البخاري رحمه الله هذا الأثر معلقًا، ومالك بن دينار هذا هو الزاهد المعروف، ولم يرو عنه البخاري رحمه الله سوى هذا الموضع.
وقوله: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَالرَّحْمَنِ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ» القَتَبِ: هو الرحل الصغير على قدر السنام، والمقصود عدم التكلف والاقتصاد في الحج، فهذا اقتصاد النبي ﷺ أشرف الناس وأكرم الناس؛ حيث ركبت زوجته عائشة رضي الله عنها على قتب حملها عليه أخوها.
قوله: «وَقَالَ عُمَرُ : شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ» ؛ وذلك لما في الحج من جهاد النفس، ولما فيه من إدخال المشقة على البدن والمال، والجهاد الأول هو الغزو في سبيل الله ، وفي رواية موقوفة على عمر : «إذا وضعتم السروج فشدوا الرحال إلى الحج والعمرة فإنه أحد الجهادين» ، والمعنى: أنه إذا فرغتم من الغزو والجهاد فحجوا واعتمروا؛ فجعل الحج قسيمًا للغزو؛ فهذا جهاد وذاك جهاد.
1517 قوله: «وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ» وفي رواية: «حدثنا محمد بن أبي بكر» .
قوله: «حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ» أي: رَحْل صغير على قدر السنام.
وقوله: «وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا» أي: لم يكن بخيلا، وإنما قصد التواضع اقتداء بالنبي ﷺ.
وقوله: «وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ» الزاملة: البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزَمْل وهو الحمل، والمراد أنه لم تكن معه زاملة تحمل طعامه ومتاعه، بل كان ذلك محمولا معه على راحلته التي حج عليها ﷺ، ولم يجعل ناقتين إحداهما عليها طعامه ومتاعه، والأخرى يحج عليها، من تواضعه ﷺ.
وجاء في حديث ضعيف: «حج النبي ﷺ على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال: اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَلَا سُمْعَةَ [(8)].
1518 قوله: «فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ» يعني: أردفها على الحقيبة، وهي الزُنّارة التي تُجعل على مؤخر القتب.
وقوله في الحديث المعلق: «فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ» يعني: حملها على مؤخرة القتب.
وفي الحديث المعلق والأخير: دليل على أن من أراد العمرة من أهل مكة لابد له من الخروج إلى الحل، ففي الحديث الأول بعثها النبي ﷺ مع أخيها عبدالرحمن فأعمرها من التنعيم، والتنعيم أقرب المواضع إلى الحرم، وفي الحديث الأخير أنها قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ» فقال: يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وذلك ـ كما في الروايات الأخرى ـ أن عائشة رضي الله عنها أحرمت بالعمرة ثم حاضت وجاء الحج وهي لم تطهر فدخل عليها النبي ﷺ وهي تبكي فقال لها: مَا لَكِ أَنُفِسْتِ؟... هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ [(9)] فسمى الحيض نفاسًا، وأمرها أن تهل بالحج وتدخل الحج على العمرة، فصارت قارنة، فحصلت لها عمرة وحجة، لكن لم تطب نفسها لكون العمرة ليست مستقلة، فقالت: «يا رسول الله، أترجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بحج؟!» [(10)] فلما رأى ذلك ﷺ قال لأخيها عبدالرحمن اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وفي لفظ: اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الحَرَمِ [(11)] فدل على أن أهل مكة إذا أرادوا العمرة لابد أن يخرجوا من الحرم إلى الحل، فيخرجوا إلى التنعيم، أو الجعرانة، أو عرفة، أو إلى أي مكان خارج الحرم؛ لكن أقرب المواضع للحرم هو التنعيم؛ وأما الحج فإنهم يحرمون من بيوتهم، وهذا مخصص بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ [(12)].
المتن:
باب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ
1519 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ أَيُّ الأَْعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ.
1520 حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ أَخْبَرَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ.
1521 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان فضل الحج المبرور، والمبرور: هو المقبول، وقيل: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، وقيل: إنه الحج الذي وُفّيت أحكامه، ووقع من المكلف على الوجه الأكمل.
فيكون هو الذي ليس فيه إثم، ولا فسوق، ولا رفث؛ وكان خالصًا لله ، وموافقًا لشرع الله ولسنة رسول الله ﷺ.
1519 في حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ سئل: «أَيُّ الأَْعْمَالِ أَفْضَلُ؟» فرتبها فقال: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ. وفي هذا دليل على أن الجهاد أفضل من الحج؛ حيث قدم الجهاد على الحج في الحديث، والمراد هنا حج النفل، أما حج الفرض فهو أحد أركان الإسلام ـ والتي يدخل فيها الإيمان بالله ورسوله ﷺ وأداء الصلوات الخمس وأداء الزكاة والصوم ـ فهو أفضل من الجهاد.
فالجهاد أفضل ومقدم على حج النافلة؛ لأنه ذروة سنام الإسلام، ولما فيه من كون الإنسان يجود بنفسه وبماله لله عز وجل، ولما فيه من إنكار المنكر على الكفار بجهادهم بالنفس والمال، ولما فيه من إعلاء كلمة الله ، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التّوبَة: 111] فالإيمان بالله ورسوله ﷺ والجهاد هو التجارة الرابحة التي تنجي الإنسان من العذاب الأليم، قال الله : وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصَّف: 10-13] ففي الجهاد فوائد عظيمة.
1520 قوله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ وفي رواية أخرى: أفلا نجاهد؟ قال: لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ، وفي رواية: ولكن [(13)].
ودل الحديث: على أن الحج أفضل من الجهاد في حق النساء، أما الرجال فالجهاد أفضل في حقهم من الحج؛ لأن الجهاد نفعه عام لما فيه من إعلاء كلمة الله ، وفتح البلدان، وإدخال الناس في دين الله ؛ والحج نفعه خاص؛وما كان نفعه عامًّا قدم على ما كان نفعه خاصًّا.
1521 قوله: مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ ... فيه: فضل عظيم للحج، وأن الحج مكفر للذنوب لكن بهذا القيد فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، والرفث هو: الجماع ودواعيه، والفسوق: جميع المعاصي، وهذا يدل على أن هذا الحج تضمن التوبة من جميع الذنوب والمعاصي، إما توبة سابقة للحج لم يقع بعدها معصية أو توبة مع الحج.
فهذا الحديث فيه قيدان: مَنْ حَجَّ لِلَّهِ يعني: خالصًا لله ، وقوله: فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ هذا القيد الثاني، فتكون حجة خالصة لله عز وجل مع توبة صادقة ليس فيها رفث ولا فسوق.
وقوله: رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ أي: ليس عليه ذنوب كما كان يوم مولده.
وظاهر الحديث ـ كما قال بعض العلماء ـ أنه يشمل الكبائر والصغائر، والمشهور عند جمهور العلماء أنه خاص بالصغائر، لكن إذا تاب من الذنوب والمعاصي ولم يرفث ولم يفسق كفَّر الله له الصغائر والكبائر.
وقوله: كَيَوْمِ مجرور على الظرفية.
المتن:
باب فَرْضِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
1522 حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي مَنْزِلِهِ وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ فَسَأَلْتُهُ مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ؟ قَالَ: فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لأَِهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَلأَِهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلأَِهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ.
الشرح:
هذه الترجمة أراد بها المؤلف رحمه الله أنه لا يجوز للإنسان أن يتعدى المواقيت أو يحرم قبل المواقيت؛ لأن هذه المواقيت حددها رسول الله ﷺ بوحي من الله .
ومواقيت الحج نوعان:
الأول: المواقيت المكانية هي: التي لا يتجاوزها من أراد الحج أو العمرة، وهي خمسة مواقيت:
ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، والحليفة تصغير حلفة، والحلفة نبات وشجر معروف يكثر في هذا الوادي، ويسمى الآن أبيار علي.
والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب، وسميت الجحفة؛ لأن السيل اجتحفها فخربت، ثم صار الناس يحرمون من رابغ ـ ورابغ قبلها بيسير ـ ثم إنه الآن أعيد ميقات الجحفة فبني بها مسجد فيه مغاسل.
ولأهل اليمن يلملم من جهة الساحل، وتسمى السعدية.
ولأهل نجد قرن المنازل، وتسمى السيل أو وادي محرم.
والخامس لأهل المشرق ولأهل العراق ذات عرق.
الثاني: المواقيت الزمانية هي: أشهر الحج؛ شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة لمن أراد الحج، وفيها وفي غيرها لمن أراد العمرة.
وقوله: «فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» فرض بمعنى قدَّر وأوجب؛ فيجب على الإنسان أن يحرم من هذه المواقيت؛ وليس له أن يحرم قبلها، وهو ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يجوز الإحرام بالحج والعمرة من قبل الميقات، وذهب إلى هذا بعض العلماء، وقال آخرون: يجوز الإحرام قبلها لكنه يأثم.
ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الجواز، وهذا فيه نظر؛ لأن المسألة فيها خلاف، فإسحاق بن راهويه، وداود الظاهري، وجماعة، يرون أنه لا يجوز للإنسان أن يحرم قبل الميقات، وآخرون من أهل العلم يرون أنه لو أحرم قبلها فلا حرج.
والذين قالوا: لا يجوز؛ قالوا: كما أن المواقيت الزمانية ـ وهي أشهر الحج: شوال وذو القعدة وذو الحجة ـ ليس للإنسان أن يحرم بالحج قبلها فلو أحرم بالحج في رمضان لم يصح الإحرام بالحج؛ لأنه يبطل في غير أشهر الحج، وإنما تكون عمرة، فكذلك لو أحرم قبل المواقيت المكانية لم يصح، والصواب أنه يصح لكنه يأثم، وعليه فلا يتعمد الإحرام قبل الميقات، لكن لو كان على الطائرة ثم أحرم قبلها من باب الاحتياط فلا حرج، وقال بعض العلماء: يكره.
1522 قوله: «وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ» الفسطاط: الخيمة، والسرادق: ما أحاط بالشيء، ومنه قوله تعالى: أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف: 29].
المتن:
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
1523 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلاَ يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البَقَرَة: 197] رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلاً.
الشرح:
1523 قوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى فيها بيان أنه ينبغي للمسلم أن يتزود بالزاد الحسي والزاد المعنوي، فالزاد الحسي أن يكون عنده نفقة تكفيه لحجه حتى لا يحتاج إلى سؤال الناس، والزاد المعنوي هو تقوى الله .
المتن:
باب مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
1524 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَقَّتَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلأَِهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ وَلأَِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلأَِهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ.
الشرح:
قوله: «بَابُ مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ» مهل: مصدر ميمي من أَهَلَّ يُهِلُّ إهلالا، والإهلال رفع الصوت بالتلبية، يعني يلبي ويرفع صوته بالتلبية وينوي فيه الإحرام بالحج أو العمرة.
1524 قوله: «وَقَّتَ» يعني: حدد، وهذه المواقيت كلها قريبة من مكة بينها وبين مكة مرحلتين أو ثلاث ما عدا ميقات أهل المدينة فإنه بعيد جدًّا، واختلف العلماء في الحكمة من كونه أبعد المواقيت فقيل: ليكثر ثوابهم، أو ليتقارب التلبس بشعائر الحرمين؛ فإنك لا تكاد تخرج من الحرم المدني حتى تصل إلى ذي الحليفة فتتلبس بشعائر الحرم المكي، وقيل لغير ذلك، والله تعالى أعلم بالحكمة من ذلك.
ولما وقّت النبي ﷺ المواقيت قال: هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، وفي لفظ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ [(14)] دلت هذه الجملة على أن المواقيت ليست خاصة بأهلها، بل هذه المواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غير أهلها؛ فمن كان من اليمن ثم مر على قرن المنازل يحرم وحكمه حكم أهل نجد، ومن مر من نجد بيلملم يحرم من يلملم، وإذا مر الشامي أو النجدي أو اليمني بالمدينة أو زار المسجد النبوي فإنه يحرم من ذي الحليفة وحكمه حكم أهل المدينة، ولا يؤخر الإحرام حتى يصل إلى ميقاته، فإن أخره ففيه خلاف بين العلماء؛ منهم من قال: يجزئه ومنهم من قال: عليه دم.
وقوله: مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ منطوقه أن من أراد الحج والعمرة فإنه يجب عليه أن يحرم من المواقيت.
أما مفهومه فهو أن من لم يرد الحج أو العمرة فلا يجب عليه، وهذا هو الصواب.
وقال بعض العلماء كالحنابلة[(15)] وغيرهم: إنه يجب الإحرام على كل داخل إلى مكة سواء أراد الحج أو العمرة أو لم يرد، فهذا من خصائص مكة، فكل من دخل مكة يجب عليه أن يحرم بعمرة ثم ينتهي منها ثم يذهب إلى ما يريد، ولا يستثنى من هذا إلا من يشق عليه كالذي يتكرر دخوله مكة، مثل الحطاب الذي يأخذ الحطب والذي يأخذ الحشيش، ومثله الآن صاحب سيارة الأجرة؛ لأنه يتكرر دخوله وخروجه فهذا معفو عنه.
والصواب ـ كما تقدم ـ القول بعدم وجوب الإحرام إلا على من أراد الحج أو العمرة، أما من دخل مكة للزيارة أو للتجارة أو لغير ذلك وهو لا يريد حجًّا ولا عمرة فإنه لا يجب عليه في أصح قولي العلماء.
وقوله: وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ من كان دون المواقيت يحرم من مكانه من حيث أنشأ، فأهل جدة يحرمون من جدة، وأهل بَحْرة يحرمون من بَحْرة، وأهل الشرائع يحرمون من الشرائع، حتى أهل مكة يحرمون من مكة نفسها، ولهذا قال: حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ. يعني يحرمون للحج من دورهم.
واختلف العلماء في المكي إذا أراد أن يقرن بين الحج والعمرة هل يحرم منها أو لا يحرم؟
والصواب: أنه يحرم منها تغليبًا للحج، وقيل: يحرم من الحل.
أما من أراد العمرة من أهل مكة فإنه لابد أن يخرج من حدود الحرم ويحرم من الحل، وهذا الحديث عام خصصه حديث عائشة رضي الله عنها حينما أرادت العمرة فأمرها النبي ﷺ أن تخرج إلى التنعيم، ولأن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قاله النبي ﷺ قديمًا في المدينة وقصة عائشة في حجة الوداع، فيكون حديث عائشة رضي الله عنها مخصصًا لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإذا أراد المكي الحج فإنه يحرم من بيته وإذا أراد العمرة فإنه يخرج إلى الحل.
ومن جاوز الميقات وهو يريد أداء النسك فعليه أن يرجع إن لم يحرم، فإن رجع قبل أن يحرم، وأحرم من الميقات، فليس عليه شيء؛ وإن أحرم بعد أن يتجاوز الميقات فلا يفيده الرجوع وعليه عند أهل العلم دم شاة يذبحها في الحرم؛ لكونه ترك نسكًا، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «من ترك نسكًا أو نسيه فليهرق دمًا» .
المتن:
باب مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلاَ يُهِلُّوا قَبْلَ ذِي الْحُلَيْفَةِ
1525 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنْ الْجُحْفَةِ وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ.
الشرح:
قوله: «وَلاَ يُهِلُّوا» بحذف النون على أن لا ناهية.
1525 استنبط المؤلف رحمه الله النهي عن الإهلال قبل ذي الحليفة من قوله ﷺ في الحديث: يُهِلُّ لأنه خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ [البَقَرَة: 228]يعني: ليتربصن فهو خبر بمعنى الأمر لهن بالتربص، وأيضًا كقوله ﷺ في حديث ابن عمر: صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى [(16)] فهذا خبر بمعنى: صلوا صلاة الليل مثنى مثنى.
وإذا أهل قبل الميقات خالف أمر النبي ﷺ فيكون مكروهًا في حقه أو محرمًا فيصح إحرامه مع الكراهة أو مع الإثم أو لا يصح لمخالفة أمره ﷺ، والصواب أنه يصح مع الكراهة أو مع التحريم.
قوله: «وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ، هذا من ورع عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فإنه لما لم يسمع هذا فقال: «وَبَلَغَنِي» والذي بلغه رضي الله عنهما ثابت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما من أن النبي ﷺ وقت لأهل اليمن يلملم ـ وتسمى السعدية ـ وهي ميقات من يأتي من جهة الساحل.
المتن:
باب مُهَلِّ أَهْلِ الشَّأْمِ
1526 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلأَِهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ وَلأَِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلأَِهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا.
الشرح:
هذه الترجمة عقدها المؤلف لبيان مهل أهل الشام، يقال: الشام ويقال: الشأم، أي: بالهمزة وبتسهيلها ومنه قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرَّحمن: 29] ويقال بالتسهيل: شان.
1526 قوله: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلأَِهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ وَلأَِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلأَِهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ» وذا هو الميقات الذي لا يتجاوزه من أراد الحج أو العمرة.
وقوله: فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، وفي رواية أخرى: مِنْ غَيْرِهِنَّ [(17)]، ودل ذلك على أن هذه المواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غير أهلها، ودل على وجوب الإحرام لمن أراد الحج أو العمرة.
وقوله: فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ أي: من كان دون هذه المواقيت يحرم من أهله أي: يحرم من بيته حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا.
المتن:
مُهَلِّ أَهْلِ نَجْدٍ
1527 حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَقَّتَ النَّبِيُّ ﷺ.
1528 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّأْمِ مَهْيَعَةُ وَهِيَ الْجُحْفَةُ وَأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ.
الشرح:
هذه الترجمة أيضًا في توقيت المواقيت، فالبخاري رحمه الله ترجم لكل أهل إقليم، ترجم لمُهَل أهل المدينة وترجم لمُهَل أهل نجد وترجم لمُهَل أهل اليمن.
1527، 1528 قوله: «زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ» زعموا يعني: قالوا؛ فالزعم يأتي بمعنى القول ويأتي بمعنى الادعاء الكاذب كقوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التّغَابُن: 7] فهذه الدعوى الكاذبة، ومنه الزعم بمعنى القول المحقق مثل قول الذي جاء يسأل النبي ﷺ فقال: «وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال: صَدَقَ [(18)] فزعم هنا بمعنى قال.
وقوله: «زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ: وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما ما سمع هذا فمن ورعه رضي الله عنه قال: لم أسمعه، لكنهم زعموا هذا؛ فالشيء الذي سمعه جاء به بالجزم، والشيء الذي لم يسمعه بينه، وفي لفظ قال: «بلغني عنه أنه قال: وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ؛ [(19)] وهذا ثابت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
المتن:
باب مُهَلِّ مَنْ كَانَ دُونَ الْمَوَاقِيتِ
1529 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَقَّت لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلأَِهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ وَلأَِهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ وَلأَِهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا.
الشرح:
1529 في الحديث: توقيت المواقيت، فمن كان دون المواقيت فمهله من أهله حتى أهل مكة يهلون منها للحج، أما العمرة فإنهم يهلون لها من الحل.
وفي حديث آخر أنه وقت لأهل العراق ذات عرق، وفيه علم من أعلام النبوة حيث أطلعه الله على بعض المغيبات، فقد وقت لهم قبل فتح العراق وفيها الفرس، وما فتحت إلا بعد وفاة النبي ﷺ، ووقت النبي ﷺ لأهل الشام الجحفة وهي يومئذ بلاد النصارى من الروم.
المتن:
باب مُهَلِّ أَهْلِ الْيَمَنِ
1530 حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَقَّتَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلأَِهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ وَلأَِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلأَِهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لأَِهْلِهِنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ.
الشرح:
1530 المؤلف رحمه الله ترجم لكل إقليم، وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما بتوقيت المواقيت الأربعة، وفيه أن من كان دون المواقيت فإنه يحرم من أهله حتى إن أهل مكة يهلون من مكة.
المتن:
باب ذَاتُ عِرْقٍ لأِهْلِ الْعِرَاقِ
1531 حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَدَّ لأَِهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان أن ذات عرق ميقات للعراق وأهل المشرق، وذات عرق يقال لها: الظريبة، وسميت ذات عرق؛ لأن فيها عرقا وهو جبل.
1531 قوله: «لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ» هما: الكوفة والبصرة.
وقوله: «وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا» يعني: مائل.
وقوله: «فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ» أي: أن عمر وقت لهم ذات عرق باجتهاد منه؛ لأنه لم يبلغه أن النبي ﷺ وقتها فوافق اجتهاد عمر النص، ولا يستغرب هذا من عمر فإنه معروف بموافقاته للنصوص، ولهذا قال عمر : «وافقت الله أو وافقني ربي في ثلاث قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ [البَقَرَة: 125] مُصَلّىً وكذلك قلت: يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فأنزل الله آية الحجاب، واجتمع نساء النبي ﷺ في الغيرة عليه، فقلت لهن: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ [التّحْريم: 5] فنزلت هذه الآية» فاجتمع فيها النص واجتهاد عمر ؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ وقتها، وقال بعضهم: إن الحديث لم يثبت وإن كان في صحيح مسلم، أعله بعضهم بأنه مشكوك في رفعه؛ لأنه من رواية أبي الزبير أنه سمع جابرًا يسأل عن المهل فقال: سمعت أحسبه رفعه إلى النبي ﷺ فذكره، لكن جاء في رواية إبراهيم بن يزيد عن أبي الزبير ولم يشك في رفعه.
والمقصود أن ذات عرق ميقات لأهل العراق وأهل المشرق وقته عمر باجتهاده ثم دل النص على أن النبي ﷺ وقته.
المتن:
باب
1532 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَصَلَّى بِهَا وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُ ذَلِكَ.
الشرح:
هذا الباب ليس فيه ترجمة، وهو كالفصل من الباب السابق، وترجم عليه بعض الشراح: «نزول البطحاء والصلاة بذي الحليفة» .
1532 قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ» يعني: أناخ بعيره بالبطحاء.
وقوله: «وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُ ذَلِكَ» يعني: ينيخ بالبطحاء ويصلي بها؛ اقتداء بالنبي ﷺ.
وكان ﷺ خرج من المدينة حاجًّا فنزل بذي الحليفة وصلى بها العصر والمغرب والعشاء والفجر من يوم السبت والظهر من يوم الأحد ثم أحرم لخمس بقين من ذي القعدة.
وقوله: «بذي الحليفة فصلى بها» استدل به الجمهور مع حديث: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ [(20)] على استحباب أن يصلي المحرم ركعتين للإحرام، وقال آخرون: ليس للإحرام صلاة خاصة، وليس في الحديثين بيان أنها صلاة للإحرام؛ لاحتمال أنها كانت فريضة؛ وأن النبي ﷺ صلى بهم الفريضة وأهل دبر الفريضة، يعني: أهل بعد صلاة الظهر، ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(21)] وجماعة إلى أنه ليس للإحرام صلاة خاصة فقالوا: يتوضأ ويصلي سنة الوضوء أو يصلي سنة الضحى إذا كان في وقت الضحى ثم يحرم.
المتن:
باب خُرُوجِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ
1533 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ.
وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ.
الشرح:
1533 في الحديث: أن النبي ﷺ كان في الحج والعمرة والعيدين يخرج من طريق ويرجع من طريق أخرى، وفي ذلك من الفوائد أن تشهد البقاع لمن عمل عليها صالحا، ومنها إغاظة أهل النفاق، ومنها قضاء حاجة أهل الطريقين والسلام على أهل الطريقين وغير ذلك من المصالح، ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ» والمعرس الذي يعرس فيه، يعني: ينام آخر الليل، فنزول المسافر للاستراحة والنوم في آخر الليل يسمى التعريس.
وقوله: «وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مسْجِدِ الشَّجَرَةِ» يعني: في مكان كان فيه شجرة.
وقوله: «وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ» وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك اقتداء بالنبي ﷺ واجتهادًا منه رضي الله عنهما؛ لأن الاقتداء بالنبي ﷺ إنما هو في الميقات، أما تتبع الأماكن التي صلى فيها النبي ﷺ والصلاة فيها فهذا اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما.
المتن:
باب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ
1534 حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ التِّنِّيسِيُّ قَالاَ: حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ: أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ.
1535 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ رُئِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي، قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ.
وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ يَتَوَخَّى بِالْمُنَاخِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُنِيخُ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّه ﷺ وَهُوَ أَسْفَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ.
الشرح:
هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لقوله ﷺ: «الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ» وهو واد بذي الحليفة سمي بالعقيق؛ لأن السيل عقه أي: شقه.
1534 قوله: أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ استدل به الجمهور على استحباب صلاة ركعتين للإحرام، وليس في هذا دليل على أنها نافلة؛ حيث يحتمل أن تكون صلاة فريضة، والأفضل أن يحرم دبر الفريضة؛ لأنه قد ينتقل ويصليها في غير الوادي.
1535 قوله: «أَنَّهُ رُئِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي» والمعرس هو المكان الذي يستراح فيه في آخر الليل، فابن عمر رأى النبي ﷺ وهو في مُعٍرّس ببطن الوادي بذي الحليفة «قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ» .
وقوله: «وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ يَتَوَخَّى بِالْمُنَاخِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُنِيخُ» الراوي هو موسى بن عقبة، وسالم هو ابن عبدالله بن عمر رضي الله عنهم، وقد أناخ في المكان الذي كان ينيخ فيه أبوه عبدالله ، وكان عبدالله يتحرى المكان الذي كان ينيخ فيه النبي ﷺ، يعني يجعل ناقته تَبْرُك فيه، «وَهُوَ أَسْفَلُ مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ» وهذا الذي فعله ابن عمر وابنه سالم من كونهما توخيا المكان الذي نزله النبي ﷺ اجتهادٌ منهما.
والصواب أن النزول في منزل النبي ﷺ ليس بمشروع؛ لأنه لم يفعله كبار الصحابة كأبي بكر ، وكذا لم يفعله أبوه عمر ؛ لكن ابن عمر رضي الله عنهما كان يتوخى الأماكن التي كان ينزل فيها النبي ﷺ فينزل فيها والأماكن التي ينام فيها فينام فيها والمكان الذي يبول فيه فيبول فيه وهكذا.
والصواب والمشروع هو الاقتداء به ﷺ في العبادات، أما كونه بات في هذا المكان أو كونه بال في هذا المكان أو كونه مر بهذا المكان فهذا من باب العادات؛ ولهذا لم يفعله كبار الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
المتن:
باب غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ الثِّيَابِ
1536 قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ : أَرِنِي النَّبِيَّ ﷺ حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ بِالْجِعْرَانَةِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَسَكَتَ النَّبِيُّ ﷺ سَاعَةً فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى فَجَاءَ يَعْلَى وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنْ الْعُمْرَةِ؟ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ: اغْسِلْ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الإِْنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَ: نَعَمْ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان حكم غسل المحرم الطيب الموجود في ثيابه.
وقوله: «الْخَلُوقِ» هو أخلاط من الطيب مجموعة.
1536 قوله: «فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ بِالْجِعْرَانَةِ» هذا في السنة الثامنة بعد حنين، أحرم النبي ﷺ من الجعرانة، والجِعْرَانة بتسكين العَين والتخفيف، وقد تُكْسَر العَين وتُشدّد الراء فيقال: الجِعِرَّانة.
وقوله: «كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ» وفي لفظ: «بعمرة في جبة بعدما تضمخ بالطيب» [(22)] أي: تلطخ بالطيب وهو محرم.
وقوله: «فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى» ؛ لأن يعلى بن أمية كان يود أن ير النبي ﷺ إذا نزل عليه الوحي.
وقوله: «وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ» فيه: دليل على ثقل الوحي عليه ﷺ، والغطيط: صوت النفس المتردد من النائم والمغمى عليه.
وقوله: «ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ» أي: كشف عنه.
وفيه: دليل على أن العالم والمفتي والقاضي إذا سئل عن شيء لا يعلمه يتوقف ولا يجيب بغير علم فالنبي ﷺ سأله هذا الرجل عن الطيب فسكت ساعة حتى جاء الوحي، وفيه دليل على أن السنة وحي ثان، قال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النّجْم: 3-4] وفي الحديث يقول النبي ﷺ: أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ [(23)].
قوله: اغْسِلْ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فيه: دليل على أن من تطيب فإنه يغسل الطيب ويبقي عليه ثيابه.
وفيه: أن المحرم ممنوع من الطيب وَمِن لبس المخيط.
وفيه: دليل على أن الجاهل والناسي معفو عنه وليس عليه إثم ولا فدية؛ لأن النبي ﷺ لم يأمره بفدية؛ لأنه جاهل، أما العالم فعليه فدية كما في حديث كعب بن عجرة لما جاءه النبي ﷺ وهو محرم والقمل يتساقط على رأسه قال: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قلت: نعم. قال: فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ انْسُكْ نَسِيكَةً [(24)] فإذا احتاج المحرم إلى حلق رأسه؛ لكونه به جروح يحلق رأسه، ولكن عليه فدية فيذبح شاة أو يطعم ستة مساكين أو يصوم ثلاثة أيام، ومثله لو كان الإنسان مريضًا واحتاج مثلا إلى أن يغطي رأسه، أو كان في شدة برد واحتاج إلى أن يلبس الثياب فإنه يلبس ويفدي، أما إذا كان جاهلا أو ناسيًا فليس عليه شيء في أصح قولي العلماء، وقال بعض أهل العلم: عليه فدية، وفرق آخرون بين الجاهل والناسي فقالوا: الناسي معذور؛ لأن النسيان لا حيلة فيه، وأما الجاهل فعليه أن يسأل.
وفيه: أن المحرم إذا لبس ثوبًا أو سروالا أو تطيب ناسيًا أو جاهلا فإنه يزيله إذا ذكر أو علم ولا شيء عليه، ومثله إذا غطى رأسه أو حلق شعره أو قلم ظفره.
واختلف العلماء في الجماع إذا جامع ناسيًا أو جاهلا فالجمهور على أن عليه فدية؛ لأن الصحابة قضوا بذلك ولم يفرقوا بين العالم وغيره، وذهب شيخ الإسلام رحمه الله وجماعة إلى أنه لا شيء عليه[(25)]، وذهب آخرون إلى التفريق بين الناسي والجاهل وأن الناسي لا شيء عليه؛ لأن النسيان لا حيلة فيه بخلاف الجاهل فإنه عليه أن يسأل، وهذا اختيار سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
وليس كل جاهل يعذر، فإنه يجب عليه أن يسأل، فإن وجد من يسأل ولم يسأل فهو الذي فرط فلا يعذر.
وهذا الحديث فيه الأمر بغسل الطيب ومنع استدامته بعد الإحرام، أما حديث عائشة أنها قالت: «كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله ﷺ وهو محرم» [(26)]. فالجمع بينهما بأحد أمرين:
الأول: أن حديث يعلى هذا ـ وهو حديث الباب ـ منسوخ بحديث عائشة رضي الله عنها حيث إنها طيبته وأنه استدام الطيب بعد إحرامه؛ لأن حديث يعلى هذا بالجعرانة سنة ثمان وحديث عائشة رضي الله عنها في حجة الوداع.
الثاني: أن الطيب في حديث عائشة رضي الله عنها كان في بدنه وفي لحيته وفي مفارق رأسه، أما في حديث يعلى كان في ثوب إحرامه، ولهذا أمره بنزع الجبة وغسل آثار الخلوق، وهذا أولى؛ لأن الجمع مقدم على النسخ؛ فالجمع بينهما أن نقول: إذا كان الطيب في البدن وقد تطيب قبل الإحرام فإنه لا يغسله وله أن يبقيه، وإذا كان الطيب في الثوب في ملابس الإحرام فلابد من غسله.