شعار الموقع
  1. الصفحة الرئيسية
  2. الدروس العلمية
  3. الحديث وعلومه
  4. شرح كتاب الحج من صحيح البخاري
  5. شرح كتاب الحج من صحيح البخاري (25-2) من باب الطِّيبِ عِنْدَ الإِْحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ - إلى باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي

شرح كتاب الحج من صحيح البخاري (25-2) من باب الطِّيبِ عِنْدَ الإِْحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ - إلى باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي

00:00
00:00
تحميل
142

المتن:

باب الطِّيبِ عِنْدَ الإِْحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتَ وَالسَّمْنَ.

وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ، وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ رضي الله عنها بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا.

1537 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ قَالَ مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ.

1538 حَدَّثَنِي الأَْسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُحْرِمٌ.

1539 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: كنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الطيب عند الإحرام وبيان ما يلبس إذا أراد أن يحرم؛ يعني: هل له أن يلبس القمص أو السراويل أو التبان أو الثياب القصار؟ وهل له أن يتختم أو ليس له ذلك؟ وهل يشد على بطنه شيئًا يضع فيه نقوده أو ليس له ذلك؟

ثم استدل بالأحاديث كما في حديث عائشة رضي الله عنها: «كنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» فهذا من سنن الإحرام أن يتطيب الإنسان، ويسن له أيضًا قبل الإحرام الغسل والتنظف، ويتجرد ـ إذا كان رجلا ـ من المخيط فلا يلبس الجبة ولا يلبس الفانلة ولا يلبس السروال، ويلبس إزارًا ورداء أبيضين نظيفين، أما المرأة فإنها تحرم بما شاءت؛ فليست ممنوعة إلا من الثياب الجميلة التي تلفت أنظار الرجال إليها كثياب الشهرة أو الثياب الضيقة.

وقوله: «وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ» الترجيل: تسريح الشعر، يعني له أن يسرح شعره ويدهن؛ لأن الدهن ليس بطيب.

قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ» لا بأس أن يشم الريحان؛ لأنه ليس بطيب.

وقوله: «وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ» يعني: له أن ينظر في المرآة، وإن كان فيه نوع من الترفه لكنه ليس بممنوع مثل حلق الشعر وتقليم الأظفار.

وقوله: «وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتَ وَالسَّمْنَ» يعني: له أن يتداوى بالذي يأكله، إذا أصابه في يديه أو رجليه شقوق أو جروح له أن يدهن الجروح بالزيت أو بالسمن؛ لأنه ليس بطيب.

وقال مجاهد رحمه الله: «إن تداوى بالسمن أو الزيت فعليه دم» . فالمؤلف رحمه الله أراد الرد عليه، والصواب أنه ليس عليه شيء؛ لأنه لم يفعل شيئًا من محظورات الإحرام فلا حرج عليه.

قوله: «يَتَخَتَّمُ» يعني: له أن يلبس الخاتم في أصبع يده اليمنى أو يده اليسرى، ومثله ساعة اليد ونظارة العين، كل هذا لا حرج فيه.

وقوله: «وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ» الهميان: الذي يوضع فيه النفقة، ويسمى بالكمر الآن، يشده على بطنه ويضع فيه النقود، وهو لا بأس به.

قوله: «وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ» إذا حزم على بطنه بثوب أو بحبل لأجل أن يشد الإزار؛ لئلا يسقط فلا بأس، قال بعض العلماء: لا يعقده إنما يدخل بعضه في بعض، ولكن لو عقده فلا حرج، ويرى مالك رحمه الله أن من حزم على بطنه بثوب عليه الفدية[(27)]، والصواب أنه ليس عليه شيء.

قوله: «وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ رضي الله عنها بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا» التبان: سروال قصير إلى نصف الفخذ أو دون الركبة وليس له أكمام؛ فعائشة رضي الله عنها رأت أنه لا بأس بلبس السروال القصير للذين يرحلون هودجها؛ لأنها رأت أنه يبدو منهم بعض العورة، وهذا اجتهاد منها رضي الله عنها، والأكثرون من العلماء على المنع من لبس التبان للمحرم وهو الصواب؛ لقول الرسول ﷺ: لاَ يَلْبَسُ القَمِيصَ وَلاَ السَّرَاوِيلَ [(28)] وهو يشمل ما إذا كان سروالا طويلا له أكمام أو كان سروالا قصيرًا ليس له أكمام، وهو التبان.

وظاهر صنيع البخاري رحمه الله في إيراده أثر عائشة رضي الله عنها أنه يوافقها في هذا، والصواب المنع كما قدمنا.

1537 قوله: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ» يعني: إبراهيم النخعي.

وفيه: فعل ابن عمر رضي الله عنهما، وأن الادهان بالزيت لا حرج فيه؛ لأنه ليس بطيب.

وقوله: «مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ» استنكار من إبراهيم النخعي، لفعل ابن عمر إذ كيف يفعل هذا وقد روى حديث عائشة في أثر الطيب في مفرق رسول الله ﷺ.

1538 وقول عائشة رضي الله عنها: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُحْرِمٌ» وبيص يعني: لمعان الطيب؛ كانت عائشة رضي الله عنها تطيب النبي ﷺ قبل أن يُحّرِم ثم يُحْرِم ويبقى لمعان الطيب في مفارق رأسه، ومعروف أن الرأس له مفرق في الوسط إذا كان الشعر يفرق على اليمين وعلى اليسار، لكن جَمَع مفارق من باب المبالغة وإلا فهو مفرق واحد، وفيه دليل على أنه إذا تطيب في بدنه وفي لحيته ورأسه ثم أحرم وبقي الطيب لا حرج عليه، أما ملابس الإحرام الإزار والرداء إذا أصابها طيب فيغسلها.

1539 قول عائشة رضي الله عنها: «كنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» فهي رضي الله عنها تطيبه في الحج في وقتين: الوقت الأول لإحرامه قبل أن يحرم؛ لأن مدة الإحرام تطول فتطيبه حتى تزول الرائحة التي تنبعث، والوقت الثاني تطيبه للحل إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد وحلق رأسه قبل أن يطوف بالبيت؛ لأنه سيجتمع ويختلط بالناس وهذا مظنة ثوران الرائحة.

وكان يشرع للإنسان في السابق أن يقص شاربه وأن يقص أظفاره إذا وصل إلى الميقات؛ لأن السفر كانت مدته طويلة شهرًا أو عشرة أيام أو عشرين يومًا فتصبح الأظافر طويلة والشعور طويلة، أما الآن فيستطيع أن يقص أظفاره وشاربه في بيته؛ لأن السفر الآن لم يعد طويلاً، وصارت المدة قصيرة بوسائل النقل الحديثة.

وحتى في غير الإحرام لا ينبغي للإنسان أن يترك الأظفار والشارب أكثر من أربعين ليلة كما في حديث أنس : «وُقِّتَ لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة» [(29)].

المتن:

باب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا

1540 حَدَّثَنَا أَصْبَغُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُهِلُّ مُلَبِّدًا.

الشرح:

1540 قوله: «يُهِلُّ مُلَبِّدًا» التلبيد معناه أن يضع على رأسه شيئًا يلبده به كالصمغ؛ لئلا ينتشر ويكون شعثًا ويجتمع فيه الأوساخ والقمل، وكان النبي ﷺ إذا أهل يلبد رأسه فيجعل فيه شيئًا من الصمغ أو من العسل أو من الغِسل ـ وهو ما يغسل به الرأس من خطم وغيره ـ لأن المدة كانت تطول بهم فهم كانوا يحرمون من الميقات، وكانوا يسافرون على الإبل، وكانت الأسفار طويلة؛ وقد أحرم النبي ﷺ من ذي الحليفة في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، ولم يصل إلا في اليوم الرابع من ذي الحجة، فهي مدة طويلة يتشعث الشعر فيها، وكان النبي ﷺ لا يحلق شعر رأسه إلا في حج أو عمرة.

ففي الحديث: جواز تلبيد الشعر، وأنه لا يعتبر ساترًا للرأس؛ لأنه لو كان ساترًا للرأس لَمُنِع منه المحرم كما يُمنَع من تغطية رأسه.

المتن:

باب الإِْهْلاَلِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ

1541 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما.

1542 وحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ.

الشرح:

1541، 1542 قوله: «مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ» يعني: ما رفع ﷺ صوته بالإهلال والإحرام، والمراد بالمسجد المصلى؛ لأن المصلى مسجد، ويحتمل أنه كان هناك مسجد بني بعد النبي ﷺ، وإلا فكل شيء يصلى فيه يسمى مسجدًا كما قال ﷺ: جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا [(30)].

وهذا الحديث قاله ابن عمر ردًّا على من قال: إن رسول الله ﷺ أهل من البيداء ـ يعني: الصحراء ـ والأحاديث الصحيحة تدل على أنه ﷺ أهل حينما استوت به راحلته، ثم أهل مرة أخرى لما كان في البيداء ليعلم ذلك من لم يكن رآه أولاً فسمعه جابر ، وسمعه بعض الرواة فنقلوا عنه أنه أهل لما كان بالبيداء؛ ولهذا جاء عن جابر أن النبي ﷺ خرج حتى إذا استوت به راحلته على البيداء أهل[(31)].

أما حديث خصيف الجزري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ أهل في مصلاه[(32)] فهذا ضعيف لأن خصيفًا الجزري ضعيف عند أهل العلم.

المتن:

باب مَا لاَ يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ

1543 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْبَرَانِسَ وَلاَ الْخِفَافَ إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلاَ تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ.

الشرح:

1543 قوله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْبَرَانِسَ وَلاَ الْخِفَافَ إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلاَ تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ يعني: أن هذا الرجل سأل النبي ﷺ عما يلبسه المحرم من الثياب فأجابه النبي ﷺ بما لا يلبسه، والحكمة في ذلك أن الذي يلبسه المحرم كثير لا حصر له والذي لا يلبسه محصور، وكأن النبي ﷺ عدد عليه هذه الأشياء الخمسة أو الستة فقال: هذه الأشياء لا تلبسها والباقي البسه، وهذا من أسلوب الحكيم، وهو أن يجاب السائل بما هو أنفع له، والذي هو أنفع له أن يحدد له الأشياء التي لا يلبسها والباقي يلبسه.

وقوله: لاَ يَلْبَسُ الْقُمُصَ القمص جمع قميص، والقميص ما خيط على قدر البدن، وهذا تنبيه على أن المحرم لا يلبس ما خيط على قدر العضو مثل الفانلة والقفازين في اليدين والجوربين في الرجلين، كل ذلك داخل في القمص.

وقوله: وَلاَ الْعَمَائِمَ جمع عمامة، وهي ما يشد بها الرأس، وهذا تنبيه بالمنع من ستر الرأس فالرجل المحرم لا يستر رأسه بالعمامة أو بغيرها كالعقال مثلا أو سير يشده على رأسه فكل هذا ممنوع.

وقوله: وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ جمع سروال، وهو ما خيط على قدر النصف الأسفل ـ والفانلة ما خيط على قدر النصف الأعلى ـ فلا يلبس السراويل سواء كان السروال طويلا له أكمام أو قصيرًا ليس له أكمام، وكانت عائشة رضي الله عنها اجتهدت فأفتت الذين يرحلون هودجها بأن يلبسوا التبان، وهو السروال القصير الذي ليس له كم دون الركبة، والصواب أنه داخل في المنع.

وقوله: وَلاَ الْبَرَانِسَ جمع برنس، وهي ثياب مغربية متصلة بها رؤوسها، والبرنس موجود إلى الآن قميص له رأس يتصل به يوضع على الرأس ويزال.

وقوله: وَلاَ الْخِفَافَ ما يستر الرِّجْل ويغطي الكعب، أما إن كان دون الكعب فلا يقال له خف بل حكمه حكم النعل.

قوله: وَلاَ الْخِفَافَ إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ إذا لم يجد المحرم نعلين ولم يجد إلا الخفين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين حتى يكون حكمهما حكم النعل، وهذا ما قاله النبي ﷺ في خطبته في المدينة قبل سفره للحج: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ [(33)] ثم خطب ﷺ الناس في عرفة بعد ذلك كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقال: مَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ [(34)] ولم يقل: يقطعهما أسفل من الكعبين؛ فاختلف العلماء في الجمع بينهما فقال الجمهور: إن المطلق يحمل على المقيد وحديث ابن عباس رضي الله عنهما مطلق فليس فيه أنه يقطعهما لكنه قيد بحديث ابن عمر رضي الله عنهما فيجب القطع عملا بالقاعدة الأصولية أن المطلق يحمل على المقيد، وذهب الإمام أحمد[(35)] وجماعة إلى أن الأمر بالقطع منسوخ؛ لأن النبي ﷺ قال ذلك في خطبته في المدينة ثم نسخ ذلك في خطبته في عرفة، والقاعدة أن المتأخر ينسخ المتقدم، قالوا: ويؤيد النسخ أمران:

الأمر الأول: أن النبي ﷺ قال: مَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ ولم يقل: ويفتق السراويل، وقال: وَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ [(36)] ولم يقل: فليقطعهما؛ فدل على أن الحكم واحد فكما أنه إذا لم يجد إزارًا يلبس السروال ولا يفتقه فكذلك إذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين ولا يقطعهما.

الأمر الثاني: أن قطع الخفين فيه إفساد لهما وإضاعة لماليتهما، والشريعة جاءت بالنهي عن إضاعة المال.

والقول الثالث للعلماء: أن الأمر بالقطع محمول على الاستحباب لا على الوجوب والذي صرفه من الوجوب إلى الاستحباب حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: وَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ ولم يقل: فليقطعهما؛ فالأمر محمول على الندب فإن قطعهما فهو أفضل وإن تركهما فلا حرج.

فالمحرم يتجنب هذه الأشياء، فهي من محظورات الإحرام في اللباس، والمحرم يمتنع من لبس المخيط إذا كان رجلا، ويمتنع من تغطية الرأس، ويمتنع من الطيب، ويمتنع من تقليم الأظفار، وَمِنْ أَخْذِ شيء من الشعر، وَمِنْ قتل الصيد، وكذلك مِنْ عقد النكاح، ومن الجماع ومباشرة النساء؛ فتلك تسعة أشياء يمتنع منها المحرم عرفت بالاستقراء والتتبع للنصوص.

أما المرأة فإنها تغطي رأسها؛ لأنها عورة وتغطي وجهها، وكذلك تلبس المخيط، وكذلك أيضًا تلبس جوارب الرجلين، ولكنها تمتنع من لبس المخيط على قدر الوجه واليدين لحديث: «لا تنتقب المرأة المحرمة؛ ولا تلبس القفازين» [(37)].

ويمنع المحرم من تغطية الوجه فلا ينبغي أن يلبس الكمامات ولا يظهر إلا عينيه، ولكن لو وضعها على قدر الأنف جاز.

ولا بأس إذا حمل متاعًا فوق رأسه إذا لم يقصد ستر الرأس وقصد حمل المتاع.

المتن:

باب الرُّكُوبِ وَالاِرْتِدَافِ فِي الْحَجِّ

1544 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ الأَْيْلِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أُسَامَةَ كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ الْمزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى قَالَ: فَكِلاَهُمَا قَالَ: لَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ ﷺ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ.

الشرح:

1544 في الحديث فوائد منها: ما ترجم له المؤلف رحمه الله، وهو جواز الركوب والارتداف في الحج، وأنه لا حرج للحاج أن يركب من منى إلى عرفة، ومن عرفة إلى منى، والركوب أفضل؛ لأنه فعل النبي ﷺ.

وفيه: جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق، فالنبي ﷺ أردف أسامة بن زيد رضي الله عنهما من عرفة إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما من مزدلفة إلى منى.

وفيه: تواضع النبي ﷺ وبعده عن الكبر؛ فإن المتكبرين لا يرضون أن يركب معهم أحد.

وفيه: فضل أسامة والفضل رضي الله عنهما؛ حيث أردفهما النبي ﷺ.

قوله: «لَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ ﷺ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» فيه: مشروعية التلبية للحاج وأنها لا تنقطع حتى يرمي جمرة العقبة فإذا شرع الحاج في الرمي قطع التلبية؛ لأنه شرع في التحلل، والمعتمر لا يزال يلبي حتى يشرع في طواف العمرة فإذا شرع في الطواف قطع التلبية، وتكرار التلبية سنة.

واختلف في التلبية عند الإحرام، هل هي شرط، أو واجب، أو سنة؟

فمن العلماء من قال: إنها شرط، ومنهم من قال: إنها واجبة ومن تركها فعليه دم، والصواب أنها سنة، وإذا قالها مرة كفته، فإذا تركها ولم يقلها ولا مرة واحدة فإن بعض العلماء يقول إنه ترك واجبًا وعليه دم، والصواب أنه ليس عليه شيء.

والأفضل أن يكرر التلبية ويكثر منها فالمحرم يشرع له التلبية ولاسيما عند تغير الأحوال في دبر الصلاة، وإذا هبط واديًا، أو علا مرتفعًا، أو سمع ملبيًا، أو فعل محظورًا ناسيًا، أو صلى مكتوبة، أو أقبل الليل، أو أدبر النهار.

والمحرمة لا يجوز لها أن تلبس النقاب؛ ولكن تغطي وجهها عن الرجال الأجانب بأن تسدل خمارها على وجهها من دون المخيط، وإذا تعمدت لبس النقاب فعليها فدية؛ لكن لو كانت جاهلة أو ناسية فليس عليها شيء.

المتن:

باب مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ وَالأَْرْدِيَةِ وَالأُْزُرِ

وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَقَالَتْ: لاَ تَلَثَّمْ وَلاَ تَتَبَرْقَعْ وَلاَ تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ وَلاَ زَعْفَرَانٍ.

وَقَالَ جَابِرٌ: لاَ أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا، وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِيِّ وَالثَّوْبِ الأَْسْوَدِ وَالْمُوَرَّدِ وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ.

1545 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: أَخْبَرنِي كُرَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الأَْرْدِيَةِ وَالأُْزُرِ تُلْبَس إِلاَّ الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَقَدِمَ مَكَّةَ لأَِرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ لأَِنَّهُ قَلَّدَهَا ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ وَهُوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَقْرَبْ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ ثُمَّ يَحِلُّوا وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِيَ لَهُ حَلاَلٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان ما يلبسه المحرم من الثياب والأردية والأزر، والأردية جمع رداء، والأزر جمع إزار.

قوله: «وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ» وهذا مذهب جمهور العلماء جواز لبس المعصفر للمحرم، والمعصفر يعني: المصبوغ بالعصفر. والجمهور على جواز لبس المعصفر للمحرم، وقال أبو حنيفة رحمه الله: العصفر طيب؛ فإذا لبس الثوب المعصفر عليه فدية[(38)]، واحتج بأن عمر نهى عن الثياب المعصفرة، والصواب أنه ليس طيبًا، وإنما الطيب هو الزعفران.

وقال بعضهم: إن المعصفر والمزعفر من الثياب من خصائص النساء، ولهذا لبست عائشة رضي الله عنها الثياب المعصفرة، والصواب جواز لبسه للرجال والنساء؛ لأنه ليس بطيب.

وقوله: «لاَ تَلَثَّمْ» يعني: لا تضع اللثام على فمك وأنفك، ولا تغطي وجهك حيث لا يخرج إلا العينان مثل الكمامات الآن؛ لأن المحرم يكشف وجهه ويكشف رأسه، لكن لو وضعها على قدر الأنف ـ يعني من الطرف ـ أو سد أنفه جاز.

وقوله: «وَلاَ تَتَبَرْقَعْ» كذلك لا يلبس ما يشبه البرقع، وهو ما خيط على قدر الوجه ولا يخرج إلا العينان، أو ما أشبه ذلك مما يشبه البرقع، بل يكشف وجهه.

وقوله: «وَلاَ تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ وَلاَ زَعْفَرَانٍ» يعني لا تلبس ثوبًا مصبوغًا بالورس أو الزعفران؛ لأنهما نوعان من الطيب، والمحرم ممنوع من الطيب أو لبس الثياب المطيبة.

قوله: «وَقَالَ جَابِرٌ: لاَ أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا» أي: ليس تطيبًا.

قوله: «وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِيِّ» يعني: لا بأس للمرأة أن تلبس الحلي في يديها أو في رجليها، لكنها تغطيه عن الرجال، وإذا خشيت أن يخرج الحلي فالأولى لها أن تخلعه.

وقوله: «وَالْمُوَرَّدِ» يعني: الثوب المصبوغ على لون الورد لا بأس به إذا لم يكن يلفت أنظار الرجال إليها، وأمكن تغطيته.

وقوله: «وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ» كذلك لا بأس أن تلبس الخف؛ لأن الممنوع من الخف هو الرجل، أما المرأة فتلبس الخف، وتلبس جورب الرِّجْلين، ولا بأس؛ لكن قفاز اليدين ممنوعة منه؛ لقول النبي ﷺ: «لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» [(39)] والقفازان ما خيط على قدر اليدين.

قال ابن المنذر رحمه الله: «أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف؛ لأن المرأة عورة» .

قوله: «وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:» يعني: إبراهيم النخعي.

وقوله: «لاَ بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ» أي: المحرم لا بأس أن يبدل ثيابه، والمراد بالثياب: الإزار والرداء فكلاهما يسمى ثوبًا في اللغة العربية؛ فالثوب في اللغة العربية القطعة من اللباس، فالقميص ثوب والسروال ثوب، يعني أن المحرم إذا استبدل الإزار والرداء بإزار ورداء آخرين؛ لأنهما متسخان مثلا، أو لأنهما قصيران ـ فلا حرج ـ.

1545 قوله: «انْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ» ترجل يعني: سرح شعره، وادهن: دهن شعره، فلا بأس أن يترجل المحرم ويسرح شعره ويدهن؛ فالدهن ليس طيبًا، والممنوع هو الطيب.

وقوله: «وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ» الإزار: قطعة القماش التي يشد بها النصف الأسفل، والرداء: القطعة الثانية التي توضع على الكتفين.

وقوله: «فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الأَْرْدِيَةِ وَالأُْزُرِ تُلْبَس» أي: ما نهى النبي ﷺ عن شيء من الأردية والأزر، بل أباح لأصحابه أن يلبسوا جميع الأُزر، وجميع الأردية من أي نوع.

وقوله: «إِلاَّ الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ» المزعفرة يعني المصبوغة بالزعفران؛ لأنه طيب؛ فإذا كان الإزار أو الرداء مصبوغًا بالزعفران فلا يلبسهما المحرم وما عدا ذلك فإنه يلبسه بجميع أنواعه سواء كان أبيض أو ملونًا، لكن الأفضل هو الأبيض.

قوله: «وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ» البدنة جنس، والنبي ﷺ ساق من المدينة بدنًا كثيرة مع ما أتى به علي من اليمن وليست بدنة واحدة، فالبدنة مفرد فإذا أضيف إلى الضمير صار يفيد الجمع، والمراد أنه قَلّد البُدن أي: وضع لها قلادة.

ولمن ساق الهدي من بلده سُنَّتان:

السُّنة الأولى: التقليد بأن يجعل لها قلادة بالنعل أو ما أشبه ذلك، فيأتي بالنعال القديمة ويجعلها بخيط ويعلقها في رقبتها؛ ليعرف أنها مهداة للبيت، أو يأتي ببعض الجلود القديمة ويقلدها.

السُّنة الثانية: الإشعار: وهو أن يشق صفحة سنامها بالسكين حتى يخرج الدم، ثم يصرف الدم عن يمينه وعن شماله، وهذا ـ وإن كان فيه تعذيب لها ـ مستثنى حتى يعرف كل من رآها أنها مهداة للبيت، وهذا خاص بالإبل، أما الغنم فلا تشعر؛ لأنها ضعيفة لا تتحمل، وإنما تقلد فيجعل لها قلادة من نعال أو غيرها.

قوله: «وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَقَدِمَ مَكَّةَ لأَِرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ» فتكون مدة سفر النبي ﷺ تسعة أيام، خمسة أيام وأربعة، وفي هذا رد على من منع إطلاق القول في التاريخ، فبعض العلماء يقولون: لا تقل: خمس بقين من ذي القعدة، ولكن قل: خمس إن بقين -بزيادة إن؛ لأنك لا تدري هل يكون الشهر تامًّا أم ناقصًا؛ فإذا كان ناقصًا بقي أربع وإذا كان تامًّا بقي خمس، وهذا ليس بصحيح، والصواب أنه لا بأس بإطلاق القول في التاريخ.

قوله: «فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» هذا الطواف طواف القدوم؛ لأنه ﷺ كان قارنًا، وسعى بين الصفا والمروة سعي الحج، وبقي على إحرامه ولم يتحلل، وجلس في الأبطح أربع ليال: اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع من ذي الحجة، ثم لما جاء اليوم الثامن دفع إلى منى ملبيًا ﷺ.

قوله: «وَلَمْ يَحِلَّ» أي: لم يتحلل بالعمرة.

قوله: «مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ لأَِنَّهُ قَلَّدَهَا» ، وهنا قال: «بُدْنِهِ» جمع بدنة، وهناك قال: «بدنته» فدل على أن النبي ﷺ ساق بدنًا من المدينة مع التي أتى بها علي من اليمن، فصارت مائة بعير.

قوله: «ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ» الحَجون بفتح الحاء: هو الجبل المطل على المسجد بأعلى مكة عن يمين المُصعدِ، وهناك مقبرة لأهل مكة.

وقوله: «وَلَمْ يَقْرَبْ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ» يعني: أن النبي ﷺ لما وصل مكة طاف طواف القدوم وسعى سعي الحج ثم نزل بالأبطح ـ صحراء بين منى وبين مكة ـ فصلى عند خيمته الصلوات الخمس، ولم يدخل المسجد الحرام كل هذه المدة حتى رجع من عرفة، والنبي ﷺ في هذه المدة ما طاف إلا ثلاثة أطوفة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع فقط؛ وسعى سعيًا واحدًا للحج والعمرة؛ لأنه ﷺ كان قارنًا.

وفيه: دليل على أن النبي ﷺ لم يكن يدخل المسجد الحرام ليصلي فيه الصلوات الخمس مثل ما يفعل بعض الناس الآن تجده يحرص وهو حاج على أن يصلي الصلوات الخمس في المسجد الحرام، والصواب أنه إذا كان قريبًا منه فلا بأس، أما إذا كان بعيدًا أو كان نازلا في مكان بعيد فالأفضل أن يصلي في مكانه كما كان النبي ﷺ يصلي في منزله بالأبطح يقصر الرباعية.

والحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ التيسير على الأمة لئلا تقتدي به ﷺ فيشق عليها ذلك؛ فلو كان النبي ﷺ صلى في المسجد الحرام الصلوات الخمس لاقتدى به أصحابه ولاقتدت به أمته فشق ذلك عليهم؛ فهو ﷺ طاف طوافًا واحدًا ثم نزل في الأبطح أربعة أيام يصلي في مكانه، ثم دفع إلى منى يصلي فيها ثم عرفة، ولم يدخل مكة إلا يوم العيد فطاف طواف الإفاضة، ثم رجع إلى منى ولم ينزل إلى مكة إلا ليلة الرابع عشر من ذي الحجة فطاف طواف الوداع ثم قفل ﷺ راجعًا إلى المدينة.

قوله: «وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ ثُمَّ يَحِلُّوا وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا» . الذين لم يسوقوا الهدي أمرهم ﷺ أن يطوفوا طواف العمرة، ثم يسعوا سعي العمرة، ثم يقصرون، ثم يتحللون، ثم يحرمون بالحج مرة أخرى.

وفيه: أن النبي ﷺ أمر جميع الصحابة الذين أهلوا بالحج أو بالحج والعمرة أن يتحللوا، إلا من ساق الهدي فيبقى على إحرامه، ومن لم يسق الهدي يفسخ نيته بالحج ويجعلها عمرة، فيطوف، ويسعى، ويقصر؛ فدل على أن التمتع أفضل لمن لم يكن معه هدي.

قوله: «وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِيَ لَهُ حَلاَلٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ» ؛ لأنه تحلل تحللاً كاملاً.

كان الناس في الجاهلية لا يرون العمرة في أشهر الحج، ويرون أن أشهر الحج خاصة بالحج، وكانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وقالوا: ما ثم عمرة في أشهر الحج، إنما العمرة تكون إذا رجع الحاج من حجه وانسلخ شهر صفر وبرأ الدبر ـ يعني زالت الجروح التي في الإبل من الحج وبرئت ـ وعفا الأثر حلت العمرة لمن اعتمر، وعليه فالنبي ﷺ أراد أن يزيل اعتقاد أهل الجاهلية، فَحَتّم عليهم وألزمهم بأن يعتمروا إلا من ساق الهدي؛ وسوق الهدي يستوي فيه ما اشتراه من البلد أو اشتراه من الطريق من خارج الحرم.

وهذا الأمر للوجوب، وقيل: للاستحباب؛ وظاهر النصوص أنه للوجوب، لأن النبي ﷺ ألزمهم بأن يفسخوا الحج إلى عمرة ويتحللوا.

المتن:

باب مَنْ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.

1546 حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ.

1547 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ.

الشرح:

قوله: «بَابُ مَنْ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ» يعني: إذا كان حجه من المدينة، والمراد بهذه الترجمة مشروعية المبيت بالقرب من البلد التي يسافر منها ليكون أمكن من التوصل إلى مهماته، وليلحق به من يريد اللحاق؛ فالنبي ﷺ سافر يوم السبت بعد الظهر، ووصل إلى ذي الحليفة وصلى بها العصر والمغرب والعشاء، ثم بات بها وصلى بها الفجر والظهر من الغد.

1546 في الحديث: دليل على أن المسافر لا يقصر إلا إذا خرج من البلد فإن النبي ﷺ صلى بالمدينة الظهر أربعًا وهو عازم على السفر، وخطب الناس، ومع ذلك أتم الصلاة وما قصرها؛ وفيه الرد على من قال: إنه إذا نوى السفر يقصر ولو كان في البلد.

والصواب: أنه لا يقصر إلا إذا فارق البنيان؛ لأنه لما فارق ﷺ البنيان ووصل إلى ذي الحليفة صلى العصر ركعتين.

قوله: «ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ» أي: لما ركب راحلته بعد الظهر من اليوم الثاني ـ وهو يوم الأحد ـ واستوت به أهل؛ يعني: أحرم.

1547 قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا» ؛ لأنه لم يفارق البنيان وإن كان عزم على السفر.

وقوله: «وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» . صلى النبي ﷺ الظهر بالمدينة يوم السبت أربع ركعات، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين؛ فالسنة للمسافر أنه يترخص إذا فارق البنيان.

المتن:

باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإِْهْلاَلِ

1548 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان مشروعية رفع الصوت بالإهلال ـ يعني بالتلبية ـ فالرجل يرفع الصوت بالتلبية، أما المرأة فإنها لا ترفع صوتها؛ خشية أن يُفتتن بصوتها، وإنما تلبي بقدر ما تسمع رفيقتها التي بجوارها.

1548 قوله: «صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا» ؛ لأنه لم يفارق البلد وإن كان عزم على السفر.

وقوله: «وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» ترخص؛ لأنه فارق البنيان.

وقوله: «وَسَمِعْتُهُمْ» يعني: سمع أنس الصحابة الذين أحرموا، وكان أنس صغير السن.

وقوله: «يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا» يعني: بالحج والعمرة يرفعون أصواتهم بلبيك عمرة وحجة؛ فالسنة رفع الصوت بالتلبية للمحرم.

المتن:

باب التَّلْبِيَةِ

1549 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ.

1550 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ.

تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ.

وَقَالَ شُعْبَةُ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ سَمِعْتُ خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان كيفية التلبية التي لبى بها النبي ﷺ.

1549 قوله: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ يعني: نجيبك يا الله إجابة بعد إجابة ونطيعك مرة بعد أخرى، والتثنية للتأكيد والمبالغة.

وقوله: لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ أي: لا شريك لك في الملك، ولا شريك لك في الربوبية، ولا شريك لك في الأسماء والصفات، ولا شريك لك في الألوهية؛ فالله تعالى لا شريك له في الملك، بل هو مالك الملك، قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عِمرَان: 26].

ولا شريك له في الربوبية فهو المتفرد لا شريك له في أفعاله فهو الرب الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، ولا شريك له في أسمائه، ولا شريك له في ألوهيته وعبادته فهو المستحق للعبادة، وكل معبود سواه فهو معبود بالباطل، قال : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحَجّ: 62].

1550 قوله: إِنَّ الْحَمْدَ أل للاستغراق يعني جميع أنواع المحامد لله ملكًا واستحقاقًا.

وقوله: وَالنِّعْمَةَ جنس والمراد : جميع النعم الدنيوية والأخروية، فكلها من الله يستحق الشكر عليها سبحانه.

من الذي خلق الخلق؟! من الذي أوجدهم من العدم؟! من الذي رباهم؟! من الذي أعطاهم العقول والأسماع والأبصار؟! من الذي مَنَّ على المؤمن بالإيمان والإسلام؟! من الذي أدر عليهم الأرزاق وآواهم بنعمه وكفاهم وأعطاهم؟! وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النّحل: 53] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34] فالحمد والنعمة لله والملك كله لله لا شريك له فهي تلبية عظيمة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد في التلبية: لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل، وبعض الصحابة يزيد: لبيك حقًّا حقًّا تعبدًا ورقًّا، وكان النبي ﷺ يسمعهم يزيدون ولا ينكر عليهم، لكن الأفضل لزوم تلبية النبي ﷺ، وإن زاد ـ كما زاد ابن عمر رضي الله عنهما: لبيك حقًّا حقًّا تعبدًا ورقًّا، ولبيك وسعديك والرغباء إليك والعمل ـ فلا بأس.

وهذه التلبية، من العلماء من قال: إنها شرط، ومنهم من قال: إنها واجب؛ فيجب على الإنسان أن يلبي ولو مرة واحدة فإذا لم يلب فعليه دم؛ لأنه ترك واجبًا، والصواب أنه ليس عليه شيء.

وإذا لبى مرة واحدة كفى عند الإحرام، لكن الأفضل الإكثار من التلبية وتكرارها، ولاسيما عند تغير الأحوال، فشعار المحرم التلبية، وإن سبح، أو هلل، أو كبر في بعض الأحيان فلا حرج، وكان الناس لما دفعوا من منى إلى عرفة ـ كما قال أنس منهم الملبي ومنهم المكبر، ولا ينكر عليهم النبي ﷺ[(41)]، فإذا كبر وسبح وهلل أو قال شيئًا من القرآن فلا حرج، لكن الإكثار من التلبية هو الأفضل؛ لأنه شعار المحرم.

المتن:

 التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الإِْهْلاَلِ عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ

1551 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ قَالَ: وَنَحَرَ النَّبِيُّ ﷺ بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا عَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة للتحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة، وهذه سنة مهجورة تخفى على كثير من الناس وما يفعلها أحد إلا القليل، والتكبير عند الإهلال بالحج والعمرة ليس فيه تحديد بعدد معين، لكنه يكبر ويسبح.

قوله: «عَلَى الدَّابَّةِ» أي: المركوب كالسيارة مثلا فيسبح ويحمد ويكبر ثم يهل كما فعل النبي ﷺ.

1551 قوله: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» فالنبي ﷺ وهو بالمدينة قد عزم على السفر ومع ذلك لم يقصر الصلاة؛ لأنه لم يفارق البلد، ثم ترخص وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين؛ لأنه فارق البلد، وفيه مشروعية قصر الرباعية للمسافر.

قوله: «ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ» أي: صلى العصر بذي الحليفة يوم السبت ثم بات بها حتى أصبح يوم الأحد.

وقوله: «ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ» فيه: مشروعية التسبيح والتكبير والتحميد قبل الإهلال بالتلبية كما ترجم المؤلف رحمه الله.

وقوله: «ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا» فيه: دليل على أن النبي ﷺ أحرم قارنًا ثم أهل الناس بالحج والعمرة اقتداء بالنبي ﷺ.

قوله: «فَلَمَّا قَدِمْنَا» يعني: وصلنا مكة.

وقوله: «أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا» أي: أمرهم فحلوا من إحرامهم بأن فسخوا إحرامهم بالحج إلى العمرة فطافوا وسعوا وتحللوا إلا من ساق الهدي.

وقوله: «حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ» يعني: الذين تحللوا بأن طافوا وسعوا وقصروا لما كان يوم التروية ـ وهو اليوم الثامن ـ أهلوا بالحج مرة أخرى.

قوله: «وَنَحَرَ النَّبِيُّ ﷺ بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا» هذا في يوم العيد، ونحر النبي ﷺ ـ يعني ذبح ـ بيده ثلاثًا وستين من الإبل قيامًا على قدر سِنِيّ عمره ﷺ. فالسنة أن تنحر الإبل وهي قائمة واقفة على ثلاثة، معقودة يدها اليسرى، فتضرب في الجهة التي بين أصل العنق والصدر في الحلق، فإذا سقطت أجهز عليها، وإن أضجعها فلا حرج، أما البقر والغنم فإنها تذبح على جنبها الأيسر، ولما رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلا يذبح البدنة وهي باركة قال: ابعثها قياما، سنة محمد ﷺ[(42)]؛ وابعثها قيامًا يعني: انحرها وهي قائمة.

قوله: «وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ» يعني: الأضحية.

قوله: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ:» هو البخاري رحمه الله.

وقوله: «عَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ» أي: هكذا جاء في بعض روايات هذا الحديث، لكنه في هذا الطريق: «حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ » .

ويحتمل أن مقصود أنس يعني في غير هذا العام؛ لأن النبي ﷺ حج وحج نساؤه معه، ولما دُخِل عليهن بلحم بقر قيل: إن النبي ﷺ ضحى عن نسائه بالبقر.

وهناك خلاف هل الحاج عليه أضحية أو ليس عليه أضحية؟ والأقرب أنه يوكل في بلده من يضحي عنه الأضحية.

المتن:

باب مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ

1552 حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً.

الشرح:

1552 قوله: «أَهَلَّ النَّبِيُّ ﷺ» الإهلال يعني: رفع الصوت بالتلبية، وفي الحديث أن السنة أن يهل الإنسان إذا استوى على مركوبه كالسيارة، وإن أحرم في الأرض قبل أن يركب فلا حرج، لكن الأفضل الاقتداء بالنبي ﷺ وهو أن يحرم بعد أن يستوي على مركوبه.

المتن:

باب الإِْهْلاَلِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ

1553 وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ ثُمَّ رَكِبَ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الْمَحَرَمَ ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَعَلَ ذَلِكَ.

تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ فِي الْغَسْلِ.

1554 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ الْحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْكَبُ وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَفْعَلُ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان مشروعية استقبال القبلة عند الإهلال.

1553 قوله: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ» يعني: صلاة الفجر «بذي الحليفة» واسمها الآن: أبيار علي، وهو ميقات أهل المدينة وهذا الئر قد ظن بعض العامة ـ كما يقول شيخ الإسلام ـ أن عليا قائل الجن بها، وهو كذب [(43)].

قوله: «أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ ثُمَّ رَكِبَ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا ثُمَّ يُلَبِّي» . فيه: مشروعية استقبال القبلة عند التلبية اقتداء بالنبي ﷺ.

قوله: «حَتَّى يَبْلُغَ الْمَحَرَمَ ثُمَّ يُمْسِكُ» أي: إذا بلغ حدود الحرم أمسك عن التلبية، وهذا اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما، والصواب أنه لا يقطع التلبية حتى يشرع في الطواف.

قوله: «حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى» ذو طوى مكان يسمى الآن: الزاهر، وهو عدة أحياء أدنى مكة، وكان في الأول قريبًا من مكة قبل أن يصل إليه البنيان.

وقوله: «بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَعَلَ ذَلِكَ» . وهذا ثابت عن النبي ﷺ؛ كان ينزِل بِذي طوى ويبيت بِه حتى يصلي الصبح حين يقدم مكة[(44)]. والغسل عند دخول مكة ثابت أيضًا.

1554 قوله: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ» . وهذا اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما أنه يدهن بدهن ليس له رائحة طيبة فقد خفيت عليه السنة في التطيب بالطيب عند الإحرام؛ ولهذا قال ابن عمر: لأن أكون مُطّليًّا بقطران خير لي من أن أصبح محرمًا أنضح طيبًا! [(45)] فردت عليه عائشة رضي الله عنها فقالت: «كنت أطيب رسول الله ﷺ لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» [(46)]. وقالت: «كأني أنظر إلى وبيصِ المسك في مفرق رسول الله ﷺ وهو محرم» [(47)]. فأنكرت على ابن عمر رضي الله عنهما فالصواب أن يتطيب بطيب له رائحة ولو بقي أثره كما كان بريق المسك في مفرق رأسه وفي لحيته ﷺ، ومن حفظ حجةُ على من لم يحفظ، كحفظ عائشة رضي الله عنها مشروعية الطيب للمحرم.

المتن:

باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي

1555 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ أَنَّهُ قَالَ: مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ.

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذْ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة للتلبية إذا انحدر في الوادي.

1555 قوله: مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ» هذا من ورعه ، وقد ثبت هذا في أحاديث أخرى وإن كان لم يسمعه ابن عباس رضي الله عنهما.

مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ. هذه علامة ظاهرة للدجال، وأنه مكتوب بين عينيه كافر ـ جاء في بعض الروايات: كاف فاء راء [(48)] مقطعة ـ يقرؤها كل مؤمن كاتبًا كان أو أميًّا؛ والعلامة الثانية أن عينه اليمنى عوراء منخسفة يراها كل أحد، وهاتان علامتان ظاهرتان للدجال الذي يخرج في آخر الزمان يراهما كل أحد ويعرفه، وهو يخرج من خلة بين الشام والعراق فَيَدّعي أولا أنه رجل صالح، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية ـ نعوذ بالله ـ ويقول للناس: أنا ربكم، ثم يدعي أنه رب العالمين، وهو مكبل الآن بالحديد في إحدى الجزر على ما جاء في حديث الجساسة، فإذا أذن الله له بالخروج خرج، والمراد بالإذن: الإذن الكوني لا الشرعي.

قوله: أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذْ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي فيه: أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود، والتسبيح كذلك يكون في الهبوط، فإذا هبط الإنسان يسبح تنزيهًا لله عن السفول، وإذا ارتفع مرتفعًا يكبر لإعلان أن الله أكبر من كل شيء، فكذلك التلبية تنزيه لله عما لا يليق به سبحانه.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد