المتن:
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
1572 وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ: أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اجْعَلُوا إِهْلاَلَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ وَقَالَ: مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ فَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَارِكُمْ الشَّاةُ تَجْزِي فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ ﷺ وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ اللَّهُ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابهِ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الأَْشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي وَالْجِدَالُ الْمِرَاءُ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان من يجب عليه الدم في الحج، وهو دم المتعة والقران، وأنه واجب على الذي يحج من خارج مكة، أما أهل مكة فليس عليهم متعة، وإن تمتع أحدهم فليس عليه دم؛ لقول الله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البَقَرَة: 196] بعد أن ذكر ذبح الهدي، قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البَقَرَة: 196] فمن تمتع عليه أن يذبح ما استيسر من الهدي، وجاءت السنة بتبيين الهدي، وأنه يجزئ فيه ما يجزئ في الأضحية، فمن الماعز ما له سنة، ومن الضأن ما له ستة أشهر، ومن البقر ما لها سنتان، ومن البدن ما لها خمس سنين.
واختلف العلماء في قوله: حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البَقَرَة: 196] فقيل: هم أهل مكة، وقيل: هم أهل مكة ومن حولها ومن كان قريبًا منها، وقيل: هم أهل الحرم خاصة، وقيل: هم من بين مكة وبين المواقيت، وقيل: من كان دون مسافة القصر من مكة، والأرجح أن حاضري المسجد الحرام هم أهل مكة وأهل الحرم؛ فمن كان داخل مكة فهو من حاضري المسجد الحرام، ومن كان خارجًا منها فإنه ليس من حاضري المسجد الحرام، فإذا تمتع فإن عليه دمًا.
1572 قوله: «وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْبَصْرِيُّ:» علق البخاري هذا الحديث على أبي كامل؛ مع أنه من شيوخه من الطبقة الوسطى، فيحتمل أنه أخذه عنه مذاكرة فلذلك علقه عليه، أو رواه عن شيخه الآخر أحمد بن سنان عن أبي كامل وقد وصله الإسماعيلي عنه، وذكر أبو مسعود الثقفي في «الأطراف» أنه وجد من رواية مسلم بن الحجاج عن أبي كامل كما ساقه البخاري رحمه الله، والمقصود أن هذا الحديث موصول وإن علقه البخاري رحمه الله فالإسماعيلي وصله.
قوله: «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ» المراد بالمتعة: التمتع بالعمرة إلى الحج؛ أي أن يعتمر في أشهر الحج، فيهل بالعمرة من الميقات ثم يطوف ويسعى ويقصر ويتحلل ويتمتع بما أحل الله من المباحات حتى يأتي الحج، ثم يحرم بالحج، وهذا المتمتع عليه شاة يذبحها يوم العيد شكرًا لله ؛ حيث جمع بين النسكين في سفرة واحدة، ومثله القارن يسمى متمتعًا في النصوص في الكتاب والسنة، وإن كان الفقهاء اصطلحوا على تسمية الذي يفصل العمرة عن الحج المتمتع، وأما القارن فإنهم يسمونه قارنًا، وكل منهما يشمله اسم التمتع في النصوص، وكل من المتمتع والقارن يجب عليه الدم، أما المفرد بالحج فليس عليه دم؛ لأنه لم يأت إلا بنسك واحد.
قوله: «أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا» . أراد ابن عباس رضي الله عنهما هنا غيره من الصحابة ؛ لأنه كان صغيرًا، وإن كان موجودًا معهم.
قوله: «فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اجْعَلُوا إِهْلاَلَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً يعني أن النبي ﷺ خير الناس بالميقات في ذي الحليفة بين الأنساك الثلاثة التمتع والقران والإفراد، فالصحابة كل منهم اختار نسكًا، منهم من أهل بالحج مفردًا، ومنهم من أهل بالحج مع العمرة قارنًا، ومنهم من أهل بالعمرة متمتعًا بها إلى الحج، فلما وصلوا سَرِف قريبًا من مكة؛ أمرهم أمر إرشاد لا إيجاب وإلزام بأن يتحللوا، وأن يفسخوا إحرامهم بالحج أو بالحج والعمرة ويجعلوه عمرة ليكونوا متمتعين، ثم لما طافوا وسعوا، ألزمهم وحَتّم عليهم فتحللوا كلهم إلا من ساق الهدي.
وقوله: إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ. يعني: أن من ساق الهدي من بلده، أو من الطريق، يشرع له أن يقلده؛ بأن يجعل خيطًا ويجعل فيه نعلان يعلقهما في رقبته علامة على أنها مهداة للبيت؛ وهناك أيضًا سنة ثانية، وهي الإشعار، ومعناه أن يشق صفحة السنام بالسكين حتى يخرج الدم، ثم يسقط الدم عن يمينه وعن يساره ليعرف كل من رآه بأن هذا مهدى إلى البيت؛ وهو وإن كان فيه تعذيب للحيوان، لكنه شيء يسير مستثنى؛ لأن فيه مصلحة، ومثله أيضًا من الشيء اليسير الذي يعفى عنه: غرز أذن الصبية حتى يجعل فيها الذهب، هذا فيه إيذاء وتعذيب لها؛ لكنه شيء يسير مستثنى لكون المصلحة أكبر، وكذلك الإشعار هنا فيه تعذيب للحيوان لكنه مستثنى.
قوله: «طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ» . من المعروف أن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيرًا لم يتزوج، وما فعل هذا معهم، لكن مقصوده أن الصحابة لما طافوا وسعوا وقصروا، تحللوا تحللاً كاملاً من العمرة، ولبسوا الثياب، وأتوا النساء.
قوله: «وَقَالَ: مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ؛ يعني: أن النبي ﷺ أخبرهم بأن من ساق الهدي لا يستطيع أن يتحلل حتى يبلغ الهدي محله، بأن يذبح يوم العيد ويتحلل بعد الرمي وحلق الرأس.
قوله: «ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ» . يعني: الذين تحللوا من العمرة بأن طافوا وسعوا وقصروا وظلوا محلين حتى جاء اليوم الثامن وهو يوم التروية، أمرهم ﷺ أن يحرموا من منازلهم مرة أخرى بالحج.
وقوله: «فَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» . لما فرغوا من المناسك يعني: أنهم باتوا بمنى، ثم وقفوا بعرفة، ثم باتوا بالمزدلفة، ثم رموا جمرة العقبة ثم ذبحوا ثم حلقوا، ففرغوا من المناسك، ثم بعد ذلك طافوا بالبيت طواف الإفاضة، وهو ركن في حق جميع الحجاج مفردين ومقرنين ومتمتعين؛ أما الطواف بالصفا والمروة فهو ركن في حق المتمتعين.
وفيه دليل على أن المتمتع عليه سعيان، وأما القارنون والمفردون فليس عليهم إلا سعي واحد، إن شاءوا قدموه مع طواف القدوم، وإن شاءوا أخروه مع طواف الإفاضة أو مع طواف الوداع، ولابد أن يكون هذا السعي بعد طواف مشروع في الحج، والأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع.
قوله: «وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البَقَرَة: 196]» يعني: ذبح الهدي؛ لأنهم تمتعوا بالعمرة إلى الحج؛ فحصلوا على نسكين في سفرة واحدة.
قوله: «فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» يعني: التمتع، وكانوا في الجاهلية يرون أن العمرة لا يجوز فعلها في أشهر الحج، ولا يؤتى إلا بنسك واحد وهو الحج، فخالفهم النبي ﷺ.
قوله: «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ» أنزله في كتابه بنص الآية: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البَقَرَة: 196].
وقوله: «وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ ﷺ» حيث إن النبي ﷺ أمر الصحابة أن يتحللوا بالعمرة.
وقوله: «وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ اللَّهُ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البَقَرَة: 196]» ؛ يعني: وجوب ذبح الهدي للمتمتع إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام؛ أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام فليس عليه دم، فأهل مكة ليس عليهم نسك، ولو قدر أن واحدًا منهم تمتع فخرج إلى الطائف وأتى بعمرة ثم حج من عامه؛ فليس عليه هدي كذلك.
قال: «وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابهِ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ» ؛ يعني في قوله : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البَقَرَة: 197]؛ وهي ثلاثة أشهر كاملة عند الإمام مالك رحمه الله[(82)]، وعند غيره أنها شهران وثلث؛ أي شهران وعشرة أيام.
قوله: «فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الأَْشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ» ؛ يعني إذا تمتع وفقد الدم فعليه الصوم؛ لأن الله تعالى قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البَقَرَة: 196] فالصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله كما قال الله تعالى.
قوله: «وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ» يعني: في قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ [البَقَرَة: 197].
وقوله: «وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي» ؛ أي: جميع المعاصي.
وقوله: «وَالْجِدَالُ الْمِرَاءُ» ، و المماراة: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه.
وفي الحديث من الفوائد: أن التمتع يطلق على من جمع بين الحج والعمرة في سفرة واحدة، سواء كان قارنًا أو معتمرًا ثم حج من عامه؛ أو كان مفردًا بالحج ثم فسخه إلى العمرة، والتمتع لفظة واسعة؛ لكن الفقهاء اصطلحوا على تسمية المتمتع لمن أحرم بالعمرة، ثم فرغ منها، ثم حج من عامه.
وفي الحديث: أن من تمتع بالحج فعليه أن يسعى بين الصفا والمروة غير سعيه الأول؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» ، وكما في حديث عائشة رضي الله عنها: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم[(83)].
المتن:
باب الاِغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ
1573 حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنْ التَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طِوًى ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
الشرح:
1573 في الحديث: مشروعية الاغتسال لدخول مكة، وهو سنة مستحبة وليس بواجب، وهو غير الاغتسال للإحرام؛ فالاغتسال للإحرام يكون عند الميقات؛ وذلك أنه كان في السابق مسافة بين الميقات وبين دخول مكة، فكان إذا أحرم من الميقات يحتاج ليومين أو ثلاثة حتى يصل مكة، أما الآن فيحتاج لساعة أو لنصف ساعة، ولا يحتاج وقتًا طويلا، لكنه لو اغتسل عند دخول مكة كان ذلك فعلاً للسنة فحسن.
قوله: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنْ التَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طِوًى» . فهذا اجتهاد منه رضي الله عنهما.
والصواب أن المعتمر يستمر في التلبية حتى يشرع في الطواف للعمرة، والحاج يستمر في التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، وكأن فعل ابن عمر رضي الله عنهما هذا إما لأن النبي ﷺ فعله في بعض الأحيان، أو لأنه لم يعلم ذلك واجتهد؛ وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا حج أو اعتمر يبيت بذي طوى، وذو طوى مكان قريب من مكة، كان سابقًا خارج مكة، والآن صار حيًّا من أحياء مكة يسمى الزاهر، وهو الآن في وسط مكة، وكان النبي ﷺ يبيت بذي طوى ثم يغتسل ويدخل مكة صباحًا، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك إذا قدم للحج؛ اقتداء بالنبي ﷺ.
المتن:
باب دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا أَوْ لَيْلاً
بَاتَ النَّبِيُّ ﷺ بِذِي طِوًى حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُهُ.
1574 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَاتَ النَّبِيُّ ﷺ بِذِي طُوًى حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُهُ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان جواز دخول مكة نهارًا أو ليلا، ولا حرج؛ فالأمر في هذا واسع؛ لأن النبي ﷺ دخلها نهارًا، ودخلها ليلا في حجه.
1574 قوله: «بَاتَ النَّبِيُّ ﷺ بِذِي طِوًى» ؛ وهي تسمى الآن الزاهر، وبات فيها ﷺ وذلك قبل أن يصلها البنيان، وفي عمرة الجعرانة دخلها ليلاً واعتمر وخرج ليلاً، حتى إنها خفيت على بعض الناس ولم يعلموا بهذه العمرة؛ فثبت أن النبي ﷺ دخل مكة ليلاً ودخلها نهارًا؛ فدل على جواز الدخول ليلاً أو نهارًا، وأنه لا حرج في ذلك.
المتن:
باب مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ
1575 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْخُلُ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى.
الشرح:
1575 قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْخُلُ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا» الثنية: كل عقبة في جبل، أو طريق عال في جبل، والمعنى: أنه كان يدخل مكة من جهة باب بني شيبة من جهة الحجون حتى يدخل المسجد، ويستقبل الكعبة من أمامها من جهة باب الكعبة.
وقوله: «وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى» أي: من الخلف، من جهة الغرب، من جهة باب الملك عبدالعزيز رحمه الله الآن.
وهذا من باب الاستحباب، وإلا لو دخل الإنسان مكة من أي جهة فلا حرج، وكان النبي ﷺ من عادته في العبادات أنه إذا أتى من طريق خرج من طريق آخر، كما في الأعياد والجمع.
المتن:
باب مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ
1576 حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى».
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: «كَانَ يُقَالُ هُوَ مُسَدَّدٌ كَاسْمِهِ».
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ مُسَدَّدًا أَتَيْتُهُ فِي بَيْتِهِ فَحَدَّثْتُهُ لاَسْتَحَقَّ ذَلِكَ وَمَا أُبَالِي كُتُبِي كَانَتْ عِنْدِي أَوْ عِنْدَ مُسَدَّدٍ».
الشرح:
هذه الترجمة فيها بيان المكان الذي يخرج منه من مكة، والترجمة السابقة فيها بيان المكان الذي يدخل منه، فمكان الدخول من الثنية العليا من جهة الحجون حتى يدخل المسجد ويستقبل الكعبة من أمامها، ومكان الخروج من الثنية السفلى من الخلف.
1576 قوله: «حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ» قاله أبو عبدالله وهو البخاري رحمه الله، وهذا هو شيخه الذي روى عنه، وهو مسدد بن مسرهد البصري، وهو مسدد كاسمه، ومعنى مسدد: موفق، وفقه الله وسدده في أقواله وأفعاله.
وقوله: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ» يقول في بيان تزكية مسدد وفضله: لو أن مسددًا أتيته في بيته فحدثته لاستحق ذلك ـ يعني لفضله ـ وهو يستحق أن الشيخ يأتي ويحدثه في بيته، مع أن الأصل أن التلميذ هو الذي يأتي الشيخ ليحدثه، لكن لما كان مسدد له من الفضل والمنزلة؛ قال شيخه: إنه يستحق أن يأتي إليه ويحدثه، وقال: وما أبالي كتبي كانت عندي أو عند مسدد؛ من أمانته وصدقه وحفظه.
وكانوا يحرصون على الكتب فلا يعطونها أحدًا، ولا حتى التلاميذ؛ لأنه لم تكن هناك مطابع وكانت الكتابة باليد فقد يغيره وقد يدخل عليه بعض الكلمات، ولهذا قد يبتلى بعض المحدثين بوراق سيئ يدخل عليه بعض الكلمات يكتبها من غير علمه أو يحذف بعض الحروف.
المتن:
الشرح:
1577 والظاهر أن هذا كان مقصودًا؛ لأن عادته ﷺ في العبادات أنه كان يدخل من طريق ويخرج من آخر؛ فإذا تيسر للمسلم أن يدخل مكة من أعلاها من الثنية العليا ويخرج من أسفلها من الثنية السفلى فهو حسن.
المتن:
الشرح:
1578 قوله: «دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ أَعْلَى مَكَّةَ» هذا فيه: قلب تقديم وتأخير، والصواب: دخل عام الفتح من كَداء من أعلى مكة وخرج من كَدا فالخروج يكون من أسفل مكة وليس من أعلاها، ولهذا ستأتي في الرواية الآتية رواية عمرو ورواية حاتم عن هشام على الصواب؛ لأن المؤلف جاء بثلاثة أحاديث؛ الحديث الأول: رواية أبي أسامة عن هشام، والثاني: رواية عمرو عن هشام، والثالث: رواية حاتم عن هشام، فرواية حاتم ورواية عمرو على الصواب، ورواية أبي أسامة هذه فيها قلب.
المتن:
الشرح:
1579 قوله: «قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا مِنْ كَدَاءٍ وَكُدًا وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ» هشام يعتذر عن أبيه عروة فيقول إنه كان يدخل من هذا ومن هذا لا يبالي، والسبب أنها أقربهما إلى منزله، وهذا من باب الاستحباب، وإلا فلو دخلت من كداء أو من كدا أو من أي طريق لا حرج، ولهذا كان عروة يدخل من أيهما شاء، أحيانًا يدخل من أعلى مكة وأحيانًا يدخل من أسفلها أقربهما إلى منزله.
المتن:
الشرح:
1580 هذه رواية حاتم التي فيها أنه دخل من أعلى مكة خلافًا لرواية أبي أسامة في قوله: «وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ» .
قوله: «وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ» هذا عذر عروة، فكان يخالف ويدخل كدا؛ بسبب أنها أقربهما إلى منزله.
المتن:
1581 حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ أَقْرَبِهِمَا إِلَى مَنْزِلِهِ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَدَاءٌ وَكُدًا مَوْضِعَانِ.
الشرح:
1581 قوله: «كَدَاءٌ وَكُدًا مَوْضِعَانِ» وكان أهل مكة يقولون: افتح وادخل واضمم واخرج؛ يعني «كَدَاءٌ» للدخول، و «كُدا» للخروج، وهذا من باب الاستحباب، وإلا لو دخل من أي جهة لا حرج.
واختلاف مكان الدخول والخروج يكون للطريق، أما المسجد فلا فرق بين الخروج من هذا الباب أو من ذاك الباب.
المتن:
باب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البَقَرَة: 125-126].
الشرح:
في هذا الباب بيان فضل مكة وبنيانها، وذلك أن الله اختار مكة وجعلها مكانًا للمناسك والمشاعر وجعل عرصاتها مناسك للعبادة، وهذا يدل على فضلها، وليس هناك شيء في الدنيا يجب على كل إنسان أن يذهب إليه إلا مكة للحج والعمرة.
قوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البَقَرَة: 125]» أي: يثوبون إليه ويرجعون، ولا يقضون منه وطرًا، فكلما رحلوا عنه صارت قلوبهم تحن إليه، ومن فضلها أيضًا أن جعل فيها الكعبة والمقام يصلون فيه ركعتين، كل هذا يدل على فضل مكة وبنيانها.
المتن:
الشرح:
1582 نقل حجارة الكعبة كان قبل البعثة بخمس سنين، وكان عمر النبي ﷺ خمسة وثلاثين عامًا، وذلك لما تصدعت الكعبة وأرادت قريش أن تبنيها ـ والقصة طويلة ـ وفيها أنهم في البداية هابوا هدمها، حتى جاء رجل وهدم شيئًا منها، فقالوا: ننظر في الليل إن جاءه شيء تركناها وإن لم يأته شيء هدمناها، وقالوا: اللهم إنا نريد الإصلاح ولا نريد الإفساد، ثم هدموها ثم جعلوا يبنونها وينقلون الحجارة فكان ممن ساعدهم عباس عم النبي ﷺ، وكانوا يلبسون الإزار والرداء، وكان النبي ﷺ ينقل الحجارة معهم في ثوبه فقال له عمه العباس : «اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ» أي: ليقيه الحجارة، والإزار هو الذي يشده في أسفل، ثم لما فعل النبي ﷺ وجعل إزاره على كتفيه ظهرت عورته «فَخَرَّ إِلَى الأَْرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ» من شدة الحياء من الله تعالى، وقال: أَرِنِي إِزَارِي فَشَدَّهُ عَلَيْهِ وكان هذا قبل البعثة بخمس سنين، وكانت العرب على عادتهم يتساهلون في كشف العورات حتى إنهم كانوا يطوفون بالبيت وهم عراة في الجاهلية ويقولون: لا نطوف بثيابنا التي عصينا الله فيها! فإذا جاء أحدهم من خارج مكة لا يمكن له أن يطوف بثيابه، إما أن يخلع ثيابه التي عليه ويستعير ثيابًا من أحد من أهل مكة ـ لأنهم يسمونهم الحُمُس ـ فإن وجد من يُعيره طاف به، وإن لم يجد من يُعيره طاف عريانًا! حتى إن المرأة في الجاهلية تأتي فإن وجدت من يُعيرها ثيابًا وإلا خلعت ثيابها التي عصت الله فيها، وجعلت تطوف وهي عُريانة وتضع يدها على فرجها وتقول وهي تطوف:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ | فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ |
تعني الفرج، وهذا من جهلهم وضلالهم.
المتن:
الشرح:
1583 قوله: «اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟» . وذلك أن قريشًا لما أرادوا أن يبنوا الكعبة لما تصدعت قالوا: نريد أن نبنيها بمال حلال ولا نجعل في الكعبة إلا مالا حلالا؛ فجمعوا دراهم ونقودًا ليس فيها ربًا ولا مهر بغي ولا أجرة كاهن، لكن لما جمعوا لم يتحصل لهم مال حلال يكفي فاقتصروا عن قواعد إبراهيم ، وأخرجوا الحِجْر، ولهذا فإن الحِجْر جزء من الكعبة، ولهذا كان النبي ﷺ يستلم الركن اليماني والحجر الأسود لأنهما على قواعد إبراهيم ولا يستلم الركنين الشامي والعراقي لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم .
قوله: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ» يعني: أنهم أسلموا قريبًا وما ثبت الإيمان في قلوبهم حتى الآن فلا يتحملون هدم الكعبة، ولهذا ترك النبي ﷺ هدم الكعبة وإدخال الحجر فيها لئلا تنكره قلوبهم، ولهذا لما ثبت الإيمان في القلوب وتولى ابن الزبير رضي الله عنهما عام ثلاث وستين من الهجرة هدمها وأدخل الحجر.
قوله: «فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ» . يعني: أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: لئن قالت عائشة رضي الله عنها هذا وأن قريشًا اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؛ فإني ما أظن أن النبي ﷺ ترك استلام الركنين الذين يليان الحجر ـ وهما الركن الشامي والركن العراقي من جهة الحجر ـ إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم ، فبين السبب في أن النبي ﷺ يستلم ركنين ولا يستلم الركنين الآخرين ـ فالكعبة لها أربعة أركان، فالركنان اليماني والحجر الأسود على قواعد إبراهيم فلهذا كان النبي ﷺ يستلمهما ويمسحهما، وأما الركنان اللذان يليان الحِجر ـ وهما الشامي والعراقي ـ فليسا على قواعد إبراهيم ولذلك لا يستلمهما، ولهذا لما بنى ابن الزبير رضي الله عنهما الكعبة وأدخل الحِجر وخرجت حجارة خضر ـ وهي قواعد إبراهيم ـ صار يستلم الأركان الأربعة كلها لأنها صارت على قواعد إبراهيم، ولما تولى معاوية الخلافة وجاء في الحج وطاف؛ جعل يستلم الأركان الأربعة كلها اليماني والحجر الأسود والشامي والعراقي، فأنكر عليه ابن عباس رضي الله عنهما قائلا: كيف تستلم الأركان الأربعة؟! وما يُستلم إلا الركن اليماني والحجر الأسود. فقال معاوية : يا ابن عباس أفي البيت شيء مهجور؟! أي أن البيت كله معظم. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولم أر النبي ﷺ يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال: صدقت، ورجع إلى قوله[(84)]. ولما تولى ابن الزبير رضي الله عنهما وأدخل الحِجر كان يستلم الأركان الأربعة، لأنها صارت على قواعد إبراهيم، وبعد ذلك هدمها الحَجَّاجُ وأخرج الحِجر.
المتن:
الشرح:
1584 في الحديث: أن عائشة رضي الله عنها قالت: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الْجَدْرِ» ، والمراد بالجَدْر: الحِجْر، «أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ» قالت عائشة رضي الله عنها: «فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ» ؛ يعني النفقات الحلال؛ لأنهم أرادوا أن يبنوها بكسب حلال ليس فيه قمار ولا ربًا ولا مهر بغي ولا أجرة كاهن، فلم يجدوا ما يكفي، فلما قصرت بهم النفقة أخرجوا الحِجر، ثم سألته قالت: «فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟» . فباب الكعبة مرتفع لا يصعد له إلا بسلم؛ قال النبي ﷺ: فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وجاء في بعض الروايات: «أنهم إذا صعد من لا يريدون تركوه يصعد حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فيسقط» [(85)].
المتن:
1585 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْلاَ حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا.
قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ خَلْفًا يَعْنِي بَابًا.
الشرح:
1585 هذا الحديث وما قبله فيه: دليل على ترك فعل الأمر المشروع إذا كان يخشى من فعله استنكار بعض الناس وعدم تحملهم، وتأخير ذلك إلى وقت آخر، وفي هذا دليل للقاعدة المشهورة عند أهل العلم: «إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» ، والقاعدة الأخرى أنه: «إذا تعارضت مفسدتان ارتكب أدناهما لدفع أعلاهما» ، «وإذا تعارض مصلحتان قدم أعلاهما لفوات أدناهما» ، وكلها تؤخذ من هذه الأحاديث؛ فالقاعدة الأولى: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» ، أخذت من قول النبي ﷺ: لَوْلاَ حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ ؛ فالمصلحة: بناء البيت على قواعد إبراهيم ، والمفسدة: استنكار بعض ضعفاء الإيمان، وقد يرتدون عن الإسلام، وعليه يقدم ترك المفسدة على جلب المصلحة، ولهذا ترك النبي ﷺ البناء على قواعد إبراهيم خوف استنكارهم وارتداد بعضهم من ضعفاء الإيمان، وكذلك إذا تعارضت مفسدتان لا يمكن تركهما، ارتكبت المفسدة الصغرى لدفع الكبرى، المفسدتان هما: مفسدة ترك البيت على غير قواعد إبراهيم ، ومفسدة خوف الردة، ولا شك أن الردة أشد، وعليه نترك المفسدة الدنيا وهي عدم بناء البيت، وكذلك إذا تعارضت مصلحتان لا يمكن فعلهما جميعًا، بل لابد أن نفعل واحدة ونترك الثانية فنقدم أعلاهما، والمصلحتان هما: مصلحة بقائهم على إيمانهم وعدم ارتدادهم، ومصلحة بناء البيت على قواعد إبراهيم، ومصلحة بقائهم على دينهم فلا يرتدوا أعظم، فلذلك قدمها النبي ﷺ وترك المصلحة الدنيا وهي بناء البيت على قواعد إبراهيم .
قوله: وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا يعني: بابًا من الخلف.
المتن:
الشرح:
1586 قوله: فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وهو الحِجر وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَْرْضِ يعني ألزقت الباب بالأرض «وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا» بابًا يدخل منه الناس، وبابًا يخرجون منه مقابل الباب الموجود الآن، ولا يكون مرتفعًا بسلم، بل يجعله على الأرض فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ؛ يعني: القواعد التي بنى عليها إبراهيم الباب.
قوله: «قَالَ يَزِيدُ:» يعني: يزيد بن رومان.
وقوله: «وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنْ الْحِجْرِ» وكان ذلك عام خمس وستين لما تولى ابن الزبير رضي الله عنهما الخلافة على الحجاز بعد وفاة يزيد بن معاوية رضي الله عنهما، فلما تولى ابن الزبير وبويع له في مكة والمدينة والطائف وغيرها وصار خليفة، وأخبرته عائشة رضي الله عنها هذا الحديث؛ هدم الكعبة وأدخل الحِجر وأنزل الباب الشرقي وفتح بابًا غربيًّا وعمل بالحديث وصار يستلم الأركان الأربعة كلها.
قوله: «وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِْبِلِ» وهو الأساس الذي بني عليه البيت، وحجارته خضراء كأسنمة الإبل.
وجاء في بعض الروايات أن قريشًا لما أرادت أن تبني الكعبة، نقضتها حتى وصلت إلى الأساس، فلما وصلوا إلى الأساس، جاء رجل منهم وأدخل العتلة تحت حجر من حجارة الأساس فارتجت مكة كلها[(86)].
قوله: «قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ مَوْضِعُهُ؟ قَالَ: أُرِيكَهُ الآْنَ» ، لأن ابن الزبير وصل إلى أساس إبراهيم، وهي حجارة كأسنمة الإبل حينما هدم الكعبة فرآه من حضر ومنهم يزيد بن رومان.
وقوله: «فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ: هَا هُنَا قَالَ جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ مِنْ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا» ، وكلها داخل الكعبة ستة أذرع في الحجر، والصواب أنها سبعة أذرع كما جاء في بعض الروايات.
والآن من الحجر إلى قواعد إبراهيم ستة أذرع ونصف أو سبعة، كلها من الكعبة والباقي زائد.
ثم جاء عبدالملك بن مروان وَوَكّل المهمة إلى الحجاج بقتال ابن الزبير رضي الله عنهما لإبعاده عن الخلافة، وجعل الحجاج يجهز الجيوش من العراق إلى مكة يقاتل عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، فرمى الكعبة بالمنجنيق وهدمها لتحصن عبدالله بن الزبير وأصحابه بها فقتلهم وصلب ابن الزبير على خشبة وأخذ الحجاز منه، ثم لما هدم الكعبة أعادها على بناء الجاهلية فأخرج الحجر وسد الباب الغربي ورفع الباب الشرقي وأعادها إلى ما كانت عليه.
وجاء في الأثر أن أبا جعفر المنصور استأذن الإمام مالكًا رحمه الله أو استشاره في هدم الكعبة وإعادتها على بناء ابن الزبير رضي الله عنهما عملا بالحديث، فأطرق مليًّا وتأمل ثم قال له: أرى أن تتركها على ما هي عليه ولا تعيد البناء فقال: ولم؟ فقال: أخشى أن تكون الكعبة لعبة للملوك، كل ملك يأتي فيبنيها حتى يكتب اسمه وينُظر بناؤه ويتباهون في بنائها، فأرى أن تسد هذا الباب.
والحِجْر الآن خارج الكعبة فلابد للإنسان أن يطوف من وراء الحجر، لأنه إذا طاف حول الكعبة من داخل الحجر لم يصح طوافه.
المتن:
باب فَضْلِ الْحَرَمِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النَّمل: 91].
وَقَوْلُِهُِ جَلَّ ذِكْرُهُ: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القَصَص: 57].
1587 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا.
الشرح:
قوله تعالى: « إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النَّمل: 91]» وجه دلالة الآية على فضل الحرم أن الله تعالى أضاف ربوبيته لهذه البلدة، وهي مكة، والإضافة للتشريف والتكريم.
وقوله تعالى: « أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القَصَص: 57]» يدل على فضل الحرم أيضًا لأن الله تعالى جعله حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء.
1587 قوله: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ أي جعل له حرمًا بخلاف المدن الأخرى، ليدل على فضله وشرفه.
وقوله: «لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ أي: لا يقطع، وهذا من خصائص الحرم، أما غيره فيعضد، والمراد بالشوك الأخضر منه، والشجر أيضًا لا يقطع، والمقصود بالشجر هو الذي لم يستنبته الآدمي لكنه نبت بالمطر، أما الذي يستنبته الآدمي من الحشيش والشجر فهذا ليس بمقصود في الحديث.
وقوله: وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ أي: لا تنفر الصيد من مكان إلى مكان فضلا عن قتله، قال بعضهم: لا تنفر الصيد من الظل حتى تجلس فيه ودعه يجلس.
وقوله: وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَ هذه أيضًا من خصائص الحرم، ما تُلتقط لقطتها إلا من يعرفها أبد الدهر، أما غير الحرم فتلتقطها وتعرفها سنة فإذا مضت السنة ولم يأت أحد فهي لك.
وإذا كان الصيد يُأَمَّن ولا يُنَفّر والشجر لا يُقطع؛ فالآدمي من باب أولى لأن حرمة الآدمي أعظم وأعظم فلا يجوز إيذاء المسلم في الحرم وفي غيره، ولكن أذيته في الحرم أشد حرمته.
المتن:
باب تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَأَنَّ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ سَوَاءٌ خَاصَّةً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، الْبَادِي الطَّارِي، مَعْكُوفًا: مَحْبُوسًا.
1588 حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ: أَخْبَرنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلاَ عَلِيٌّ رضي الله عنهما شَيْئًا لأَِنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لاَ يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِر.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الآْيَةَ
الشرح:
هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان حكم دور مكة وأرضها وهل تورث؟ وهل تباع وتشترى؟ وهل تؤجر بيوتها أو لا تؤجر؟ وهذه المسألة خلافية بين أهل العلم:
القوال الأول: من العلماء من ذهب إلى أن دور مكة لا تباع ولا تشترى ولا تؤجر لأن الناس فيها سواء؛ لأنها حرم ولأنها موقوفة للناس كلهم، وهذا على أن مكة فتحت عنوة، وقالوا: إن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً [الحَجّ: 25] عام بجميع الحرم، وهذا اختيار أبي حنيفة رحمه الله[(87)] والثوري رحمه الله، قالوا: لا يجوز بيع بيوت مكة ولا إجارتها، وقالوا: إنها عامة للناس، من احتاج سكن ومن لم يحتج فإنه لا يسكن، واستدلوا بحديث فيه ضعف: توفي رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن[(88)].
وذهب إلى هذا ابن عمر رضي الله عنهما ومجاهد وعطاء، وكان عطاء ينهى عن تأجير بيوت الحرم، وأثر عن عمر أنه نهى أن تُبوب دور مكة، يعني لا يجعل لها أبواب؛ لأنه ينزل الحاج بعرصاتها، وكان أول من بَوَّبَ دارًا سهيل بن عمرو.
القول الثاني: ذهب جمهور العلماء ـ وهو اختيار البخاري رحمه الله ـ إلى أن مكة فتحت صلحا، وأنه يجوز بيع دورها وشراؤها وتوريثها؛ لأنها وإن كانت فتحت عَنْوة ووُقِفَت، إلا أن النبي ﷺ مَنَّ بها على أهلها، وذهب بعض العلماء وهو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى أنها فتحت صلحًا لا عنوة[(89)].
ولهذا جزم رحمه الله في هذه الترجمة بهذا القول لقوة الدليل عنده، وإلا فالبخاري رحمه الله لا يجزم في التراجم في المسائل الخلافية، إلا إذا قوي الدليل عنده كما جزم هنا قائلا: «بَابُ تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا» يعني: أنه جزم بأن دور مكة تباع وتشترى وتؤجر وتورث.
قوله: «وَأَنَّ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ سَوَاءٌ خَاصَّةً» ، أي: أن الناس سواء خاصة في المسجد الحرام حول الكعبة دون بقية الحرم، وهذا اختيار من المصنف رحمه الله لأحد القولين.
قوله: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [(90)] العاكف: الموجود في مكة، والبادي: الطارئ.
1588 قوله: «عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟» استدل به البخاري رحمه الله على أنه أضاف الملك إليه ﷺ، وفي حديث: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ [(91)] فأضاف الدار إلى أبي سفيان .
والشاهد أنه أضاف الدار إليه ﷺ ولم ينكر عليه النبي ﷺ، ولو كان لا يجوز التملك فيها لأنكر، فلما لم ينكر عليه النبي ﷺ دل على أن دور مكة تباع وتؤجر، فالحديث دليل على جواز توريث بيوت مكة وبيعها وشرائها.
قوله: «وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلاَ عَلِيٌّ رضي الله عنهما شَيْئًا لأَِنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لاَ يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِر» . أبو طالب مات على الشرك، وعقيل وطالب ماتا على الشرك على دين أبيهما؛ فورثاه، وأما جعفر وعلي رضي الله عنهما فلم يرثاه لأنهما مسلمان، ولا يرث المسلم الكافر، فقضى به عمر بن الخطاب بعد ذلك.
ومما يؤيد قول الجمهور أن النبي ﷺ أقر أهل مكة على بيع دور مكة وإجارتها، ولم يغير ما فعله عقيل وطالب مِنْ أَخْذِهِم الرباع والدور، ويؤيده فعل عمر حيث اشترى دارًا للسجن بمكة بأربعمائة درهم، كل هذا يدل على قول الجمهور الذي اختاره البخاري رحمه الله.
وأذكر أن فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله توقف في هذه المسألة وذكر أقوال العلماء وقال: من العلماء من أجاز بيعها ومنهم من منع، ومنهم من أجاز الإجارة دون البيع، وذكر أدلة هؤلاء وهؤلاء، وقال: ولم يتبين لي الصواب في هذه المسألة، وأرى أنه من كان عنده أموال فلا يشترِ في مكة ويشتري في أمكنة بعيدة، فمكة فيها شبهة. ولعله تبين له الحكم في آخر حياته رحمه الله.
المتن:
باب نُزُولِ النَّبِيِّ ﷺ مَكَّةَ
1589 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ: مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ.
الشرح:
1589 قوله: مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ. الخيف: اسم لما انخفض من الجبل، والخيف أعلى من الوادي وأخفض من الجبل.
لما قيل للنبي ﷺ في حجة الوداع عند النفر الآخر، في اليوم الثالث عشر، ورمى الجمار: أين تنزل؟ قال: بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، ولهذا ضربت له ﷺ الخيمة بالوادي بخيف بني كنانة بين مكة ومنى وهو المحطب، وصلى فيه الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في آخر اليوم الثالث عشر، وفي آخر الليل نزل إلى مكة وطاف الوداع.
قوله: حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ، تعاقدوا وتحالفوا على مقاطعة بني هاشم، فهذا المكان تقاسمت فيه قريش على قطيعة بني هاشم ومنهم النبي ﷺ، وحاصروهم في الشعب، وكتبوا صحيفة علقوها في جوف الكعبة أن بني هاشم لا يبيع إليهم أحد، ولا يشتري منهم أحد ولا يُزوجون؛ حتى يُسَلّموا محمدًا؛ لأنه سفه أحلامهم، وأنكر عبادة الأصنام. فالنبي ﷺ لما أظهره الله في حجة الوداع؛ أراد أن ينزل في المكان الذي تقاسموا فيه على الكفر، وأن يظهر شعائر الإسلام في المكان الذي أظهرت فيه شعائر الكفر، وهو بخيف بني كنانة، وهو يسمى المحصب.
وقد اختلف العلماء هل النزول بالمحصب سنة أو ليس بسنة؟ قالت عائشة رضي الله عنها: «نزول المحصب ليس من السنة، إنما نزل رسول الله ﷺ ليكون أسمح لخروجه» [(92)].
وذهب أنس وجماعة إلى أنه سنة، وأنه مقصود، وهو منزل الخلفاء، وهذا هو الصواب، والدليل على هذا في الحديث أن النبي ﷺ قصد إظهار شعائر الإسلام لما قيل: أين تنزل؟ قال: بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ. فالصواب أنه منزل مقصود وليس بمنزل اتفاقي، أما ابن عباس رضي الله عنهما فيقول: هو منزل اتفاقي، اتفق له في هذا المكان لأنه على طريقه في المدينة، فكان أسمح للخروج.
المتن:
1590 حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ بِمِنًى: نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ يَعْنِي ذَلِكَ الْمُحَصَّبَ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لاَ يُنَاكِحُوهُمْ وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمْ النَّبِيَّ ﷺ.
وَقَالَ سَلاَمَةُ: عَنْ عُقَيْلٍ وَيَحْيَى بْنُ الضَّحَّاكِ عَنْ الأَْوْزَاعِيِّ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ وَقَالاَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: بَنِي الْمُطَّلِبِ أَشْبَهُ.
الشرح:
قوله: «بَنِي الْمُطَّلِبِ أَشْبَهُ» ، يعني: أليق وأصوب؛ أي أن الصواب بني المطلب لا بني عبدالمطلب؛ لأنه فيه خلافٌ هل قال: بني المطلب أو بني عبدالمطلب؟ فقال البخاري رحمه الله إن الصواب بني المطلب؛ لأن أولاد عبد مناف أربعة وهم: بنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو نوفل، وبنو عبد شمس، أما أبناء عبدالمطلب فهم من بني هاشم.
1590 في الحديث: دليل على أن النبي ﷺ حينما نزل المحصب ـ الوادي الذي فيه الحصبة ـ نزله قصدًا لإظهار شعائر الإسلام، وليس منزلا اتفاقيًّا كما قالت عائشة رضي الله عنها أنه كان أسمح لخروجه، ولهذا قال ﷺ يوم النحر: نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ. يعني: تحالفوا على الكفر، وهو حصار بني هاشم حتى يسلموا لهم النبي ﷺ ليقتلوه ويقضوا على الإسلام، فلما تقاسموا فيه على الكفر وأظهروا شعائر الكفر، أراد النبي ﷺ أن ينزل فيه، وأن يظهر شعائر الإسلام.