المتن:
الشرح:
1668 في الحديث: اجتهاد عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في دقة متابعته للنبي ﷺ، وكان ابن عمر يتتبع الأماكن التي يجلس فيها النبي ﷺ فيجلس فيها، والأماكن التي ينام فيها فينام فيها، والأماكن التي يبول فيها فيبول فيها؛ ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا حج ومر بالشِعب الذي نزل فيه النبي ﷺ يبول فينزل فيه فيبول، والصواب: أن هذا ليس من السنة.
قوله: «فَيَدْخُلُ فَيَنْتَفِضُ» يعني: يستجمر، وهذا اجتهاد منه لم يفعله كبار الصحابة كأبي بكر الصديق وعمر وغيرهم ؛ لأن هذا من العادات وليس من المناسك، فإذا كان محتاجًا أن ينزل نزل، وإذا كان غير محتاج فلا داعي للنزول.
المتن:
1669 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْ عَرَفَاتٍ فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الشِّعْبَ الأَْيْسَرَ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ فَبَالَ ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْت عَلَيْهِ الْوَضُوءَ تَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا فَقُلْتُ: الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ غَدَاةَ جَمْعٍ.
1670 قَالَ كُرَيْبٌ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ الْفَضْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ.
الشرح:
1669 في الحديث: أن النبي ﷺ لما نزل الشعب توضأ وضوءًا خفيفًا، وقد اختلف العلماء في هذا الوضوء، هل هو الوضوء الشرعي أو الوضوء اللغوي؟ قال بعضهم: إنه وضوء لغوي: أي استنجى وغسل بعض أعضائه، وقال آخرون: هو وضوء شرعي.
قوله: «وُضُوءًا خَفِيفًا» يعني: لم يغسل الأعضاء إلا مرة مرة، وخفف الصب، وهذا هو الأقرب، فهو وضوء شرعي، ولكن خففه، ثم بعد ذلك توضأ وأسبغ الوضوء، وقد احتج به بعض العلماء على مشروعية التجديد إن كان بقي على وضوئه، فيحتمل أنه لم يبق على وضوئه، ثم توضأ مرة أخرى، وإنما توضأ ليستديم الطهارة؛ فقال: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ.
1670 قوله: «لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ» . فيه: دليل على أن التلبية تستمر حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، فإذا شرع قطع التلبية؛ لأنه بدأ في التحلل، فإن الفضل أخبر أن النبي ﷺ لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة.
وفيه: جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق؛ فإن النبي ﷺ أردف أسامة بن زيد من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل بن عباس من مزدلفة إلى منى.
وفيه: تواضع النبي ﷺ وبعده عن الكبر؛ فإن عادة المتكبرين أنهم لا يرضون أن يكون معهم أحد رديفًا لهم.
المتن:
باب أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإِْفَاضَةِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ
1671 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى وَالِبَةَ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلإِْبِلِ فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإِْيضَاعِ.
أَوْضَعُوا أَسْرَعُوا خِلاَلَكُمْ مِنْ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا بَيْنَهُمَا.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان مشروعية السكينة عند الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة، وأنه ينبغي للناس أن لا يضر بعضهم بعضًا، ولا يؤذي بعضهم بعضًا، كما يحدث الآن: أصوات أبواق السيارات؛ لأن هذا فيه إيذاء للمارة، وإزعاج لهم، بل ينبغي أن يلزموا السكينة، وإذا وجد المرء متسعًا أسرع بعض الشيء كما فعل النبي ﷺ.
1671 في الحديث: أن النبي ﷺ دفع من عرفة؛ لقول سعيد بن جبير: «حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا» أي: صياحًا لحل الإبل، وضربًا وصوتًا للإبل، «فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإِْيضَاعِ» أي: ليس البر بالإسراع؛ إنما البر باتباع السنة ولزوم السكينة.
قوله: «أَوْضَعُوا أَسْرَعُوا، خِلاَلَكُمْ مِنْ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ» ، فسر الإمام البخاري رحمه الله كلمة «بِالإِْيضَاعِ» في الحديث بما ورد في القرآن: وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ [التّوبَة: 47]، وفسر كلمة: ُ ِ ؛ لأنها لها صلة بـ «أَوْضَعُوا» .
قوله: « وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَرًا [الكهف: 33] بَيْنَهُمَا» أتى بكلمة خلال في آية أخرى، فبين معنى الخلال: البينية، والإيضاع هو: الإسراع.
المتن:
الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ
1672 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ عَرَفَةَ فَنَزَلَ الشِّعْبَ فَبَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغْ الْوُضُوءَ فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاَةُ فَقَالَ: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا.
الشرح:
1672 هذا الحديث فيه فوائد:
منها: أنه لا حرج في النزول بين عرفة ومزدلفة أو بين مزدلفة ومنى؛ لقضاء حاجة من بول ونحوه، وهذا على حسب الحاجة.
ومنها: جواز الاكتفاء بالحجارة والاستجمار بها مع وجود الماء إذا وجدت الشروط، يعني: ظاهره أن النبي ﷺ قضى حاجته واستجمر ثم توضأ.
ومنها: أن صلاة المغرب والعشاء ليلة العيد إنما تكون في المزدلفة؛ ولهذا جمع النبي ﷺ بالمزدلفة.
ومنها: جواز تجديد الوضوء إذا طال الفصل؛ للنشاط، ولو لم يصل بالوضوء الأول؛ لأن النبي ﷺ توضأ في الطريق، ثم توضأ وضوءًا خفيفًا، ثم توضأ وضوءًا مسبغًا، ويحتمل أن يكون أحدث ثم توضأ مرة ثانية.
ومنها: أن الصلاتين المجموعتين لا يصلى بينهما؛ ولهذا قال: «فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا» أي: لا يفصل بينهما بصلاة.
والإناخة: جلوس البعير وحط الرحل.
وفيه: دليل على أن الفاصل اليسير بين الصلاتين المجموعتين لا يضر كإناخة البعير.
أما ما فعله ابن مسعود ـ كما سيأتي ـ من كونه تعشى بين الصلاتين، فهذا اجتهاد منه.
المتن:
باب مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَتَطَوَّعْ
1673 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلاَ عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
1674 حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَمَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ.
الشرح:
1673، 1674 في هذين الحديثين أن الصلاتين المجموعتين في السفر لا يصلى بينهما ولا بعدهما، فلا تشرع الرواتب في السفر إلا سنة الفجر، فإذا جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فإنه لا يصلي بينهما، ولا يصلي بعدهما، أي لا سنة قبلية ولا بعدية؛ ولهذا «جَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ» ، وفي اللفظ الآخر: «بأذان وإقامتين ولم يسبح بينهما» [(164)] يعني: لم يصل صلاة السبحة، «ولا على إثر كل واحدة منهما» ، أما صلاة الوتر فتشرع صلاتها في الحضر والسفر.
المتن:
باب مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
1675 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ فَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الأَْذَانِ بِالْعَتَمَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ رَجُلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَمَرَ أُرَى فَأَذَّنَ وَأَقَامَ قَالَ عَمْرٌو: لاَ أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلاَّ مِنْ زُهَيْرٍ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ: كَانَ لاَ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هُمَا صَلاَتَانِ تُحَوَّلاَنِ عَنْ وَقْتِهِمَا صَلاَةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِي النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَفْعَلُهُ.
الشرح:
1675 في الحديث: أن السنة جمع المغرب والعشاء بأذانين وإقامتين.
قوله: «حَجَّ عَبْدُاللَّهِ » هو: ابن مسعود؛ لأن عبدالرحمن بن يزيد من أصحابه، «فَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الأَْذَانِ بِالْعَتَمَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ» ، يعني: بعدما دخل وقت العشاء، «فَأَمَرَ رَجُلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ» ، وقد سبق في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن السنة عدم الصلاة بينهما ولا بعدهما، فيحتمل أن عبدالله بنلله عنه نسي، أو أنه اجتهد، وحديث عبدالله بن عمر، وابن عباس، وأسامة بن زيد، وأبي أيوب الأنصاري، كلهم يروون الجمع بين الصلاتين في المزدلفة وعدم التنفل بينهما، وهم أكثر، وقد حفظوا، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
قوله: «ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَمَرَ أُرَى فَأَذَّنَ وَأَقَامَ قَالَ عَمْرٌو: لاَ أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلاَّ مِنْ زُهَيْرٍ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ» فيحتمل أنه اجتهد أو أنه نسي السُّنة، والسُّنة الجمع بينهما ولا يفصل بينهما بعشاء، ولا بركعتين.
قوله: «فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ» صلى الفجر في أول وقتها.
قوله: «إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ: كَانَ لاَ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هُمَا صَلاَتَانِ تُحَوَّلاَنِ» يعني: عن وقتهما المعتاد، وليس معنى ذلك أنه كان يصلي قبل الوقت.
قوله: «صَلاَةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِي النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ» . لما كان الناس لا يأتون من عرفة إلى مزدلفة إلا بعد دخول وقت العشاء، وكانوا على الإبل، فكانوا يصلون المغرب بعدما يأتون المزدلفة، والفجر بعدما يبزغ الفجر.
والمراد صلاة المغرب والعشاء عند وقتهما المعتاد، كان النبي ﷺ يصلي المغرب بعد غروب الشمس، ولا يصلي إلا إذا وصل إلى المزدلفة، وكان يتأخر في الفجر بعض الشيء في غير مزدلفة، يأتيه بلال ويصلي النافلة، ثم يقيم، أما في مزدلفة فإنه بكر به تبكيرًا شديدًا من حين تبين له الفجر؛ حتى يتسع وقت الوقوف في مزدلفة.
المتن:
باب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ وَيُقَدِّمُ إِذَا غَابَ الْقَمَرُ
1676 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإِْمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلاَةِ الْفَجْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الْجَمْرَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
1677 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ.
1678 حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: أَخْبَرنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ ﷺ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ.
1679 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لاَ فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتْ الْجَمْرَةَ ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهُ مَا أُرَانَا إِلاَّ قَدْ غَلَّسْنَا قَالَتْ: يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَذِنَ لِلظُّعُنِ.
1680 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ ﷺ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً فَأَذِنَ لَهَا.
1681 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ ﷺ سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَكَانَتْ امْرَأَةً بَطِيئَةً فَأَذِنَ لَهَا فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاس وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ فَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ.
الشرح:
ذكر البخاري رحمه الله في هذا الباب أحاديث كثيرة؛ لأنه أحيانًا ينشرح صدره وينشط فيكثر من الأحاديث في الباب، وأحيانًا أخرى يقطِّع الأحاديث ويقتصر على موضع الشاهد منها.
والأحاديث الكثيرة التي ذكرها فيها الرخصة للضعفة من النساء والصبيان والمرضى وكبار السن، أن يدفعوا من المزدلفة ليلة العيد في آخر الليل بعد غيبوبة القمر إلى منى، فيرمون الجمرة قبل الفجر، قبل حطمة الناس؛ وهذه الأحاديث تدل على أن الرخصة للضعفة خاصة، وأما الأقوياء فالأحاديث تدل على أنه لا رخصة لهم؛ لأن الرخصة إنما تكون من شيء واجب، والمعروف عند كثير من الفقهاء أنه يجوز الدفع بعد نصف الليل، هكذا يقولون؛ لأن غيبوبة القمر تتحقق بعد نصف الليل، فلابد من أن يبلغ نصف الليل الأول.
وكان سماحة شيخنا الشيخ ابن باز رحمه الله يرى أنه إذا كانت العلة في الرخصة الضعف فالناس اليوم كلهم ضعفاء بسبب الزحام، وكثرة الحجاج؛ فيرخص لجميع الناس؛ لأنهم صاروا كلهم ضعفاء، وإن تأخر الأقوياء فلم يدفعوا إلا بعد الفجر فهذا أفضل. ولكن هذا الذي ذكره وقرره سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله لا يظهر، وإن كان قال به الفقهاء فلا يظهر أنه يرخص للأقوياء؛ لأن النبي ﷺ كما سيأتي بيانه في الأحاديث لم يرخص إلا للضعفاء وللنساء والصبيان، ولو كانت الرخصة لكل أحد ما كان هناك فائدة من تخصيصها للضعفاء، والعلماء لهم في المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يرخص للضعفاء دون الأقوياء، فلا يجوز إلا مع طلوع الشمس للأقوياء.
القول الثاني: أنه رخص لجميع الحجاج بعد نصف الليل، وهذا مذهب كثير من الفقهاء من الحنابلة وغيرهم[(165)].
القول الثالث: يجوز الرمي للأقوياء بعد الفجر لا قبله.
والراجح: هو القول الأول؛ ولهذا اختار البخاري رحمه الله هذا وبوب عليه بهذه الترجمة فقال: «بَابُ مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَدْعُونَ وَيُقَدِّمُ إِذَا غَابَ الْقَمَرُ» غيبوبة القمر حينما يمضي ثلثا الليل، تقريبًا أكثر من نصف الليل.
فالأحاديث واضحة في أن الرخصة إنما هي للضعفاء من النساء والصبيان، والأحاديث كلها إنما جاءت في آخر الليل، وليس فيه تحديد لغيبوبة القمر إلا في قصة أسماء، وإنما وردت الرخصة للضعفة أن يدفعوا بليل في آخر الليل.
فإذا مرض إنسان ونقل إلى المستشفى فهذا يسقط عنه المبيت بمنى ومزدلفة ويعد من جنس الضعفاء والسقاة والرعاة على الصحيح.
لكن ينبغي التنبيه على أن الدفع أول الليل، أو قبل نصف الليل، لا يجوز قولاً واحدًا، فإذا لم يرجع فعليه دم؛ لأنه فاتته البيتوتة، وهذا بالاتفاق بخلاف المالكية.
ويقول العلماء: إذا مر بها مرورًا في النصف الأخير حصلت البيتوتة بمجرد المرور، أما في النصف الأول فلا.
1676 قوله: «وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإِْمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلاَةِ الْفَجْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ» يعني: يتقدمون في آخر الليل، منهم من يصل قبل الفجر، ومنهم من يصل بعد ذلك، «فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الْجَمْرَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» وهذا موضع الشاهد على أن هذا خاص بالضعفاء.
1677 قوله: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ» ؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما كان من الصبيان فهو من الضعفة.
1678 في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ ﷺ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ» ؛ لأنه كان من الصبيان.
1679 قوله: «عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً» ليس المراد الساعة المعروفة، إنما جزء من الزمن.
قوله: «يَا هَنْتَاهُ مَا أُرَانَا إِلاَّ قَدْ غَلَّسْنَا» يعني: بكرنا.
قولها: «يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَذِنَ لِلظُّعُنِ» أصل الظعن: المرأة في الهودج، والظُّعُن: جمع ظعينة، وهي المرأة، والمراد: رخص للنساء.
1680 قولها: «اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ ﷺ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً» فيه: دليل على أن الرخصة للضعفة من الناس، فلو كانت تشمل الأقوياء ما كان للاستئذان فائدة، فالضعفاء يرمون إذا دفعوا في آخر الليل، كما فعلت سودة رضي الله عنها قبل حطمة الناس، وإلا لو انتظرت بعد الشمس لجاءهم الزحام.
أما قول الفقهاء: إنه يرخص لكل أحد بعد نصف الليل فمعناه أنه يصير هناك زحام؛ ولهذا تجد كثيرًا من الناس الآن يدفعون وهم أقوياء، فيصبح في آخر الليل زحمة شديدة؛ لأن كل الناس يرمون، الضعفاء والأقوياء.
1681 قولها: «حَطْمَةِ النَّاسِ» أي: قبل زحمة الناس.
قولها: «وَكَانَتْ امْرَأَةً بَطِيئَةً» ؛ وفي اللفظ الآخر: «ثقيلة» ، أي: سمينة.
قولها: «وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ» ، أي: أقمنا مع النبي ﷺ حتى أصبحنا بالمزدلفة.
قولها: «فَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ» . الذي يظهر أن عائشة رضي الله عنها لم تدفع في آخر الليل؛ لأنها لم تستأذن النبي ﷺ، وتمنت أنها لو استأذنت النبي ﷺ كما استأذنت سودة؛ ولهذا قالت: «أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ» . يعني: أحب إلي من أي شيء يفرح به من متاع الدنيا من مال أو غيره؛ فدل هذا على أن الرخصة إنما هي للضعفاء من النساء والعجزة والصبيان.
ويمكن أن يقال: إنَّ من كان مع الضعفاء والنساء يدفع معهم، ولكن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس.
المتن:
باب مَنْ يُصَلِّي الْفَجْرَ بِجَمْعٍ
1682 حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى صَلاَةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلاَّ صَلاَتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا.
1683 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلاَتَيْنِ كُلَّ صَلاَةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ قَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الْفَجْرُ وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فَلاَ يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا وَصَلاَةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ، ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الآْنَ أَصَابَ السُّنَّةَ فَمَا أَدْرِي أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.
الشرح:
هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان «مَنْ يُصَلِّي الْفَجْرَ بِجَمْعٍ» وجَمْع: اسم لمزدلفة، والمزدلفة لها أسماء منها: جمع، ومزدلفة، والمشعر. وسميت جمعًا؛ لأنها تجمع الناس، ويجتمعون فيها، فإن قلت: عرفة أيضًا تجمع الناس، قيل: لأنها تجمع الناس في الجاهلية والإسلام؛ لأنه في الجاهلية كان أهل مكة لا يتجاوزون الجمع أي: المزدلفة، ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نقف إلا بالحرم، ولا نقف بعرفة، فيجتمع الناس كلهم فيها، وأما أهل الآفاق فإنهم يقفون بعرفة، وأهل مكة يقفون بمزدلفة، ثم إذا أفاض الحجاج إلى مزدلفة اجتمعوا جميعًا فيها، فجمعتهم هذه تسمى جمعًا، ومن المعلوم أن المبيت بجمع يكون ليلة العيد، فمتى يصلي الفجر يوم العيد بجمع؟
الجواب: ذكر المؤلف رحمه الله ما دلت عليه الأحاديث أنه يصليها في أول وقتها، فيبادر بها من حين انشقاق الفجر حتى يتسع وقت الوقوف.
1682 ذكر حديث عبدالرحمن بن يزيد عن عبدالله بن مسعود قال: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى صَلاَةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلاَّ صَلاَتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا» المراد صلى صلاة بغير ميقاتها المعتاد، وليس المراد يصليها قبل دخول الوقت؛ لأن الصلاة لا تصح قبل دخول الوقت. فمعلوم أن صلاة المغرب ميقاتها المعتاد أنه يصليها بعد غروب الشمس، وفي جَمْع أخرها مع العشاء، وصلاة الفجر قبل ميقاتها المعتاد صلاها في أول وقتها من حين انشقاق الفجر، فبادر فيها مبادرة شديدة.
أما في غير هذا اليوم فإنه يتأخر بعض الشيء، فكان ﷺ إذا أذن بلال يأتيه، فإذا أتاه صلى ركعتين، ثم بعد ذلك يتمهل بعض الشيء، ثم يأتي النبي ﷺ فيؤذنه بالصلاة، ثم يقوم فيصلي ركعتي الفجر، ثم يثيب، أما هذا اليوم فإنه بادر مبادرة شديدة من حين طلوع الفجر حتى يتسع وقت الوقوف.
1683 قوله: «خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مَكَّةَ» ؛ هو عبدالله بن مسعود؛ لأن عبدالرحمن بن يزيد من أصحاب عبدالله بن مسعود.
قوله: «ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلاَتَيْنِ كُلَّ صَلاَةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ» يعني: لما دفعوا من عرفة إلى مزدلفة، وهي جَمْع صلى الصلاتين، أي: المغرب والعشاء، كل صلاة وحدها بأذان وإقامة، «وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا» يعني: أذن ثم أقام ثم صلى المغرب، ثم تعشى، ثم أذن وأقام وصلى العشاء، وهذا اجتهاد من ابن مسعود مخالف للسنة، والسنة الجمع بينهما من دون فاصل، لا بالعَشاء ولا بصلاة.
وسبق في أحاديث ابن عمر أن النبي ﷺ جمع بينهما ولم يسبح بينهما، ولا بعد كل واحدة منهما، ولعل ابن مسعود فعل ذلك لأنه نسي أو لبيان الجواز، ولكن السنة أحق بالاتباع.
روى ابن عمر وأسامة وابن عباس وأبو أيوب كلهم عن النبي ﷺ الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة في أذان واحد وإقامتين من غير فصل بينهما إلا بمقدار إناخة البعير وهم أكثر وأحفظ من ابن مسعود .
قوله: «ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ قَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الْفَجْرُ وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ» يعني: من شدة تبكيره بصلاة الفجر في أول وقتها.
قوله: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ يعني: المغرب والفجر حُوِّلِتا عن وقتهما المعتاد، وليس المراد أنهما يصليان قبل دخول الوقت؛ إذ من المعلوم أن النصوص محكمة في الأحاديث التي دلت على توقيت الصلوات؛ فلا تصح الصلاة قبل دخول وقتها.
قوله: فَلاَ يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا يعني: المزدلفة.
قوله: حَتَّى يُعْتِمُوا أي: يتأخروا، ويأتي وقت العتمة، وهو وقت صلاة العشاء؛ لأنهم كانوا إذا دفعوا من عرفة لا يصلون إلى المزدلفة إلا بعد دخول وقت العشاء، وذلك أنهم كانوا يسيرون إما على الأقدام أو بالإبل، أما الآن بعد وجود وسائل المواصلات السريعة كالسيارات فيمكن للناس أن يصلوا عند وقت المغرب.
قوله: وَصَلاَةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ يعني: هذه الساعة المبكرة من حين انشقاق الصبح؛ ولذا صلى عبد الله بن مسعود في أول وقتها.
قوله: «ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الآْنَ أَصَابَ السُّنَّةَ» وأمير المؤمنين هو عثمان .
قول عبدالرحمن بن يزيد: «فَمَا أَدْرِي أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ» يعني: حين قال: لو دفع أمير المؤمنين أصاب السنة؛ لأن عثمان دفع في الوقت الذي قال فيه عبد الله بن مسعود ذلك فدفع عثمان قبل طلوع الشمس بعد الإسفار بالذات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، يعني: يوم النحر. ففيه دليل على أن الحاج يستمر في التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة؛ وحينئذ يبدأ في التحلل فيقطع التلبية.
المتن:
باب مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ
1684 حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ عَمْرَو ابْنَ مَيْمُونٍ يَقُولُ شَهِدْتُ عُمَرَ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ» . جَمْع: هي المزدلفة، فمتى يدفع الحاج من جمع؟
السنة دلت على أنهم ينصرفون حين يدفع الحاج قبل طلوع الشمس بعد الإسفار خلافًا لهدي المشركين؛ لأن المشركين كانوا يتأخرون، فلا ينصرفون حتى تطلع الشمس على رءوس الجبال، ويقولون: «أَشْرِقْ ثَبِيرُ» ، فخالفهم النبي ﷺ فدفع قبل طلوع الشمس، كما أنه خالفهم في الدفع من عرفة، حيث كان المشركون يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، فإذا صارت الشمس فوق رءوس الجبال كعمائم الرجال دفعوا، فخالفهم النبي ﷺ فلم يدفع حتى غربت الشمس واستحكم غروبها وغاب القوس.
ونام النبي ﷺ ليلة العيد من أول الليل حتى يتقوى على وظائف يوم العيد؛ لأنها أعمال عظيمة، ووظائف يوم العيد أربع هي: رمي جمرة العقبة، ثم الذبح، وقد نحر النبي ﷺ ثلاثًا وستين بدنة بيده الشريفة، ثم حلق رأسه، ثم أفاض، كل هذا قبل صلاة الظهر، ثم طاف طواف الإفاضة.
1684 قوله: «وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ» وفي اللفظ الآخر: «أشرق ثبير كيما نغير» [(166)]، وثبير: جبل بمزدلفة، يخاطبونه، يعني: إذا أشرقت الشمس عليهم أغاروا، أي: دفعوا.
قوله: «ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» يعني: دفع قبل طلوع الشمس، وفي رواية: «حتى أسفر جدًّا فدفع قبل أن تطلع الشمس» [(167)] وهذا هو السنة؛ ولهذا بكَّر النبي ﷺ بصلاة الفجر حتى يتسع وقت الوقوف في المشعر الحرام؛ لأن وقت الوقوف من طلوع الفجر إلى الإسفار قليل جدًّا.
المتن:
الشرح:
قوله: «بَابُ التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حِينَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ، وَالاِرْتِدَافِ فِي السَّيْرِ» . وفي بعض روايات البخاري «حتى يرمي الجمرة» . والمعنى واحد.
المتن:
1685 حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَرْدَفَ الْفَضْلَ فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ.
1686، 1687 حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ الأَْيْلِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رضي الله عنهما كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى قَالَ: فَكِلاَهُمَا قَالاَ: لَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ ﷺ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ.
الشرح:
وهذه الترجمة والأحاديث تدل على استمرار الحاج في التلبية والتكبير حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، فإذا شرع في الرمي قطع التلبية، ثم بعد ذلك يكون التكبير لأنه شرع في التحلل.
1685 قوله: «فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ» فيه: دليل على أن التلبية تستمر إلى أن يرمي جمرة العقبة.
1686، 1687 قوله: «لَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ ﷺ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» ، فيه: دليل على أن التلبية تستمر، ورمي جمرة العقبة بمثابة صلاة العيد لأهل الأمصار، وليس على الحاج صلاة عيد؛ وبرمي جمرة العقبة فقد شرع في التحلل، ولذلك قطع التلبية.
وفيه: جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق.
وفيه: تواضع النبي ﷺ، حيث كان له رديف على خلاف عادة المتكبرين والجبابرة من الأمراء والظلمة وغيرهم الذين يأنفون من الإرداف.
المتن:
باب فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
1688 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ الْمُتْعَةِ فَأَمَرَنِي بِهَا وَسَأَلْتُهُ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ قَالَ: وَكَأَنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ إِنْسَانًا يُنَادِي حَجٌّ مَبْرُورٌ وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ ﷺ.
قَالَ: وَقَالَ آدَمُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ وَغُنْدَرٌ: عَنْ شُعْبَةَ عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ وَحَجٌّ مَبْرُورٌ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» . هذه الترجمة معقودة لبيان مشروعية التمتع في أشهر الحج، وأن المتعة مشروعة، دل عليها القرآن الكريم في قوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمْوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البَقَرَة: 196].
والمتمتع هو الذي يعتمر أولاً، ويفرغ من عمرته في أشهر الحج، ثم يحرم بالحج من عامه هذا، والمتمتع عليه أن يذبح هديًا، فإن عجز أو لم يجد الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، تلك عشرة أيام مجموعة أو متفرقة، والأفضل أن يصوم الحاج قبل يوم عرفة ويفطر يوم عرفة، وإن فاته صام أيام التشريق الثلاثة.
وبين الله سبحانه في الآية الكريمة أن الهدي إنما يجب على من جاء من الآفاق، أما حاضر المسجد الحرام فليس عليه هدي، فالمكي لو تمتع ليس عليه هدي، ولو فرضنا أن المكي خرج إلى الطائف، ثم اعتمر، ثم حج من عامه فليس عليه هدي أيضًا في هذا الحال.
1688 قوله: «سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ الْمُتْعَةِ فَأَمَرَنِي بِهَا» . يعني: أمره بها، فقال: إنها مشروعة.
قوله: «وَسَأَلْتُهُ عَنْ الْهَدْيِ» أي: الذي يذبح في التمتع.
قوله: «فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍا» ؛ فأخبره أن المتمتع يجب عليه أحد هذه الدماء المذكورة: إما أن يذبح بعيرًا كاملاً، أو يذبح بقرة كاملة، أو يذبح شاة من الضأن أو الماعز، أو يكون شريكًا في جزور، ويشترك السبعة في جزور أو في بقرة.
قوله: «قَالَ: وَكَأَنَّ نَاسًا كَرِهُوهَ» والسبب في كراهتهم للمتعة أنهم كانوا في الجاهلية يرون المتعة في الحج والعمرة من أفجر الفجور في الأرض، ويقولون: ليس هناك عمرة في أشهر الحج؛ وأشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فليس فيها عمرة وإنما هي أشهر خاصة بالحج، كذا قالوا في الجاهلية.
وقالوا أيضًا: إن الحج إنما يكون إذا عفا الأثر، وبرأ الدبر، وانسلخ شهر صفر، حلت العمرة لمن أراد أن يعتمر، إذا قدم الحجاج إلى بلادهم.
وقولهم: عفا الأثر: أي عفت آثار الإبل من المشي من المدة وانمحت، وبرأ الدبر: أي الجروح التي تكون في ظهور الإبل من حمل الأثقال، وانسلخ شهر صفر: أي مضى.
فخالفهم النبي ﷺ، وأمر الصحابة أن يتمتعوا كلهم إلا من ساق الهدي لما قرب من مكة، وكان أمره أمر استحباب، ثم لما طافوا وسعوا حتم عليهم وألزمهم، فحلوا كلهم إلا من ساق الهدي؛ وذلك لإبطال اعتقاد أهل الجاهلية، ثم في زمن الصديق وعمر وعثمان كانوا يأمرون بالإفراد وينهون عن العمرة، لا نهي تحريم، لكن نهي تنزيه في أشهر الحج؛ لأجل أن يكثر العمار والزوار، يقولون: لأن العمرة وقتها موسع، ويرون أن الناس عرفوا حكم المتعة، وأنها جائزة، واستقر ذلك في الشريعة، فكان معروفًا.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما بعدهما يأمر بالمتعة، ويقول: هي سنة رسول الله ﷺ، وكذلك علي يأمر بالمتعة، وأبو موسى الأشعري وجماعة من الصحابة وغيرهم كلهم يفتون بالمتعة، ولا شك أن السنة هي التمتع، وأنه أفضل.
وأما الخلفاء الثلاثة: الصديق، وعمر، وعثمان فقد اجتهدوا، والمجتهد يخطئ ويصيب، والسنة مقدمة، والقاعدة عند أهل العلم أن السنة حاكمة على قول كل أحد من الصحابة ومن بعدهم؛ ولهذا لما ناظر قوم ابن عباس قالوا: أنت يا ابن عباس تفتي بالمتعة، وأبو بكر وعمر يفتيان بالإفراد؛ اشتد عليهم، وقال: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله ﷺ وتقولون: قال أبو بكر وعمر!» ، يعني: الذي يعارض السنة بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يخشى عليه من العذاب، فكيف بالذي يعارض السنة بقول من هو أقل عن أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما؛ ولهذا لما رأى أبو جمرة في المنام من يقول له: «عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ» أتى ابن عباس رضي الله عنهما، فأخبره، فقال ابن عباس: «اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ ﷺ» كَبّر ابن عباس لموافقة ذلك للسنة.
وفيه: الدعاء للحاج بأن يقال له: تقبل الله حجك، وجعل الله حجك مبرورًا؛ فهذا لا بأس به.
وإذا اشترك سبعة من المتمتعين في بقرة فلا بأس، بشرط أن تكون بلغت سنتين، وسلمت من العيوب.
والأضحية في الشاة أو الماعز ليس فيها اشتراك، وإنما تكون عن واحد؛ لكن الواحد يشرك من شاء من الأحياء ومن الأموات ولو كانوا مائة من البيت الواحد يكفي عنهم شاة، لكن لا يشترك البيتان في الشاة، أما البقرة أو البدنة فيشترك فيها السبعة وتجزئ عن السبعة.
فإذا قلت: إن الرسول ﷺ ساق معه الهدي، نقول: إن سقت الهدي فالأفضل لك القران، وإن لم تسق الهدي فالأفضل لك التمتع؛ لأن هذا هو الذي أمر به النبي ﷺ أصحابه وتأسف وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم [(168)] ونقول: إن الله لم يختر لنبيه إلا الأفضل، لكن النبي ﷺ ساق الهدي، فإن سقت الهدي فيكون الأفضل لك القران، وإن لم تسق الهدي فالأفضل لك التمتع؛ لأن هذا فعل النبي ﷺ، وهذا قوله.
ويرد هنا إشكال ألا وهو: إذا اعتمر شخص في شوال ثم رجع إلى بلده وأراد الحج بعد ذلك فهل يكون متمتعًا؟
هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم وفيها ثلاثة أقوال لهم:
القول الأول: قول ابن عباس: أن من اعتمر في أشهر الحج ثم حج في عامه فهو متمتع سواء سافر أو لم يسافر، إلى بلده أو غير بلده، عليه الدم مطلقًا ولا يؤثر فيه السفر سواء لبلده أو لغير بلده، وهذا اختيار ابن عباس وجماعة.
القول الثاني: أن من سافر بين الحج والعمرة مسافة تقصر فيها الصلاة يسقط عنه الدم؛ لأنه مترفه ومتمتع لكن لما سافر حصلت المشقة فزال الترفه فسقط عنه الدم، وهذا مذهب كثير من الفقهاء من الحنابلة[(169)] وغيرهم، فمثلاً: لو اعتمر شخص ثم سافر المدينة ثم حج سقط عنه الدم بسبب السفر.
القول الثالث: وهو أعدلها وهو أنه إذا سافر إلى بلده سقط عنه الدم، أما إذا سافر إلى غير بلده فلا يسقط؛ لأنه إذا سافر إلى بلده أنشأ سفرة للعمرة وسفرة مستقلة للحج، فهو أنشأ سفرة أخرى من بلده فيسقط عنه الدم، وهذا الذي أفتى به عمر بن الخطاب وابنه، وهو اختيار سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وهذا هو أعدل الأقوال وأوسطها، ولعله الصواب إن شاء الله.
فإذا قلت: إن الرسول ﷺ ساق معه الهدي، نقول: إن سقت الهدي فالأفضل لك القران، وإن لم تسق الهدي فالأفضل لك التمتع؛ لأن هذا هو الذي أمر به النبي ﷺ أصحابه وتأسف وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم [(168)] ونقول: إن الله لم يختر لنبيه إلا الأفضل، لكن النبي ﷺ ساق الهدي، فإن سقت الهدي فيكون الأفضل لك القران، وإن لم تسق الهدي فالأفضل لك التمتع؛ لأن هذا فعل النبي ﷺ، وهذا قوله.
المتن:
باب رُكُوبِ الْبُدْنِ لِقَوْلِهِ: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحَجّ: 36-37].
قَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتْ الْبُدْنَ لِبُدْنِهَا وَالْقَانِعُ السَّائِلُ وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرُّ بِالْبُدْنِ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ وَشَعَائِرُ اسْتِعْظَامُ الْبُدْنِ وَاسْتِحْسَانُهَا وَالْعَتِيقُ عِتْقُهُ مِنْ الْجَبَابِرَةِ وَيُقَالُ: وَجَبَتْ سَقَطَتْ إِلَى الأَْرْضِ وَمِنْهُ وَجَبَتْ الشَّمْسُ.
1689 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ فَقَالَ: ارْكَبْهَا قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الثَّانِيَةِ.
1690 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَشُعْبَةُ قَالاَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ: ارْكَبْهَا قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ: ارْكَبْهَا ثَلاَثًا.
الشرح:
قوله: «بَابُ رُكُوبِ الْبُدْنِ» هذه الترجمة معقودة لبيان جواز ركوب البدن، وأنه لا حرج على الإنسان أن يركب البدنة، ولو كانت مهداة للبيت إذا احتاج إلى ذلك، وإذا كان لا يضرها الركوب.
قوله تَعَالَى: «صَوَآفَّ يعني: قائمة على ثلاث معقودة يدها اليسرى فيطعنها بالحربة في الوَهْدة التي بين أصل العنق والصدر، فإذا سقطت أجهز عليها، قال سبحانه: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحَجّ: 37]؛ لأن الله لا ينتفع بطاعة الناس، ولا يُضَر بمعاصيهم.
قوله: «سُمِّيَتْ الْبُدْنَ لِبُدْنِهَا» يعني: لعظم بدنها؛ لأن الإبل من أعظم الحيوانات؛ ولهذا سميت بدنًا.
قوله: «وَالْقَانِعُ السَّائِلُ» القنوع المتذلل للمسألة.
قوله: «وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرُّ بِالْبُدْنِ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ» هذا أحد الأقوال، وقيل: المعتر: الذي يعتر ببابك ويريك نفسه ولا يسألك، وقيل: المعتر: الذي يعتريك، يزورك ولا يسألك، وقيل: المعتر: القنوع المتذلل للمسألة.
قوله: «وَيُقَالُ: وَجَبَتْ سَقَطَتْ إِلَى الأَْرْضِ وَمِنْهُ وَجَبَتْ الشَّمْسُ» . هذا تفسير لقوله تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحَجّ: 36]يعني: سقطت على الأرض إذا نحرها وهي قائمة.
1689 في حديث أبي هريرة أن رجلاً كان يسوق بدنة؛ كأن هذا الرجل متحرج ومتورع من ركوبها، فقال له النبي ﷺ: ارْكَبْهَا، فقال الرجل: يا رسول الله «إِنَّهَا بَدَنَةٌ» ، كيف أركبها وهي بدنة؟ «قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الثَّانِيَةِ» . وفي لفظ: «ويحك» [(170)].
1690 قوله: ارْكَبْهَا، فيه: دليل على أنه لا حرج في ركوب البدنة، ولو كانت مهداة للبيت.
المتن:
باب مَنْ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ
1691 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ ثُمَّ خَبَّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ.
1692 وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
الشرح:
1691، 1692 في الحديث: وصف لحجة النبي ﷺ، وأن النبي ﷺ خيّر الناس بذي الحليفة، فمنهم من لبى بالعمرة، ومنهم من لبى بالحج مفردًا، ومنهم من لبى بالحج والعمرة، فلما وصلوا أو قربوا إلى مكة أمر من لم يسق الهدي أن يفسخ إحرامه بالحج أو بالحج والعمرة فيجعلها عمرة إلا من ساق الهدي؛ ولهذا لما قدم مكة قال للناس: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أي: من أهدى لا يتحلل حتى يوم العيد إذا ذبح هديه، ومن لم يهد أمره النبي ﷺ أن يتحلل، ويفسخ نيته، فطافوا وسعوا وقصروا وتحللوا، ثم أحرموا بالحج في اليوم الثامن، ثم ذكر أن النبي ﷺ بقي على إحرامه؛ لأنه ساق الهدي.
قوله: وَلْيُقَصِّرْ المراد بالتقصير: الحلق وهو الأفضل والتقصير مفضول.
قوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، كما أخبر الله في القرآن الكريم.
قوله: «فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ ثُمَّ خَبَّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ» . خب: أي رمل، وأسرع في المشي، والرمل في الأطواف الثلاثة الأولى. وفي بقية الاشواط يمشي من غير رمل، كما قال : «وَمَشَى أَرْبَعًا» من دون رمل.
قوله: «فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ» أي: صلى ركعتي الطواف.
وقوله: «فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ» أي: بقي على إحرامه؛ لأنه ساق الهدي.
وقوله: «حَتَّى قَضَى حَجَّهُ» أي: يوم العيد.
قوله: «وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَفَاضَ» أي: طواف الإفاضة.
والشاهد من الباب أن النبي ﷺ تمتع وأهدى فساق معه الهدي، ففيه أنه لا بأس أن يسوق الإنسان معه الهدي ويحج، ويجوز له أن يسوق الهدي إلى مكة وهو لم يحج كما سيأتي في الأحاديث، فيرسل بالهدي ويبقى في بلده ولا يمتنع من شيء.
وسوق الهدي يكون من نفس بلده وهو الأفضل، أو يشتريه من الطريق، وإذا اشترى الهدي من خارج الحرم من الحل جاز، فكل هذا يطلق عليه أنه ساق الهدي.
وعند الفقهاء يجوز لمن ساق الهدي أن يتمتع لكن لا يتحلل، إنما يطوف ويسعى ويبقى على إحرامه حتى يذبح هديه ويقصر والمراد بالتقصير: الحلق، ولو قيل: إنه يقصر، فلا يستطيع أن يتحلل حتى يذبح هديه. والظاهر من الأحاديث أنه يبقى قارنًا كما فعل النبي ﷺ فهذا هو الأفضل.
والفقهاء يقولون: يجوز لمن ساق الهدي أن يتمتع، لكن لا يتحلل القارن المتمتع كما في الأحاديث، فالمتمتع يشمل المتمتع الخاص والقارن، وتمتع القارن بمعنى أنه أسقط إحدى السفرين؛ لأن الأصل أن العمرة لها سفرة، والحج له سفرة، فهو تمتع بإسقاط أحد السفرين، فالقارن قد يطلق عليه متمتعًا، والمتمتع يطلق على المتمتع الخاص الذي تحلل من الهدي وتمتع بلباس الثياب، وكل منهما متمتع في الأحاديث؛ ولهذا وجب على كل واحد منهما الهدي.
المتن:
باب مَنْ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ الطَّرِيقِ
1693 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ : لأَِبِيهِ أَقِمْ فَإِنِّي لاَ آمَنُهَا أَنْ سَتُصَدُّ عَنْ الْبَيْتِ قَالَ: إِذًا أَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي الْعُمْرَةَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَقَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ، ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ قُدَيْدٍ، ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا.
الشرح:
قوله: «بَابُ مَنْ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ الطَّرِيقِ» ؛ أي: هل يعتبر من اشترى الهدي من الطريق ساق الهدي؟
1693 استدل المؤلف رحمه الله بهذا الحديث على جواز شراء الهدي من الطريق، فسواء ساق الهدي من بلده أو اشتراه من الطريق قبل وصوله إلى الحرم، فإنه يعتبر ممن ساق الهدي ويلزمه القران.
قوله: «قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِ للَّهِ بْنِ عُمَرَ : لأَِبِيهِ أَقِمْ فَإِنِّي لاَ آمَنُهَا أَنْ سَتُصَدُّ عَنْ الْبَيْتِ» ، كان ابن عمر رضي الله عنهما يحج كل سنة، فقال له ابنه عبد الله: يا أبت أقم هذا العام ولا تحج؛ فإني لا آمن أن تصد عن البيت، وكانت هذه السنة هي سنة ثلاث وسبعين حين نزل الحجاج مكة لقتال ابن الزبير، لكن ابن عمر رضي الله عنهما لم يقبل منه ذلك، ثم بين له فقه الحج في هذه الحالة، وقال: إذا صدوني عن البيت أفعل كما فعل رسول الله ﷺ لما صد عن عمرة الحديبية، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزَاب: 21]، ثم قال: «فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي الْعُمْرَةَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ» ، أي: لبى بالعمرة، ثم لما مشى أهلَّ بالحج، وأدخل الحج على العمرة، فصار قارنًا، ثم أهلَّ بهما جميعًا.
قوله: «ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ قُدَيْدٍ» ، أي: من مكان قريب، وهذا موضع الشاهد للترجمة.
قوله: «ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا» أي: للحج والعمرة، وسعى أيضًا سعيًا واحدًا، وهذا فيه دليل على أن القارن ليس عليه إلا طواف واحد، وسعي واحد، طواف الإفاضة، وسعي واحد للحج والعمرة، فأما الطواف الأول فهو للذي يقدم مكة ويسمى طواف القدوم.
وفيه أيضًا: إنه لا بأس أن يسوق الهدي من الطريق، أو من بلده، ولكن ترك سوق الهدي أولى لأمرين:
الأول: المشقة في عدم التحلل وطول المدة عليه.
الثاني: أن النبي ﷺ تأسف في قوله: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهَدْيَ [(171)].
فالأولى عدم سوق الهدي؛ لما فيه من المشقة، وكون الإنسان يبقى حتى يتحلل فيه مشقة أيضًا؛ ولأن النبي ﷺ تأسف على سوق الهدي، وإن جاء متأخرًا وساق الهدي، وأراد أن يفعل مثل ما فعل النبي ﷺ فإنه يكون قارنًا، إذا لم يشق عليه؛ لأنه لا يحتاج إلى سوقه كأن يحملها الآن في السيارات فلا تمشي وتدخل وحدها، ففي الوقت الحاضر لم يعد أحد يسوقها من مكان بعيد، بل تحمل في السيارات.
المتن:
باب مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ
وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا أَهْدَى مِنْ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ يَطْعُنُ فِي شِقِّ سَنَامِهِ الأَْيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ وَوَجْهُهَا قِبَلَ الْقِبْلَةِ بَارِكَةً.
1694، 1695 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ قَالاَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ الْمَدِينَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ النَّبِيُّ ﷺ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ.
1696 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: فَتَلْتُ قَلاَئِدَ بُدْنِ النَّبِيِّ ﷺ بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ.
الشرح:
قوله: «بَابُ مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ» هذه الترجمة فيها بيان أن الهدي الذي يهدى للبيت فيه سُنَّتان :
السنة الأولى: الإشعار ، ومعناه شق صفحة سنام الناقة أو البدنة بالسكين من جهة اليمين، ثم سلت الدم حتى تكون علامة أنها مهداة ويعرفها الفقراء، وحتى لو تغيبت يتبعها الفقراء ويأكلونها، هذا وإن كان الإشعار فيه تعذيب للحيوان إلا أنه مستثنى للمصلحة، مثل شق أذن الصبية ليُجعل فيه شيء من الحلي، وهو ما يسمى الآن بالخماخم، وأيضًا مثل وسم الدابة ففيه إيذاء إلا أنه شُرع للمصلحة.
السنة الثانية: التقليد ، وهو جعل القلادة في رقبة البعير، أي يجعل حبلاً في قلادتها ويجعل فيها نعلين أو بعض القرب البالية فيعلقها في رقبة البعير أو البقرة أو الشاة المهداة، والتقليد يكون للإبل والبقر والغنم، أما الإشعار فيكون للإبل فقط.
أشار أيضًا البخاري رحمه الله بهذا التبويب: «بَابُ مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ» إلى أنه لا يشترط أن يكون الإحرام مقدمًا على الإشعار والهدي، بل يجوز أن يشعرها ويقلدها، ثم يحرم، كما فعل النبي ﷺ.
قوله: «وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا أَهْدَى مِنْ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ يَطْعُنُ فِي شِقِّ سَنَامِهِ الأَْيْمَنِ» . ويطعُن بضم العين أفصح إذا كانت بالسكين، يعني: يشق سنامها الأيمن بالسكين، أما إذا كان يطعَن بفتح العين، فمعناه: يعيبها، من قولهم: فلان يطعَن في فلان، يعني: يعيبه، «بِالشَّفْرَةِ» ، أي: بالسكين، «وَوَجْهُهَا قِبَلَ الْقِبْلَةِ بَارِكَةً» ، أي إذا أراد أن يشعرها وجهها إلى القبلة. والمعنى: ثم يسفك الدم عن يمين السنام؛ لتعرف إذا ضاعت أنها مهداة للبيت، وليتعلق بها الفقراء.
1694، 1695 قوله: «بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ» أي: كانوا ألفًا وأربعمائة أو ما بين الألف والأربعمائة إلى الألف والخمسمائة.
قوله: «حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ النَّبِيُّ ﷺ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ» فيه: جواز البدء بالإشعار والتقليد قبل الإحرام.
1696 قولها: «فَتَلْتُ قَلاَئِدَ بُدْنِ النَّبِيِّ ﷺ بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ» ؛ فيه: دليل على أن تقدم الإحرام ليس شرطًا في صحة التقليد والإشعار، بل يجوز التقليد والإشعار قبل الإحرام خلافًا لمجاهد رحمه الله؛ فإنه قال: إنه ينبغي أن يحرم قبل أن يقلد وقبل أن يشعر.
وفي الحديث: مشروعية الإشعار والرد على من منعه، ويروى عن أبي حنيفة أنه كره الإشعار[(172)].
وفيه: مشروعية تقليد الهدي.
وفيه: دليل على أن من بعث بالهدي من بلده فإنه لا يمتنع مما يمتنع منه المحرم؛ لأن النبي ﷺ بعث بهديه وهو بالمدينة، ولم يمتنع مما يمتنع منه المحرم؛ فلهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ» ، وهذا فيه الرد على من قال: إنه إذا أرسل بهديه فإنه يمتنع فلا يأخذ شيئًا من شعره حتى يذبح هديه، قال بهذا بعض العلماء، وهذا ليس بصحيح.
والصواب: أنه لا يمتنع كما فعل النبي ﷺ.
وفي الإشعار والتقليد فوائد:
1- الإعلام بأنها صارت هديًا حتى يتبعها الفقراء.
2- تمييزها إذا اختلطت بغيرها.
3- إذا ضاعت عرفت.
4- إذا عطبت ذبحت في مكانها وفرقت على المساكين، والمساكين يعرفونها بهذه العلامة فيأكلونها، إلى غير ذلك من المصالح والفوائد.
المتن:
باب فَتْلِ الْقَلاَئِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ
1697 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ؟ قَالَ: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ.
الشرح:
1697 الحديث يبين أن السنة للحاج أو المعتمر إذا ساق الهدي أنه لا يتحلل حتى يذبح هديه ويحل من نسكه.
وفيه: مشروعية التلبيد، أي: تلبيد الرأس حتى لا يتشعث، فكان النبي ﷺ إذا أحرم لبد رأسه؛ أي لم يحلق شعره إلا في التحلل من الحج أو العمرة، والتلبيد: هو أن يُجعل في شعره صمغ أو عسل أو خطمي أو ما يشبه ذلك لكي يمسك الشعر فلا يتشعث؛ لأن المدة تطول، فقد تكون مدة ستة أيام، أو سبعة أيام، أو عشرة أيام، أو يزيد، وقديمًا كانت الأسفار طويلة ليست كما هي الآن في زماننا قصيرة جدًّا، فالمحرم يلبد رأسه حتى لا يتشعث؛ ولهذا قال: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ، فمن ساق الهدي لا يتحلل حتى ينحر هديه.
المتن:
الشرح:
1698 في الحديث: دليل على أن الإنسان له أن يهدي من بلده إبلاً وبقرًا وغنمًا، ولا يمتنع مما يمتنع منه المحرم.
أما المهدي الذي أرسل هديه فقد روي عن ابن عباس وأصحاب الرأي، وحكاه ابن المنذر عن إسحاق وأحمد[(173)]، أن من أراد أن يضحي فدخل العشر، فإنه يمتنع مما يمتنع منه المحرم.
وهذا قول مرجوح مخالف للأحاديث، وحديث الباب حجة عليهم.
قولها: «فَأَفْتِلُ قَلاَئِدَ هَدْيِهِ» ، يعني: القلادة التي تقلد بها فيبعثها.
قوله: «ثُمَّ لاَ يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ» يعنى أنه يبقى حلالاً؛ لأنه لم يحرم بعد.
المتن:
باب إِشْعَارِ الْبُدْنِ
وَقَالَ عُرْوَةُ: عَنْ الْمِسْوَرِ قَلَّدَ النَّبِيُّ ﷺ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ.
1699 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا أَوْ قَلَّدْتُهَا ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ.
الشرح:
والمؤلف رحمه الله كرر في هذا الباب الأحاديث السابقة، ولا يكررها إلا ليبين طرقا أخرى وأسانيد جديدة للحديث الواحد، ويأتي بالطريق الذي فيه موضع الشاهد للباب، فبهذا جمع بين الحديث والفقه، بل ربما حير العلماء بتراجمه واستدلالاته وتكراره للحديث، فكتابه هذا جمع ضروبًا من علوم شتى؛ في الحديث، والفقه، والتفسير، والتوحيد، والأدب، واللغة، وغير ذلك؛ ولذلك تلقت الأمة كتابه بالقبول، فهو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، فرحم الله الإمام البخاري، ونفع الله المسلمين بكتابه.
قوله: «بَابُ إِشْعَارِ الْبُدْنِ» والبُدْن: جمع بدنة، وهي البعير، وإشعارها: يعني شق صفحة سنامها حتى يخرج الدم، ويعلم أنها مهداة، وأنها لله وللمساكين.
وفيه: مشروعية الإشعار، والرد على من أنكره.
قوله: «قَلَّدَ النَّبِيُّ ﷺ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ» فيه: مشروعية الإشعار.
وفيه أيضًا: دليل على أنه لا بأس أن يتأخر الإحرام عن التقليد والإشعار.
1699 قولها: «فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ» يعني: يبقى حلالاً لا يمتنع من أخذ الشعر أو من الطيب، إنما هذا للمُحّرِم، خلافًا لمن قال: إن هذا يمتنع مما يمتنع منه المحرم حتى يذبح الهدي، وهذا قول مرجوح مخالف للأحاديث.
المتن:
باب مَنْ قَلَّدَ الْقَلاَئِدَ بِيَدِهِ
1700 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِالرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ قَالَتْ عَمْرَةُ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدَيْهِ ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ.
الشرح:
هذه الترجمة عقدها المؤلف لبيان أن المهدي يفتل القلائد بيده أو بنائبه، كما فعلت عائشة رضي الله عنها؛ ولهذا قال: «بَابُ مَنْ قَلَّدَ الْقَلاَئِدَ بِيَدِهِ» ، وذكر الحديث شاهداً له.
1700 في الحديث: أن ابن عباس كان يرى أن من أهدى هديًا فإنه يمتنع مما يمتنع منه المحرم حتى يذبح هديه، فأنكرت عليه عائشة هذا، وبينت السنة، وقالت: «لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدَيْهِ ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ» .
وفيه: الرجوع إلى السنة، وابن عباس كان يرى أنه يمتنع والسنة أوضحت أنه لا يمتنع؛ فدل على أن قول ابن عباس هنا قول مرجوح.
فالنبي ﷺ ساق معه الهدي في السنة العاشرة، وفي السنة التاسعة أرسل بالهدي مع أبي بكر ولم يحج هو.