المتن:
باب مَتَى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ
وَقَالَ عَطَاءٌ: عَنْ جَابِرٍ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا.
1791 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاعْتَمَرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَطُفْنَا مَعَهُ، وَأَتَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَأَتَيْنَاهَا مَعَهُ، وَكُنَّا نَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ أَحَدٌ.
1792 قَالَ: فَحَدِّثْنَا مَا قَالَ لِخَدِيجَةَ قَالَ: بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ.
1793 حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
1794 قَالَ وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما فَقَالَ: لاَ يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ مَتَى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ» هذه الترجمة معقودة لبيان مذهب ابن عباس رضي الله عنهما القائل: إن المحرم يحل من العمرة بالطواف، ووافقه إسحاق بن راهويه، خلافاً للجمهور، فإنهم يقولون: المعتمر لا يحل حتى يطوف ويسعى.
أورده المؤلف رحمه الله تعليقًا؛ لبيان أدلة الجمهور في أن المعتمر لا يحل حتى يطوف، ويسعى، ويقصر.
قوله: «وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا» وهذا هو الشاهد، يعني يطوفوا بالبيت، ويسعوا بين الصفا والمروة، ثم يقصروا ويحلوا.
1791 أورد حديث ابن أبي أوفى، وفيه:
قوله: «وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا» وهذا هو الشاهد، يعني يطوفوا بالبيت، ويسعوا بين الصفا والمروة، ثم يقصروا ويحلوا.
قوله: «وَكُنَّا نَسْتُرُهُ» ، يعني: يحرسونه من أهل مكة «أن يرميه أحد» ؛ لأن هذه العمرة هي عمرة القضاء، وأهل مكة لم يسلموا بعد، وإنما اعتمر النبي ﷺ في سنة سبع من الهجرة مقاضاة لهم من باب المصالحة، فإنهم صالحوه على أن يرجعوا هذا العام وهو عام الحديبية سنة ست ، وأن يرجعوا من العام القابل، فرجعوا من العام القابل ، فلما اعتمروا كان الصحابة يحرسون النبي ﷺ من كفار قريش خشية أن يرميه أحد.
قوله: «فقال له صاحب لي: أكان دخل الكعبة؟ قال: لا» هذا هو الصواب، فإن النبي ﷺ ما دخل الكعبة إلا مرة واحدة عام الفتح، فلم يدخلها في عمرة القضية، ولا في حجة الوداع.
1792 قوله: «قَالَ: فَحَدِّثْنَا مَا قَالَ لِخَدِيجَةَ قَالَ: بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، يعني من قصب اللؤلؤ، «لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ» ، هذا فيه التوضيح لهذا الفضل ، وإلا فكل الجنة ليس فيها صخب ولا نصب.
وفي الحديث: فضل خديجة رضي الله عنها، وأنها من المبشرين بالجنة رضي الله عنها.
والشاهد في الحديث قوله: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاعْتَمَرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَطُفْنَا مَعَهُ، وَأَتَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَأَتَيْنَاهَا مَعَهُ» . وفيه: أنه ﷺ ما حَلَّ حتى طاف وسعى بين الصفا والمروة.
1793 ثم ذكر حديث ابن عمر: عن عمرو بن دينار قال: «سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» ، يعني: بين أنه لابد أن يأتي بأركان العمرة الطواف والسعي والتقصير، والنبي ﷺ هو أسوتنا ، أمرنا الله تعالى أن نتأسى به.
وفي قوله: «وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ» ؛ استدل به بعض العلماء على أن ركعتي الطواف واجبتان، وقال آخرون من أهل العلم: إنهما سنة.
1794 قوله: «قَالَ وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما فَقَالَ: لاَ يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» ، يعني: لا يقرب امرأته حتى يتحلل من العمرة ويؤدي أركانها وواجباتها؛ فهذا هو الصواب الذي دل عليه الحديث، وهذا ما عليه الجمهور خلافًا لابن عباس وإسحاق بن راهويه أنه يتحلل بالطواف.
المتن:
الشرح:
1795 ثم ذكر في الباب حديث أبي موسى الأشعري ، وفيه قوله: أَحَجَجْتَ؟ يعني: هل أحرمت بالحج، أو نويت الحج؟ فهذا كقوله له بعد ذلك: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ أي: بما أحرمت؟ أي: بحج أو عمرة؟
وفي الحديث: أنه لا بأس أن يعلق الإنسان إهلاله بإهلال شخص معين، ويقول: أحرمت بما أحرم به فلان، أو أهللت بما أهل به فلان، ثم بعد ذلك يتبين إذا كان فلان أهل بعمرة أهل مثله بعمرة، وإذا كان أهل بحج أهل مثله بحج، وإذا أهل بحج وعمرة أهل مثله بحج وعمرة؛ لأن أبا موسى علق إهلاله بإهلال النبي ﷺ، وكذلك علي بن أبي طالب، وأقرهما النبي ﷺ.
قوله: أَحْسَنْتَ، طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَحِلَّ. هذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، وفي الرواية الأخرى: «قال: هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أمرني فأحللت» [(222)]، فهذا يعني أنه يقتضي تأخير الإحلال عن السعي خلافًا لابن عباس رضي الله عنهما وإسحاق بن راهويه رحمه الله القائلين بأنه يتحلل بالطواف.
وأما حديث علي ففيه: أنه ساق الهدي فبقي على إحرامه.
قوله: «ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي» وفلي الرأس هو إخراج القمل منه، والمرأة: هي أخته على الصحيح، وقيل: هي إحدى محارمه، أو بينه وبينها رضاع، والأقرب أنها قيسية؛ لقوله: «امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ» ، وإنما قلنا بأن الصحيح أنها من محارمه؛ لأنه لا تتولى فلي الرأس امرأة أجنبية.
قوله: «ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ» ، يعني: يفتي بالتمتع؛ لأنه اعتمر في أشهر الحج فطاف وسعى وتحلل ثم أحرم بالحج، فهذه الصورة تسمى التمتع، واستمر يفتي بهذا «حَتَّى كَانَ فِي خِلاَفَةِ عُمَرَ فَقَالَ: إِنْ أَخَذْنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، وَإِنْ أَخَذْنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» .
وأبو موسى لما بلغه أن عمر يأمر الناس بإفراد الحج وينهاهم عن المتعة لا على وجه التحريم والمنع الشديد، وإنما يمنعهم من التمتع حتى يؤجلوا العمرة إلى وقت آخر غير وقت الحج، فلا يزال هذا البيت يحج ويعتمر، كما اجتهد أبو بكر الصديق وعثمان رضي الله عنهما في مشروعية التمتع، فالخلفاء الثلاثة اجتهدوا فصاروا يأمرون الناس بالإفراد، وقالوا: إن المتعة وإن كانت جائزة وإن كان النبي ﷺ أمر بها إلا أن الناس علمت السنة، فكانوا يأمرون الناس بالإفراد، والعمرة لها وقت آخر حتى لا يزال هذا البيت يحج ويعتمر.
ولكن الصواب مع أبي موسى ؛ فإن أبا موسى تأدب كما جاء في صحيح مسلم أنه لما بلغه قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال لهم: «أيها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليتئد؛ فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فأتموا، فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ [البَقَرَة: 196]» ؛ وإتمامها ألا تتحلل إلا يوم العيد، وإن نأخذ بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، فإن النبي ﷺ لم يحل حتى نحر الهدي[(225)]، يعني: إن أخذنا بقول النبي ﷺ فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله، فإنه ساق الهدي فلم يتحلل إلا يوم العيد، قال: وهذا يأمر بإفراد الحج، وكذلك الصديق وعثمان، فهذا اجتهاد منهم.
والصواب مع من أفتى بالمتعة، ومنهم: علي وابن عباس وأبو موسى عملاً بالسنة، وهي مقدمة على كل أحد، وهي حاكمة على كل أحد مهما بلغ من المنزلة والفضل، فالصديق وعمر وعثمان هم أفضل الناس بعد الأنبياء، ولكن السنة مقدمة على اجتهادهم؛ ولهذا لما ناظر بعض الناس ابن عباس رضي الله عنهما فقالوا: أنت تفتي بالمتعة وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يفتيان بالإفراد؛ اشتد عليهم، وقال: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله ﷺ وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!».
المتن:
الشرح:
1796 ثم ذكر في الباب حديث أسماء، وفيه:
قولها: «بِالحَجُونِ» جبل معروف بمكة.
قولها: «ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنْ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ» ؛ لأنهم تحللوا من العمرة في أول النهار، فشُرع لهم أن يحرموا بالحج في آخره.
قولها: «فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ» ، يعني: تحللنا من العمرة، والمراد به: أنهم طافوا وسعوا، وحذفت التاء اختصارًا، لما كان منوطًا بالطواف، وقد جاء قولها: «فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا» مفسرًا من طرق أخرى صحيحة: أنهم طافوا وسعوا.
المتن:
باب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ الْغَزْوِ
1797 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الأَْرْضِ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَْحْزَابَ وَحْدَهُ.
الشرح:
مسألة: لا بد من التقصير للتحلل؛ لأن النصوص تبينها، واختلف العلماء في التقصير هل هو نسك أو استباحة من محظور؟
فاستدل بعضهم بهذا الحديث على أنه لما لم يذكر التقصير دل على أنه استباحة من محظور؛ لكن الجمهور على أنه نسك، فإذا جامع بعد الطواف والسعي وقبل التقصير فالصواب أن عليه هديًا، أي يذبح شاة، وعمرته صحيحة؛ وإذا جامع قبل الطواف أو قبل السعي تفسد العمرة وعليه شاة يذبحها، وعليه قضاء عمرته؛ هذا هو الصواب، فإذا جامع أثناء الحج، أو أثناء العمرة، فسد حجه أو عمرته، ويكمل الحج الفاسد أو العمرة الفاسدة، ثم يقضي مع الهدي.
1797 أورد تحت هذا الباب حديث ابن عمر، وفيه:
قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الأَْرْضِ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ» وفيه: استحباب هذا الذكر عند الرجوع من الحج أو العمرة أو الغزو، ويقاس عليه بقية الأسفار، ولكنه يتأكد في سفر الحج والعمرة والغزو.
قوله: «شَرَفٍ» يعني: كل مرتفع.
والحكمة من التكبير عند كل ما ارتفع تعظيم الله، وبيان أنه أعظم من كل عظيم، وأنه أكبر من كل شيء، وإذا هبط واديًا سبح تنزيهًا لله عن السفول، وأن الله منزه عن السفل.
قوله: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ هذا الذكر فيه توحيد الله، فلا إله إلا الله هي كلمة التوحيد، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، وهي أيضًا كفر بالطاغوت وإيمان بالله؛ فلا يصح من أحد إسلام حتى يكفر بكل ما يعبد من دون الله من وثن أو صنم أو نظام جاهلي، ويثبت العبادة والطاعة والانقياد والولاء والحكم لله وحده لا شريك له.
وقوله: وَحْدَهُ تأكيد، لاَ شَرِيكَ لَهُ، في ربوببيته كالملك والخلق، والتدبير ولا في ألوهيته كالعبادة، والولاء، والحكم والتشريع، ولا في الأسماء والصفات بالتشبيه، أو التعطيل، أو الإلحاد، له الحمد وكمال النعوت والجلال في الأسماء والصفات والأفعال والأقوال.
قوله: آيِبُونَ، يعني راجعون إلى الله .
قوله: تَائِبُونَ من ذنوبنا.
قوله: عَابِدُونَ لله.
قوله: سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ ، حيث وعد بإظهار دينه، وقد صدق وأظهر دينه وأعلى كلمته.
قوله: وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وهو نبيه محمد ﷺ.
قوله: وَهَزَمَ الأَْحْزَابَ وَحْدَهُ، وهم الكفار الذين تحزبوا وتجمعوا وأحاطوا بالمدينة يوم الأحزاب في السنة الرابعة من الهجرة.
وفيه: دليل على تأكيد استحباب هذا الذكر عند الرجوع من السفر من حج أو عمرة أو غزو، ويقاس عليه باقي الأسفار، وإن قاله في الحضر فلا بأس.
كما يشرع له أن يكرر هذا الذكر عند الوصول؛ لما رواه أنس بن مالك قال: أقبلنا مع النبي ﷺ أنا وأبو طلحة، وصفية رديفته على ناقته، حتى إذا كنا بظهر المدينة، قال: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ [(226)]؛ فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة.
المتن:
باب اسْتِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ وَالثَّلاَثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ
1798 حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ، اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَآخَرَ خَلْفَهُ.
الشرح:
قوله: «بَابُ اسْتِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ وَالثَّلاَثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ» ، اشتملت هذه الترجمة على حكمين:
الحكم الأول: «اسْتِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ» ، فيه: مشروعية استقبال الناس للحاج.
الحكم الثاني: «وَالثَّلاَثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ» ، فيه: جواز إرداف الثلاثة على الدابة.
1798 ذكر في الباب حديث ابن عباس قال: «لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ، اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَآخَرَ خَلْفَهُ» ، وفيه:
قوله: «أُغَيْلِمَةُ» تصغير غلمة، جمع غلام، وهو الصبي.
والبخاري رحمه الله ترجم: «اسْتِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ» أي: مشروعية استقبال الناس للحجيج، حيث خرج أغيلمة بني عبدالمطلب لاستقبال النبي ﷺ وهو قادم للحج.
ولم يذكر المؤلف رحمه الله في الترجمة ولا الحديث استحبابًا، وإنما ذكر أن النبي ﷺ استقبله أغيلمة من بني عبدالمطلب، فهذا دليل على المشروعية فقط.
أما الاستحباب فليس هناك شيء واضح في استحباب ذلك، والأقرب أنه أمر مباح.
قوله: «فحمل واحدا بين يديه وآخر خلفه» ، فيه: دليل على جواز إرداف الثلاثة على الدابة إذا كانت تطيق ذلك.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: حسن خلقه ﷺ، وتواضعه، وإيناسه لهؤلاء الصبية.
المتن:
باب الْقُدُومِ بِالْغَدَاةِ
1799 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الحَجَّاجِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ.
الشرح:
قوله: «بَابُ الْقُدُومِ بِالْغَدَاةِ» أراد بهذه الترجمة بيان أنه لا بأس للقادم من سفر أن يدخل بيته وقت الغداة، والغداة: هي أول النهار، والترجمة التي بعدها «الدُّخُولِ بِالْعَشِيِّ» .
والعشي المراد بها من وقت صلاة المغرب إلى العتمة، فدلت على أنه لا حرج على الإنسان إذا قدم بلده من سفر أن يقدم في أول النهار أو عشية، وأما المنهي عنه أن يقدم فيطرق أهله ليلاً، كما سيأتي بيان ذلك في حديث جابر
1799 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ» كان ﷺ إذا رجع من مكة إلى المدينة صلى بذي الحليفة في بطن الوادي وبات حتى يصبح، وكان من عادته ﷺ أنه يخالف الطريق في الذهاب إلى العبادات، كما كان يفعل عند الذهاب لمصلى العيد، فإذا ذهب إلى العيد من طريق رجع من طريق آخر، فهذا هديه ﷺ في الرجوع في الطرق من العبادات كالحج والصلاة، فكان ﷺ إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة وهو مكان بذي الحليفة، وليس فيه مسجد مبني في ذلك الوقت، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح، يعني أنه لا يدخل المدينة في الليل بل يبيت حتى يصبح حتى يقدم في الغداة.
المتن:
باب الدُّخُولِ بِالْعَشِيِّ
1800 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لاَ يَطْرُقُ أَهْلَهُ، كَانَ لاَ يَدْخُلُ إِلاَّ غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً.
الشرح:
قوله: «بَابُ الدُّخُولِ بِالْعَشِيِّ» . أراد بهذه الترجمة بيان أنه لا بأس للقادم من سفر أن يدخل بيته وقت العشي، والعشي: هي من صلاة المغرب إلى العتمة.
1800 أورد المصنف في هذا الباب حديث أنس، وفيه:
قوله: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لاَ يَطْرُقُ أَهْلَهُ» ؛ والطروق هو الدخول ليلاً. وفي صحيح مسلم مرفوعًا: أمهلوا حتى ندخل عشاء كي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة [(227)]، يعني: أنهم لما قدموا أول النهار ولم يعلم أهل المدينة بقدومهم قال لهم النبي ﷺ: أمهلوا أي: انتظروا، حتى ندخل عشاءً ويسمع الناس بقدومنا، فـ تمتشط الشعثة: أي: المرأة التي شعث شعرها، تتهيأ لزوجها فتغسل شعرها، وتمشط، وتتجمل، وتلبس أحسن ثيابها، وتستحد المغيبة التي طالت غيبة زوجها، وتستحد: أي تستعمل ما يزيل الشعر حول العانة وغيرها.
وهذا النهي عن الطروق ليلاً في حال إذا لم يعلموا بقدومه، أما إذا علموا بقدومه فلا بأس في ذلك، ووسائل الإعلام في الوقت الحاضر كثيرة مثل الهاتف وغيره، والحمد لله.
قوله: «كَانَ لاَ يَدْخُلُ إِلاَّ غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً» ، وفي هذا: دليل على أنه لا بأس على القادم من سفر أن يدخل بيته عشية، أو غدوة يعني أول النهار كما تقدم بيان ذلك في الباب السابق، فإن شاء دخل البلد في أول النهار وإن شاء دخل آخر النهار، والمذموم أن يدخل ليلاً بدون إعلام فيفجع أهله أو يراهم على حال يكرهها.
ومن السنة للقادم من سفر أن يصلي ركعتين في المسجد ، ثم يذهب لبيته فيدخل على أهله، وهما سنة وليستا بواجبتين.
المتن:
باب لاَ يَطْرُقُ أَهْلَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ
1801 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَارِبٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلاً.
الشرح:
قوله: «بَابٌ لاَ يَطْرُقُ أَهْلَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ» . لما بين المصنف رحمه الله مشروعية دخول القادم من السفر أول النهار غدوة، ومشروعية الدخول عشية، بين هنا في هذه الترجمة النهي عن الطروق ، وهو الدخول ليلاً.
والمراد بالمدينة البلد الذي يقصد دخولها.
والحكمة في هذا النهي مبينة في حديث جابر المذكور في الباب.
1801 ذكر المؤلف في هذا الباب حديث جابر، قال: «نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ» ، والطروق هو الدخول ليلاً.
وقوله: «لَيْلاً» لتأكيد وقت النهي. والأصل في النهي التحريم ما لم تصرفه قرينة، فإذا أعلمهم بقدومه قبل ذلك عن طريق الهاتف، أو وسيلة من الوسائل الحديثة، أو كان هناك شخص يخبرهم بقدومه فلا بأس؛ لزوال المحظور، والمحظور هو المفاجأة، أي: كونه يفاجئهم فيجدهم على حالة لا تناسب، وكما بين النبي ﷺ في الحديث الآخر قال: لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ [(228)] وهذا المحظور يزول بالإعلام.
وهذا الحكم أيضًا ربما انسحب على من لا زوجة له؛ لأن للمفاجأة بالليل آثارًا مذمومة غير ما ذكر، منها أنه ربما طرق الباب عليهم في وقت متأخر من الليل فيسبب لهم الفزع والرعب والذعر.
المتن:
باب مَنْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ
1802 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ؛ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: زَادَ الْحَارِثُ ابْنُ عُمَيْرٍ عَنْ حُمَيْدٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جُدُرَاتِ.
تَابَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ.
الشرح:
في الحديث: مشروعية الإسراع إذا قدم من سفر فأبصر البلد، وفي زمننا هذا وسيلة السفر هي الآلات الحديثة مثل السيارات وما أشبهها، فإذا أسرع بها فليحرص على ألا يخل بتعليمات المرور، فيكون إسراعه إسراعًا مناسبًا؛ لئلا يكون فيه خطر على نفسه أو الناس.
1802 أورد المؤلف رحمه الله حديث أنس وفيه:
قوله: «دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ» جمع درجة، والمراد طرقها المرتفعة، وسيأتي ذكر الخلاف فيها.
وقوله: «أَوْضَعَ» أي: أسرع السير.
قوله: «حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا» أي: حرك دابته بسبب حبه المدينة.
قوله: «جُدُرَاتِ» جمع جدار، وفي رواية: «جُدْران» [(229)]. جمع جدار أيضًا، وفي رواية: «جدر» [(230)] بالإفراد، وفي رواية المستملي : «دَوْحات» ، جمع دوحة، وهي الشجرة العظيمة، ونقل الشارح عن صاحب المطالع: ترجيح «جدرات» على «دوحات» و«درجات» .
وكلها معناها أنه إذا أبصر بلده وشاهدها من بعيد فيشرع له أن يسرع إسراعًا مناسبًا، بحيث لا يكون فيه مخالفة، ولا خطورة على أحد.
المتن:
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا
1803 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِينَا، كَانَتْ الأَْنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَْنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ؛ فَنَزَلَتْ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا.
الشرح:
قوله: «بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ُ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، أي: بيان سبب نزول هذه الآية الكريمة.
1803 أورد المؤلف رحمه الله هذا الحديث لبيان حال أهل الجاهلية وما هم عليه من التشديدات والآصار حتى أعزهم الله بالإسلام فرفع عنهم ذلك، من أمثلة ذلك حديث البراء يقول: «نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِينَا، كَانَتْ الأَْنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَْنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ؛ فَنَزَلَتْ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البَقَرَة: 189].
قوله: «كَانَتْ الأَْنْصَارُ إِذَا حَجُّوا» يعني: في الجاهلية، فجاءوا من الحج ، «لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ» ، وإنما يتسلق الرجل الجدار ولا يدخل من الباب؛ لأنه يعتبر هذا عيبًا ، أي دخوله من الباب، «فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَْنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ» ، أي: فلما دخل من قبل الباب عيروه، قالوا: تدخل من الباب وأنت راجع من الحج! فنزلت الآية.
وسيأتي في تفسير سورة البقرة من طريق إسرائيل كما ذكر المؤلف رحمه الله عن أبي إسحاق قال: «إذا أحرموا في الجاهلية» [(231)]، وهذا ليس خاصًّا بالأنصار، وهو خاص بغير قريش فقد كانت قريش تدعى: الحمس، يدخلون من الباب، وأما غير الحمس فإنهم يتسلقون الجدر، وهذا من الأغلال التي كانت على أهل الجاهلية، فأعزهم الله تعالى بالإسلام ورفع عنهم إصرهم والتشديد والأغلال التي كانت عليهم فأنزل هذه الآية.
ومن هذه الصور الجاهلية التي رفعها الله عنهم أن غير القرشيين إذا جاءوا إلى الحج لا يحجون بثيابهم، يقولون: هذه الثياب التي علينا عصينا الله فيها فلا نحج بها، ثم يطلبون ثيابًا من أهل مكة يطوفون بها، وكذلك كانت تفعل النساء، فتأتي المرأة تطلب ثيابًا من أهل مكة، فمن لم يجد ثيابًا جديدة ليطوف بها فإنه يتجرد من ثيابه ويطوف عريانًا، والمرأة تفعل ذلك أيضًا، إذا لم تجد أحدًا يعطيها ثوبًا خلعت ثوبها وطافت عريانة وتضع يدها على فرجها وتقول وهي تطوف:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ | فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ |
هذا من جهلهم وضلالهم، حتى أعزهم الله بالإسلام فرفع الله عنهم جهل الجاهلية وأعزهم باتباع خير البرية محمد ﷺ.
المتن:
باب السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ
1804 حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ؛ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ.
الشرح:
فهذه الترجمة ذكرها المؤلف رحمه الله في آخر أبواب الحج ليبين أن الإقامة في الأهل لها فضل، وإذا سافر الإنسان لعارض كالحج أو العمرة أو غيرها من حاجته التي سافر من أجلها، فعليه أن يعجل المسير إلى أهله حتى يكون فيهم فيلاحظهم، ويكون في مصالحهم، ويراعي تربية الأولاد؛ ولهذا ذكر المؤلف هذه الترجمة قال: «بَابٌ السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ.
1804 ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رفعه قال: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ، وقطعة تعني جزء من العذاب، والمراد بالعذاب: الألم الناشئ عن المشقة، ولا يلزم من العذاب أن يكون عذاب النار، فالعذاب يطلق على ما يتألم منه الإنسان، فهذا نوع من العذاب، وأما المراد بالعذاب هنا: فجزء من الألم الناشئ عن مشقة السفر، فالأسفار فيها مشقة مهما كانت الحال قديمًا وحديثًا.
قوله: يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ يعني طعامه وشرابه ونومه المعتاد، فيختلف نظام ومواعيد الأكل والشرب والنوم، وليس معناه أن المسافر لا يأكل ولا يشرب، لكن معناه يمنعه طعامه وشرابه ونومه المعتاد، ولا شك أن مخالفة ما ألفه الإنسان واعتاده نوع من المشقة.
قوله: فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ يعني انتهت حاجته من سفره.
قوله: فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ، فيه: الإسراع والعجلة إلى الأهل والولد، واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على كراهية التغرب عن الأهل لغير حاجة، وقالوا: إن الحديث فيه استحباب الرجوع إلى الأهل، ولا سيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات والقوة على العبادة.
وقد ذكر بعض الشراح أن هذا الحديث لا يعارض حديث: سَافِرُوا تَصِحُّوا [(236)]، ومعناه أن السفر فيه صحة؛ لأنه نوع من أنواع الرياضة، ولا ينافي ذلك أن يكون قطعة من العذاب؛ لما فيه من المشقة، فالسفر فيه صحة وفيه مشقة، فصار كالدواء المُرِّ المعطى للصحة، وإن كان في تناوله كراهة.
وبعضهم استنبط كالخطابي من هذا الحديث تغريب الزاني أي: أن الزاني يغرب عن البلد التي فعل فيها الفاحشة؛ لأنه قد أمر بتعذيبه والتغريب نوع من التعذيب.
فائدة: ذكر الشارح رحمه الله أنه: «سئل إمام الحرمين حين جلس موضع أبيه: لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: لأن فيه فراق الأحباب» .
المتن:
باب الْمُسَافِرِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُعَجِّلُ إِلَى أَهْلِهِ
1805 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَبَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ شِدَّةُ وَجَعٍ؛ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا.
الشرح:
قوله: «بَابُ الْمُسَافِرِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُعَجِّلُ إِلَى أَهْلِهِ» . هذه الترجمة فيها بيان مشروعية تعجيل المسافر إلى أهله إذا جد به السير، يعني إذا اهتم به وأسرع فيه.
وقوله: «يُعَجِّلُ إِلَى أَهْلِهِ» جواب لسؤال: ماذا يصنع من رجع من سفره وجد به السير؟
1805 ذكر المؤلف حديث ابن عمر، وفيه:
قوله: «صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ» هي: زوجة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي ادعى النبوة.
قوله: «شِدَّةُ وَجَعٍ؛ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ» ؛ فيه: مشروعية التعجيل للمسافر إذا بلغه عن أهله شيء يستدعي الإسراع.
قوله: «حَتَّى كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ» ؛ والعتمة تعني العشاء.
قوله: «جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا» فيه: جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر.
والشاهد من الحديث: مشروعية تعجيل المسافر إذا بلغه عن أهله شيء يستدعي الإسراع، وأنه إذا جد به السير في رجوعه يعجل إلى أهله.