المتن:
(28) كِتَاب المُحْصَرِ
باب الْمُحْصَر وَجَزَاءِ الصَّيْدِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
وَقَالَ عَطَاءٌ: الإِْحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ.
حصورًا: لا يأتي النساء
الشرح:
قوله: «وقوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البَقَرَة: 196]» معنى أحصرتم: أي منعتم من الوصول إلى مكة بعد الإحرام، فإذا أحرم الإنسان بحج ثم منع من دخول مكة، أو منع من الوقوف بعرفة، أو منع من الطواف فيقال له: مُحصَر.
قوله: « فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» يعني: فاذبحوا ما استيسر من الهدي، والمراد بما استيسر: شاة، مثل التي يذبحونها في الأضحية، وهو من الضأن ما له ستة أشهر، ومن المعز ما له سنة.
قوله: وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» يعني: لا يحلق الإنسان رأسه ولا يتحلل حتى يذبح, فإذا أحرم إنسان بحج أو عمرة فإنه لا يتحلل من إحرامه إلا بواحدة من ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يكمل الحج أو العمرة، فهذا أُتمَ ما عليه فله أن يتحلل.
الأمر الثاني: أن يكون خائفًا أن يحصر وقد اشترط فقال: لبيك عمرة، أو لبيك حجًّا، وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، ففي هذه الحالة إذا منعه مانع فحبسه عن عمرته أو حجه فله أن يتحلل ولا شيء عليه؛ لأنه اشترط على ربه؛ لما ورد في حديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي ﷺ أنها قالت: يا رسول الله, إني أريد الحج وأنا شاكية ـ تعني: أنها مريضة تشكو ـ فقال ﷺ: حُجِّي وَاشْتَرِطِي [(237)] ثم بين الاشتراط في الرواية الأخرى بقوله لها : قُولِي، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَمَحِلِّي مِنَ الْأَرْضِ حَيْثُ تَحْبِسُنِي، فَإِنَّ لَكِ عَلَى رَبِّكِ مَا اسْتَثْنَيْتِ [(238)] وهذا الحديث كان الأولى بالمؤلف أن يأتي به هنا، لكنه أخرجه في «كتاب النكاح» يستشهد به هناك على أن الكفاءة تعتبر بالدين لا بالنسب والحسب؛ لأن ضباعة وهي حرة قرشية كانت تحت المقداد بن الأسود، والمقداد هو ابن عمرو ونسب إلى الأسود بن عبد يغوث الزهري لكونه تبناه فكان من حلفاء قريش، فلولا أن الكفاءة لا تعتبر بالنسب وإنما تعتبر بالدين ما رضيت هي ولا أولياؤها به.
فهذا دليل على أن المؤلف رحمه الله تراجمه دقيقة، وفقهه كذلك.
الأمر الثالث: أن يحصر ويُمنع من حجه أو عمرته ولم يشترط، ففي هذه الحالة لا يتحلل حتى يذبح شاة، ثم يحلق رأسه، ثم يتحلل، فإن لم يجد شاة صام عشرة أيام ثم تحلل.
فإذا أحرم بحج أو عمرة لا يتحلل إلا بواحدة من هؤلاء، ومن هنا يتبين خطأ ما يفعله بعض الجهال من كونه يحرم فإذا وجد زحامًا تحلل وذهب إلى أهله، وهذا الرجل في الحقيقة لم يتحلل بل هو باق على إحرامه ولو جلس مائة سنة، فلابد أن يرجع ويكمل الحج أو يكمل العمرة، وهو ممنوع من زوجته إذا كانت له زوجة، وممنوع من محظورات الإحرام.
قوله: «وَقَالَ عَطَاءٌ: الإِْحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ» . هذه مسألة وقع فيها الخلاف، هل الإحصار خاص بالعدو أم هو عام؟ قولان لأهل العلم:
القول الأول: إنه خاص بالعدو، وهو قول ابن عباس: «لا يكون الإحصار إلا بالعدو» ؛ لأن النبي ﷺ أحصر في عمرة الحديبية بالعدو، ومنعته قريش من الدخول.
القول الثاني: إن الإحصار عام لكل ما يمنع من دخول مكة، يعني سواء كان الإحصار بالعدو أو بالضياع عن الطريق، أو ضياع النفقة، أو مرض، أو كسر، أو عرج؛ لما في حديث الحجاج ـ وسيأتي: مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ [(239)].
وكأن المؤلف رحمه الله اختار أن الإحصار عام؛ ولهذا ذكر قول عطاء فقال: «وَقَالَ عَطَاءٌ: الإِْحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ» ، وهذا هو المختار، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي اقتصاره على تفسير عطاء إشارة إلى أنه اختار القول بتعميم الإحصار، وهي مسألة اختلاف بين الصحابة وغيرهم، فقال كثير منهم: الإحصار من كل حابس حبس الحاج من عدو ومرض وغير ذلك، حتى أفتى ابن مسعود رجلاً لدغ بأنه محصر، أخرجه ابن جرير بإسناد صحيح عنه، وقال النخعي والكوفيون: الحصر الكسر والمرض والخوف، واحتجوا بحديث حجاج بن عمرو الذي سنذكره في آخر الباب» ، ولفظه: مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ [(240)] ثم قال الحافظ: «وأثر عطاء المشار إليه وصله عبد بن حميد، عن أبي نعيم، عن الثوري، عن ابن جريج، عنه» .
ثم قال الحافظ: «وقال آخرون: لا حصر إلا بالعدو، وصح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه عبدالرزاق، عن معمر، وأخرجه الشافعي، عن ابن عيينة كلاهما، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لا حصر إلا من حبسه عدو فيحل بعمرة وليس عليه حج ولا عمرة» . وروى مالك في «الموطأ» والشافعي عنه، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، قال: «من حبس دون البيت بالمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت» . وروى مالك، عن أيوب، عن رجل من أهل البصرة، قال: خرجت إلى مكة حتى إذا كنت بالطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة وبها عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر والناس، فلم يرخص لي أحد في أن أحل، فأقمت على ذلك الماء تسعة أشهر، ثم حللت بعمرة. وأخرجه ابن جرير من طرق، وسمى الرجل يزيد بن عبدالله بن الشخير، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، قال الشافعي: جعل الله على الناس إتمام الحج والعمرة، وجعل التحلل للمحصر رخصة، وكانت الآية في شأن منع العدو فلم نعد بالرخصة موضعها.
وفي المسألة قول ثالث حكاه ابن جرير وغيره: أنه لا حصر بعد النبي ﷺ» . ولكن هذا القول لا وجه له.
جاء في نسخ صحيح البخاري قوله: «قال أبو عبد الله: وَحَصُورًا [آل عِمرَان: 39] لا يأتي النساء» هذا في وصف يحيى ، ولكن الإحصار من أحصر يحصر وهو متعدٍّ، وأما ُ ِ من حصر فهو فعل ثلاثي، ولا فرق بينهما؛ لأن كلًّا من الإحصار والحصر يجتمعان في المنع، فالمحصور أيضًا يمكن أن يطلق على الذي لا يأتي النساء أو الممنوع من إتيان النساء.
إن استطاع أن يذبح في مكة، أو يرسل بالهدي إلى مكة فعل، وإلا ذبح في المكان الذي أحصر فيه، ثم يحلق رأسه ويتحلل. ولا بأس أن يأكل منه.
المتن:
إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ
1806 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ قَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ.
1807 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما لَيَالِيَ نَزَلَ الْجَيْشُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالاَ: لاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ تَحُجَّ الْعَامَ وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ النَّبِيُّ ﷺ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْطَلِقُ فَإِنْ خُلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ وَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَنَا مَعَهُ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَهْدَ وَكَانَ يَقُولُ: لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ.
1808 حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَهُ لَوْ أَقَمْتَ بِهَذَا.
الشرح:
قوله: «بَابٌ إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ» . هذا الباب عقده المؤلف لبيان أن المحصر قد يحصر عن العمرة، وقد يحصر عن الحج، والحكم واحد، فإذا أحرم بالعمرة أو بالحج ثم منع من الوصول إلى البيت فإنه يذبح هديًا ثم يحلق رأسه ثم يتحلل.
1806 ذكر البخاري رحمه الله حديث عبدالله بن عمر لما خرج إلى مكة معتمرًا في الفتنة ـ يعني الحرب التي كانت بين عبدالله بن الزبير وبين عبدالملك بن مروان؛ لأن عبدالله بن الزبير بويع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية، بايعه أهل الحجاز خليفة على الناس، فبايعه أهل مكة وأهل المدينة وأهل الطائف حتى وصل إلى الشام، ثم بعد ذلك جاء مروان بن الحكم ودعا لنفسه بالخلافة، ثم توفي ولم يحصل له إلا بلدة أو بلدتان في أول الأمر، ثم قام بعده ابنه عبدالملك بن مروان، ولم يزل يأخذ الشام بلدة بلدة حتى استولى على الشام، ثم بعد ذلك صار يقاتل عبدالله بن الزبير ويرسل له الجيوش، فأخذ الشام والعراق ووكل المهمة إلى الحجاج بن يوسف، فكان الحجاج بن يوسف يرسل الجيوش إلى مكة يقاتل عبدالله بن الزبير، حتى يخضعه ويخرجه من الخلافة فتكون الخلافة لعبد الملك بن مروان، فكان هذا العام الذي أرسل فيه الحجاج بن يوسف الجيوش إلى مكة ـ وكان عبدالله بن عمر كثير الحج والعمرة لا يتخلف عنهما، فقال له أبناؤه: لو تخلفت هذا العام؛ نخشى عليك من الفتنة، يعني هذه الحرب الدائرة، فقال عبدالله: «إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» يعني: إن منعوني ذبحت، وحلقت رأسي، وتحللت، كما فعل النبي ﷺ عام الحديبية، في السنة السادسة من الهجرة، لما منعه الكفار، فذبح هديه، وحلق رأسه، وتحلل.
1807، 1808 أعاد البخاري رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما من طريق آخر؛ لأنه أكمل من الذي قبله، ومبين للذي قبله.
قوله: «عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما» ، فيه: مشروعية نصيحة الأبناء للآباء، مع مراعاة آداب النصيحة.
قوله: «نَزَلَ الْجَيْشُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ» يعني: جيش الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان ذلك عام ثلاث وسبعين من الهجرة.
قوله: «وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» أي: ألزمت نفسي ذلك، وكأنه أراد تعليم من يريد الاقتداء به، وإلا فالتلفظ ليس بشرط، وظاهره أن ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى الاشتراط، وإلا لقال: محلي حيث حبستني، وسيأتي ذكر الخلاف في الاشتراط، وأن الراجح مشروعية الاشتراط من خوف أو مرض أو ضياع النفقة أو إضلال الطريق، أو ما يشبه ذلك.
قوله: «وَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ» . فيه: أن الصحابة كانوا يستعملون القياس ويحتجون به.
قوله: إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ أي: الحج والعمرة الحكم فيهما واحد، إن منعت من الحج أو من العمرة تحللت بالهدي والحلق.
قوله: حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ. وقع في نسخة: «حتى دخل يوم النحر» .
قوله: «وَكَانَ يَقُولُ: لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ» المراد به الطواف بين الصفا والمروة كما في حديث عائشة: «فطاف الذين حلوا بالبيت وبين الصفا والمروة طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم» [(241)]، فالمراد به الطواف بين الصفا والمروة لا الطواف بالبيت؛ لأنه لابد له من طواف الإفاضة بعد عرفة، هذا هو الذي يقصده ابن عمر، وقيل: المراد بالطواف الطواف بالبيت، وهذا بعيد من ابن عمر؛ لأنه لا يخفى عليه السنة.
المتن:
الشرح:
1809 ثم ذكر البخاري حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه:
قوله: «قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» يعني: أحصر عام الحديبية.
قوله: «فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَجَامَعَ نِسَاءَهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ» أراد أنه تحلل تحللاً كاملاً، والواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تقتضي الجمع.
قوله: «حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلاً» ، هي عمرة القضاء، والمراد أن النبي ﷺ قضاها بناء على شروط صلح الحديبية، وليس المراد أن عمرة القضاء تعني قضاء لتلك العمرة التي منعه منها كفار مكة؛ لأن العمرة التي أحصر فيها عمرة تامة، وتسمى عمرة الحديبية، والثانية تسمى عمرة القضاء، فلا يجب القضاء على المحصر بالعمرة أو الحج إذا كان قد أدى الفريضة.
وقال بعضهم: غرض المصنف رحمه الله من هذه الترجمة الرد على من قال: التحلل بالإحصار خاص بالحج بخلاف المعتمر فلا يتحلل، والصواب أن المعتمر مثل الحاج؛ ولهذا قال ابن عمر لما أهل بالعمرة: «وَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ» ومقصوده أن يفعل كما فعل عندما أحصر في صلح الحديبية، لكن بعض العلماء يرى أن العمرة ليس فيها إحصار، فيبقى على إحرامه حتى يعتمر؛ لأن العمرة وقتها موسع، فكل السنة وقت لها، فيبقى على إحرامه حتى يستطيع الطواف بالبيت، وهذا قول مرجوح، والصواب: أن الإحصار يكون بالحج ويكون بالعمرة.
المتن:
باب الإِْحْصَارِ فِي الْحَجِّ
1810 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرنِي سَالِمٌ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنْ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلاً فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا.
وعن عبدالله، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: حدثني سالم، عن ابن عمر نحوه.
الشرح:
قوله: «بَابُ الإِْحْصَارِ فِي الْحَجِّ» . هذه الترجمة فيها بيان أن الإحصار كما يكون في العمرة يكون أيضًا في الحج.
1810 أورد في الباب حديث ابن عمر، أنه كان يقول: «أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنْ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلاً فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا» .
قوله: «حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» ، أي: تمسكوا والزموا سنة نبيكم ﷺ.
قوله: «إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنْ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ» ، أي: إذا أمكنه الطواف. «وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ» ، يعني: إذا كان أحدكم حاجًّا ومُنع من الوقوف بعرفة فعليه ـ إن أمكنه ـ أن يطوف بالبيت وبالصفا والمروة، ويتحلل بعمرة.
قوله: «حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلاً» يعني: إن لم يكن حج الفريضة فيلزمه الحج، وإن كان حج الفريضة فلا يجب عليه القضاء، على الصحيح من أقوال أهل العلم.
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله الخلاف في الاشتراط في الحج، وأن بعض العلماء منع الاشتراط في الحج، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى الاشتراط، ونص الاشتراط جاء صريحًا في قصة ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بنت عم النبي ﷺ أنها قالت: إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فما تأمرني؟ قال: «أهلي بالحج واشترطي أن محلي حيث تحبسني» [(242)].
قال الحافظ: «وصح القول بالاشتراط عن عمر، وعثمان، وعلي، وعمار، وابن مسعود، وعائشة، وأم سلمة، وغيرهم من الصحابة، ولم يصح إنكاره عن أحد من الصحابة إلا عن ابن عمر» ، كأن ابن عمر لا يراه؛ ولهذا لم يشترط، «ووافقه جماعة من التابعين، ومن بعدهم من الحنفية والمالكية» .
وقد ذكر الحافظ أن الذي تحصل من الاشتراط في الحج والعمرة أقوال:
القول الأول: مشروعيته، ثم اختلف من قال به.
فقيل: واجب؛ لظاهر الأمر، وهو قول الظاهرية.
وقيل: مستحب، وهو قول أحمد، وغلط من حكى عنه إنكاره.
وقيل: جائز، وهو المشهور عند الشافعية، وقد صحح الحافظ أن الشافعي نص على ذلك في القديم، وعلق القول بصحة الحديث في الجديد، فصار الصحيح عنه القول به، وبذلك جزم الترمذي عنه[(243)].
وأما الفقهاء ـ الحنابلة[(244)] وغيرهم ـ فإنهم يقولون: يشرع الاشتراط لكل أحد، ويقولون: إذا أراد الإحرام يقول: «لبيك حجًّا وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني» .
القول الثاني: أنكروا مشروعية الاشتراط، وأجابوا عن حديث ضباعة بأجوبة:
منها: أنه خاص بضباعة، حكاه الخطابي، قال النووي[(245)]: وهو تأويل باطل.
القول الثالث: معناه: محلي حيث حبسني الموت إذا أدركتني الوفاة انقطع إحرامي، حكاه إمام الحرمين، وأنكره النووي، وقال: إنه ظاهر الفساد.
القول الرابع: أن الشرط خاص بالتحلل من العمرة لا من الحج، حكاه المحب الطبري، وقصة ضباعة ترده.
القول الخامس: ما ذهب إليه بعض المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(246)] أنه لا يشترط إلا إذا كان خائفًا كحال ضباعة، فإن كان خائفًا من عدو أو خائفًا من وجع أو مرض يشترط، وإلا فإنه يحسن الظن بالله ولا يشترط.
والراجح: أن الذي يشترط هو الخائف ألا يكمل حجه، أو يخاف أن يصده أحد، كما هو ظاهر حديث ضباعة أنه خاص بمن كان يخشى ألا يكمل حجه؛ لأنها قالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا وجعة، فقال: حُجِّي، وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي [(247)] وفي لفظ: «وأنا شاكية» [(248)]. وأما من لم يخف فعليه أن يحسن الظن بالله ولا يشترط كما فعل النبي ﷺ والصحابة.
المتن:
باب النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي الْحَصْرِ
1811 حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ.
1812 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ قَالَ: وَحَدَّثَ نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَسَالِمًا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مُعْتَمِرِينَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بُدْنَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ.
الشرح:
قوله: «بَابُ النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي الْحَصْرِ» . هذه الترجمة فيها بيان أن المحصر الذي منع من الوصول للبيت عليه أن ينحر أولاً، ثم يحلق ثانيًا، ولا يحلق إلا بعد النحر، ولم يتعرض المصنف رحمه الله لحكم من حلق قبل أن ينحر.
وهذا الحكم خاص بالمحصر بخلاف المتمتع فإنه يجوز له أن يقدم الحلق على النحر؛ للحديث الذي سبق أن النبي ﷺ وقف للناس يوم العيد فجعلوا يسألونه، فقال سائل: حلقت قبل أن أنحر؟ قال: انْحَرْ وَلاَ حَرَجَ، وقال آخر: نحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ، فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ [(249)] فهذا الحديث في شأن المتمتع.
أما المحصر فإنه لا يتحلل حتى يذبح أولاً، ثم يحلق؛ ولهذا ترجم المؤلف قال: «بَابُ النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي الْحَصْرِ» لقوله تعالى: وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البَقَرَة: 196]، قيل: إن هذه الآية في المحصرين، معطوفة على قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ [البَقَرَة: 196]، فقيل: إن هذه فيمن ساق الهدي، فمن ساق الهدي لا يحلق حتى يذبح هديه، وكذلك يفعل المحصر، أما من لم يسق الهدي وغير المحصر فإنه يجوز له أن يقدم الحلق على النحر، ولكن الأفضل أن يرتبه: فيرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يطوف، وقد قال الإمام أبو حنيفة[(250)]: إنه يجب أن يرتبها، وإن لم يرتبها فإنه يجب عليه دم. والصواب أنه ليس عليه شيء.
1811 ذكر البخاري رحمه الله حديث المسور : «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ» . فذكره مختصرًا وبالمعنى، وسيأتي مطولاً في «الشروط» .
1812 قوله: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مُعْتَمِرِينَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ» يعني: في عمرة الحديبية، وتقدم الكلام عليه قريبًا.
والشاهد منه قوله: «فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بُدْنَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ» ؛ فدل على أن المحصر يبدأ بالنحر، ثم الحلق.
المتن:
مَنْ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ
وَقَالَ رَوْحٌ: عَنْ شِبْلٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلاَ يَرْجِعُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَحْلِقُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلاَ يَعُودُوا لَهُ وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنْ الْحَرَمِ.
الشرح:
قوله: «بَابُ مَنْ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ» . هذه الترجمة أشار فيها المؤلف رحمه الله إلى وجود خلاف في المسألة.
وقوله: «بَدَلٌ» يعني: قضاء، فليس على المحصر قضاء بما أحصر فيه من حج أو عمرة إلا إذا كان لم يحج حجة الإسلام فإنه يقضيها، وهذا قول الجمهور.
وعلق البخاري رحمه الله أثرًا عن ابن عباس، قال: «إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلاَ يَرْجِعُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» .
قوله: «بِالتَّلَذُّذِ» يعني: بالجماع؛ فالذي أفسد حجه بالجماع، هذا الذي عليه قضاء الحج.
قوله: «أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ» ، أي: من مرض أو نفاد نفقة.
قوله: «وَلاَ يَرْجِعُ» ، أي: لا يرجع إن كانت حجة غير حجة الفريضة، فإن كانت فريضة فيجب عليه الرجوع، وفي رواية عن ابن عباس أيضًا: «فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه» .
قوله: «وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» . قال الشارح رحمه الله: «هذه مسألة اختلاف بين الصحابة ومن بعدهم، فقال الجمهور: يذبح المحصر الهدي حيث يحل ، سواء كان في الحل أو في الحرم؛ وقال أبو حنيفة: لا يذبحه إلا في الحرم، وفصل آخرون كما قاله ابن عباس هنا، وهو المعتمد» .
قوله: «وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَحْلِقُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلاَ يَعُودُوا لَهُ وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنْ الْحَرَمِ» . هذا هو الصواب، أن ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان، ما دام أنه منع من إيصاله إلى البيت، ولا قضاء عليه إلا إذا كان أحصر في حجة الإسلام فيقضيها.
المتن:
الشرح:
1813 هذا الحديث كرره المؤلف رحمه الله؛ لاستنباط دقائق الأحكام الفقهية منه.
قوله: «أُشْهِدُكُمْ» ، ليعلمهم السنة.
قوله: «ثُمَّ طَافَ لَهُمَا» ، يعني: للحج والعمرة.
قوله: «طَوَافًا وَاحِدًا» ، يعني: بين الصفا والمروة، كما في حديث عائشة: «فطاف الذين أحلوا بالبيت وبالصفا والمروة طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم» [(251)] والحديث في «الصحيح» ، فسمى ابن عمر رضي الله عنهما السعي بين الصفا والمروة طوافًا.
وفيه: دليل على أن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد ، وسعي واحد لحجه وعمرته، خلافًا لأبي حنيفة[(252)] القائل بأن عليه طوافين وسعيين.
قوله: «وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِيًا عَنْهُ وَأَهْدَى» ، يعني: ذبح الهدي؛ لأنه قارن، والقارن عليه هدي.
وابن عمر لم يُمنع من العمرة، وأكمل حجه وعمرته بدون إحصار
.المتن:
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ
وَهُوَ مُخَيَّرٌ فَأَمَّا الصَّوْمُ فَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ
1814 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ؟، قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: احْلِقْ رَأْسَكَ؛ وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوْ انْسُكْ بِشَاةٍ.
الشرح:
قوله: «بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ُ پ ـ لله ْ ّ ِ ُ َ ِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فَأَمَّا الصَّوْمُ فَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ» ، هذه الآية فيمن فعل محظورًا من محظورات الإحرام لأجل الحاجة، كالأخذ من الشعر، أو تقليم الأظفار، أو الطيب، أو لبس المخيط، أو تغطية الرأس، فكلها من محظورات الإحرام، وإذا احتاج المحرم أن يفعل شيئًا من هذه المحظورات مضطرًّا فعليه أن يؤدي الكفارة، وهي الفدية، والفدية واحدة من ثلاثة أمور: إما أن يذبح شاة، أو يطعم ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد، أو يصوم ثلاثة أيام، والدليل قوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، يعني: فحلق رأسه أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ،، وهو مخير بين المذكورات الثلاثة، واستفاد البخاري رحمه الله التخيير من قوله: ُ ب ِ ، فإنها تفيد التخيير.
1814 حديث كعب بن عجرة ، عن رسول الله ﷺ أنه قال: لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ؟، قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: احْلِقْ رَأْسَكَ؛ وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوْ انْسُكْ بِشَاةٍ . ففسر هذا الحديث الصيام والصدقة والنسك المذكورين في الآية؛ لأن السنة موضحة للقرآن ومفسرة له، فالآية مجملة: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البَقَرَة: 196]، ثم جاء الحديث فبين أن الصيام ثلاثة أيام، والصدقة إطعام ستة مساكين، والنسك ذبح شاة.
وقد كرر البخاري رحمه الله هذا الحديث في الأبواب الثلاثة القادمة؛ ليبين أنه الأصل.
وقاس العلماء على حلق الرأس تقليم الأظفار، أو من احتاج لتغطية رأسه؛ لأن الجو بارد، أو لحرارة الشمس المحرقة، أو لبس المخيط، فلا إثم عليه ولكن عليه الفدية، إما أن يذبح شاة، أو يطعم ستة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام، والصيام في أي مكان، والذبح والإطعام في مكة.
المتن:
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: أَوْ صَدَقَةٍ
وَهِيَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ
1815 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَيْفٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلاً فَقَالَ: يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَكَ أَوْ قَالَ احْلِقْ قَالَ فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ إِلَى آخِرِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ أَوْ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ.
الشرح:
1815 قوله: أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ الفرق: ثلاثة آصع، توزع على ستة، يعني: نصيب كل واحد نصف صاع.
قوله: أَوْ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ بينت الرواية الأخرى أنه شاة.
المتن:
باب الإِْطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ
1816 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَْصْبَهَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْفِدْيَةِ فَقَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى تَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لاَ فَقَالَ: فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ
الشرح:
وهذا هو الحديث السابق، ترجم به المؤلف رحمه الله ليبين أن الإطعام لكل مسكين نصف صاع، خلافًا لقول بعض العلماء الذين يفرقون بين القمح وغيره، ويقولون: القمح يجب فيه نصف صاع، وغيره يكون صاعًا.
والصواب: أنه نصف صاع من القمح وغيره.
وقوله: تَجِدُ شَاةً؟ لا يدل على أنه يفدي بهذا الترتيب، وإنما فيه دليل لمن قال: إن الشاة أفضل؛ لأنها أنفع للفقير.
قوله: «بَابٌُ الإِْطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ» . هذه الترجمة ترجم بها المؤلف رحمه الله ليبين ما أجمل في الحديث السابق أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ بأن الفدية نصف صاع لكل مسكين.
المتن:
باب النُّسْكُ شَاةٌ
1817 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَاشِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ؛ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ أَوْ يُهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
1818 وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَآهُ وَقَمْلُهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ مِثْلَهُ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ النُّسْكُ شَاةٌ» جعل البخاري رحمه الله كل كفارة مستقلة في باب؛ ليبين أن المحصر مخير في فعل أي من الكفارات، وذكر حديث كعب بن عجرة من طرق متعددة؛ لسعة علمه بالأسانيد وبالمتون، فكل إسناد أتى به انتقى الشاهد المناسب منه على التبويب.
1817، 1818 قوله: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ» ، يعني الآية الكريمة: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البَقَرَة: 196].
وألحق العلماء بالحلق غيره من المحظورات كتقليم الأظفار، والطيب، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، فكلها ملحقة به، فإذا فعل واحدًا منها جاهلاً أو ناسيًا فلا شيء عليه على الصحيح، وإن كان محتاجًا لأن يحلق رأسه ليداوي الجروح أو أصابه برد فعليه الفدية ولا إثم عليه، وإن كان متعمدًا وليس محتاجًا فعليه أمران: الفدية، والتوبة. وهذا هو الصواب، لكن بعض الحنابلة[(253)] يفرق بين ما فيه إتلاف وما ليس فيه إتلاف، فيقول: ما فيه إتلاف لا يعذر فيه الجاهل والناسي: والإتلاف مثل: الحلق، وتقليم الأظفار، وأما ما ليس فيه إتلاف مثل: تغطية الرأس، ولبس المخيط، فهذا يعذر فيه الجاهل والناسي.
والصواب: أنه لا فرق بين الأمرين؛ بدليل قصة الرجل الذي لبس الجبة وتضمخ بالطيب، فقال له النبي ﷺ: انزع الجبة واغسل عنك أثر الطيب [(254)] ولم يأمره بفدية؛ لأنه جاهل، والجاهل معذور.