المتن:
(29)كِتَاب جَزَاءِ الصَّيْدِ
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
الشرح:
ابتدأ هذا الباب بالآية الكريمة، آية المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المَائدة: 95]، وفيها العقوبة على المحرم الذي قتل الصيد، وأن عليه كفارة، والكفارة بيَّنها الله تعالى فقال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المَائدة: 95] وهو مخير بين واحدة من ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يدفع المثل.
الأمر الثاني: أن يقوَّم بطعام ويطعم كل مسكين نصف صاع.
الأمر الثالث: أن يصوم عن إطعام كل مسكين يومًا.
ومثال ذلك النعامة، فإن الصحابة قضوا أن فيها بدنة؛ لأنها تشبه البدنة في طول رقبتها، والضبع قضى فيه النبيﷺ بكبش[(257)]، وقضى ابن عباس في الحمامة إذا قتلها بشاة؛ وذلك لوجود الشبه بين الشاة والحمامة في عَبّ الماء، فهي تعب الماء عبًّا، أو يُقَوّم ثمن الشاة بطعام، فمثلاً إذا كانت الشاة بخمسمائة ريال، فَيُشَتري بخمسمائة ريال برًّا أو أرزًا، ويطعم كل مسكين نصف صاع، أو يصوم عن كل مسكين يومًا.
فإذا كانوا مثلاً مائة مسكين فيصوم مائة يوم، أو خمسين مسكينًا فيصوم خمسين يومًا، وهذا معنى قوله تعالى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المَائدة: 95].
وإذا قتل صيدًا لم يقض فيه الصحابة فإنه يرجع فيه إلى قول عدلين خبيرين، فتشكل لجنة من اثنين خبيرين عدلين ينظران في هذا الصيد الذي قتله فيذبح المثل أو يقومانه ويطعم كل مسكين نصف صاع، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يومًا.
وقوله : عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ [المَائدة: 95] فيه: أن ما سبق من قتل المحرم للصيد قبل العلم معفو عنه.
وقوله تعالى: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [المَائدة: 95] فيه: أن من عاد بعد العلم فقتل الصيد وهو محرم عالمًا متعمدًا فهو متوعد.
واختلف العلماء فيمن قتل الصيد.
القول الأول: قال الجمهور على أن من قتل الصيد يجب عليه الجزاء عالمًا أو ناسيًا أو جاهلاً، وقالوا: إن كونه عالمًا دلَّ عليه قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المَائدة: 95]، وجاءت السنة بإيجاب الكفارة على الناسي أيضًا والجاهل.
القول الثاني: وقال بعض أهل العلم: إن المتعمد هو الذي تجب عليه الكفارة، أما الجاهل والناسي فليس عليه كفارة؛ لأن الله قيده فقال: مُتَعَمِّدًا .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: اتفق أئمة الفتوى من أهل الحجاز والعراق وغيرهم على أن المحرم إذا قتل الصيد عمدًا أو خطأ فعليه الجزاء، وخالف أهل الظاهر وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية في الخطأ، وتمسكوا بقوله تعالى: مُتَعَمِّدًا؛ فإن مفهومه أن المخطئ بخلافه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وعكس الحسن ومجاهد فقالا: يجب الجزاء في الخطأ دون العمد، فيختص الجزاء بالخطأ والنقمة بالعمد، وعنهما يجب الجزاء على العامد أول مرة، فإن عاد كان أعظم لإثمه وعليه النقمة لا الجزاء.
قال الموفق في «المغني» : لا نعلم أحدًا خالف في وجوب الجزاء على العامد غيرهما.
واختلفوا في الكفارة، فقال الأكثر: هو مخيَّر كما هو ظاهر الآية. وقال الثوري: يقدم المثل، فإن لم يجد أطعم، فإن لم يجد صام» .
أي قال الأكثر: هو مخيَّر بين إخراج المثل أو الإطعام أو الصيام.
قال الحافظ رحمه الله: «وقال سعيد بن جبير: إنما الطعام والصيام فيما لا يبلغ ثمن الصيد. واتفق الأكثر على تحريم أكل ما صاده المحرم، وقال الحسن والثوري وأبو ثور وطائفة: يجوز أكله وهو كذبيحة السارق، وهو وجه للشافعية».
والصواب: أن ما قتله المحرم فهو ميتة لا يجوز الأكل منه، لا للمحرم ولا لغيره، بل هو أشد من الميتة، وسيأتي في التراجم الآتية حكم ما قتله الحلال من الصيد وهل يأكل منه المحرم أو لا يأكل؟
قال الحافظ: «وقال الأكثر أيضًا: إن الحكم في ذلك ما حكم به السلف لا يتجاوز ذلك وما لم يحكموا فيه يستأنف فيه الحكم، وما اختلفوا فيه يجتهد فيه. وقال الثوري: الاختيار في ذلك للحكمين في كل زمن. وقال مالك: يستأنف الحكم، والخيار إلى المحكوم عليه، وله أن يقول للحكمين: لا تحكما علي إلا بالإطعام.
وقال الأكثر: الواجب في الجزاء نظير الصيد من النعم.
وقال أبو حنيفة: الواجب القيمة ويجب صرفها في المثل.
وقال الأكثر: في الكبير كبير، وفي الصغير صغير، وفي الصحيح صحيح، وفي الكسير كسير، وخالف مالك فقال: في الكبير والصغير كبير، وفي الصحيح والمعيب صحيح.
واتفقوا على أن المراد بالصيد ما يجوز أكله للحلال من الحيوان الوحشي، وأن لا شيء فيما يجوز قتله.
واختلفوا في المتولد فألحقه الأكثر بالمأكول» .
والصواب: أن الصيد إذا كان له مثل يجب إخراج المثل، وإن لم يكن له مثل قوم بقول عدلين خبيرين، وهو مخيَّر بين إخراج المثل أو تقويمه بطعام، فيطعم كل مسكين نصف صاع، أو يصوم عن مقدار إطعام كل مسكين يومًا.
والجمهور على أنه لا فرق بين المخطئ وبين المتعمد، فالمتعمد يجب عليه الكفارة بالقرآن، والمخطئ يجب عليه بالسنة؛ لأن السنة جاءت بهذا، والظاهرية وجماعة قالوا: المخطئ ليس عليه شيء، وممن أخذ بهذا القول الثاني فضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله فإنه يأخذ بقول أهل الظاهر، فيرى أن المخطئ ليس عليه شيء، وقال: إن الله قيَّده بقوله: ُ ِ ، وتكرر هذا في بعض فتاويه ومحاضراته. وهو قول قوي.
المتن:
باب إِذَا صَادَ الْحَلاَلُ فَأَهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ أَكَلَهُ
وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ بِالذَّبْحِ بَأْسًا.
وَهُوَ غَيْرُ الصَّيْدِ نَحْوُ الإِْبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ وَالْخَيْلِ يُقَالُ: عَدْلُ ذَلِكَ مِثْلُ فَإِذَا كُسِرَتْ عِدْلٌ فَهُوَ زِنَةُ ذَلِكَ قِيَامًا قِوَامًا يَعْدِلُونَ يَجْعَلُونَ عَدْلاً.
1821 حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: انْطَلَقَ أَبِي عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ وَحُدِّثَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ عَدُوًّا يَغْزُوهُ فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِهِ تَضَحَّكَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ فَأَثْبَتُّهُ وَاسْتَعَنْتُ بِهِمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ فَطَلَبْتُ النَّبِيَّ ﷺ أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا وَأَسِيرُ شَأْوًا فَلَقِيتُ رَجُلاً مِنْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قُلْتُ: أَيْنَ تَرَكْتَ النَّبِيَّ ﷺ؟ قَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهَُِنَ وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ إِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ فَانْتَظِرْهُمْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ وَعِنْدِي مِنْهُ فَاضِلَةٌ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: كُلُوا، وَهُمْ مُحْرِمُونَ.
الشرح:
هذا الحديث مع حديث الصعب بن جثامة هما العمدة في مسألة الصيد، واستنبط العلماء منهما أحكامًا كثيرة، والمؤلف كرر هذا الحديث في التراجم حوالي أربع مرات أو خمس مرات ليستنبط منه هذا الأحكام.
قول المؤلف: «بَابٌ إِذَا صَادَ الْحَلاَلُ فَأَهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ أَكَلَهُ» . المراد بالحلال الذي لم يحرم، فإذا صاد صيدًا فأهدى من صيده للمحرم أكله بشرطين:
الشرط الأول: ألا يكون المحرم أشار إليه، بأن قال: انظر الصيد، أو قال: اقتل الصيد، أو أعانه بالسلاح.
الشرط الثاني: ألا يكون الحلال صاده للمحرم، والدليل حديث أبي قتادة المذكور في الباب، وحديث جابر مرفوعًا: صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ [(258)].
وإذا شك المحرم هل نواه الحلال له حين صاده فإنه يسأله، هل صدته من أجلي أو لغيري؟ فإن قال: صدته لك فلا يأكل منه، وإذا قال: ما صدته لك فيأكل.
أما إذا رآه يباع فاشتراه فله ذلك من غير سؤال؛ لأن هذا ليس محل تهمة، وإذا ضحك المحرمون حين رأوا الصيد فانتبه الحلال فرآه وقام وصاده فلا يعتبر هذا إشارة ولا دلالة، فلا يضر ضحكهم، وسيبين المؤلف ذلك في ترجمة آتية.
قال المؤلف: «وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ بِالذَّبْحِ بَأْسًا» ، يعني: ما يذبحه المحرم من غير الصيد؛ فإنما هو ممنوع من ذبح الصيد فقط، أما ذبح الإبل والبقر والغنم ونحوه فليس ممنوعًا منه.
والصيد إذا ذبحه المحرم فهو ميتة لا يحل له ولا لغيره.
وفسر المؤلف كلمة عَدْلٍ، في قوله: عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المَائدة: 95]، أي: مِثْل، إذا كان بفتح العين، أما إذا كسرت «عِدل ذلك» فهي بمعنى زنة ذلك.
وقوله: الْحَرَامَ قِيَامًا [المَائدة: 97]» معناها: «قِوَامًا» .
وقوله: « يَعْدِلُونَ [الأنعَام: 1]» أي: «يَجْعَلُونَ عَدْلاً» .
1821 ذكر حديث أبي قتادة فأسند «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: انْطَلَقَ أَبِي عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ» في سنة ست من الهجرة، «فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ وَحُدِّثَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ عَدُوًّا يَغْزُوهُ فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِهِ» ، وفي نسخة: «فبينا أبي مع أصحابه» ، ولعل هذه هي الأقرب، «تَضَحَّكَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» ، أي يضحكون وينظرون إلى الصيد، «فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ فَأَثْبَتُّهُ وَاسْتَعَنْتُ بِهِمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي» ، وفي اللفظ الآخر: «أنه سقط سوطه فقال: ناولوني السوط. قالوا: والله لا نعينك بشيء؛ نحن محرمون، فنزل وأخذ السوط أو تكلف أخذه» [(259)]، قال: « فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ فَطَلَبْتُ النَّبِيَّ ﷺ أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا وَأَسِيرُ شَأْوًا» ، يعني: يسرع، «فَلَقِيتُ رَجُلاً مِنْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قُلْتُ: أَيْنَ تَرَكْتَ النَّبِيَّ ﷺ؟» يعني: أين مكانه؟ «قَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهَُِنَ» وهو اسم مكان «وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا» ، السقيا قرية بين مكة والمدينة، يعني: سيصل هذه القرية في وقت القيلولة، والآن تركته بقرية تعهن، ثم وصل إليه، قال: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ» ، المراد بأهلك أصحابك، وفي اللفظ الآخر: «إن أصحابك أرسلوا» [(260)]، «إِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ» يعني: يمنعهم العدو، «فَانْتَظِرْهُمْ» ، وفي اللفظ الآخر: «فانظرهم» [(261)]، يعني: انتظر حتى يصلوا، «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ وَعِنْدِي مِنْهُ فَاضِلَةٌ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: كُلُوا، وَهُمْ مُحْرِمُونَ» ؛ لأنهم ما أشاروا ولا أعانوا ولا صاده لأجلهم؛ فلذلك أمرهم أن يأكلوا.
أما حديث الصعب بن جثامة وأن النبي ﷺ رده؛ فذلك لأنه كان رجلاً كريمًا مضيافًا، فلما سمع بقدوم النبي ﷺ صاد حمارًا، وأهداه للنبي ﷺ فردَّه عليه؛ لأنه صاده من أجله، فلما رأى ما في وجهه من الكراهة، قال له النبي ﷺ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ [(262)]، أي لم نرده عليك إلا لأنا محرمون، والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله، أو لأن المحرم لا يأخذ الصيد وهو حي؛ وظاهر الحديث أنه أعطاه إياه وهو حي، وفي بعضها أنه أعطاه رِجْل حمار، فإذا كان حيًّا فلا يأخذه المحرم، وإذا لم يكن حيًّا وكان صاده لأجله فلا يأكل منه أيضًا.
المتن:
باب إِذَا رَأَى الْمُحْرِمُونَ صَيْدًا فَضَحِكُوا فَفَطِنَ الْحَلاَلُ
1822 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ أُحْرِمْ فَأُنْبِئْنَا بِعَدُوٍّ بِغَيْقَةَ فَتَوَجَّهْنَا نَحْوَهُمْ، فَبَصُرَ أَصْحَابِي بِحِمَارِ وَحْشٍ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الْفَرَسَ فَطَعَنْتُهُ فَأَثْبَتُّهُ فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثُمَّ لَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا وَأَسِيرُ عَلَيْهِ شَأْوًا فَلَقِيتُ رَجُلاً مِنْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَقُلْتُ: أَيْنَ تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهَُِنَ وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَصْحَابَكَ أَرْسَلُوا يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ وَبَرَكَاتِهِ وَإِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يَقْتَطِعَهُمْ الْعَدُوُّ دُونَكَ فَانْظُرْهُمْ فَفَعَلَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا اصَّدْنَا حِمَارَ وَحْشٍ وَإِنَّ عِنْدَنَا فَاضِلَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لأَِصْحَابِهِ: كُلُوا، وَهُمْ مُحْرِمُونَ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ إِذَا رَأَى الْمُحْرِمُونَ صَيْدًا فَضَحِكُوا فَفَطِنَ الْحَلاَلُ» ، يعني: فلا يكون ذلك منهم إشارة له إلى الصيد؛ فيحل لهم أكل الصيد.
1822 ثم ذكر حديث أبي قتادة السابق وأعاده المؤلف لأجل استنباط الأحكام. فعن أبي قتادة، قال: «انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ أُحْرِمْ فَأُنْبِئْنَا بِعَدُوٍّ بِغَيْقَةَ فَتَوَجَّهْنَا نَحْوَهُمْ» أي: إنه لم يحرم في عمرة الحديبية وأصحابه أحرموا.
وقوله: «بِغَيْقَةَ» اسم مكان.
قوله: «فَبَصُرَ أَصْحَابِي بِحِمَارِ وَحْشٍ» يعني: وهم محرمون «فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ» وهذا فيه: دليل على أن ضحك المحرمين بعضهم إلى بعض لا يعتبر إشارة، ولا إعانة، ولا دلالة.
وفي الحديث: دليل على أن المحرمين إذا رأوا الصيد فضحكوا ففطن الحلال فصاده جاز لهم الأكل منه، وكذلك لو تراءوه ـ أي جعل بعضهم ينظر إلى بعض ـ ثم فطن الحلال من ترائيهم إياه فصاده فلا حرج عليهم أن يأكلوا؛ لأن هذا ليس بإشارة ولا إعانة ولا دلالة ولا أمر؛ ولهذا رخَّص لهم النبي ﷺ بالأكل منه فقال: كُلُوا.
وقوله: «فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الْفَرَسَ فَطَعَنْتُهُ فَأَثْبَتُّهُ فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثُمَّ لَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا وَأَسِيرُ عَلَيْهِ شَأْوًا فَلَقِيتُ رَجُلاً مِنْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَقُلْتُ: أَيْنَ تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالَ: تَرَكْتُهُ بِتَعْهَُِنَ وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَصْحَابَكَ أَرْسَلُوا يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ وَبَرَكَاتِهِ...» ، وفي الحديث السابق: «إِنَّ أَهْلَكَ» ، والمراد بالأهل هنا الأصحاب؛ فالروايات يفسِّر بعضها بعضًا، «فَانْظُرْهُمْ» ، واللفظ السابق: «فانتظرهم» ، يعني: انتظر حتى يلحقوا بك، ففعل، فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا اصَّدْنَا حِمَارَ وَحْشٍ وَإِنَّ عِنْدَنَا فَاضِلَةً» ، يعني: بقية، وقوله: «اصَّدْنَا» أصلها «اصطدنا» فحذفت الطاء وشددت الصاد.
فقال لأصحابه: «كُلُوا، وَهُمْ مُحْرِمُونَ» ؛ لأنهم لم يحصل منهم إشارة ولا دلالة ولا إعانة ولا أمرا، إنما حصل منهم مجرد الضحك.
ولا يُعترض على هذا بكون المحرم قد يكون في نيته أن يصيده له؛ فإن النية لا يعلم بها إلا الله.
وإذا نوى الحلال أن يصيده للمحرم فلا يحل للمحرم أن يأكل منه، وإذا أشكل على المحرم يسأله، هل أنت صدته لأجلنا أو لا؟ فإذا قال: صدته لأجلكم ـ لا يأكل.
وإذا سأل الحلال المحرمين فقال لهم: لم تضحكون؟ فقالوا: من الصيد، فهذا ليس بإشارة.
وإذا شارك المحرم أو أعان على الصيد فلا يحل.
المتن:
باب لاَ يُعِينُ الْمُحْرِمُ الْحَلاَلَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ
1823 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْقَاحَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلاَثٍ خ وحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْقَاحَةِ وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ فَرَأَيْتُ أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ يَعْنِي وَقَعَ سَوْطُهُ فَقَالُوا: لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إِنَّا مُحْرِمُونَ فَتَنَاوَلْتُهُ فَأَخَذْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ الْحِمَارَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَعَقَرْتُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَأْكُلُوا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ أَمَامَنَا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كُلُوهُ حَلاَلٌ.
قَالَ لَنَا عَمْرٌو: اذْهَبُوا إِلَى صَالِحٍ فَسَلُوهُ عَنْ هَذَا وَغَيْرِهِ وَقَدِمَ عَلَيْنَا هَا هُنَا.
الشرح:
1823 حديث أبي قتادة أعاده المؤلف رحمه الله في الترجمة للمرة الثالثة؛ لاستنباط الأحكام.
قوله: «بَابٌ لاَ يُعِينُ الْمُحْرِمُ الْحَلاَلَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ» ، يعني: لا يعينه بقول ـ كأن يقول: اقتل الصيد ـ أو بالدلالة ـ كأن يقول: رأيت الصيد من وراء الأكمة ـ أو بفعل ـ كأن يناوله السلاح ـ أو بالإشارة إليه.
قوله: «بِالْقَاحَةِ» القاحة: واد على نحو ميل من السقيا إلى جهة المدينة.
قوله: «فَرَأَيْتُ أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ» . يتراءون يعني: ينظر بعضهم إلى بعض، وهذا ليس إشارة ولا دلالة ولا إعانة؛ لأن هذا صيد وهو قريب منهم ويستطيعون قتله ولكنهم ممنوعون؛ لأنهم محرمون؛ ولهذا لما فطن أبو قتادة وسقط سوطه، قال: أعطوني السوط، قالوا: والله لا نعينك بشيء، فأخذه؛ ولهذا جاز لهم الأكل؛ لأنهم ما أعانوه، ثم لما عقر الصيد وسألوا النبي ﷺ قال: كُلُوهُ حَلاَلٌ.
قوله: «قَالَ لَنَا عَمْرٌو:» يعني: عمرو بن دينار.
قوله: «اذْهَبُوا إِلَى صَالِحٍ» ، أي: ابن كيسان «فَسَلُوهُ عَنْ هَذَا» .
وأبو قتادة كان حلالاً لما قتل الصيد، وقيل: إنه ما أراد الإحرام؛ لأنهم أرادوا عدوًّا من ورائهم، وقيل: إنه أحرم بعد ذلك، والمقصود أنه كان حلالاً لما قتل الصيد، وكان صاد هذا الصيد لنفسه.
وإذا احتاج المحرم إلى أكل الميتة فهل له قتل الصيد؟ فيه خلاف، وبعض أهل العلم أجاز قتله للضرورة، ويكون عليه فدية إذا استطاع.
وإذا صاده دفعًا للضرر فليس عليه شيء.
المتن:
باب لاَ يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الْحَلاَلُ
1824 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ قَالَ: أَخْبَرنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ:خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ، فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلاَّ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا وَقَالُوا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الأَْتَانِ فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا وَقَدْ كَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا ثُمَّ قُلْنَا أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا قَالَ: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟، قَالُوا: لاَ قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا.
الشرح:
1824 حديث أبي قتادة كرره المؤلف رحمه الله للمرة الرابعة، وهذا من دقائق البخاري، وهو مما يمتاز به عن مسلم وغيره، فإنه يَفْقَه النصوص ثم يترجم، فهذه التراجم كلها فقه؛ ولهذا قال العلماء: فقه البخاري في تراجمه.
فقد أتى بتراجم عظيمة استنبط فيها الأحكام، حتى إنه في بعض التراجم حير العلماء في فهمها، أما مسلم رحمه الله فإنه لا يكرر، وإنما يذكر الحديث وطرقه المتعددة في مكان واحد.
فمسلم لم يبوب، إنما وضع الكتب: كتاب الصيام، كتاب الحج... إلخ، أما التبويبات التي في مسلم فهي من وضع النووي وغيره، وكأن مسلمًا رحمه الله أراد أن يبوب؛ لأن أحاديثه مرتبة ترتيبًا دقيقًا جدًّا، فجاء الشراح فاستنبطوا التراجم من نفس الأحاديث التي جمعها ورتبها.
وهنا كرر البخاري حديث أبي قتادة للمرة الرابعة، لكن في كل مرة يكون الحديث فيه زيادة فائدة.
قوله: «بَابٌ لاَ يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الْحَلاَلُ» يعني: لا يشير المحرم، فإذا أشار فلا يأكل.
قوله: «أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ» . المراد أنهم خرجوا في عمرة الحديبية، وتسمى حجًّا لأن العمرة حج أصغر.
قوله: «فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ: خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلاَّ أَبُو قَتَادَةَ» ؛ هنا قال: «إِلاَّ أَبُو قَتَادَةَ» بالرفع، وفي رواية: «إلا أبا قتادة» [(263)] بالنصب؛ لأنه مستثنى تام موجب، ويجوز الرفع بتوجيه آخر.
قوله: «فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا» ؛ الأتان: أنثى حمار الوحش، وقد أكلوا من لحمها في أول الأمر، ثم انتبهوا فقالوا: كيف نأكل ونحن محرمون ولا نسأل؟ ثم توقفوا فسألوا النبي ﷺ فقال: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا.
وفيه: أن النبي ﷺ لما سئل قال: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ وهذا استفهام بحذف حرفه، والتقدير: أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها؟ «قَالُوا: لاَ قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا» ، فدل هذا على أنه لو أشار أحد أو أمره فإنه لا يأكل منه، ويؤخذ من مجموع النصوص تحريم هذا.
وهل يضمن أو لا يضمن الصيد؟ فيه كلام لأهل العلم، ومنهم من قال: إنه يضمن الصيد الذي قتله إذا أشار فيه أو أعانه كما لو قتل الصيد بنفسه.
المتن:
باب إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا حَيًّا لَمْ يَقْبَلْ
1825 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالأَْبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ، قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ.
الشرح:
1825 هذا حديث آخر، وهو حديث الصعب بن جثامة الليثي «أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالأَْبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ» وفي بعض الروايات: «أنه أهداه حيًّا» فإن الصعب بن جثامة كان رجلاً مضيافًا كريمًا وكان لازمًا في مكانه، فلما سمع بقدوم النبي ﷺ عليه صاد حمارًا لأجله، فأهداه للنبي ﷺ وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه، «فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ» من الكراهة، قال له النبي ﷺ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ، يعني: إلا أنا محرمون، فلو كنا غير محرمين لقبلناه؛ فالمحرم لا يأكل الصيد إذا صيد لأجله.
قال المؤلف: «بَابٌ إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا حَيًّا لَمْ يَقْبَلْ» ؛ أي: إذا أهدى الحلال للمحرم حمارًا وحشيًّا حيًّا لا يقبله؛ لأن المحرم لا يقبل الصيد الحي، الذي صيد لأجله.
فعلى هذا يكون الجمع بين حديث الصعب بن جثامة؛ حيث إن النبي ﷺ رد عليه الحمار الوحشي، وحديث أبي قتادة حيث إن النبي ﷺ قال لهم: كلوا [(264)] وهم محرمون ـ أن الصعب صاده لأجله ولهذا رده، وأن أبا قتادة لم يصده لأجل المحرمين فلهذا أكلوا منه.
والصيد إذا صاده الحلال لا يكون ميتة، أما إذا صاده الحرام فيكون ميتة ولا يأكل منه المحرم ولا غيره.
والحمار الوحشي صيد حلال لغير المحرم، والحمار الأهلي حرام، ففي الحديث: أن النبي ﷺ نهى عن لحوم الحمر يوم خيبر وقال: إِنَّهَا رِجْسٌ [(265)].
المتن:
باب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنْ الدَّوَابِّ
1826 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ.
1827 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ.
1828 حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ: أَخْبَرنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَالَتْ حَفْصَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.
1829 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يَقْتُلُهُنَّ فِي الْحَرَمِ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.
1830 حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ الأَْسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَارٍ بِمِنًى إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاَتِ وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لَأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اقْتُلُوهَا، فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا.
1831 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِلْوَزَغِ: فُوَيْسِقٌ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ.
الشرح:
هذا الباب معقود لما يقتل المحرم من الدواب، ولا يجب عليه فيه جزاء، فالفواسق إذا قتلها المحرم فليس عليه جزاء؛ لفسقها وخروجها عن طبيعة غيرها بالإيذاء.
1826، 1827، 1828، 1829 ذكر في الباب عدة أحاديث، منها: حديث عبدالله بن عمر، أن النبي ﷺ قال: خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ والتقييد بالخمس مفهوم عدد، وليس بحجة عند الجمهور، يعني: التقييد بالخمس لا يعتبر قيدًا، فإذا جاءت زيادة على الخمس فإنه يعمل بها، وعلى تقدير اعتبار العدد فيكون النبي ﷺ قاله أولاً ثم زاد ما شاركها في الحكم، كما في الحديث الآخر حيث زاد: وَالسَّبُعُ الْعَادِي [(266)]، ويلحق بها ما شاركها في العلة التي نص عليها النبي ﷺ، وهي قوله في الحديث الذي بعده: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، أصل الفسق لغة: الخروج، ومنه: فسقة الرطبة إذا خرجت عن قشرها، ومنه سمي الفاسق فاسقًا؛ لكونه خرج من الطاعة إلى المعصية، والغراب فِسْقُه أنه يأكل سنبل الزرع وين قض الدَّبَرَ، وهي الجروح التي في ظهر البعير فإذا برأت جعل ينقرها؛ فيُقتل لفسقه؛ لأنه مؤذ، وكذلك الحدأة تخطف اللحم والصبيان، وكذا الفأرة مفسدة مؤذية فويسقة؛ لأنها تطوف في البيت فتخرب الأشياء وتقطع الحبال فهي مؤذية تُقتل، والعقرب تلدغ، والحية كذلك تلدغ، والكلب العقور كذلك يعقر الناس ويؤذيهم، فهذه الدواب خرجت عن طبيعة غيرها بالإيذاء، فلهذا جاز قتلها في الحل وفي الحرم، للمحرم وللحلال، وليس في قتلها شيء لفسقها.
1831 حديث عائشة: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِلْوَزَغِ: فُوَيْسِقٌ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ» . فالوزَغ ـ ويسميه بعضهم الضاطور، والبرص أو البارصي ـ مشارك لخمس الدواب التي سماها النبي ﷺ فواسق في حديث عائشة رضي الله عنها: خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يَقْتُلُهُنَّ فِي الْحَرَمِ، وفاسق يعني: خرج عن طبيعة غيره بالإيذاء، ويسمى الوزغ فويسقًا، وجاء الأمر بقتله؛ لأنه يخرج منه مادة سامة في الطعام وفي الماء، وجاء ما يدل على أن من فسقه أنه كان ينفخ في النار التي أُلقي فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام[(267)].
وفي حديث ابن عمر الثاني قال: «حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ ﷺ» هي حفصة رضي الله عنها، كما في الحديث الذي بعده.
1830 قوله: «عَنْ الأَْسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ » هو ابن مسعود قال: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَارٍ بِمِنًى إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاَتِ وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لَأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اقْتُلُوهَا فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا فقوله ﷺ: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا ، فيه: الأمر بقتل الحية في الحرم، حيث إنه كان في غار بمنى، ومنى من الحرم؛ وذلك لأن الحية مؤذية.
قوله: «فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا ، يعني: سلمت منكم كما سلمتم منها، فأنتم سلمتم منها فلم تلدغ أحدكم، وهي سلمت فلم تقتلوها.
وفي الحديث: أن كل ما هو مشارك لخمس الدواب في الفسق يقتل.
وقولها: «وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ» ؛ جاء في الحديث الآخر الأمر بقتله، ففي «صحيح مسلم» أن من قتل الوزغ في الضربة الأولى فله مائة حسنة وفي الضربة الثانية له دون ذلك [(268)] إذن فقد أمر بقتله.
المتن:
باب لاَ يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: عَنْ النَّبِيِّ ﷺ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ.
1832 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَْمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلاً قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ﷺ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَْمْسِ، وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَقِيلَ لأَِبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لاَ يُعِيذُ عَاصِيًا وَلاَ فَارًّا بِدَمٍ وَلاَ فَارًّا بِخُرْبَةٍ خُرْبَةٌ بَلِيَّةٌ.
الشرح:
هذه الترجمة: «بَابٌ لاَ يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ» عقدها المؤلف لبيان حرمة الحرم، وأن الحرم لا يعضد شجره ولا يقطع، وكذلك لا يحش حشيشه ولا يقطع شوكه، والمراد شجره الذي نبت من المطر، ولم يزرعه الآدميون؛ أما الحشيش أو الزرع الذي يزرعه الآدميون، والشجر الذي يغرسه الآدميون، فلا بأس بقطعه.
قوله: لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ؛ في بعض ألفاظ الحديث: لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا ـ يعني: لا يحش حشيشها ـ ولا يعضد شوكها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد [(269)].
1832 قوله: «عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ» أمير المدينة من قبل يزيد بن معاوية، «وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ:» ، يعني: يرسل الجيوش إلى مكة لقتال عبدالله بن الزبير، فأبو شريح أنكر على هذا الأمير إرساله الجيوش وقتاله في الحرم، فقال له: لا يجوز القتال في الحرم، لكنه تلطف مع الأمير، فقال: «ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَْمِيرُ أُحَدِّثْكَ» ، و «أُحَدِّثْكَ» مجزومة في جواب الأمر «قَوْلاً قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ» ، يعني: هذا القول تكلم به النبي ﷺ في اليوم الثاني بعد فتح مكة « فسَمِعَتْه أُذُناي ووعاه قلبي وأبصرتْه عيناي حين تكلم به» ، يعني: أنا متأكد من هذا القول، فليس عندي شك ولا لبس، قال: «إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، حرمها الله أي منع القتال فيها، وإراقة الدماء، وقطع الأشجار، فيأمن فيها الطير، وإذا كان الطير يأمن، والشجر يأمن، واللقطة تبقى في مكانها فكيف يُرَوّع الآدمي؟!
قوله: فَلاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ؛ هذا كلام النبي ﷺ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً، أي: لا يقطع الشجر فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ﷺ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فالرخصة ساعة من نهار، والمراد بالساعة جزء من الزمان، وليس المراد الساعة المعروفة، وكانت هذه الساعة من الضحى إلى العصر، فأباح الله لنبيه ﷺ القتال حتى يتم الفتح، وفي اللفظ الآخر: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ [(270)]، فأصحاب الفيل أهلكهم الله، وسلط الله رسوله ﷺ والمؤمنين على أهل مكة يقتلونهم حتى تفتح مكة، وتصير بلد إسلام.
قال: وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَْمْسِ، أي: قد أحل الله لنبيه ﷺ القتال من أجل فتح مكة، حتى تكون بلد إسلام وينتهي الشرك والكفر، ولما حصل الفتح رجعت الحرمة كما كانت.
قوله: وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَقِيلَ لأَِبِي شُرَيْحٍ:» الصحابي الجليل: «مَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لاَ يُعِيذُ عَاصِيًا وَلاَ فَارًّا بِدَمٍ وَلاَ فَارًّا بِخُرْبَةٍ» . أي: رد عليه الأمير ـ وليس صحابيًّا ـ ردًّا سيئًا مبنيًّا على اتباع الهوى أن الحرم لا يمنع العاصي، وابن الزبير عاص لابد من قتاله بزعمه، «وَلاَ فَارًّا بِدَمٍ» أي: الذي يَقْتُل ثم يلجأ إلى الحرم فلا يعيذه، «وَلاَ فَارًّا بِخُرْبَةٍ» يقال: خُربة، وخَربة، وتفسر بالبلية، وتفسر بالسرقة والخيانة، فالذي يخون أو يسرق ثم يلجأ إلى الحرم لا يمنعه.
فكان الواجب على عمرو بن سعيد أن يقول للصحابي الجليل أبي شريح العدوي: جزاك الله خيرًا، سمعنا وأطعنا لله ولرسوله ﷺ ويمتنع، لكنه رد ردًّا سيئًا قبيحًا، وهكذا كان الأمراء الظلمة يقابلون النصوص بأهوائهم ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ وعبدالله بن الزبير صحابي جليل لم يرتكب جرمًا فيقاتل.
والشاهد من الحديث قول النبي ﷺ: وَلاَ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً.
وفي اللفظ الآخر: إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [(271)] والجمع بينه وبين الحديث الآخر: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ [(272)] أن المراد إظهار تحريم كل منهما للناس بعد أن اندثر، وإلا فالله هو المحرِّم.
المتن:
باب لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُ الْحَرَمِ
1833 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ تَحِلُّ لأَِحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ؛ لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا؟، فَقَالَ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ.
وَعَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا هُوَ أَنْ يُنَحِّيَهُ مِنْ الظِّلِّ يَنْزِلُ مَكَانَهُ.
الشرح:
هذه الترجمة أعاد فيها الحديث السابق لبيان استنباط الأحكام، فالترجمة الأولى: «لاَ يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ» ، وهنا: «لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُ الْحَرَمِ» .
1833 ساق البخاري رحمه الله حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ تَحِلُّ لأَِحَدٍ بَعْدِي يعني: ما حلَّت لأحد قبل النبي ﷺ، ولن تحل لأحد بعده وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ من الضحى إلى العصر، فأبيح القتال ليتم الفتح؛ ولهذا أهلك الله أصحاب الفيل لما غزو مكة.
وفيه: دليل على أن مكة فتحت عنوة ـ يعني: بالقوة ـ لا صلحًا، خلافًا للشافعي[(273)]، حيث يرى أن مكة فتحت صلحًا. وهو قول ضعيف، فلو كانت صلحًا لما كان هناك قتال.
قوله: لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، يعني: لا يحش الحشيش، والمراد به الحشيش الأخضر.
قوله: وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا أي: لا يقطع الشجر.
قوله: وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ المراد بالمعرِّف المُنشد، فإذا وجدت لقطة فلا تأخذها إلا إذا كان عندك استعداد أن تعرفها مدى الدهر، ولا تملك لقطة الحرم، أما اللقطة في غير الحرم فيعرِّفها الإنسان سنة، ثم بعد السنة يتملكها بعد ضبط أوصافها، فإن جاء أحد وعرف الأوصاف دفعها له، وإن لم يأت أحد فهي له.
قال شيخنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: «يلحق بها لقطة المدينة؛ لأن النبي ﷺ حرَّم المدينة، كما حرم إبراهيم مكة» [(274)].
وفي الحرم الآن لجنة في جهة الصفا يأخذون اللقطة، مكتوب عليها «استقبال المفقودات» ، فمن دفعها إليهم برئت ذمته، فإما لا فلا تأخذها، وهذا الأصل، فإن أخذتها فعرفها مدى الدهر أو سلمها للجنة التي تقبل المفقودات.
والشيء اليسير في غير الحرم الذي لا ينظر إليه يملك، مثل ريال وخمسة ريالات، والشيء اليسير هو الذي لا تتبعه همة أوساط الناس، وهو ما يمثل به العصا والسوط والبيضة.
قال العباس: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا؟، فَقَالَ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ . يحتمل أن هذا قاله النبي ﷺ بوحي من الله في الحال، أو النبي ﷺ اجتهد فأقره الله عليه.
فقول العباس: «إِلاَّ الإِْذْخِرَ» ، يعني: رخِّص لنا في أخذ الإذخر، ولو كنا في الحرم؛ لأنا نحتاجه لصاغتنا وقبورنا، وفي لفظ: «وبيوتنا» [(275)] والإذخر نبت طيب الرائحة، يجعله أهل مكة في الخلل الذي بين الخشب، فإذا سقفوا السقف ووضعوا الخشب جعلوا بينه الإذخر، وعندنا في نجد نجعل بدلها الخوص، ويجعلونه كذلك بين لبنات القبور، ونحن الآن نجعل فيها حصى صغيرة، وكذلك الصاغة يأتون بالإذخر فيشعلون به النار.
قوله: «وَعَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا هُوَ أَنْ يُنَحِّيَهُ مِنْ الظِّلِّ يَنْزِلُ مَكَانَهُ» ، يعني: إذا رأيت الصيد في الظل فلا يجوز لك أن تنفره حتى ينتقل للشمس وتجلس مكانه.
المتن:
باب لاَ يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ
وَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ : عَنْ النَّبِيِّ ﷺ لاَ يَسْفِكُ بِهَا دَمًا.
1834 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: لاَ هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا؛ فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَِحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا.
قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ قَالَ: قَالَ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ.
الشرح:
قوله: «بَابُ لاَ يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ» هذه الترجمة معقودة لبيان تحريم القتال في مكة.
قوله: «وَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ : عَنْ النَّبِيِّ ﷺ لاَ يَسْفِكُ بِهَا دَمًا» ، يعني: ما ذكره أبو شريح للأمير عمرو بن سعيد من أن رسول الله قال: فَلاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا في باب لا يعضد شجر الحرم.
1834 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس قال: «قَالَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: لاَ هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، يعني: لا هجرة بعد فتح مكة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة صارت دار إسلام، وقبل فتح مكة كان يجب على من أسلم أن يهاجر من مكة إلى المدينة؛ ليكثر سواد المسلمين، ولنصرة الرسول ﷺ والمؤمنين، فلما فتحت مكة انتهت الهجرة؛ ولهذا قال في اللفظ الآخر: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ [(276)] لكن الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام باقية إلى يوم القيامة، ففي الحديث الآخر: لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا [(277)].
قال: وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ، أي: إذا استنفركم الإمام فيجب عليكم النفير؛ لأن الجهاد يكون حيئنذ فرض عين، فإذا استنفر الإمام واحدًا من الناس أو جماعة من الناس صار الجهاد فرض عين في حقهم، وإلا فالأصل أن الجهاد فرض كفاية.
فالجهاد فرض كفاية إلا في أحوال ثلاثة يكون فيها فرض عين:
الحال الأول: إذا استنفر الإمام أحدًا من الناس صار الجهاد فرض عين في حقه.
الحال الثاني: إذا داهم العدو بلدًا من المسلمين صار فرضًا عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ولا يُحتاج في هذه الحالة إلى استئذان الأبوين، فإن لم يندفع العدو وجب على من حولهم من البلدان، وهكذا حتى يجب على المسلمين جميعًا أن يدافعوا عن إخوانهم المسلمين.
الحال الثالث: إذا وقف في الصف وجب عليه القتال، وليس له أن يفر؛ لأنه إذا فر خذل إخوانه من المسلمين.
ففي هذه الأحوال الثلاثة يصير الجهاد فرض عين، وما عداها يكون فرض كفاية.
قوله: فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يعني: مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض، وأما الحديث الآخر: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ [(278)]، يعني: أظهر تحريمها للناس.
قوله: وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَِحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. المراد بالساعة الجزء، وكانت من الصباح إلى العصر.
قوله: فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، أي: لا يقطع الشوك. وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا ، يعني: لا يحش الحشيش.
قوله: «قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ» ، أي: استثن لنا الإذخر؛ لأنه «لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ» ، والقين الحداد، وفي اللفظ الآخر: «وقبورنا» [(279)].
والحرم يشمل منى ومزدلفة ومكة، أما التنعيم وعرفة فليست من الحرم، فلا بأس بالصيد في التنعيم أو في عرفة إلا إذا كنت محرمًا، فإذا كنت حلالاً لا بأس بالصيد فيهما.
المتن:
باب الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ
وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ.
1835 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: حَدَّثَنِي طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمَا.
1836 حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَْعْرَجِ عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ.
الشرح:
قوله: «بَابُ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ» ، هذه الترجمة معقودة لبيان أنه لا بأس للمحرم أن يحتجم إذا احتاج للحجامة.
قوله: «وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ» أي: إن المحرم يتداوى ويتعالج، كأن يجعل مرهمًا ليس به طيب على جرحه، أو يستعمل القطرة مثلاً في عينه؛ لأنه من العلاج، والعلاج لا بأس به، والحجامة نوع من العلاج.
أما ما كان فيه طيب مثل الزعفران فلا يتداوى به، ولا يشربه في قهوة ولا في غيرها.
1835، 1836 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُحْرِمٌ» ، وفي حديث ابن بحينة: «احتجم النبي ﷺ وهو محرم بلحيي جمل في وسط رأسه» ، ولحيي جمل مكان قريب من مكة؛ وأما من ظن أن لحيي الجمل فكي الجمل، وأنه كان الآلة التي احتجم بها، فقد وهم ـ كما قال الشارح ـ.
وقد احتجم ﷺ في وسط رأسه في اليافوخ، ومعلوم أنه إذا احتجم ووضع المحجم فلابد أن يأخذ شعرات، فهل فدى النبي ﷺ؟
يقول الفقهاء: إذا أخذ المحرم من شعره فعليه دم، ولما حلق كعب بن عجرة رأسه أمره النبي ﷺ أن يذبح شاة أو يطعم ستة مساكين أو يصوم ثلاثة أيام[(280)]، فيحتمل أنه ﷺ فدى؛ لكن الظاهر أنه لم يفد؛ لأنها شعرات قليلة، والشعرات القليلة يعفى عنها من أجل وضع المحجم، ولا يؤثر كونه يظهر الدم، فإن كثيرًا من العامة إذا صار في أعضائه دم استعظمه، وهذا من الجهل وقلة البصيرة في الدين.
وأما قول بعض الفقهاء: إذا أخذ شعرة واحدة فعليه فدية طعام مسكين، وإذا أخذ شعرتين فعليه فدية طعام مسكينين، وإذا أخذ ثلاث شعرات فعليه فدية طعام ثلاثة مساكين؛ فهذا فيه مبالغة؛ وذهب الإمام أبو حنيفة[(281)] إلى أنه لا يفدي إلا إذا أخذ ربع شعر الرأس، فما كان أقل من الربع فلا يؤثر.
فالمقصود: أن الشعرات القليلة التي يأخذها لا تضر بالمحجم، وهذا هو الظاهر؛ فإن النبي ﷺ لم ينقل عنه أنه فدى.
وإن فدى من باب الاحتياط، أو صام ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو ذبح شاة فهو حسن.
المتن:
باب تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ
1837 حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
الشرح:
1837 هذا الحديث مع صحته إلا أن ابن عباس وهم فيه كما حقق ذلك أهل التحقيق، فقالوا: إن ابن عباس وهم في ذكره: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» ، والصواب: أنه تزوجها وهو حلال، ويدل على ذلك أمور:
الأمر الأول: أن ميمونة نفسها أخبرت أنه تزوجها وهو حلال، وهي صاحبة القصة.
الأمر الثاني: أن أبا رافع أخبر أنه تزوجها وهو حلال؛ لأنه هو الواسطة بينها وبين النبي ﷺ، وكذلك أخبر يزيد بن الأصم أن النبي ﷺ تزوجها وهو حلال وهي خالته، وخالة ابن عباس أيضًا.
الأمر الثالث: أن تزوج النبي ﷺ بميمونة كان في عمرة القضاء، وابن عباس إذ ذاك في سن العاشرة فدل ذلك على أن هذا وهم منه ، والصواب أنه تزوجها وهو حلال ﷺ، ولو قدر أنه تزوجها وهو محرم، فيحتمل أن هذا قبل النهي، ويحتمل أن هذا من خصوصياته ﷺ، وإلا فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ [(282)]، رواه مسلم في «الصحيح» ، يعني: لا يتزوج ولا يزوج غيره، وإذا عقد فيكون العقد فاسدًا، وإذا تحلل من الإحرام يعاد العقد من جديد.
ويجوز للمحرم بعد التحلل الأول كل شيء إلا النساء، أما بعد التحلل الثاني فيحل له كل شيء.
والزواج في الحرم ليس فيه إشكال.
وإذا أنزل وهو محرم في الحج سواء باستمناء أو نظر ففيه تفصيل، فإن كان قبل التحلل الأول فعليه شاة مع الاستغفار إذا كان متعمدًا وحجه صحيح، أما الجماع قبل التحلل الأول فإنه يفسد الحج.