المتن:
باب مَا يُنْهَى مِنْ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لاَ تَلْبَسْ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ.
1838 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنْ الثِّيَابِ فِي الإِْحْرَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لاَ تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ الْبَرَانِسَ؛ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلاَنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلاَ تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلاَ الْوَرْسُ، وَلاَ تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلاَ تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ.
تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ وَجُوَيْرِيَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَلاَ وَرْسٌ. وَكَانَ يَقُولُ: لا تَتَنَقَّبْ الْمُحْرِمَةُ وَلاَ تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: لاَ تَتَنَقَّبْ الْمُحْرِمَةُ.
َتَابَعَهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ.
1839 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ فَقَتَلَتْهُ فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: اغْسِلُوهُ وَكَفِّنُوهُ وَلاَ تُغَطُّوا رَأْسَهُ، وَلاَ تُقَرِّبُوهُ طِيبًا؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ.
الشرح:
قوله: «بَابُ مَا يُنْهَى مِنْ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ» . هذه الترجمة معقودة لبيان نهي المحرم والمحرمة عن الطيب، وأنهما في ذلك سواء، ولم يختلف العلماء في ذلك.
وذكر المؤلف رحمه الله أثر عائشة رضي الله عنها: «لاَ تَلْبَسْ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ» ، والزعفران والورس نوعان من الطيب، فلا تلبس المحرمة الثوب الذي فيه طيب؛ فالمُحرم ممنوع من الطيب أكلاً وشربًا ولباسًا فلا يتطيب في بدنه ولا يتطيب في ثوبه ولا يتطيب في أكله وشربه.
1838 ذكر حديث عبدالله بن عمر أنه قال: «قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنْ الثِّيَابِ فِي الإِْحْرَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لاَ تَلْبَسُوا... إلخ، والحكمة في ذلك أن الذي لا يُلْبَس محصور في ستة أشياء، والذي يُلْبَس غير محصور، فكأن النبي ﷺ قال هذه الأشياء لا يلبسها والباقي يلبسها، فهذا من جواب الحكيم حيث أجاب السائل بما هو الأنسب.
قوله: لاَ تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ واحدها القميص ويقصد به كل ثياب مخيطة على قدر الجسد، ومنها ما خيط على قدر العضو.
قوله: وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ هي: ما خيط على قدر النصف الأسفل.
قوله: وَلاَ الْعَمَائِمَ هي: التي يشد بها الرأس.
قوله: وَلاَ الْبَرَانِسَ هي: ثياب مغربية متصلة بها رءوسها.
قوله: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلاَنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ هذا مستثنى، والحديث الآخر ليس فيه أنه يقطعها بل قال: يَلْبَس الْخُفَّيْنِ [(283)] ولم يقل: وليقطعهما.
فالتي لا يلبسها المحرم: القمص، والسراويل، والعمائم، والبرانس، والخفاف، وما مسه زعفران أو ورس، فهذه ستة أشياء، والباقي يلبسها.
أما قوله: فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ هذا قاله النبي ﷺ في المدينة قبل أن يسافر للحج، ثم خطب الناس بعرفة في حجة الوداع، وقال: مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ [(284)]؛ ولم يقل: ليقطعهما أسفل من الكعبين، فاختلف العلماء في الجمع بينهما.
القول الأول: ذهب إليه الجمهور إلى أن المطلق يحمل على المقيد، وقالوا: إن حديث: فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ مطلق، وحديث الباب مقيد، فيقيد هذا بهذا.
القول الثاني: أن حديث الباب منسوخ؛ لأن النبي ﷺ قاله في المدينة، وقال في حجة الوداع: فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ ، وسمع هذه الخطبة من لم يسمعها في المدينة؛ فدل ذلك على أنه منسوخ، وقالوا: ويؤيد النسخ الأدلة التي جاءت بحفظ المال والنهي عن إضاعته، فإذا قطع الخفين أفسدها، وهذا إضاعة لماليتها.
القول الثالث: أن الأمر بالقطع محمول على الاستحباب، وعدم القطع دليل على الجواز، والذي صرف الأمر من الوجوب للاستحباب الحديث الآخر الذي ليس فيه قطع، فإذا قطعها فهو الأفضل وإن لم يقطعها فلا حرج جمعًا بين الحديثين، ويؤيد هذا أن النبي ﷺ قال: ومن لم يجد إزارًا فليلبس السراويل [(285)] ولم يقل: فليفتقهما، فإذا كان الذي لم يجد إزارًا يلبس السراويل ولا يفتقه فكذلك الذي لا يجد نعلين فيلبس الخفين ولا يقطعهما.
قوله: وَلاَ تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلاَ الْوَرْسُ، في اللفظ الآخر: وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ [(286)].
قوله: وَلاَ تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلاَ تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ. هذا خاص بالمرأة أنها لا تلبس النقاب الذي خيط على قدر الوجه، ويقال له: برقع، وإذا فتح فيه مكان العينين يقال له: النقاب، فلا تغطي وجهها بالنقاب ولا بالبرقع، ولكنها تغطي وجهها بالخمار التي تنزله من رأسها على وجهها، وكذلك لا تغطي يديها بالجورب، ولكن تغطي يديها بثيابها، فكما أن الرجل لا يغطي جسده بالمخيط ولكن يغطي جسده بالإزار والرداء، فكذلك المرأة لا تغطي وجهها بالنقاب والبرقع لكن تغطي وجهها بالخمار ولا تغطي يديها بالقفازين ولكن تغطي يديها بثيابها.
وجوارب الرِّجلين لا بأس بها للمرأة، بخلاف الرجل.
1839 ذكر المؤلف حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الرجل الذي وقصته راحلته في عرفة وهو محرم فسقط عن راحلته فمات، فقال النبي ﷺ: اغْسِلُوهُ وَكَفِّنُوهُ، وفي اللفظ الآخر قال: وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ [(287)].
قوله: وَلاَ تُغَطُّوا رَأْسَهُ، وَلاَ تُقَرِّبُوهُ طِيبًا؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ ، هذا دليل على أن المحرم ممنوع من الطيب.
وفيه: دليل على أن الميت إذا مات وهو محرم لا يقضى عنه بقية الحج؛ ولهذا قال النبي ﷺ: وَلاَ تُقَرِّبُوهُ طِيبًا؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ.
وقال بعض العلماء: هذا إذا كان في عرفة أو بعدها، أما ما قبلها فإنه يُقضى.
والصواب: وهو ظاهر الحديث أنه لا يُقضى؛ لأنه لم يقل: اقضوا عنه.
المتن:
باب الاِغْتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ.
وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا.
1840 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالأَْبْوَاءِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لاَ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ: لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ ﷺ يَفْعَلُ.
الشرح:
قوله: «بَابُ الاِغْتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ» . هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الاغتسال للمحرم، وهو جائز لا بأس به، فيجوز للمحرم أن يغتسل وأن يغسل رأسه ويغسل جسده، ولا حرج في ذلك؛ فقد ثبت أن النبي ﷺ اغتسل لما دخل مكة[(288)]، فكان ﷺ إذا نزل يبيت بما يسمى الزاهر الآن، ثم يغتسل ويدخل مكة صباحًا وهو محرم ﷺ، فدل على أن الاغتسال للمحرم لا شيء فيه.
قول ابن عباس : «يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ» فيه: أنه لا بأس أن يدخل المحرم الحمام، وهذه الحمامات لم تكن موجودة في بلاد العرب، بل وجدت في البلاد المفتوحة، وهو مكان يُؤَجّر للاغتسال، وقد يكون فيه ناس أيضًا يدلكون الإنسان بالأَجر، ولهذا جاء في الحديث: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلا يَدْخُلِ الْحَمَّامَ إِلَّا بِإِزَارٍ [(289)] يعني: بإزار يستر ما بين السرة والركبة؛ حتى لا ترى عورته، أما الحمام الذي في البيت إذا دخله الإنسان وأغلق على نفسه فلا بأس أن يخلع ثيابه ويغتسل، واستدل المؤلف رحمه الله بقول ابن عباس: «يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ» على جواز الاغتسال للمحرم؛ لأنه من المعلوم أن الإنسان إذا دخل الحمام لابد أن يغسل جسده كاملاً.
قوله: «وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا» ، يعني: للمحرم، فلا بأس أن يحك رأسه وأن يحك جسده، وهذا هو الصواب أن المحرم له الاغتسال والتنظف وله أن يحك رأسه، ولو سقط من شعره شعر ميت فلا حرج عليه؛ لأنه غير متعمد.
1840 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما، وأنهما اختلفا في غسل المحرم، فقال ابن عباس: «يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ» ، وقال المسور بن مخرمة: «لاَ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ» .
والمسور بن مخرمة وابن عباس صحابيان صغيران فلما اختلفا أرسل عبدالله ابن عباس عبدالله بن حنين إلى أبي أيوب الأنصاري وهو صحابي كبير ليسأله عن السنة في ذلك، فقال عبدالله بن حنين: «فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْب» ، أي: وجد أبا أيوب الأنصاري، والمراد بالقرنين قرنا البئر، وهما العمودان المنتصبان لتجعل البكرة بينهما، حتى ينزل الرشاء إلى البئر، وفيه دليل على أن المغتسِل إذا كان حوله أحد فلابد أن يستتر، أما إذا كان أغلق على نفسه وليس عنده أحد فلا بأس أن يخلع ثيابه ويغتسل؛ ولهذا فإن أبا أيوب الأنصاري لما كان يغتسل كان يستر بثوب.
قوله: «فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ» ، أي: سلم عبدالله بن حنين على أبي أيوب الأنصاري وهو يغتسل ولم ينكر عليه، وفيه دليل على مشروعية السلام على المغتسل، وكذا المتوضئ، أما من كان يقضي حاجته فلا يسلم عليه، ولهذا جاء في الحديث أن رجلاً سلم على النبي ﷺ وهو على حاجته فلم يرد عليه[(290)].
قوله: «فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍُ» فيه: دليل على أن المستأذن إذا سئل: من أنت؟ يسمي نفسه، وبعض الناس إذا سئل قال: أنا، وهذا غير مستحب؛ ولهذا لما استأذن رجل على النبي ﷺ قال: مَنْ؟ قال: أنا، فقال النبي ﷺ: أَنَا أَنَا، كأنه كرهها[(291)].
قال: «أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ» أي: خفض الثوب «حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ: لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ» ، فيه: دليل على أنه لا بأس بالمعاونة في الغسل والوضوء.
قوله: «ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ ﷺ يَفْعَل» فيه: وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة عند التنازع كما قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النِّسَاء: 59]. وفي رواية أن المسور بن مخرمة قال بعد ذلك: «لا أماريك أبدًا» .
وفي الحديث: الرجوع إلى العلماء عند الاختلاف؛ لأن أهل العلم يبينون الدليل من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
المتن:
باب لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ
1841 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: مَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ.
1842 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: لاَ يَلْبَسْ الْقَمِيصَ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْبُرْنُسَ وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلاَ وَرْسٌ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.
الشرح:
قوله: «بَابُ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ» . هذه الترجمة معقودة للبس الخفين عند عدم وجود النعلين، ومن المعلوم أن الرجل المحرم لا يستر رجله بما يغطي الكعب، بل لابد أن تكون رجله مكشوفة، فلا يلبس الجوارب، ولا الخفاف، أما إن لم يجد نعلين فإنه يلبس الخفين، لكن هل يقطعهما أو لا يقطعهما؟
1841، 1842 ذكر المؤلف رحمه الله حديثين:
الحديث الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي ﷺ يخطب بعرفات فقال: مَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ.
والحديث الثاني: حديث عبدالله بن عمر في خطبة النبي ﷺ في المدينة قبل سفره لحجة الوداع، وفيه أنه قال: وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.
فالحديث الثاني أسبق من الحديث الأول؛ فإن الحديث الثاني في خطبة النبي ﷺ في المدينة قبل أن يسافر للحج، والحديث الأول حديث ابن عباس في خطبته في حجة الوداع بعرفة.
مسألة: العلماء هل يقطع المحرم الخفين إذا لم يجد نعلين أو لا يقطعهما؟
الجواب: صنيع البخاري رحمه الله في الترجمة حيث إنه أورد الحديث الثاني الذي فيه الأمر بالقطع أسفل الخفين بعد الحديث الأول الذي فيه الإطلاق بلبس الخفين عند عدم النعلين ـ يدل على أنه يختار حمل المطلق على المقيد، والمطلق حديث ابن عباس والمقيد حديث ابن عمر، وهذا قول الجمهور أن المطلق يحمل على المقيد، وفي المسألة أقوال ثلاثة:
القول الأول: القول بوجوب قطع أسفل الخفين حملاً للمطلق على المقيد، وهو قول الجمهور.
القول الثاني: القول باستحباب القطع؛ حملاً للأمر بقطع الخفين على الاستحباب، والذي صرفه عن الوجوب إلى الاستحباب حديث ابن عباس، ويكون الأمر بلبسهما من غير قطع محمول على الجواز، وهذا اختيار الإمام أحمد[(292)].
القول الثالث: أن الأمر بالقطع منسوخ بقوله ﷺ في خطبة الوداع: وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ ولم يقل: فليقطعهما، وقد حضر هذه الخطبة جم غفير من الحجاج وغيرهم ولم يسمعوا خطبته الأولى في المدينة، ولا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، وأنه يؤخذ بالآخر من فعل النبي ﷺ، وقالوا: ويؤيد الأمر بالنسخ النصوص التي نهت عن إضاعة المال، وقطع الخفين فيه إفساد لهما وإضاعة لماليتهما. والأرجح القول بالنسخ، أو القول بحمله على الاستحباب، واختار هذا الإمام أحمد[(293)] وجماعة.
ويؤيد أيضًا القول بعدم القطع أن النبي ﷺ قال: وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ ولم يقل فليفتقهما، فكما أن الإنسان إذا لم يجد إزارًا لبس السراويل بدون فتق فكذلك من لم يجد نعلين لبس خفين بدون قطع.
والحديث الثاني ـ حديث ابن عمر رضي الله عنهما ـ فيه: أن السائل سأل النبي ﷺ عما يلبس المحرم من الثياب فأجابه النبي ﷺ بعكس ما طلب، فأجابه ببيان الشيء الذي لا يلبسه، وهذا من أسلوب الحكيم؛ وذلك أن الثياب التي لا يلبسها المحرم محصورة والثياب التي يلبسها لا حصر لها، فكأن النبي ﷺ قال: الثياب التي لا يلبسها المحرم سأذكرها لك والباقي يلبسها.
والقميص ما خيط على قدر البدن أو خيط على قدر عضو منه كالفانلة وغيرها.
والعمائم ما يوضع على الرأس.
والسراويلات ما خيط على قدر النصف الأسفل.
والبرنس ثياب مغربية تأتي من المغرب متصلة بها رءوسها.
والزعفران والورس نوعان من الطيب.
المتن:
باب إِذَا لَمْ يَجِدْ الإِْزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ
1843 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ الإِْزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ إِذَا لَمْ يَجِدْ الإِْزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ» . جزم المؤلف رحمه الله بالحكم؛ لأن الحديث صريح، وهو حديث ابن عباس.
1843 أورد المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس السابق، قال: «خَطَبَنَا النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ الإِْزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ ولم يقل: فليقطعهما أسفل الكعبين، فدل على أن حكمهما واحد، فالذي لا يجد الإزار يلبس السراويل ضرورة، والذي لا يجد نعلين يلبس الخفين، فلو كان الإنسان مثلاً في الطائرة وليس عنده ملابس الإحرام في حقيبته أو في الطائرة ويريد أن يحرم فإنه يخلع ثيابه ويحرم بالسراويل، فإذا نزل وأخذ الرداء والإزار فليلبسهما، ويكون معذورًا في هذه الحالة.
وكل شيء ملاصق للرأس فالمحرم ممنوع منه، بخلاف تظليل الرأس بالشمسية أو بسقف السيارة أو بالشجرة أو بالخيمة، فهذا ليس سترًا للرأس، بل إنه تظليل لها.
وإذا تغطى بلحاف ـ أو نحوه ـ فلا بأس، ولكن لا يغطي رأسه ولا وجهه.
ولا بأس بما يخاط؛ لأن المراد أن لا يلبسهما على هيئة الحلال ولو لم يكن فيه خياطة، حتى إن الإزار لو كان مقطوعًا فخيط فإنه يُلبس ولا حرج.
وإذا احتاج لتغطية الرأس لبرد أو غيره يغطي وعليه الفدية، وكذلك لو احتاج لحلق شعر رأسه لمداواة الجروح، أو احتاج إلى لبس مخيط للبرد، فإنه يفعل ويفدي، والفدية واحد من ثلاث: إما ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام، والصيام في كل مكان، والذبح والإطعام في مكة.
المتن:
باب لُبْسِ السِّلاَحِ لِلْمُحْرِمِ
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِذَا خَشِيَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلاَحَ وَافْتَدَى.
وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَةِ.
1844 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ لاَ يُدْخِلُ مَكَّةَ سِلاَحًا إِلاَّ فِي الْقِرَابِ.
الشرح:
قوله: «بَابُ لُبْسِ السِّلاَحِ لِلْمُحْرِمِ» هذه الترجمة في لبس السلاح للمحرم، ولبس السلاح للمحرم إذا احتاج إليه لا حرج فيه، وليس عليه فدية.
قوله: «وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَةِ» يعني: لم يوافقه أحد في القول بوجوب الفدية، وهذا هو الصحيح، فقول عكرمة ضعيف ليس بشيء، والصواب أنه يلبس السلاح، ولا فدية عليه إذا احتاج.
1844 ذكر المؤلف رحمه الله حديث البراء قال: «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذِي الْقَعْدَةِ» ، يعني: عمرة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة.
قوله: «فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ» ، يعني صالحوه واشترطوا عليه في الصلح أن يرجع هذا العام ولا يدخل مكة؛ ولهذا ذبح النبي ﷺ هديه وحلق رأسه وتحلل.
قوله: «حَتَّى قَاضَاهُمْ» ، يعني: صالحهم، فقالوا: لا تدخلوا مكة هذا العام، أما العام القادم فنعم، فاعتمروا من العام القادم عمرة ثانية سميت عمرة القضاء من المقاضاة، وهي المصالحة، وليس المعنى أنها قضاء للعمرة الأولى.
قوله: «لاَ يُدْخِلُ مَكَّةَ سِلاَحًا إِلاَّ فِي الْقِرَابِ» ؛ يعني: اشترطوا عليه أن لا يدخل مكة سلاحٌ إلا في القراب، أي: لا يدخلها إلا بسلاح خفيف، وهي السيوف في الغمد، ففعل ذلك، فلما اعتمر النبي ﷺ كان الصحابة يسترونه عن كفار قريش؛ خشية أن يصيبه أحد من السفهاء، وعليه فلا بأس بالسلاح عند الحاجة، والأصل أنه لا يُدخَل في مكة السلاح؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله «نقل ابن المنذر عن الحسن أنه كره أن يتقلد المحرم السيف، وتقدم في «العيدين» قول ابن عمر رضي الله عنهما للحَجّاج بن يوسف: أنت أمرت بحمل السلاح في الحرم، وقوله له: وأدخلت السلاح في الحرم، ولم يكن السلاح يدخل فيه.
وفي رواية: أمرت بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله» . فلا يحمل السلاح في الحرم إلا لحاجة أو للضرورة.
المتن:
باب دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ
وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ.
وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالإِْهْلاَلِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْحَطَّابِينَ وَغَيْرَِهُِمْ.
1845 حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَقَّتَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَِهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ.
1846 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: اقْتُلُوهُ.
الشرح:
قوله: «بَابُ دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ» هذه الترجمة معقودة لجواز دخول مكة ودخول الحرم بغير إحرام، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أنه يجب على كل داخل إلى مكة أن يحرم بحج أو عمرة، حتى لو جاء غير قاصد النسك، فلو جاء لتجارة، أو لزيارة، أو لطلب علم، أو لسياحة لابد أن يحرم بعمرة، وهذا من خصائص مكة، وذهب إلى هذا الحنابلة[(294)] وجماعة من التابعين.
وقالوا: يستثنى من تكرر دخوله مثل الحطابين الذين يتكرر دخولهم في ذلك الوقت، ومثل صاحب سيارة الأجرة الذي يتكرر دخوله الآن فهذا معفو عنه.
القول الثاني: أنه لا يجب مطلقًا.
القول الثالث: أن من قصد النسك وجب عليه الإحرام، ومن لم يقصد النسك فإنه لا يجب عليه الإحرام، وهذا هو الوسط، وهو الصواب الذي دلت عليه الأحاديث، وهو اختيار البخاري في هذه الترجمة، فمن جاء مكة وهو لا يقصد الحج أو العمرة لا حرج أن يدخل بدون إحرام، فإن كان يقصد الحج أو العمرة وجب عليه الإحرام.
ومن فقه المؤلف رحمه الله إتيانه بخبر دخول ابن عمر بغير إحرام، ثم قال رحمه الله: «وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالإِْهْلاَلِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» يعني: في قوله ﷺ: هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ [(295)] فمفهومه أن من لم يرد الحج والعمرة فلا يجب عليه الإحرام، ثم قال المؤلف رحمه الله: «وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْحَطَّابِينَ وَغَيْرَِهُِمْ» ، يعني: ما ذكر وجوب الإحرام على الحطابين الذين يتكرر دخولهم؛ لأن الحطابين لا يريدون الحج والعمرة، فدل على أن الذي لا يريد النسك لا يجب عليه، وأما من أراد النسك فإنه يجب عليه، وهذا من عظيم فقه البخاري رحمه الله.
1845 قال المؤلف رحمه الله: «حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ» ، هو ابن إبراهيم الفراهيدي، شيخ البخاري، وليس مسلم بن الحجاج صاحب «الصحيح» ، فإنه ليس شيخًا للبخاري، بل تلميذه.
قوله: «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَقَّتَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ» ، يعني الميقات لمن أراد الحج والعمرة.
قوله: «وَلأَِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَِهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ . الشاهد قوله ﷺ: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ. فمن لم يرد الحج والعمرة لا يجب عليه الإحرام منهن ولا من غيرهن.
وقوله: فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، أي: من كان دون المواقيت فإنه يحرم من بلده، فأهل جدة من جدة، وأهل بحرة من بحرة، وأهل الشرائع من الشرائع، وأهل بدر من بدر، وهكذا كل من كان دون المواقيت يحرم من بيته، حتى أهل مكة من بيوتها.
1846 ذكر المؤلف رحمه الله حديث أنس : «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ» ؛ والمغفر هو درع من الحديد يوضع على الرأس في الحرب؛ لحمايته من ضربات السيوف.
فالنبي ﷺ دخل مكة وعلى رأسه المغفر؛ لأنه لم يحرم؛ لأنه لم يرد الحج، وإنما دخل للقتال لفتح مكة؛ فدل على أن من دخل مكة لا يريد الحج والعمرة لا يجب عليه الإحرام.
وقوله: «فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ»» ، فذلك في الساعة التي أحل الله فيها للنبي ﷺ القتال في مكة، والمعنى أن ابن خطل كان يحتمي بالكعبة لعله يُعفى عنه، فقال النبي ﷺ: اقْتُلُوهُ ؛ لأنه ارتد وهجا النبي ﷺ، وكان معه جوارٍ تغني بهجاء النبي ﷺ.
المتن:
باب إِذَا أَحْرَمَ جَاهِلاً وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ جَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
1847 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ قَالَ: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ قَال: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ أَثَرُ صُفْرَةٍ أَوْ نَحْوُهُ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِي: تُحِبُّ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَنْ تَرَاهُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ.
1848 وَعَضَّ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ يَعْنِي فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ فَأَبْطَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ إِذَا أَحْرَمَ جَاهِلاً وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ» . هذه الترجمة معقودة لبيان ما يفعله الجاهل من محظورات الإحرام، ومن المعلوم أن المحرم ينزع القميص ويلبس الإزار والرداء، وإذا كان جاهلاً ولبس القميص فلا شيء عليه على الصحيح، ومثله الناسي.
قوله: «وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ جَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ» . هذا هو الصواب.
وقوله: «أَوْ لَبِسَ» ، يعني: إذا لبس المخيط جاهلاً أو ناسيًا فلا حرج عليه، وكذلك إذا حلق شعره، أو غطى رأسه، أو قلَّم أظفاره، أو تطيب جاهلاً أو ناسيًا فلا حرج عليه ولا شيء عليه.
والحنابلة[(296)] يفرِّقون بين ما فيه إتلاف وما ليس فيه إتلاف، فقالوا: ما فيه إتلاف مثل تقليم الأظفار وحلق الشعر لا يعذر فيه الجاهل، وعليه الفدية، أما ما ليس فيه إتلاف مثل تغطية الرأس ولبس المخيط والطيب فيعذر فيه الجاهل.
والصواب أنه لا فرق بينها، وليس هناك دليل على التفرقة.
أما إذا كان متعمدًا عالمًا بالحكم فإن عليه فدية إذا لبس أو تطيب أو غطى رأسه أو قلَّم أظفاره أو حلق شعره على الصحيح، والفدية كما في حديث كعب بن عجرة حيث قال له النبي ﷺ: اذبح شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام [(297)] لكن إذا كان مضطرًا فلا إثم وعليه الفدية، وإن فعل عالمًا متعمدًا من غير حاجة فعليه الفدية وعليه الإثم.
أما الصيد فإنه عليه جزاؤه، وأما إذا عقد النكاح فإنه يأثم ولا شيء عليه من الفدية، ولا ينعقد، والجماع قبل التحلل الأول يفسد الحج وبعد التحلل الأول فيه شاة، وكذلك المباشرة فيها شاة، فهذه محظورات الإحرام.
1847، 1848 استدل المؤلف رحمه الله أن الجاهل معفو عنه بحديث يعلى بن أمية، حيث قال: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ أَثَرُ صُفْرَةٍ أَوْ نَحْوُهُ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِي: تُحِبُّ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَنْ تَرَاهُ؟ فَنَزَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ: اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ، وَعَضَّ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ يَعْنِي فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ فَأَبْطَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ» . وهذا مختصر، وقد سبق في حديث آخر أنه قال: انزع الجبة واغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك [(298)] فأمره أن ينزع الجبة، أي المخيط؛ لأنه محرم، ولم يقل: عليك الفدية؛ لأنه جاهل؛ فدل على أن الجاهل معفو عنه، ولو كان يجب عليه شيء لبيَّنه النبي ﷺ؛ لأنه لا يجوز تأخيرالبيان عن وقت الحاجة.
وقوله: اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ، يعني: من الإحرام والطواف والسعي وتجنب محظورات الإحرام، بخلاف بقية أحكام الحج فإنها خاصة به دون العمرة، مثل الوقوف بعرفة، والمبيت بالمزدلفة وبمنى، ورمي الجمار.
واستدل به بعضهم على وجوب طواف الوداع للعمرة، قالوا: لأن طواف الوداع واجب في الحج، والصواب أن طواف الوداع للعمرة مستحب، وإنما يجب طواف الوداع للحج؛ لأن الناس كانوا ينفرون من كل وجه في الحج، فقال النبي ﷺ: لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ [(299)] وهذا في حجة الوداع، أما العمرة فلم يرد عنه ما يدل على أنه يجب فيها طواف الوداع.
المتن:
باب الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ
وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الْحَجِّ
1849 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ: فَأَقْعَصَتْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ قَالَ: ثَوْبَيْهِ وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي.
1850 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ فَأَوْقَصَتْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلاَ تَمَسُّوهُ طِيبًا وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلاَ تُحَنِّطُوهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا.
الشرح:
قوله: «بَابُ الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الْحَجِّ» . هذه الترجمة معقودة لبيان حكم المحرم إذا مات بعرفة قبل أن يتحلل التحلل الأول.
1849 ذكر في الباب حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ أَوْ قَالَ: فَأَقْعَصَتْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ قَالَ: ثَوْبَيْهِ وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي، وفيه: قصة الرجل الذي سقط عن دابته ومات بعرفة، فأمر النبي ﷺ ألا يغطى رأسه ولا وجهه، لأنه يبقى محرمًا، وهذا دليل على أن من مات قبل التحلل الأول لا يقضى عنه الحج ولا تؤدى عنه بقية أعماله؛ إذ لو كانت تؤدى عنه لما بقي على إحرامه، فلما أمر النبي ﷺ أن يكشف رأسه ووجهه دلَّ على أنه باق على إحرامه ولا تقضى عنه بقية المناسك، وهذا هو الصواب؛ أما إذا مات بعد التحلل الأول فمحتمل أن يؤدى عنه ومحتمل ألا يؤدى عنه.
وفيه: دليل على أن المحرم إذا مات يغسل، بخلاف الشهيد فإنه لا يغسل؛ لأن النبي ﷺ أمر بشهداء أُحُد فَدُفنوا بثيابهم ودمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم، أما المحرم إذا مات فإنه يُغَسّل؛ ولهذا قال النبي ﷺ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ والسدر وسيلة تنظيف ليس فيه طيب مثل الصابون.
وقوله: وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ قَالَ: ثَوْبَيْهِ يعني: في الإزار والرداء، فالمحرم يكفن في إزاره وردائه اللذين مات فيهما.
وقوله وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ أي: لا تغطوا رأسه؛ وذلك لأن الميت المحرم باق على إحرامه كالحي، فيمنع من الطيب وتغطية الرأس.
وقوله: وَلاَ تُحَنِّطُوهُ الحنوط نوع من الطيب أو أخلاط من الطيب، فلا يُطَيَّب المحرم إذا مات.
1850 قوله: وَلاَ تَمَسُّوهُ طِيبًا تمسوه من أَمَسَّ يُمِسُّ فيكون متعديًا، بخلاف مَسَّ يَمَسُّ، وهذا لازم من الثلاثي، ولا يتعدى إلا بالباء، فيقال: مسه بيده، أما الرباعي فإنه يقال: يُمِسُّه يده بدون الباء؛ لأنه متعد؛ ولهذا قال: وَلاَ تَمَسُّوهُ طِيبًا، ولم يقل: ولا تمسوه بطيب.
وفيه: أنه لا يغطى رأس من مات محرمًا ولا يطيب؛ لأنه باق على إحرامه.
المتن:
باب سُنَّةِ الْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ
1851 حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً كَانَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلاَ تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا.
الشرح:
قال في هذه الترجمة «بَابُ سُنَّةِ الْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ» ، وقال في الترجمة السابقة: «بَابُ الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ» ، والفرق بينهما أن الترجمة الثانية أعم والأولى أخص؛ فإن الأولى للمحرم إذا مات بعرفة، والثانية المحرم إذا مات مطلقًا سواء بعرفة أو بغير عرفة ما دام على إحرامه؛ وكرر المؤلف رحمه الله الحديث في الترجمتين ليبيِّن أن حكم المحرم واحد سواء مات قبل عرفة أو بعد عرفة ما دام لم يتحلل، وهو أنه يبقى على إحرامه فلا يغطى رأسه ويجنب الطيب.
1851 قوله: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، يعني: الإزار والرداء.
قوله: وَلاَ تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ لما جاءت الباء بعد قوله: وَلاَ تَمَسُّوهُ دلَّ على أنه ثلاثي مَسَّ يَمَسُّ، فيقال: لا تمسه بطيب، وأما الرواية المتقدمة وهي: ولا تُمِسُّوه طيبًا فمن الرباعي.
وقوله: وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، يعني: ولا تغطوا رأسه؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا.
المتن:
باب الْحَجِّ وَالنُّذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنْ الْمَرْأَةِ
1852 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ؛ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ.
الشرح:
قوله: «بَابُ الْحَجِّ وَالنُّذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنْ الْمَرْأَةِ» هذه الترجمة معقودة لشيئين:
الأول: أنه لا بأس بالحج عن الميت، ولا بأس بقضاء النذر عن الميت.
الثاني: أنه لا بأس أن تحج المرأة عن الرجل والرجل عن المرأة، فكل هذا لا حرج فيه.
1852 ذكر في الباب حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ؛ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ فيه: دليل على جواز قضاء النذر عن الميت، والحج عنه.
قوله: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ في رواية: أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ [(300)].
قوله: اقْضُوا اللَّهَ، يعني: اقضوا اللهَ دينه.
وفيه: دليل على القياس والرد على الظاهرية الذين ينفون القياس؛ فقد قاس النبي ﷺ دَين الله على دَين الآدمي.
وفيه: أن النظير له حكم النظير والمثيل له حكم المثيل.
وفيه: أن دين الله أحق بالقضاء من دين الآدمي، فإذا مات الميت وعليه زكاة تُخرج الزكاة من رأس ماله؛ لأن هذا دين الله، وإذا مات ولم يحج وهو يستطيع الحج يُحَجُّ عنه؛ لأنه دين الله ودين الله أحق بالوفاء، فكما أنه إذا مات وعليه دين لآدمي يقضى عنه فكذلك إذا مات وعليه دين لله من زكاة أو حج أو نذر فإنه يقضى عنه.
وقال بعضهم: إن هذه المرأة لم تحج فرضها، واستدلوا به على صحة الحج عن الغير ممن لم يحج عن نفسه، وهذا فيه كلام لأهل العلم، والأقرب أنه لابد أن يحج عن نفسه أولاً؛ لأن النبي ﷺ سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال ﷺ له: أحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قال: لا، قال : حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ [(301)].
وفي هذا الحديث من الفوائد: أنه يستحب للمفتي أن ينبه على وجه الدليل؛ فإن النبي ﷺ قال: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ وهذا فيه تطييب لنفس المستفتي؛ فيكون أدعى إلى إذعانه.
وفيه: دليل على أن وفاء الدين المالي عن الميت كان معلومًا عندهم مقررًا، ولهذا قاس النبي ﷺ دين الله على دين الآدمي.
وفيه: جواز صحة الحج عن الميت، وأن الميت يُحج عنه مطلقًا على الصحيح سواء كان حج نذر أو كفارة أو تطوع، أما الحي فلا يحج عنه إلا إذا كان عاجزًا، كما سيأتي في الترجمة التي بعد هذه.
وقضاء ما يجب على الميت يكون من رأس المال قبل أن تقسم التركة، فالنذر والكفارة والزكاة والحج كلها تقضى من رأس المال.
المتن:
باب الْحَجِّ عَمَّنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ
1853 حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً ح.
1854 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
الشرح:
قوله: «بَابُ الْحَجِّ عَمَّنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ» . هذه الترجمة فيها دليل على أن العاجز الذي لا يستطيع الثبات على المركوب لكبر سنه أو لضعف الخلقة أو لمرض لا يرجى برؤه فإنه يحج عنه الفريضة ولو كان حيًّا.
1853، 1854 هذا حديث المرأة الخثعمية حيث قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ فدلَّ هذا على جواز الحج عن العاجز سواء كان عجزه لكبر سنه، أو لضعف خلقته، أو لكونه مريضًا مرضًا لا يرجى برؤه، أو لكونه لا يستطيع الثبات على الراحلة ـ كالسيارة أو القطار أو الطائرة أو الباخرة ـ فإنه يحج عنه، وهذا هو الصواب.
مسألة: هل يقاس على حج الفريضة حج النفل فيحج عنه النافلة إذا كان عاجزًا؟
الجواب: فيه: خلاف، والأقرب أنه لا بأس به إذا كان عاجزًا.
أما إذا كان قادرًا ببدنه وماله ولم يحج حجة الإسلام فلا يجوز أن يحج عنه غيره، بل لابد أن يحج بنفسه، أما إذا أدى القادر فريضة الإسلام ويريد أن يتنفل فهل يحج عنه؟ فيه خلاف، قال الحنابلة[(302)] وجماعة: يحج عن الحي حج النفل ولو كان قادرًا.
والصواب: أنه لا يحج عنه إلا إذا كان عاجزًا أو ميتًا.
وإذا عوفي المريض بعدما حج عنه غيره يقول الحنابلة[(303)]: يجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام.
وقال بعض أهل العلم: إنه إذا عوفي تبين أنه غير عاجز، فيجب عليه الحج. والأقرب أنه لا يجب عليه الحج ما دام الطب قرر أنه لا يرجى برؤه، وإن حج بعد ذلك احتياطًا فهو حسن.
وفي الحديث: دليل على حج المرأة عن الرجل؛ لأن المرأة حجت عن أبيها، ويدل على النيابة في الحج عن العاجز.
المتن:
باب حَجِّ الْمَرْأَةِ عَنْ الرَّجُلِ
1855 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ ﷺ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآْخَرِ، فَقَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
الشرح:
1855 أعاد المؤلف رحمه الله حديث المرأة الخثعمية واستدل به على جواز حج المرأة عن الرجل؛ لأن المرأة الخثعمية حجت عن أبيها.
وفيه زيادة: «كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ ﷺ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآْخَرِ» .
وفي الحديث من الفوائد: إنكار المنكر باليد مع اللسان؛ وذلك أن الفضل جعل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبي ﷺ يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، وهذا إنكار باليد، وفي اللفظ الآخر: «أن الفضل كان رجلاً وضيئًا ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة» [(304)]، وفي رواية أن العباس قال له: لويت عنق ابن عمك، فقال النبي ﷺ: رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنِ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا [(305)].
واستدل بعض العلماء بهذا الحديث وبقول النبي ﷺ: لاَ تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ [(306)] على أن المحرمة تكشف وجهها، وهو قول ضعيف بل باطل، والصواب القول الآخر: أن المرأة يجب عليها ستر وجهها عن الرجال الأجانب ولو كانت محرمة، لكن تستره بغير النقاب والبرقع ـ وهو ما خيط على قدر الوجه ـ فتستره بخمار تنزله من على رأسها؛ لأن وجه المرأة كبدن المحرم، فكما أن المحرم يغطي بدنه بالإزار والرداء ولا يغطيه بالمخيط فكذلك المرأة تغطي وجهها بالخمار ولا تغطيه بالنقاب والبرقع، وكذلك اليدان لا تغطيهما بالقفازين وإنما تغطيهما بثوب.
وهذا من النصوص المشتبهة التي ترد إلى النصوص المحكمة؛ لأن النصوص محكمة في وجوب الحجاب قال الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزَاب: 53]، والحجاب هو الذي يحجب الرجل عن المرأة إما باب أو جدار أو ستار أو سترة على الوجه، وقال الله تعالى: يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ [الأحزَاب: 59]، وقال: وَلاَ يُبْدِينَ زَينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النُّور: 31]، وفي حديث الإفك قالت عائشة رضي الله عنها: «فاستيقظت باسترجاع صفوان، فخمرت وجهي بجلبابي وكان يعرفني قبل الحجاب» [(307)]، وهذا صريح في أن النساء قبل الحجاب كن يكشفن وجوههن، وبعد الحجاب يسترن وجوههن.
وعلى هذا يكون النبي ﷺ خشي على الفضل بن عباس الفتنة إما لأن صوتها جميل، أو أنه قد بدا شيء من جسدها أو وجهها دون اختيارها، أو أنه أعجبه قدها وطولها وثيابها ولا يلزم من هذا أن تكون كاشفة وجهها، فهو مجمل مشتبه يرد إلى النصوص المحكمة، والنصوص المحكمة هي الأصل، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال لا يصح به الاستدلال.
ولا يتعلق بالحديث المشتبه ويترك الحديث الواضح إلا أهل الزيغ، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ... [آل عِمرَان: 7]، وثبت في حديث عائشة أن ابتغاء الفتنة إضلال الناس والتلبيس عليهم، ففي الحديث الآخر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ [(308)]، فهذه طريقة أهل الزيغ يتعلقون بالنصوص المجملة ويتركون الأحاديث الواضحة والصريحة، وأهل الحق والراسخون في العلم يَرُدُّون النصوص المتشابهة إلى النصوص المحكمة ويفسِّرونها بها فتتفق الأحاديث ولا تختلف.
واحتج من ذهب إلى جواز كشف المرأة لوجهها أيضًا بحديث سفعاء الخدين حيث جاء أن النبي ﷺ قال للنساء: تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ، فقامت امرأة من سِطَة النساء سفعاء الخدين فقالت: لم يا رسول الله[(309)].
ولا حجة لهم في هذا الحديث؛ لأن هذا كان في المدينة قديمًا في أول الهجرة قبل الحجاب.
وفي الحديث: جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق.
وفيه: حسن خلق النبي ﷺ وتواضعه، وبُعْدُه عن الكبر، فإن أهل الكبر لا يرضون أن يكون لهم رديف، والنبي ﷺ أردف الفضل بن عباس من مزدلفة إلى منى، وأردف أسامة بن زيد من عرفة إلى مزدلفة.
المتن:
باب حَجِّ الصِّبْيَانِ
1856 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: بَعَثَنِي أَوْ قَدَّمَنِي النَّبِيُّ ﷺ فِي الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ.
1857 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلْتُ وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ أَسِيرُ عَلَى أَتَانٍ لِي وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يُصَلِّي بِمِنًى حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الأَْوَّلِ ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا فَرَتَعَتْ فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ يُونُسُ: عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
1858 حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ ابْنِ يَزِيدَ قَالَ: حُجَّ بِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ.
1859 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: لِلسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَكَانَ قَدْ حُجَّ بِهِ فِي ثَقَلِ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
قوله: «بَابُ حَجِّ الصِّبْيَانِ» هذه الترجمة معقودة لبيان أن حج الصبيان مشروع ولا بأس به، وهناك حديث أصرح مما ذكره المؤلف، وهو ما رواه الإمام مسلم في «صحيحه» : رفعت امرأة صبيًّا لها، فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ [(310)] والحديث ليس على شرط البخاري؛ ولهذا لم يذكره واكتفى بهذه الأحاديث.
1856 ذكر المؤلف حديث ابن عباس: «بَعَثَنِي أَوْ قَدَّمَنِي النَّبِيُّ ﷺ فِي الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ» وجمع اسم لمزدلفة، والثقل يعني الأمتعة؛ فدل على أن ابن عباس حج وهو صبي ولم يبلغ الحلم، وأقره النبي ﷺ؛ ولهذا قدَّمه النبي ﷺ مع الضعفة وهم النساء والصبيان في آخر الليل إلى منى ليلة العيد حتى يرموا قبل ازدحام الناس.
1857 في الحديث قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أَقْبَلْتُ وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ» يعني: قاربت البلوغ: «أَسِيرُ عَلَى أَتَانٍ لِي» الأتان أنثى الحمار «وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يُصَلِّي بِمِنًى حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الأَْوَّلِ ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا فَرَتَعَتْ فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» أي: جاء ابن عباس راكبًا الحمار، فدخل بين الصفوف وصف مع الناس.
وفيه: جواز مرور الحمار بين المأمومين، وأن ذلك لا يبطل الصلاة؛ لأن سترة الإمام سترة للمأموم، بخلاف مروره بين يدي الإمام والمنفرد فالصواب أنه يقطع صلاته؛ لما ثبت في «صحيح مسلم» أن النبي ﷺ قال: يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل: الحمار والمرأة والكلب الأسود [(311)] وذهب جمهور العلماء إلى أن المراد قطع الثواب.
والشاهد قوله: «وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ» ففيه: دليل على جواز حج الصبي.
1858 حديث السائب بن يزيد قال: «حُجَّ بِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ» فيه: مشروعية حج الصبي.
1859 حديث الجعيد بن عبدالرحمن قال: «سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: لِلسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَكَانَ قَدْ حُجَّ بِهِ فِي ثَقَلِ النَّبِيِّ ﷺ» يعني: في الأمتعة.
وفيه: مشروعية حج الصبي، وإذا كان الصبي دون التمييز فإنه يحرم عنه وليه، وإذا كان الصبي ممييزًا فإن الصبي يحرم بإذن وليه، لكن لا يجزئه عن حجة الإسلام؛ لما جاء في الحديث الآخر: أيما صبي حج ثم بلغ الحلم فعليه حجة أخرى [(312)].