المتن:
(30)أَبَواب فَضَائِل الْمَدْينَةِ
باب حَرَمِ الْمَدِينَةِ
1867 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ الأَْحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا وَلاَ يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
الشرح:
هذا الكتاب عقده المصنف رحمه الله لفضائل المدينة النبوية، وبعض الناس يقول: «المدينة المنورة» ، وليس هذا معروفًا، قال بعضهم: لعل هذا من الصوفية. وكذلك مكة المكرمة، هذه زيادة ليست معروفة، فالله تعالى سماها مكة قال: بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفَتْح: 24].
وذكر مكة في مواضع ولم يقل: المكرمة، والمدينة ولم يقل: المنورة، بل يقال: المدينة النبوية ومكة.
ثم عقد الباب الأول تحت هذا الكتاب فقال: «بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ» ، وذكر فيه حديث أنس عن النبي ﷺ أنه قال: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، و فيه دليل على أن المدينة لها حرم، كما أن مكة لها حرم.
واعلم أنه ليس في الدنيا إلا حرمان حرم مكة وحرم المدينة، واختلف في حرم ثالث وهو وادي وج، والصواب أنه ليس بحرم، وأما المسجد الأقصى فليس له حرم؛ ومن الأغلاط الشائعة قولهم مثلاً: ثالث الحرمين الشريفين؛ هذا غلط، وإنما يقال: ثالث المسجدين، ولا يقال: ثالث الحرمين؛ لأنه ليس هناك حرم ثالث.
والمسجد الأقصى مسجد مبارك، والصلاة فيه بخمسمائة صلاة، لكن ليس له حرم يُمنع فيه من قطع الأشجار وينهى فيه عن الصيد، إنما الحرم لمكة والمدينة، وجاء في الحديث الآخر تحديد حرم المدينة: مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا [(322)] واللابة: هي الأرض التي يكون أغلبها حجارة سود، ولابتاها: هما الحرتان الشرقية والغربية؛ وجاء أيضًا في الحديث الآخر: المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ [(323)]، وهما جبلان، وهذه حدودها من جهة الشمال ما بين عير إلى ثور، وثور جبل صغير أحمر خلف أحد، وعير جبل من جهة الجنوب، وحرمها بريد في بريد، والبريد ثلاثة أميال، والميل كيلو ونصف تقريبًا.
1867 قوله: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا في اللفظ الآخر أنه حرم: أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا [(324)]، فالمدينة لها حرم، فلا يقطع شجرها، ولا يقتل صيدها، كما لا يقطع شجر الحرم المكي ولا يقتل صيده، لكن حرم المدينة أخف من الحرم المكي، فالحرم المكي أغلظ، فمن قتل صيدًا في الحرم المكي فعليه الجزاء، أما الحرم النبوي ففيه خلاف، قيل: فيه الجزاء، وقيل: لا جزاء فيه، وقيل: إن من صاد في حرم المدينة أو قطع الشجر يؤخذ سلبه كسلب القتيل في الجهاد، أي: يؤخذ ما معه من السلاح والمركوب عقوبة له، فإذا كان معه مركوب أو سلاح أو ثياب زائدة عما يستر عورته تؤخذ عقوبة له.
وكذا الحرم المكي لا يجوز فيه قطع الحشيش الرطب ولو لعلف الدابة، أما الحرم المدني فيجوز احتشاش الحشيش الرطب لعلف الدابة، فدل هذا على أن حرمة الحرم المدني أخف وحرمة الحرم المكي أغلظ، وهنا قال النبي ﷺ: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا وَلاَ يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فهذا فيه: النهي عن قطع الشجر.
وفيه: تحريم الحدث في المدينة، والمراد بالحدث: ما يشمل الظلم والمعاصي والبدع وإيواء أهل البدع والتستر عليهم، فكل هذا من الحدث. وفيه الوعيد الشديد للمحدِث في المدينة؛ لأنه من كبائر الذنوب، ولهذا توعد بهذا الوعيد، ويدخل في ذلك المعاصي ولو كانت صغيرة، والبدعة أشد، وكذلك من آوى محدثًا، فكل هذا من الحدث، ولهذا فإن ابن عباس رضي الله عنهما خاف من تعظيم السيئات في مكة فسكن الطائف خوفًا من ذلك.
المتن:
الشرح:
1868 في الحديث: أن النبي ﷺ لما قدم المدينة بنى المسجد، وكان مكان مسجد النبي ﷺ قبورًا للمشركين، فأمر بالقبور فنبشت، وكان فيه نخل فأمر به فقطع، وفيه أملاك لأيتام لبعض الأنصار فقال النبي ﷺ للأنصار: ثَامِنُونِي، أي: اطلبوا ثمنه حتى أشتريه منكم؛ لأبني مكانه مسجدًا، فقال الأنصار رضوان الله عليهم: «لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ» ، تبرعوا به ، وإذا كان لأيتام صغار فمعناه أن وليه تبرع بثمنه واحتسب ثمنه للأيتام.
وأمر النبي ﷺ بنبش قبور المشركين فيه: دليل على جواز نبش قبورهم؛ لأنه لا حرمة لهم، أما قبور المسلمين فلا تنبش، وإذا احتيج إليها ومضى عليها مدة طويلة فهذا ينظر إليه من قبل العلماء.
وأمر بالنخيل فقطعت ففيه: جواز قطع النخيل في الحاجة؛ لأن النهي عن قطع النخل إذا كان لغير المصلحة، أما إن كان قطعه لمصلحة فلا حرج فيه، ومع أن النبي ﷺ رخص لهم في قطع النخل ثم شدد عليهم[(325)]، إلا أنه لا حرج في قطعه إذا اقتضت المصلحة ذلك.
وفيه: جواز بيع أملاك اليتامى من الأراضي والعقار ونحو ذلك، ونقلها إلى مكان آخر للمصلحة؛ لأن مكان مسجد النبي ﷺ كان ملكًا لبعض الأيتام.
وما جاء في النهي عن قطع الشجر فهذا خاص بما لا ينبته الآدميون، فالنبي ﷺ نهى عن قطع شجر المدينة، فقال: لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا [(326)]، فهذا في الشجر الذي لا ينبته الآدميون، أما ما زرعه الآدميون فلا بأس بقطعه، لكن المنهي عنه الحشيش الأخضر.
المتن:
الشرح:
1869 في الحديث: أن المدينة لها حرم، وحرمها ما بين لابتي المدينة، ولابتاها هما الحرتان الشرقية والغربية، وفي قول الأعرابي الذي جاء ووقع على امرأته في رمضان: والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني.
يقال: هما اللابتان وهما الحرتان، أي: من جهة الشرق والغرب، أما من جهة الجنوب والشمال فحرمها ما بين عير إلى ثور.
قال: «وَأَتَى النَّبِيُّ ﷺ بَنِي حَارِثَةَ فَقَالَ: أَرَاكُمْ يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ الْحَرَمِ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ، يعني: في داخل الحرم، وهم في سند الحرة أي: في الجانب الغربي منها في الجانب المرتفع.
والظاهر يدل على أن سكناهم يكون داخل الحرم، لكن من المعلوم أن الصلاة إنما تضاعف في نفس المسجد النبوي خاصة، والزيادة لها حكم المزيد على الصحيح، أما خارج المسجد النبوي فلا تضاعف، أما الحرم المكي ففيه خلاف قيل: إن الصلاة تضاعف داخل الحرم، وقيل: خاصة بالمسجد الذي حول الكعبة، أما الحرم النبوي فليس فيه خلاف، لكن الحرم له فضيلة؛ فيه يأمن الطير ويأمن الشجر، فإذا كان الطير يأمن والشجر يأمن، فالمسلم أولى حرمة.
وقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحَجّ: 25] فهذا من خصائص الحرم المكي، فمن أراد الإلحاد فيه إرادة جازمة يتوعد بأن الله يذيقه من عذاب أليم.
المتن:
الشرح:
1870 ثم ذكر رحمه الله حديث علي بن أبي طالب ، وفيه أحكام متعددة، منها:
قول علي : مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ، وفيه: الرد على الرافضة القائلين بأن أهل البيت خصوا بشيء عن الناس، وأن عليًّا هو الوصي بعد رسول الله ﷺ، وهو الخليفة ولكن أهل السنة كفروا وارتدوا وأخفوا النصوص التي فيها النص على أن عليًّا هو الخليفة والوصي، وهذا من اعتقادات الرافضة الخبيثة، وهذا تكذيب لله؛ لأن الله تعالى زكَّى الصحابة وعدَّلهم ووعدهم بالجنة، فمن كفّرهم فقد كذب الله، ومن كذّب الله فقد كفر، فهذا علي يقول: «مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ» ، يعني ما عندنا شيء ـ نحن أهل البيت ـ خصنا به «إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ» ، وفي اللفظ الآخر: «ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة» [(327)]، وهذه الصحيفة فيها: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، ما بين عائر يعني: جبل عائر ويقال: جبل عير إِلَى كَذَا، وقع في مسلم: إِلَى ثَوْرٍ [(328)]، وهذه حدودها من جهة الشمال والجنوب، أما حدودها من الشرق والغرب فهي ما بين اللابتين.
قوله: مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فيه: جواز لعن أهل المعاصي والظلم على العموم لا الفاسق المعين، فيجوز لعن الفساق والعصاة على العموم؛ فنقول: لعن الله السارقين، ولعن الله من شرب الخمر، ولعن الله من أكل مال اليتيم، وفي الحديث: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ [(329)] والمراد بالسارق جنسه يعني السراق جميعًا؛ لأن المُعَيّن قد يتوب، وقد يكون لم يبلغه النص، وقد يكون له عذر. وقال بعض العلماء: يُلعن المُعَيّن ـ لكن الصواب غير ذلك، وقد ثبت أن رجلاً كان يجلد في الخمر، يؤتى عند النبي ﷺ، فأتي به إلى النبي ﷺ وجلد، فقال رجل: لعنه الله، وفي رواية: أخزاه الله، ما أكثر ما يؤتى به؛ فقال النبي ﷺ: لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [(330)] فيكفي إقامة الحد، ولا يجمع بين السب والحد، وفي لفظ: لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ [(331)] وكذلك الكفار أيضًا يلعنون على العموم، فنقول: لعن الله اليهود، ولعن الله النصارى؛ أما الكافر المعين فلا يلعن إلا إذا اشتد أذاه للمسلمين؛ وأما غير الكافر فيلعن إذا كان مبتدعًا.
وفي هذه الصحيفة قوله: «لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ» قيل: الصرف الفريضة، والعدل: النافلة، والبخاري رحمه الله فسر العدل بالفداء، يعني لا يقبل منه أي فداء، قال الله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ [المَائدة: 36]، فلا يقبل منهم صرف ولا فداء، يعني: لو دفع شيئًا ليفتدي به من عذاب الله لم يقبل منه، وهذا فيه الوعيد الشديد.
وقال: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ أي: أمانهم نافذ، فإذا أمن الكافرَ واحدٌ من المسلمين حرم على غيره التعرض له؛ لأن ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم حتى لو كان عبدًا أو امرأة؛ ولهذا أجارت أم هانئ أخت علي بن أبي طالب رجلاً من الكفار أمنته، فأراد علي أن يقتله، فقالت أم هانئ: يا رسول الله إن ابن أمي يريد أن يقتل رجلاً قد أجرته فقال: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ [(332)].
قوله: فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين. أخفر يعني: نقض عهده وذمته وأمانه، ومعنى خفر ـ بغير ألف ـ معناه أمَّن. والفرق بينهما أن خفر من الثلاثي، فمن أخفر مسلمًا يعني نقض عهده وذمته فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ويدل على أن هذا من الكبائر أنّ الله لا يقبل منه صرفًا ولا عدلاً.
قوله: وَمَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، يعني: من انتسب من العبيد إلى غير مواليه، كعبد من بني تميم ينتسب إلى مزينة أو إلى قريش فهذا كفر بالنعمة، وكذلك من انتسب إلى غير آبائه وأجداده فعليه الوعيد الشديد.
والشاهد في الحديث: تحديد حرم المدينة ما بين عائر إلى كذا؛ من جهة الشمال والجنوب.
المتن:
باب فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهَا تَنْفِي النَّاسَ
1871 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ: يَثْرِبُ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ؛ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.
الشرح:
هذا الباب معقود في «فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهَا تَنْفِي النَّاسَ» أي: الشرار منهم، وهذا يكون في زمنين: في زمن النبي ﷺ، وفي زمن الدجال، لكن في زمن النبي ﷺ كان هناك نفي جزئي وليس كاملاً، مثل الأعرابي الذي جاء يبايع النبي ﷺ ثم أصيب بالحمى فطلب من النبي ﷺ أن يقيله فأبى ثلاث مرات ـ أي أراد أن يرتد عن البيعة على الإسلام ـ فلما أبى عليه النبي ﷺ خرج فقال النبي ﷺ: المَدِينَةُ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا [(333)] وهذا من الخبث الذي تنفيه المدينة، ولكن بقي فيها بعض الخبث مثل المنافقين كعبدالله بن أُبَيّ، لكن في زمن الدجال تنفي خبثها نفيًا كاملاً، كما جاء في الحديث أنها ترجف ثلاث رجفات، يأتي الدجال قرب المدينة بالسبخة أو بالجرف فينعق ثلاث نعقات؛ فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق[(334)]، ولا يبقى فيها إلا المؤمنون.
1871 ثم أورد المؤلف حديث أبي هريرة، يقول: قال رسول الله ﷺ: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى هي: المدينة، أُمِرْتُ أي: بالهجرة إليها واستيطانها.
واختلف العلماء في معنى كلمة «تَأْكُلُ الْقُرَى» قيل: المعنى تنطلق منها الجيوش إلى البلدان فتفتحها وتجبى إليها الغنائم والسبايا، أو أن أكلها يكون من الغنائم التي تأتيها، فكأنها أكلت القرى بهذا، وقيل: المعنى تَأْكُلُ الْقُرَى أي: إن الناس يهاجرون إليها فيتعلمون ويتفقهون ويتبصرون فتخلو قراهم منهم.
وقوله: تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ. الكير: معروف، وهو منفاخ الحداد الذي يُشعل به النار، والحديد إذا أحمي على النار ـ وكذلك الذهب والفضة ـ ذهب خبثه، وكذلك المدينة كالكير تنفي الخبث، فالكفار خبث فهي تخرجهم منها، وهذا كما سبق يكون نفيًا جزئيًّا في زمن النبي ﷺ، ونفيًا كليًّا في زمن الدجال.
وتسمية المدينة بيثرب مكروه؛ لأنها تسمية الجاهلية فإن اسمها المدينة، وأما قوله تعالى: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ [الأحزَاب: 13]، فهذا قول المنافقين، وهناك بعض الذين يدعون أنهم مثقفون ويسمون المدينة يثرب إعجابًا بالمنافقين، ولهذا ذكر الشارح آثارًا في النهي عن تسمية المدينة يثرب، وقال عيسى بن دينار من المالكية[(335)]: من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة.
وسبب هذه الكراهة: أن يثرب إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة، أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما مستقبح، وكان النبي ﷺ يحب الاسم الحسن، ويكره الاسم القبيح فلا تسمى المدينة يثرب، وإنما تسمى المدينة وطابة وطيبة.
واستدل به بعضهم على أن المدينة أفضل البلاد، وأنها أفضل من مكة؛ لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام، فقالوا: المدينة أفضل، وذهب إلى هذا بعض المالكية[(336)] وبعض المغاربة.
والقول الثاني: أن مكة أفضل.
واستدل الأولون بهذه الأحاديث أن المدينة تنفي خبثها، وأحاديث أخرى.
والقول الثاني هو الصواب؛ لما ثبت أن النبي ﷺ لما خرج من مكة استقبلها وقال: إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ [(337)] وهذا دليل على أن مكة أفضل.
قال بعضهم: إن مكة أحب إلى الله والمدينة أحب إلى رسول الله ﷺ، وهذا غلط؛ لأنه لا يمكن أن تخالف محبة النبي ﷺ محبة الله، فإذا كانت مكة أحب أرض الله إلى الله فمكة أحب أرض الله إلى النبي ﷺ وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم، وسيأتي باب أن الصحابة لما هاجروا أصابتهم الحمى وصاروا يتذكرون مكة ويتذكرون وديانها والأمكنة فيها، فقال النبي ﷺ: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة [(338)].
المتن:
باب الْمَدِينَةُ طَابَةٌ
1872 حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ تَبُوكَ حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: هَذِهِ طَابَةٌ.
الشرح:
1872 في الحديث: أن من أسماء المدينة طابة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فسماها النبي ﷺ طابة، وأخرجه أبو عوانة[(339)]، والطاب والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيب.
وقيل: لطهارة تربتها.
وقيل: لطيبها لساكنها.
وقيل: من طيب العيش بها.
وقال بعض أهل العلم: وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية؛ لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها.
وقرأت بخط أبي علي الصدفي في هامش نسخته من «صحيح البخاري» بخطه قال الجاحظ: أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها يجده من أقام بها، ويجد لطيبها أقوى رائحة ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب. وللمدينة أسماء غير ما ذكر، منها: ما رواه عمر بن شبة في «أخبار المدينة» من رواية زيد بن أسلم قال: قال النبي ﷺ: «للمدينة عشرة أسماء، هي: المدينة، وطابة، وطيبة، والمطيبة، والمسكينة، والدار، وجابرة ومجبورة، ومنيرة، ويثرب» [(340)] ومن طريق محمد بن أبي يحيى قال: لم أزل أسمع أن للمدينة عشرة أسماء، هي: المدينة، وطيبة، وطابة، والمطيبة، والمسكينة، والمدرى، والجابرة، والمجبورة، والمحببة، والمحبوبة؛ ورواه الزبير في «أخبار المدينة» من طريق ابن أبي يحيى مثله، وزاد: والقاصمة، ومن طريق أبي سهل بن مالك عن كعب الأحبار قال: نجد في كتاب الله الذي أنزل على موسى أن الله قال للمدينة: «يا طيبة، ويا طابة، ويا مسكينة، لا تقبلي الكنوز، أرفع أجاجيرك على القرى» ، وروى الزبير في «أخبار المدينة» من حديث عبدالله بن جعفر قال: سمى الله المدينة الدار والإيمان، ومن طريق عبد العزيز الدراوردي قال: بلغني أن لها أربعين اسمًا» .
والمقصود: أن المدينة لها أسماء متعددة.
المتن:
باب لاَبَتَيْ الْمَدِينَةِ
1873 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا حَرَامٌ.
الشرح:
قوله: «بَابُ لاَبَتَيْ الْمَدِينَةِ» اللابتان تثنية لابة؛ وهي: الحجارة السود.
1873 ذكر في الباب حديث أبي هريرة أنه كان يقول: «لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا» ؛ والظباء جمع ظبي، وهو صيد. «تَرْتَعُ» يعني: ترعى وتسعى، و «ما ذعرتها» ، يعني: ما أخفتها ولا نفّرتها؛ لأنها ترعى في الحرم، فأبو هريرة يرى أنه لا يجوز للإنسان أن يُنَفّر الصيد في حرم المدينة ولا يخيفها؛ لأنه في الحرم ولا يجوز قتل الصيد في الحرم ولا إخافته.
ثم قال: قال النبي ﷺ: مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا حَرَامٌ يعني: ما بين لابتيها الشرقية والغربية، فهذا من جهة الشرق والغرب، أما من جهة الجنوب والشمال ما بين عائر إلى ثور.
المتن:
باب مَنْ رَغِبَ عَنْ الْمَدِينَةِ
1874 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرنِي سَعِيدُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لاَ يَغْشَاهَا إِلاَّ الْعَوَافِ يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا، فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا.
الشرح:
1874 أورد المصنف رحمه الله في الباب حديثين، الأول: حديث أبي هريرة رفعه: يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ، لاَ يَغْشَاهَا إِلاَّ الْعَوَافِ. المختار أن هذا الترك كما قال النووي رحمه الله[(341)] يكون في آخر الزمان عند حشر الناس للمحشر، تحشرهم النار وتسوقهم إلى المحشر، ويؤيده قوله في آخر الحديث: وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا، فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا، أي: سقطا ميتين، وهذا في آخر الزمان قرب قيام الساعة، هذا هو الخلو المقصود كما قال النووي، وهذا فيه علم من أعلام النبوة سيتحقق، والقرطبي له قول آخر فهو يرى أن الحديث له تأويل آخر، وهو أن المدينة كانت معدن الخلافة زمن الخلفاء الراشدين، ومقصد الناس وملجأهم وحُملت إليها خيرات الأرض وصارت من أعمر البلاد، ثم انتقلت الخلافة إلى الشام زمن بني أمية، ثم إلى العراق، وتغلبت عليها الأعراب، وتعاورتها الفتن، وخلت من أهلها، وقصدتها عواف الطير والسباع، وهذا قبل يوم القيامة.
فالقرطبي له تأويل آخر يقول: هذا حصل عندما انتقلت الخلافة إلى الشام وإلى العراق، خلت من الناس ودخلها الأعراب، وخلت من أهلها فقصدتها عواف الطير والسباع[(342)].
والعوافي جمع عافية، وهي الطير والسباع التي تطلب أقواتها.
والصواب: قول النووي أن هذا يكون في آخر الزمان، ويكون الترك عند سَوْق الناس للمحشر.
قوله: وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، يخران على وجوههما ميتين، كما في الحديث: «أن الساعة تقوم على الإنسان وقد رفع اللقمة إلى فمه فتقوم عليه الساعة قبل أن يأكلها» [(343)]، «وتقوم الساعة والرجل يغرس الفسيلة» [(344)]، «وتقوم الساعة والرجل يلوط الحوض لإبله» [(345)]، «وتقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه» [(346)]؛ فكذلك هذان الراعيان يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا، فتقوم الساعة عليهما فيخران ميتين.
المتن:
الشرح:
1875 حديث: «سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ ، يَبِسون أو يَبُسون مِن الثلاثي من بَسَّ يبس بكسر الباء أو ضمها، وروي يُبسون مِنْ أَبس يُبِس من غير الثلاثي، والمعنى: يسرعون، والبس هو سوق الدواب والسرعة في ذلك.
وفيه: علم من أعلام النبوة؛ حيث أخبر النبي ﷺ بفتح اليمن والشام والعراق فوقع كما أخبر، والمعنى أنه تفتح هذه البلاد ويكون فيها خيرات وأرزاق وتجارات وأنهار وأشجار فيخرج قوم من المدينة يريدون السعة ينتقلون بأهليهم إلى تلك البلدان؛ لما فيها من متعة العيش، ينتقلون من الفقر إلى الغنى يتحملون بأهليهم ودوابهم، بخلاف المدينة فإن فيها شظفًا في العيش.
قوله: وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، يعني: لو صبروا على جهدها ولأوائها لكان أفضل، ولهذا جاء في الحديث: مَنْ صَبَرَ عَلَى لَأْوَائِهَا، كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [(347)] فإذا صبر على شدة المدينة ولأوائها وما يصيبه فهذا من أسباب الشفاعة إذا كان يؤمن بالله ورسوله ﷺ واليوم الآخر وأدى الفرائض وانتهى عن المحارم، لكن كثيرًا من الناس لا يصبرون على الشدة وشظف العيش ولهذا ينتقلون إلى بلاد الخيرات والأرزاق إلى الشام وإلى اليمن وإلى مصر وإلى غيرها فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ.
وفيه: دليل على خيرية سكان المدينة وفضلهم، واستدل به بعض العلماء على أن المدينة أفضل البقاع.
والصواب: أن أفضل البقاع مكة، حتى قال القاضي عياض: إن تربة النبي ﷺ أفضل بقاع الدنيا، ونقل الإجماع في ذلك[(348)]؛ وبيَّن شيخ الإسلام رحمه الله[(349)] أن كلام القاضي عياض باطل، وأن نقل الإجماع لا أصل له، وأن الفضيلة ليست لتربة قبر النبي ﷺ، وإنما الفضيلة لجسد النبي ﷺ، فالنبي ﷺ أفضل الناس، أما التربة فلا فضل لها، ولو كانت التربة أفضل البقاع لكانت أفضل من المساجد، وأفضل البقاع المساجد، والمساجد هي بيت الله والقبر بيت المخلوق، فيجب من هذا أن يكون بيت المخلوق أفضل من بيت الخالق، وهذا باطل.
ولا حرج على من يترك المدينة، ولكن الحرج فيمن تركها رغبة عنها، فهذا قيد، أما إذا تركها للتجارة أو للعلم أو للسياحة فلا بأس، فالصحابة خرجوا من المدينة ونشروا دين الله ودعوا إلى الله وجاهدوا في سبيله وعلموا الناس.
المتن:
باب الإِْيمَانُ يَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ
1876 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُاللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ الإِْيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا.
الشرح:
1876 أورد المؤلف حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إِنَّ الإِْيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا؛ يأرز يعني ينضم ويجتمع، ويأرز مثلث الراء يأرِز ويأرَز ويأرُز، والكسر أوضح وأفصح.
وفيه: دليل على فضل المدينة، وأن الإيمان ينضم ويجتمع إليها كما تأرز الحية إلى جحرها، ويظهر هذا واضحًا في زمن النبي ﷺ وزمن الخلفاء الراشدين، وفي زمن الدجال يأرز الإيمان إلى المدينة.
والمعنى: كما تخرج الحية من جحرها طلبًا للرزق، فإذا راعها شيء رجعت إلى جحرها، فكذلك الإيمان ينتشر من المدينة ويرجع إليها آخر الزمان عند ظهور الدجال، حيث يخرج الدجال فينعق ثلاث نعقات بالسبخة أو بالجرف فترجف ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر وكل منافق[(350)]، فلا يبقى إلا المؤمنون، وحينئذ يأرز الإيمان إليها.
المتن:
باب إِثْمِ مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ
1877 حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ عَنْ جُعَيْدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ سَعْدًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: لاَ يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلاَّ انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ.
الشرح:
1877 ذكر المؤلف رحمه الله تحت هذا الباب حديث سعد بن أبي وقاص: «قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: لاَ يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلاَّ انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، وفي لفظ: أَذَابَهُ اللهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ [(351)] وهذا فيه فضل المدينة.
وفيه: الوعيد الشديد على من كاد أهل المدينة، والمراد كادهم ظلمًا ـ بغير حق ـ كما يفهم من عموم النصوص.
وهل هذا في الآخرة أم في الدنيا؟
قيل: في الدنيا.
وقيل: في الآخرة.
جاء في مسلم: لَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إِلَّا أَذَابَهُ اللهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ، أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ [(352)]، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن القاضيَ عياضا قال: هذه الزيادة تدفع الإشكال وتوضح أن هذا الحكم في الآخرة، ويحتمل أن يكون المراد من أرادها في حياة النبي ﷺ بسوء اضمحل أمره، ويحتمل أن يكون المراد من أرادها في الدنيا بسوء وأنه لا يمهل، بل يعاجل بالعقوبة ويذهب بالسلطان، كما وقع لمسلم بن عقبة، وهو أمير الجيش الذي وجهه يزيد بن معاوية فهلك، وكذلك يزيد بن معاوية لم يعش بعد استباحته المدينة إلا شهرين أو ثلاثة أشهر.
قال ابن حجر: «قال: ويحتمل أن يكون المراد من كادها اغتيالاً وطلبًا لغرتها في غفلة فلا يتم له أمر بخلاف من أتى ذلك جهارًا».
ثم قال: وروى النسائي من حديث السائب بن خلاد رفعه: من أخاف أهل المدينة ظالمًا لهم أخافه الله وكانت عليه لعنة الله [(353)].
المتن:
باب آطَامِ الْمَدِينَةِ
1878 حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرنِي عُرْوَةُ سَمِعْتُ أُسَامَةَ قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ.
تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ
الشرح:
1878 أورد في الباب حديث أسامة قال: «أَشْرَفَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ» . الأطم: جمعها آطام وهي الحصون التي تبنى بالحجارة أو البيت المسطح المربع، أشرف النبي ﷺ على حصون المدينة، وقال: هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ أي: مواقع نزول الفتن خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ أي: نواحيها كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ.
وهذا من علامات النبوة التي أخبر بها النبي ﷺ، وكان أول هذه الفتن قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، ثم بعدها قتل عثمان ، ثم حصلت الفتن، واندلعت بعد قتل عثمان ، ثم بعد ذلك استِباحة يزيد بن معاوية للمدينة يوم الحرة؛ كل هذا من الفتن، ثم القتال الذي حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
وإذا كانت المدينة ـ وفيها الصحابة متوافرون ـ معرضة للفتن فغيرها من باب أولى.
المتن:
باب لاَ يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ
1879 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لاَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؛ لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ.
1880 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلاَ الدَّجَّالُ.
الشرح:
قوله: «بَابٌ لاَ يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ» هذا الباب معقود لفضل المدينة، وبيان أن المدينة لا يدخلها الدجال.
1879، 1880 أورد في الباب حديثي أبي بكرة وأبي هريرة رضي الله عنهما.
قوله في حديث أبي هريرة : عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ الأنقاب: جمع نقب وهي المداخل، وقيل: الطرق التي يسلكها الناس، وأصل النقب الطريق بين الجبلين، فالمدينة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال، فإن على مداخلها ملائكة يمنعونها.
قال بعض الثقات من أهل المدينة وسكانها ومن له اطلاع على مشارف المدينة: إن المدينة الآن لها سبعة مداخل رئيسة تحيط بها، وأنه يستحيل إيجاد مدخل ثامن رئيس، والله أعلم.
والطاعون مرض عبارة عن قروح وبثر تكون في مراق اللحم كالحلق والإبط يموت صاحبها سريعًا، ويسمونه الآن مرض الكوليرا.
قوله: لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلاَ الدَّجَّالُ. هذا من خصائص المدينة، وتشاركها مكة في أنه لا يدخلها الدجال؛ وأما الطاعون ففي شأن دخوله مكة حديث ذكره أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: الْمَدِينَةُ وَمَكَّةُ مَحْفُوفَتَانِ بِالْمَلَائِكَةِ، عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكٌ لَا يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ، وَلَا الطَّاعُونُ [(354)].
وقد سمعنا في بعض السنوات أنه أصيب بعض الحجاج من هذا الوباء، أما المدينة فلا، وهذا من فضائل المدينة.
ومن هذا الحديث أخذ بعض العلماء أن المدينة أفضل من مكة؛ لأنها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون.
المتن:
الشرح:
1881 ذكر في الباب أيضًا حديث أنس في فضل المدينة ومكة، وأنه لا يدخلهما الدجال؛ لأن الملائكة يحرسونهما، وكل بلد سوف يدخلها الدجال.
والدجال صيغة مبالغة من الدجل، وهو كثرة الكذب والخداع، وهناك دجاجلة كثيرون كالسحرة وغيرهم، لكن الدجال الأكبر آخرهم الذي يخرج في آخر الزمان، وهو رجل أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، يدَّعي الصلاح أولاً، ثم يدَّعي النبوة، ثم يدَّعي الربوبية، يقول للناس: أنا ربكم ـ والعياذ بالله ـ ويمكث في الأرض أربعين، اليوم الأول طوله سنة كما جاء في «صحيح مسلم» [(356)]، فتطلع الشمس ولا تغرب إلا بعد سنة، واليوم الثاني طوله شهر، فتطلع الشمس ولا تغرب إلا بعد ثلاثين يومًا، واليوم الثالث أسبوع، سبعة أيام، فتطلع الشمس ولا تغيب إلا بعد سبعة أيام، وباقي الأيام سبعة وثلاثون يومًا كأيامنا هذه، ولا يترك بلدًا إلا يدخلها إلا مكة والمدينة، وذلك لأنه لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلاَّ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ، أي: يحرسونها ويمنعونها.
قوله: ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ، أي: عندما يأتي الدجال السبخة وينعق يخرج الله كل كافر ومنافق، وهذا من نفي خبثها في ذلك الزمان وفي ذلك الوقت، لا يبقى بها إلا المؤمنون الصالحون.
وفيه: فضل المدينة.
المتن:
الشرح:
1882 ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي سعيد وفيه: من خوارق العادات التي تكون عند الدجال الكافر، فإنه يدَّعي النبوة، ثم يدَّعي الربوبية.
وخوارق العادات تجري على أيدي الأنبياء والصالحين، وتجري على أيدي الدجالين والكفرة، فخوارق العادات إذا أجريت على أيدي الأنبياء تكون معجزات، وعلى أيدي الصالحين تكون كرامات، وعلى أيدي السحرة تكون حالة شيطانية، فالدجال تجري على يديه الخوارق للعادات، وهو أن يسلطه الله على هذا الرجل فيقتله ثم يحييه ثم يقول له: قم، وذلك بإذن الله ابتلاء وامتحانًا، فيقول: ما تعرفني؟ فيقول: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، وهذا الرجل من خير الناس، فيقول الدجال ـ يخاطب نفسه: أَقْتُلُهُ فَلاَ أُسَلَّطُ عَلَيْهِ، وفي رواية: فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلاَ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ [(357)] وفي اللفظ الآخر في «صحيح مسلم» : فَيُجْعَلَ مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ نُحَاسًا، فَلَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا [(358)].
وجاء في «صحيح مسلم» : يأتي هذا الرجل من أهل المدينة، ويقول: يا أيها الناس هذا الدجال اللعين الذي أخبرنا به رسول الله ﷺ، فيأخذه ويقتله ويقطعه نصفين ويمشي بين القطعتين، ويقول: قم فيستوي قائمًا، فيقول: أعرفت؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيأخذه ليقتله مرة أخرى فلا يستطيع [(359)].
المتن:
باب الْمَدِينَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ
1883 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ ﷺ فَبَايَعَهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ فَجَاءَ مِنْ الْغَدِ مَحْمُومًا، فَقَالَ: أَقِلْنِي، فَأَبَى ثَلاَثَ مِرَارٍ، فَقَالَ: الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا.
الشرح:
قوله: «بَابٌ الْمَدِينَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ» ، الخبث: الكفر والشرك، والمدينة تنفي خبثها، وهذا نفي جزئي زمن النبي ﷺ.
1883 ذكر المؤلف حديث جابر ، وفيه: أن أعرابيًّا بايع النبي ﷺ على الإسلام، «فَجَاءَ مِنْ الْغَدِ مَحْمُومًا» ، يعني: أصابته الحمى فلم يستطع أن يتحمل حمى المدينة، فجاء إلى النبي ﷺ فقال: «أَقِلْنِي» أي: افسخ بيعتي على الإسلام، فأبى عليه النبي ﷺ فكررها ثلاثًا، فأبى عليه النبي ﷺ. وفيه: أن من أراد الردة لا يطاع ولا يوافق؛ ولذلك أبى عليه النبي ﷺ ثلاث مرات، فلما رأى الأعرابي أنه لا يقيله خرج وترك المدينة، فقال النبي ﷺ: الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، أي: مثل كير الحداد، قال: تَنْفِي خَبَثَهَا، وهذا نفي جزئي؛ لأنه بقي من الخبث عبدالله بن أُبَيّ والمنافقون، ولكن النفي الكلي زمن الدجال.
وقوله: وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا، يعني: يصفو ويخلص طيبها.