المتن:
الشرح:
1884 ثم ذكر حديث زيد بن ثابت ، وفيه: أن المدينة تَنْفِي الرِّجَالَ يعني: تُخرج رجال السوء ـ وهم الخبث ـ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ
وهذا النفي إخراج جزئي، ولهذا بقي بعض المنافقين، فلما خرج النبي ﷺ إلى أحد رجع أناس من أصحابه، ولم يرجع آخرون، فالصحابة اختلفوا قال بعضهم: نقتلهم، وقال بعضهم: لا نقتلهم فنزلت آية فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النِّسَاء: 88]، فقال النبي ﷺ: إِنَّهَا تَنْفِي الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.
المتن:
1885 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي سَمِعْتُ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ.
تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ يُونُسَ.
1886 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا.
الشرح:
1885 ثم ذكر المؤلف حديث أنس ، عن النبي ﷺ قال: اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ. ووجه تعلق هذا الحديث بترجمة الباب «المدينة تنفي الخبث» أن الدعاء بتضعيف البركة وتكثيرها تقليل مما يضادها فيناسب ذلك نفي الخبث، فإذا دعا لأهل المدينة بأن يجعل الله فيهم البركة ضعفي ما بمكة كان هذا تقليلاً لما يضاد البركة، وهذا يناسب نفي الخبث.
1886 وجه تعلق هذا الحديث بالباب أن حب الرسول ﷺ للمدينة مبالغ فيه، فيدل ذلك على طيب ذاتها وأهلها، فيناسب ذلك ترجمة الباب؛ فلولا أن ذاتها وأهلها طيبون لما دعا لهم النبي ﷺ، ولما أحب الإسراع إليها؛ فقد كان النبي ﷺ «إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ» ، يعني: أسرع، «وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا» ، أي: من حُبِّ المدينة.
المتن:
باب كَرَاهِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ
1887 حَدَّثَنَا ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ وَقَالَ: يَا بَنِي سَلِمَةَ، أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ فَأَقَامُوا.
الشرح:
وقوله: «بَابُ كَرَاهِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ» . أي: تخلو؛ فالنبي ﷺ كره أن تخلو المدينة، وأراد أن تعمر المدينة ظاهرها وباطنها ليكثر أهل الإيمان فيكون بذلك عز للإسلام ونصر له ولأهله.
1887 حديث أنس : «أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ» ـ بكسر اللام ـ قبيلة معروفة في المدينة أبوهم سلِمة، ولا يقال: سلَمة بفتح اللام؛ لأن الأسماء لا تغير، والنسبة لبني سلِمة سلِمي، بخلاف النسبة لبني سليم قبيلة معروفة يقال لأحدهم سُلَمي، وفي جُهينة جُهني.
قال: «أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ» ، وفي لفظ آخر: «خلت البقاع حول المسجد» فأرادوا أن ينتقلوا، فكره النبي ﷺ أن تعرى المدينة؛ يعني أن تخلو، وقال: يَا بَنِي سَلِمَةَ، أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ، يعني: ابقوا في مكانكم واحتسبوا الخطوات التي تمشونها إلى المسجد، «فَأَقَامُوا» ، أي: بها.
المتن:
الشرح:
1888 ثم ذكر المؤلف حديث حفص بن عاصم، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي.
قوله: «حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ» ، هو حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب.
وفي الحديث: دليل على فضل المدينة، وأن ما بين بيت النبي ﷺ ومنبره روضة من رياض الجنة، وأن منبره على حوضه، يعني موضع المنبر من الحوض في الأرض المبدلة يوم القيامة، فيكون المنبر جزءًا من الحوض في الأرض المبدلة؛ لأن الحوض مسافة الشهر، والمسافة من فلسطين أرض المحشر إلى المدينة مسافة شهر، فيكون المنبر جزءًا من الحوض.
وقوله رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ اختلف في معناه، قيل: المعنى على التشويق وأنها كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة مما يحصل فيها من ملازمة حلق الذكر التي تؤدي إلى الجنة، وقيل: المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة، وقيل: المعنى على ظاهره، والمراد أنها روضة حقيقية بأن ينقل ذلك الموضع في الآخرة ويكون في الجنة.
وقوله: وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي ، يعني: سينقل المنبر فيكون على الحوض يوم القيامة. فقيل: المراد بـ وَمِنْبَرِي على ظاهره أن المنبر منبره بعينه، يعني هذا المنبر الذي كان يتكلم عليه، وقيل: المنبر الذي ينصب له يوم القيامة. والأول أظهر.
واستدل بعض العلماء بهذا على أن المدينة أفضل من مكة؛ لأنه أثبت أن الأرض التي بين البيت والمنبر من الجنة، وفي الحديث: لَقَابُ قَوْسٍ فِي الجَنَّةِ، خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ [(360)] لكن أجيب بأن هذا لو كان صحيحًا لكان هذا الجزء من الجنة، ولكن هذا في الآخرة، ولا يلزم منه أن تكون المدينة أفضل، والخلاف مشهور، والأرجح أن مكة أفضل.
المتن:
1889 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ | وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ |
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً | بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ |
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ | وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ |
قَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا وَصَحِّحْهَا لَنَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ، قَالَتْ: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلاً تَعْنِي مَاءً آجِنًا.
1890 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ ﷺ.
وَقَالَ ابْنُ زُرَيْعٍ: عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَتْ: سَمِعْتُ عُمَرَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ هِشَامٌ: عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ سَمِعْتُ عُمَرَ .
الشرح:
1889 في الحديث: أن الصحابة رضوان الله عليهم لما هاجروا إلى المدينة أصابتهم الحمى، قالت عائشة رضي الله عنها: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ» ، تعني: أصابهما الوعك وهو الحمى.
قوله: «فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى» يتمثل بهذا البيت؛ يرفع صوته ويقول:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ | وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ |
يعني: لا يدري ما يصبح من البلاء، والموت أدنى من شراك النعل، وشراك النعل هو السير الذي على ظهر القدم.
قالت: «وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ» ، أي: صوته فالعقيرة أصل الصوت إذا غنى به أو بكى، وأصله أن رجلاً قطعت إحدى رجليه فرفعها وجعل يصرخ، فكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته أي: صوته ويتمثل بهذه الأبيات:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً | بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ |
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ | وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ |
يتذكر مواقع في مكة من حبه لها، والإذخر: نبت معروف، والجليل: نبت ضعيف، والشامة وطفيل: جبلان بمكة، وذلك لأن جو مكة غير جو المدينة.
وكان يقول أيضًا: «اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ» ـ وهم صناديد قريش ـ وجاء في الحديث لعنهم[(361)].
قوله: «كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ» ، هي المدينة، وكانت أرض الأمراض، فلما رأى النبي ﷺ ذلك دعا لهم فقال: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا ، يعني اجعلها صحيحة، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ، والجحفة كان فيها يهود في ذلك الوقت فنقل الله الحمى إليها.
قالت عائشة رضي الله عنها: «وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ» ، من الوباء، وهو المرض العام، قالت: «فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلاً تَعْنِي مَاءً آجِنًا» . وبطحان: واد في المدينة؛ يجري ماء آجنًا متغيرًا، وهي مياه متجمعة من السيول، فيسبب الأمراض كالملاريا.
1890 ثم أورد المؤلف رحمه الله حديث عمر أنه قال: «اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ ﷺ» فعمر طلب الشهادة مع أن النبي ﷺ قال: مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ [(362)] وقد استجاب الله دعاء عمر فمات في المدينة شهيدًا مطعونًا ظلمًا، فمات شهيدًا، ومات في بلد الرسول ﷺ.
وقد طعنه أبو لؤلؤة المجوسي وهو يصلي بالناس الفجر تحت سرته ست طعنات، مات على إثرها.
وأحاديث الباب فيها إشارة إلى الترغيب في سكنى المدينة، فحديث: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» فيه: إشارة إلى الترغيب في المدينة، وكذلك حديث عائشة: «وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ» فيه: إشارة إلى الترغيب في سكناها، وأثر عمر في دعائه أن تكون وفاته فيها ظاهر في ذلك، وفي كل هذا مناسبة لكراهة النبي ﷺ أن تعرى المدينة وأن تصير خالية؛ فعمر يريد البقاء في المدينة، والنبي ﷺ دعا بأن يصحح الله أهل المدينة وأن ينقل الحمى إلى الجحفة، فكل هذا من النبي ﷺ كراهة أن تعرى المدينة وأن تخلو.
وعمر أحب أن تكون وفاته في بلد رسوله ﷺ؛ لأنها بلد مباركة دعا لها النبي ﷺ، وهي مسكن النبي ﷺ ومسكن أصحابه، والموت في جوار الصالحين مرغب فيه؛ ولهذا لما توفي موسى سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر كما في الحديث[(363)].