شعار الموقع
شعار الموقع

شرح كتاب البيوع من صحيح البخاري (34-4) من باب التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ - إلى باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْخِدَاعِ فِي الْبَيْعِ

00:00

00:00

تحميل
51

المتن:

باب التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

2104 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةِ حَرِيرٍ أَوْ سِيَرَاءَ، فَرَآهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُرْسِلْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ، إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا يَعْنِي تَبِيعَهَا.

2105 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ﷺ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟، قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَقَالَ: إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ الْمَلاَئِكَةُ.

الشرح:

هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان حكم «التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ» فإذا كان مما ينتفع به غير من كره له جاز، أما ما لا منفعة شرعية فيه فلا يجوز بيعه أصلاً، وكذا ما ليس فيه منفعة عامة كالنجاسات والسموم وما أشبه ذلك.

أما ما يكره لبسه للرجال فيجوز بيعه لتنتفع به النساء، وما يكره لبسه للنساء يجوز بيعه للرجال، فخواتم الذهب مثلاً يحرم لبسها للرجال، ولكن يجوز لبسها للنساء؛ فالتجارة فيما يكره لبسه لأحد النوعين من الرجال أو من النساء لا بأس بها.

2104 قوله: إِنِّي لَمْ أُرْسِلْ بِهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ، إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا. فيه: دليل على أن الإنسان إذا أهدى لآخر هدية لا يحل له استعمالها، فإنه ليس إذنًا باستعمالها، وإنما يبيعها وينتفع بثمنها أو يهديها لمن ينتفع بها، فإذا أهدي إلى مسلم ثوب حرير فهذا ليس بإذن أن يلبسه، وإنما أهداه إليه ليبيعه وينتفع بثمنه أو يعطيه زوجته؛ لأن النساء يلبسن الحرير.

جاء في الحديث الآخر أن عمر لما رأى حلة سيراء تباع قال: يا رسول الله لو اشتريتها للجمعة والوفد، فقال النبي ﷺ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ، ثم جاءت الحلل فأرسل النبي ﷺ بحلة حرير لعمر قال: يا رسول الله أعطيتني وقد قلت في حلة عطارد كذا وكذا؟ فقال: أعطيتكها لتبيعها أو تنتفع بها، فأرسل بها عمر إلى أخ له مشرك بمكة[(69)].

وفي هذا الحديث: دليل على تحريم لبس الحرير للرجال.

وفيه: الوعيد الشديد عليه؛ لأنه قال: إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ، يعني: من لا نصيب له في الآخرة، وهذا يدل على أنها من الكبائر.

وفي الحديث الآخر قال النبي ﷺ: الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حل لإناثها [(70)].

قوله: إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا، يعني: تبيعها، فدل هذا على أنه لا بأس بالتجارة لما يكره لبسه للرجال إذا كانت تنتفع به النساء كالحرير.

2105 قوله: «أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ» ، يعني: قطعة قماش فيها خطوط، «فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ» وهذا هو الشاهد للترجمة، فالنمرقة التي فيها تصاوير ممنوع منها الرجال والنساء، فلا يجوز استعمال التصاوير لا للرجال ولا للنساء.

وفيه: إنكار المنكر، وأنه قد يعرف إنكار المنكر من الشخص بما يكون في وجهه من الكراهة.

قوله: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ﷺ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟» فيه: الاعتذار من الإنسان إذا أخطأ ولو لم يتعمد.

وفيه: أن التوبة تكون لله وتكون للمخلوق، لله من المعاصي والذنوب وللمخلوق من التقصير في حقه.

قوله: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟، قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَقَالَ: إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ الْمَلاَئِكَةُ. فيه: دليل على تحريم الصور، وأنه لا يجوز للإنسان أن يصور ذوات الأرواح.

وفيه: دليل على أن الصور تحرم مطلقًا، التي لها ظل والتي ليس لها ظل؛ لأن هذه النمرقة ليس لها ظل.

وفيه: الرد على من قال: إنما تحرم الصورة المجسمة التي لها ظل، كالمصنوعة من خشب أو من حديد أو من خزف أو من طين، أما التي ليس لها ظل فلا بأس بها، كالصورة التي تكون في الجدار أو في الثوب، وهذا الحديث فيه رد عليهم؛ لأن هذه النمرقة ليس لها ظل، والصواب أن الصور حرام سواء كان لها ظل أم ليس لها ظل.

والصور الفوتوغرافية أيضًا محرمة، ويدل على ذلك الحديث الآخر لرسول الله ﷺ: لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته [(72)]، والطمس إنما يكون في الصورة التي ليس لها ظل، وقوله: لا تدع صورة نكرة في سياق النهي، والقاعدة عند أهل الأصول أن النكرة إذا سبقها نفي أو نهي أو شرط فإنها تعم، فتعم كل صورة سواء كان لها ظل أم ليس لها ظل، فوتوغرافية أو غير فوتوغرافية، باليد أو بالجدار أو بالقلم أو بالثوب أو بالقرطاس أو بالطين، ولا يستثنى من هذا إلا ما تدعو الضرورة إليه كالصورة التي في بطاقة الأحوال أو في جواز السفر، أو في الشهادات العلمية، وما أشبه ذلك مما يضطر الإنسان إليه؛ قال الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعَام: 119].

وما يفعله بعض الناس من جعلهم الصور للذكرى، فيصور أولاده ويجعلها في برواز ويجعلها أمامه فهذا لا يجوز؛ فإن قوم نوح إنما عبدوا الأصنام بسبب أنهم صوروا الصالحين الذين ماتوا في زمن متقارب ليتذكروا عبادتهم فطال عليهم الأمد فعبدوهم.

وفي الحديث: أن التصوير من كبائر الذنوب لقوله: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ وهذا الأمر للتعجيز.

وقوله: إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ الْمَلاَئِكَةُ فيه: دليل على أن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه صور ذوات الأرواح، سواء الآدميون أو الحيوانات أو الطيور أو الحشرات والأسماك، والمراد بالملائكة: ملائكة الرحمة، وجاء في الحديث الآخر أنه ﷺ جذب الستر حتى هتكه أو قطعه وقال: إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْنَا أَنْ نَكْسُوَ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ، قالت: فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفا فلم يعب ذلك علي[(73)]، فدل على أنه يجوز إبقاء ما يمتهن من الصور.

وعلى الإنسان أن يطمس الصور ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والطمس يكون للوجه والرأس، فإذا أزيل الوجه والرأس زال المحذور.

ورواية: إِلَّا رَقْمٌ فِي ثَوْبٍ [(74)] مجملة مشتبهة تفسر بما يتوافق مع الأحاديث، والقاعدة عند أهل العلم أن المجمل يفسر بالواضح البين، والرقم في الثوب لا يلزم أن يكون صورة نقوش وما أشبهها.

ولا بأس بالإهداء للكافر أو الوقف عليه إذا لم يكن حربيًّا؛ فبعض السلف أوقف على بعض المشركين، والله تعالى يقول في كتابه العظيم: لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المُمتَحنَة: 8].

وقد ثبت في الصحيح أن أسماء بنت أبي بكر استفتت النبي ﷺ وقد جاءتها أمها وهي مشركة في وقت الهدنة التي كانت بين النبي ﷺ وبين المشركين ـ هدنة الحديبية ـ، جاءت إليها راغبة في صلتها، فقال لها النبي ﷺ: صِلِي أُمَّكِ [(71)].

المتن:

باب صَاحِبُ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِالسَّوْمِ

2106 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ. وَفِيهِ خِرَبٌ وَنَخْلٌ.

الشرح:

2106 هذا بعض حديث سبق في قصة بناء مسجد النبي ﷺ، وأن مكان مسجد النبي ﷺ كان في خرب فيه نخل وفيه قبور للمشركين، فأمر النبي ﷺ بالقبور فنبشت، وأمر بالخرب فسويت، وكان هناك بعض الحوائط التي لبعض الأيتام فقال النبي ﷺ: ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ، يعني: أخبروني بثمنه، فقالوا ـ كما في الرواية الأخرى: لا نطلب ثمنه إلا من الله»[(75)] فتبرعوا به .

والشاهد من الحديث للترجمة: قول النبي ﷺ: ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ. فصاحب السلعة أحق بالسوم، يعني: بأن يذكر القدر المعين للثمن، يعني: اذكروا لي قدرًا معينًا للثمن، فمتولي السلعة من مالك أو وكيل أولى بالسوم من طالب شرائها فعلى المشتري أن يقول لصاحب السلعة: كم تريد في السلعة؟ فيقول: أريد كذا وكذا، كم تبيع هذا البيت؟ كم تبيع هذه الأرض؟ فيقول: بعشرة آلاف مثلاً لكن هذا ليس بواجب؛ لقول النبي ﷺ لجابر في جمله: بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ [(76)]، وإذا قدر المشتري الثمن وقال: بعنيه بكذا ورضي البائع فلا حرج.

المتن:

باب كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ

2107 حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا، قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ.

2108 حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا.

وَزَادَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا بَهْزٌ، قَالَ: قَالَ هَمَّامٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لأَِبِي التَّيَّاحِ فَقَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي الْخَلِيلِ لَمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بِهَذَا الْحَدِيثِ.

الشرح:

هذه الترجمة عقدها المؤلف لبيان أمد الخيار، وأتى بها على طريقة الاستفهام.

2107 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر وفيه قول النبي ﷺ: إِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا. والبيع له ثلاث حالات:

الأولى: أن يسكت البائع والمشتري، فيكون لهما الخيار مدة بقائهما في المجلس، فإذا تفرقا لزم البيع، كأن يقول: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، ولا يقول البائع: لي الخيار مدة، ولا يقول المشتري: لي الخيار مدة، ففي هذه الحالة ما داما في المجلس فكل واحد له الخيار، إن شاء البائع فسخ البيع، وإن شاء المشتري فسخ البيع حتى يتفرقا فإذا تفرقا لزم البيع.

الثانية: أن يشترطا الخيار مدة معلومة فلهما ذلك؛ لأن المؤمنين على شروطهم، وحددها بعضهم بثلاثة أيام، كأن يقول: اشتريت هذه السلعة بعشرة آلاف لكن لي الخيار ثلاثة أيام فقبل البائع، وعلى القول بجواز الزيادة في المدة عن ثلاثة أيام فلا بأس بجعل الخيار شهرًا وشهرين.

الثالثة: أن يسقطا الخيار فيلزم البيع في الحال، كقوله: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، ولما انتهى قال: اشتريت، فلا خيار في المجلس.

وقد ذكر في الحديث حالتين:

الحالة الأولى: إذا سكتا.

الحالة الثانية: إذا كان البيع خيارًا.

قوله: «قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ» ؛ حتى يلزم البيع، وهذا الفعل من ابن عمر محمول على أنه لم يبلغه النهي، وإلا فقد جاء في الحديث الآخر أن النبي ﷺ قال: وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ [(77)] يعني: لا يجوز لأحدهما أن يفارق الآخر خشية أن يفسخ البيع، بل يبقى الإنسان في المجلس ويجعل الخيار باقيًا له ولصاحبه، أما أن يقوم ويخرج من المكان حتى يلزم البيع فهذا لا يجوز له، لكن فعل ابن عمر محمول على أنه لم يبلغه النهي.

2108 في الحديث: أن النبي ﷺ قال حكيم بن حزام: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، خيار المجلس، يعني: ما لم يفترقا من المجلس، وجماهير العلماء على أن المراد بالتفرق هنا: التفرق بالأبدان، وابن عمر رضي الله عنهما يحمله على التفرق بالأقوال، فإذا قال: بعتك، وقال: اشتريت، وتفرقا بالقول، فقد تم البيع، وإلى هذا ذهب الإمام مالك[(78)]، وهو ممن روى حديث الخيار، والصواب أن المراد التفرق بالأبدان.

ومباحث الخيار أطال فيها المؤلف رحمه الله بالتراجم التالية لهذه الترجمة، وفيها بحوث بينها تداخل.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَابٌ» بالتنوين «كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ» ، والخيار بكسر الخاء اسم من الاختيار أو التخيير، وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه، وهو خياران خيار المجلس وخيار الشرط، وزاد بعضهم خيار النقيصة، وهو مندرج في الشرط فلا يزاد، والكلام هنا على خيار الشرط والترجمة معقودة لبيان مقداره وليس في حديثي الباب بيان لذلك.

قال ابن المنير: لعله أخذ من عدم تحديده في الحديث أنه لا يتقيد بل يفوض الأمر فيه إلى الحاجة لتفاوت السلع في ذلك.

قلت: وقد روى البيهقي من طريق أبي علقمة الفروي عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا: الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّامٍ [(79)]، وهذا كأنه مختصر من الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن من طريق محمد بن إسحاق عن نافع في قصة حبان بن منقذ وسأذكره بعد خمسة أبواب، وبه احتج الحنفية والشافعية في أن أمد الخيار ثلاثة أيام، وأنكر مالك التوقيت في خيار الشرط ثلاثة أيام بغير زيادة، وإن كانت في الغالب يمكن الاختيار فيها، لكن لكل شيء أمد بحسبه يتخير فيه، فللدابة مثلاً والثوب يوم أو يومان، وللجارية جمعة، وللدار شهر، وقال الأوزاعي: يمتد الخيار شهرًا وأكثر بحسب الحاجة إليه.

وقال الثوري: يختص الخيار بالمشتري ويمتد له إلى عشرة أيام وأكثر. ويقال: إنه انفرد بذلك، وقد صح القول بامتداد الخيار عن عمر وغيره وسيأتي شيء منه في أبواب الملازمة، ويحتمل أن يكون مراد البخاري بقوله: «كَمْ يَجُوزُ الْخِيَارُ» أي: كم يخير أحد المتبايعين الآخر مرة، وأشار إلى ما في الطريق الآتية بعد ثلاثة أبواب من زيادة همام: يَخْتَارُ ثَلاَثَ مِرَارٍ [(80)]، لكن لما لم تكن الزيادة ثابتة أبقى الترجمة على الاستفهام كعادته» .

وأشار الحافظ ابن حجر رحمه الله إلى زيادة أحمد رحمه الله بقوله: «قوله: «وَزَادَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا بَهْزٌ» ، أي: ابن أسد، وهذه الطريق وصلها أبو عوانة في «صحيحه» عن أبي جعفر الدارمي، واسمه أحمد بن سعيد عن بهز به، ولم أرها في مسند أحمد بن حنبل، وزعم بعضهم أنه أحمد المذكور، وستأتي هذه الزيادة من وجه آخر عن همام بعد ثلاثة أبواب» .

المتن:

باب إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِي الْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ؟

2109 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ، وَرُبَّمَا قَالَ: أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ.

الشرح:

قوله في الترجمة: «بَابٌ إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِي الْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ؟» يعني: إذا أسقطا الخيار هل يجوز البيع؟ والجواب: نعم، يجوز البيع إذا أسقطا خيار المجلس.

وبقيت حالة ثالثة وهي اشتراط الخيار مدة، فخيار المجلس ما لم يتفرقا بالأبدان، والحالة الثانية إسقاط الخيار، والحالة الثالثة اشتراط الخيار مدة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَابٌ إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِي الْخِيَارِ» أي: إذا لم يعيِّن البائع أو المشتري وقتًا للخيار وأطلقاه، «هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ؟» وكأنه أشار بذلك إلى الخلاف الماضي في حد خيار الشرط، والذي ذهب إليه الشافعية والحنفية أنه لا يزاد فيه على ثلاثة أيام، وذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وآخرون إلى أنه لا أمد لمدة خيار الشرط، بل البيع جائز والشرط لازم إلى الوقت الذي يشترطانه، وهو اختيار ابن المنذر، فإن شرطا أو أحدهما الخيار مطلقًا، فقال الأوزاعي وابن أبي ليلى: هو شرط باطل، والبيع جائز؛ لأن هذا جعل الخيار مطلقًا من غير حد محدد، وهذا ينافي مقتضى العقد، وقال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي: يبطل البيع أيضًا، وقال أحمد وإسحاق: للذي شرط الخيار أبدًا» .

المقصود: أنه يصح البيع سواء وقته أو لم يوقته، والخيار له.

وإذا كان الخيار مطلقًا فالصواب أنه يبطل الشرط؛ لأنه ينافي مقتضى العقد ويلزم البيع، ولا بد أن يحدد مدة.

وقال بعض العلماء: يبطل البيع، والصواب أن البيع يصح، والشرط باطل؛ لأنه ينافي مقتضى العقد في هذه الحالة.

المتن:

باب الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا

وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ.

2110 حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ قَتَادَةُ: أَخْبَرَنِي عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: سَمِعْتُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا.

2111 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لإثبات خيار المجلس والرد على من أنكره كالإمام مالك رحمه الله[(81)] فإنه نفى خيار المجلس، وقال: إن التفرق يكون بالأقوال، ولهذا قال المؤلف: «بَابٌ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، يعني: ما لم يتفرقا من المجلس بأبدانهما، «وَبِهِ» ، يعني: بخيار المجلس «قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ» كلهم قالوا بإثبات خيار المجلس.

2110 قوله: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا صريح في إثبات خيار المجلس، وقوله: «مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» ، يعني: بأبدانهما وما داما في المجلس فلكل واحد منهما الخيار، إن شاء البائع فسخ البيع، وإن شاء المشتري فسخ البيع.

قوله: فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا فيه: عاقبة الصدق والتبيين، وعاقبة الكذب والكتمان، وأن البائع إذا صدق بإخبار المشتري بالعيوب التي في السلعة وصدق بإخباره بقدر الثمن فإنه يبارك لهما في بيعهما، أما إن كتما العيوب وكذبا في الإخبار فإنه تمحق بركة البيع.

وفيه: فضل الصدق والحث عليه، وذم الكذب والحث على منعه، وأن الكذب سبب لذهاب البركة، وأن عمل الآخرة يحصل خيري الدنيا والآخرة، فالواجب على كل متبايعين أن يصدقا في بيان ما في السلعة من العيب أو ما في الثمن من العيب، ولا يجوز لهما كتمان العيوب؛ فالصدق والبيان سبب في البركة، والكذب والكتمان سبب في محق البركة.

2111 قوله: الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فيه: إثبات خيار المجلس والرد على من أنكره بقوله: إن التفرق يكون بالأقوال.

قوله: إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ يعني: إلا إذا أسقطا خيار المجلس، فإنه يسقط خيار المجلس ويلزم البيع ويجوز كذلك أن يشترطا الخيار مدة؛ لأن المؤمنين على شروطهم.

وفعل ابن عمر أنه كان إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه محمول على أنه لم يبلغه النص الذي فيه النهي، وهو قوله ﷺ: وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ [(82)]، وهو يفيد أنه لا يجوز للإنسان أن يقوم من المجلس خشية أن يفسخ البيع صاحبه.

المتن:

باب إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ

2112 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ.

الشرح:

قوله في الترجمة: «بَابٌ إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» فيه احتمالان:

الأول: إذا أسقطا الخيار فإنه يلزم البيع في الحال ولا يمتد إلى التفرق.

الثاني: اشتراط الخيار مدة، فإذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع وبقي الشرط.

فإن قال: أنا بعتك هذه السيارة، وتركت لك الاختيار ثلاثة أيام أو عشرة أيام أو شهرًا فهما على شرطهما، والمؤمنون على شروطهم، أو قال: أنا بعتك السيارة وليس لنا خيار من الآن، فقال: نعم، سقط خيار المجلس ووجب البيع.

2112 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر.

وفيه: أكمل الألفاظ التي وردت في هذا الباب، قال: إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا يعني: بالأبدان، وكانا جميعًا في المجلس، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ، يعني: يسقطا الخيار، أو يشترطا الخيار مدة، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، فإذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعا في المجلس، فإذا تفرقا لزم البيع، أو يخير أحدهما الآخر بأن يسقط الخيار ويرضى به الآخر، فيسقط ويلزم البيع في الحال، أو يشترط الخيار مدة ويرضى به الآخر، فيكون لهما الخيار هذه المدة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَابٌ إِذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ» أي: وقبل التفرق، «فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» ، أي: وإن لم يتفرقا.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقوله: وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ ، أي: لم يفسخه، فقد وجب البيع بعد التفرق، وهذا ظاهر جدًّا في انفساخ البيع بفسخ أحدهما.

قال الخطابي: هذا أوضح شيء في ثبوت خيار المجلس، وهو مبطل لكل تأويل مخالف لظاهر الحديث. وكذلك قوله في آخره: وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا فيه: البيان الواضح أن التفرق بالبدن هو القاطع للخيار، ولو كان معناه التفرق بالقول لخلا الحديث عن فائدة. انتهى.

وقد أقدم الداودي على رد هذا الحديث المتفق على صحته بما لا يقبل منه، فقال: قول الليث في هذا الحديث: وَكَانَا جَمِيعًا إلخ ليس بمحفوظ؛ لأن مقام الليث في نافع ليس كمقام مالك ونظرائه. انتهى.

وهو رد لما اتفق الأئمة على ثبوته بغير مستند، وأي: لوم على من روى الحديث مفسرًا لأحد محتملاته حافظًا من ذلك ما لم يحفظه غيره مع وقوع تعدد المجلس، فهو محمول على أن شيخهم حدثهم به تارة مفسرًا وتارة مختصرًا، وقد اختلف العلماء في المراد بقوله في حديث مالك: إِلَّا بَيْعَ الخِيَارِ [(83)]. فقال الجمهور وبه جزم الشافعي: هو استثناء من امتداد الخيار إلى التفرق، والمراد أنهما إن اختارا إمضاء البيع قبل التفرق لزم البيع حينئذ وبطل اعتبار التفرق؛ فالتقدير: إلا البيع الذي جرى فيه التخاير؛ قال النووي: اتفق أصحابنا على ترجيح هذا التأويل وأبطل كثير منهم ما سواه وغلطوا قائله. انتهى.

ورواية الليث ظاهرة جدًّا في ترجيحه، وقيل: هو استثناء من انقطاع الخيار بالتفرق، وقيل: المراد بقوله: أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ، أي: فيشترط الخيار مدة معينة فلا ينقضي الخيار بالتفرق، بل يبقى حتى تمضي المدة، حكاه ابن عبدالبر عن أبي ثور، ورجح الأول بأنه أقل في الإضمار، وتعينه رواية النسائي من طريق إسماعيل ـ قيل هو ابن أمية وقيل غيره ـ عن نافع بلفظ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ [(84)] فإن كان البيع عن خيار وجب البيع، وقيل: هو استثناء من إثبات خيار المجلس، والمعنى: أو يخير أحدهما الآخر فيختار في خيار المجلس فينتفى الخيار، وهذا أضعف هذه الاحتمالات، وقيل: قوله: إلا أن يكون بيع خيار ، أي: هما بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن يتخايرا ولو قبل التفرق، وإلا أن يكون البيع بشرط الخيار ولو بعد التفرق، وهو قول يجمع التأويلين الأولين، ويؤيده رواية عبدالرزاق عن سفيان في حديث الباب الذي يليه، حيث قال فيه: إلا بيع الخيار أو يقول لصاحبه اختر وحملنا أو على التقسيم لا على الشك» .

والمقصود أن قوله: أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا محتمل لإسقاط الخيار، ومحتمل لخيار الشرط.

المتن:

باب إِذَا كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ؟

2113 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ.

2114 حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.

قَالَ هَمَّامٌ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي يَخْتَارُ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا.

قَالَ: وَحَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاحِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.

الشرح:

قوله: «بَابٌ إِذَا كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ؟» يعني: إذا كان الخيار لأحد المتبايعين دون الآخر فإنه يجوز البيع، فلو قال المشتري: أنا لي خيار وأنت لا خيار لك، أو قال البائع: أنا لي الخيار وأنت لا خيار لك، يصح.

2113 قوله: كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا، يعني: لا بيع لازم بينهما، حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ، وهو الذي يسقط فيه صاحبه الخيار، فإذا أسقطا الخيار سقط، وإذا أسقطه أحدهما سقط ويلزم البيع في الحال، فإذا قال: بعتك فقال: اشتريت بشرط أن لا خيار لنا لزم، أو قال المشتري: أنا لا خيار لي يسقط خياره ويبقى الخيار للبائع، وكذا لو قال البائع: أنا لا خيار لي.

2114 قوله: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، يعني: بالأبدان؛ وفي رواية همام يقول: يَخْتَارُ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا. وقد سبق شرح هذا والاستفاضة فيه، وإنما كرر المؤلف رحمه الله الحديث لاستنباط الأحكام.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ««قوله: «بَابٌ إِذَا كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ؟» كأنه أراد الرد على من حصر الخيار في المشتري دون البائع، فإن الحديث قد سوى بينهما في ذلك» . يعني: أن الخيار قد يكون للمشتري وقد يكون للبائع، وقد يسقطه أحدهما، فإذا أسقطه أحدهما سقط، سواء كان المشتري أم البائع.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: كُلُّ بَيِّعَيْنِ بتشديد التحتانية، وقوله: لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا، أي: لازم؛ وقوله: حَتَّى يَتَفَرَّقَا، أي: فيلزم البيع حينئذ بالتفرق؛ وقوله: إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ أي: فيلزم باشتراطه كما تقدم البحث فيه، وظاهره حصر لزوم البيع في التفرق أو في شرط الخيار، والمعنى أن البيع عقد جائز فإذا وجد أحد هذين الأمرين كان لازمًا» .

والأمران هما: التفرق أو شرط الخيار، فإذا تفرقا لزم البيع، أو شرطا الخيار فهما على شرطهما هكذا إن أسقطا الخيار سقط.

المتن:

باب إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ.

وَقَالَ طَاوُسٌ فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ بَاعَهَا: وَجَبَتْ لَهُ وَالرِّبْحُ لَهُ.

2115 وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْقَوْمِ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ، قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بِعْنِيهِ، فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ.

2116 قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بِعْتُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالاً بِالْوَادِي بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا تَبَايَعْنَا رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي الْبَيْعَ، وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِي وَبَيْعُهُ رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ غَبَنْتُهُ بِأَنِّي سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلاَثِ لَيَالٍ، وَسَاقَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاَثِ لَيَالٍ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان إذا اشترى شيئًا ثم وهبه من ساعته وسكت البائع، أو باعه من ساعته على شرط آخر وسكت البائع ولم ينكر عليه، فإنه يلزم في هذه الحالة، فلو قال مثلاً: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال: اشتريتها، وكان عندهما إنسان ثالث، فقال: بعنيها باثني عشر ألفًا فباعها عليه وسكت البائع، وهما في خيار المجلس لزم البيع وله الربح؛ لأن سكوته يدل على أنه أسقط الخيار، أو اشترى عبدًا فقال: بعتك هذا العبد بثلاثين ألفًا، فقال: قبلت، ثم قال للعبد: أنت حر لوجه الله قبل أن يتفرقا من المجلس لزم البيع ما دام أن البائع سكت ولم ينكر.

2115 ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر قال: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِي... فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ أي: بعني هذا البكر الذي شغلك بثمن، فما أريده هبة؛ فباعه عمر من رسول الله ﷺ، فوهبه النبي ﷺ لابنه عبدالله، وكان راكبًا هذا البعير.

وفي هذه الحالة يلزم البيع وتلزم الهبة، ولا يحتاج نقلاً، وصار لعبدالله بن عمر أن يتصرف فيه بعد أن كان عمر يزجره؛ حيث ملكه عبدالله في الحال بالهبة التي وهبها إياه النبي ﷺ.

2116 ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر في شرائه من أمير المؤمنين عثمان حيث إنه اشترى منه أرضًا بالوادي بأرض بخيبر بوادي القرى، فلما تبايعا رأى ابن عمر أنه الرابح فرجع ابن عمر على عقبيه حتى خرج من مكان البيع حتى يلزم البيع خشية أن يرده عثمان، وقد سبق أن ابن عمر فعل ذلك لأنه لم يبلغه النهي، وهو قول النبي ﷺ: وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ [(89)].

قوله: «وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِي وَبَيْعُهُ رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ غَبَنْتُهُ بِأَنِّي سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلاَثِ لَيَالٍ، وَسَاقَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاَثِ لَيَالٍ» يعني: أن أرض عبدالله بعيدة إلى جهة ثمود من جهة الحجر على طريق تبوك الآن، وأرض عثمان بخيبر الأقرب إلى المدينة بثلاث ليال يعني: على الإبل، فالأرض التي صارت لابن عمر وهي أرض عثمان أقرب بثلاث ليال، والأرض التي باعها ابن عمر على عثمان أقرب إلى ثمود بثلاث ليال، فالأقرب إلى المدينة هو الرابح، فلهذا رأى أنه غبنه. والشاهد أن ابن عمر رضي الله عنهما خرج حتى يلزم البيع؛ لأنه لم يبلغه النهي.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَابٌ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي» ، أي: هل ينقطع خياره بذلك؟ قال ابن المنير: أراد البخاري إثبات خيار المجلس بحديث ابن عمر ثاني حديثي الباب.

وفيه: قصته مع عثمان وهو بين في ذلك، ثم خشي أن يعترض عليه بحديث ابن عمر في قصة البعير الصعب؛ لأن النبي ﷺ تصرف في البكر بنفس تمام العقد فأسلف الجواب عن ذلك في الترجمة بقوله: «وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَائِعُ» ، يعني: أن الهبة المذكورة إنما تمت بإمضاء البائع وهو سكوته المنزل منزلة قوله.

وقال ابن التين: هذا تعسف من البخاري، ولا يظن بالنبي ﷺ أنه وهب ما فيه لأحد خيار ولا إنكار لأنه إنما بعث مبينًا. اهـ. وجوابه: أنه ﷺ قد بين ذلك بالأحاديث السابقة المصرحة بخيار المجلس» .

وقول ابن التين ـ وهو أحد شراح البخاري: هذا تعسف من البخاري: ليس بوجيه، فالبخاري لم يتعسف رحمه الله، وإنما بيَّن حكما دلت عليه السنة، وهو أنه إذا وهب من ساعته، أو باع من ساعته وسكت البائع يسقط الخيار في هذه الحالة، ويكون مستثنى من أحاديث خيار المجلس.

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والجمع بين الحديثين ـ أي: هذا والذي يليه ـ ممكن بأن يكون بعد العقد فارق عمر بأن تقدمه أو تأخر عنه مثلاً ثم وهب، وليس في الحديث ما يثبت ذلك ولا ما ينفيه، فلا معنى للاحتجاج بهذه الواقعة العينية في إبطال ما دلت عليه الأحاديث الصريحة من إثبات خيار المجلس فإنها إن كانت متقدمة على حديث: البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ [(87)]، فحديث البيعان قاض عليها، وإن كانت متأخرة عنه حمل على أنه ﷺ اكتفى بالبيان السابق» .

لكن الأحسن من ذلك أن يقال: إن هذه الحالة مستثناة، فإذا باع وعندهما ثالث ثم باع عليه أو وهبه له أو أعتقه ـ إذا كان عبدًا ـ وسكت البائع ففي هذه الحالة يسقط الخيار، أما إذا كان يريد الخيار يقول: لا أنا لا أوافق على البيع ولي الخيار وأريد أن أفسخ البيع، أما إذا سكت فمعناه أنه أسقط حقه.

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال ابن بطال: أجمعوا على أن البائع إذا لم ينكر على المشتري ما أحدثه من الهبة والعتق أنه بيع جائز، واختلفوا فيما إذا أنكر ولم يرض، فالذين يرون أن البيع يتم بالكلام دون اشتراط التفرق بالأبدان يجيزون ذلك، ومن يرى التفرق بالأبدان لا يجيزونه والحديث حجة عليهم» . اهـ.

وهذا الإجماع هو نص الرسول ﷺ وفعله، والتفرق بالأقوال دون الأبدان قال به الإمام مالك[(85)] وغيره.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وليس الأمر على ما ذكره من الإطلاق، بل فرقوا بين المبيعات، فاتفقوا على منع بيع الطعام قبل قبضه كما سيأتي، واختلفوا فيما عدا الطعام على مذاهب:

أحدها: لا يجوز بيع شيء قبل قبضه مطلقًا، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن.

ثانيها: يجوز مطلقًا إلا الدور والأرض، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.

ثالثها: يجوز مطلقًا إلا المكيل والموزون، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق.

رابعها: يجوز مطلقًا إلا المأكول والمشروب، وهو قول مالك وأبي ثور واختيار ابن المنذر. واختلفوا في الإعتاق، فالجمهور على أنه يصح الإعتاق ويصير قبضًا سواء كان للبائع حق الحبس بأن كان الثمن حالاً ولم يدفع أم لا، والأصح في الوقف أيضًا صحته.

وفي الهبة والرهن خلاف، والأصح عند الشافعية فيهما أنهما لا يصحان، وحديث ابن عمر في قصة البعير الصعب حجة لمقابله، ويمكن الجواب عنه بأنه يحتمل أن يكون ابن عمر كان وكيلاً في القبض قبل الهبة، وهو اختيار البغوي، قال: إذا أذن المشتري للموهوب له في قبض المبيع كفى وتم البيع وحصلت الهبة بعده، لكن لا يلزم من هذا اتحاد القابض والمقبض؛ لأن ابن عمر كان راكب البعير حينئذ، وقد احتج به للمالكية والحنفية في أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية، وإليه مال البخاري كما تقدم له في باب شراء الدواب والحمر» . اهـ.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَقَالَ طَاوُسٌ فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ بَاعَهَا: وَجَبَتْ لَهُ وَالرِّبْحُ لَهُ» ، وصله سعيد بن منصور وعبدالرزاق من طريق ابن طاوس عن أبيه نحوه.

وزاد عبدالرزاق: وعن معمر عن أيوب عن ابن سيرين: «إذا بعت شيئًا على الرضا فإن الخيار لهما حتى يتفرقا عن رضا» » اهـ.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ» في رواية ابن عساكر بإسناد البخاري: قال لنا الحميدي، وجزم الإسماعيلي وأبو نعيم بأنه علقه، وقد رويناه أيضًا موصولاً في «مسند الحميدي» ، وفي «مستخرج الإسماعيلي» ، وسيأتي من وجه آخر عن سفيان في الهبة موصولاً.

قوله: «فِي سَفَرٍ» لم أقف على تعيينه.

قوله: «عَلَى بَكْرٍ» بفتح الموحدة وسكون الكاف: ولد الناقة أول ما يركب.

قوله: «صَعْبٍ» أي: نفور.

قوله: «فَبَاعَهُ» زاد في الهبة فاشتراه النبي ﷺ، ثم قال: هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ [(86)]. اهـ.

وفي الحديث: ما كان الصحابة عليه من توقيرهم للنبي ﷺ وأن لا يتقدموه في المشي.

وفيه: جواز زجر الدواب، وأنه لا يشترط في البيع عرض صاحب السلعة سلعته، بل يجوز أن يُسأل في بيعها؛ لأن الرسول ﷺ قال لعمر: بِعْنِيهِ، وقال لجابر: بعنيه بأوقية [(88)]، فلا بأس أن يعرض المشتري على البائع.

وفيه: جواز التصرف في المبيع قبل قبض الثمن.

وفيه: مراعاة النبي ﷺ أحوال الصحابة وحرصه على ما يدخل عليهم السرور.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بِعْتُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالاً» أي: أرضًا أو عقارًا.

قوله: «بِالْوَادِي» يعني: وادي القرى.

قوله: «فَلَمَّا تَبَايَعْنَا رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي» ، في رواية أيوب بن سويد: «فطفقت أنكص على عقبي القهقرى» [(90)].

قوله: «يُرَادَّنِي» بتشديد الدال، أصله: يراددني، أي: يطلب مني استرداده.

قوله: «وَكَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا» ، يعني: أن هذا هو السبب في خروجه من بيت عثمان، وأنه فعل ذلك ليجب له البيع ولا يبقى لعثمان خيار في فسخه، واستدل ابن بطال بقوله: «وَكَانَتْ السُّنَّةُ» على أن ذلك كان في أول الأمر، فأما في الزمن الذي فعل ابن عمر ذلك فكان التفرق بالأبدان متروكًا، فلذلك فعله ابن عمر لأنه كان شديد الاتباع.

هكذا قال، وليس في قوله «وَكَانَتْ السُّنَّةُ» ما ينفي استمرارها، وقد وقع في رواية أيوب بن سويد: «كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يفترق المتبايعان فتبايعت أنا وعثمان...» فذكر القصة.

وفيها إشعار باستمرار ذلك، وأغرب ابن رشد في المقدمات له فزعم أن عثمان قال لابن عمر: «ليست السنة بافتراق الأبدان قد انتسخ ذلك» وهذه الزيادة لم أر لها إسنادًا، ولو صحت لم تخرج المسألة على الخلاف؛ لأن أكثر الصحابة قد نقل عنهم القول بأن الافتراق بالأبدان» اهـ.

قلت: وابن رشد وابن بطال كلاهما مالكيَّان، ولعلهما تأثرا بمذهب الإمام مالك؛ لأن الإمام مالكًا[(91)] لا يرى التفرق بالأبدان، وأن المراد التفرق بالأقوال ومن العجيب أن مالكًا رحمه الله هو راوي الحديث في خيار المجلس عن نافع عن ابن عمر، ومع ذلك لم يقل بخيار المجلس كما يقتضيه الحديث الصريح، وهو راوي حديث: البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا [(92)] ومع ذلك قال بعدم الخيار في المجلس؛ ولذا قال ابن أبي ذئب ـ وهو من أقران الإمام مالك: لا أدري هل اتهم مالك نفسه أو اتهم نافعًا؟! ولا أقول اتهم ابن عمر؛ لأنه صحابي، وقال: ينبغي أن يستتاب مالك فإن تاب وإلا قتل. قال ذلك من شدة حرصه على اتباع السنة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلاَثِ لَيَالٍ» ، أي: زدت المسافة التي بينه وبين أرضه التي صارت إليه على المسافة التي كانت بينه وبين أرضه التي باعها بثلاث ليال.

قوله: «وَسَاقَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاَثِ لَيَالٍ» ، يعني: أنه نقص المسافة التي بيني وبين أرضي التي أخذ بها عن المسافة التي كانت بيني وبين أرضي التي بعتها بثلاث ليال، وإنما قال «إِلَى الْمَدِينَةِ» لأنهما جميعًا كانا بها، فرأى ابن عمر الغبطة في القرب من المدينة؛ فلذلك قال: «رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ غَبَنْتُهُ» .

وفي هذه القصة: جواز بيع العين الغائبة على الصفة، وسيأتي نقل الخلاف فيها في باب بيع الملامسة.

وفيها: جواز التحيل في إبطال الخيار، وتقديم المرء مصلحة نفسه على مصلحة غيره» وهذا يرده حديث: ولا يفارقه خشية أن يستقيله [(93)].

ثم قال رحمه الله: «وفيه: جواز بيع الأرض بالأرض.

وفيه: أن الغبن لا يرد به البيع» في هذا تفصيل كما يسأتي في الحديث التالي.

قوله: «وَقَالَ طَاوُسٌ فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ بَاعَهَا: وَجَبَتْ لَهُ وَالرِّبْحُ لَهُ» . المراد منه أنه إذا اشترى سلعة من شخص برضاه ثم باعها في الحال بربح على ثالث قبل التفرق وسكت البائع لزم البيع، والربح يكون للمشتري، فيأخذ الربح في الحال، فلو قال زيد لعمرو: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فقال عمرو: قبلت، وكان بكر حاضرًا، فقال بكر: بعني يا عمرو السيارة باثني عشر، فقال: بعتك، وسكت زيد، ففي هذه الحالة لزم البيع وربح عمرو ألفين؛ لأن سكوت البائع يسقط خياره.

المتن:

باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْخِدَاعِ فِي الْبَيْعِ

2117 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ، فَقَالَ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ.

الشرح:

2117 في الحديث: بيان أنه لا يجوز لإنسان أن يخدع صاحبه في البيع، فإذا كان المشتري ضعيف البصيرة فلا يخدعه، بل يبين له السلعة إذا كان جاهلاً، فإذا خدعه أو أخفى عليه فإن له الخيار.

قوله: «أَنَّ رَجُلاً ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ» الرجل هو: حبان ابن منقذ، أصابته ضربة في رأسه فكان لا يعقل، وكان يشتري ويخدع، فقال للنبي ﷺ: إنه يخدع في البيوع فنهاه، وقال: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ، يعني: لا خديعة، وكان في لسانه لسعة فكان يقول: لا خذابة ـ بالذال بدل اللام ـ يعني: لا تخدعني، وبقي إلى خلافة عثمان، فكان إذا اشترى سلعة وغبن فيها، شُهد له أن النبي ﷺ جعل له الخيار ثلاثة أيام فيفسخ العقد.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «زاد ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير، وعبدالأعلى عنه: ثُمَّ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ؛ فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْ [(94)]، فبقي حتى أدرك زمن عثمان، وهو ابن مائة وثلاثين سنة، فكثر الناس في زمن عثمان، وكان إذا اشترى شيئًا فقيل له: إنك غبنت فيه، رجع به، فيشهد له الرجل من الصحابة بأن النبي ﷺ قد جعله بالخيار ثلاثًا، فيرد له دراهمه» اهـ.

فهذا الرجل مع طول عمره كان مستمرًّا على بيعه لكن مع ضعف في الضبط، وكان لا يصبر عن البيع، فكان إذا اشترى سلعة وقيل له إنه مغبون فيها ذهب وردها.

واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أنه ترد السلعة بالغبن الفاحش لمن لم يعرف قيمة السلعة، والخيار في الغبن معروف عند الفقهاء، قال بعض العلماء: إذا غبن بمقدار الثلث أو أكثر من الثلث، فله أن يرد البيع، وأنكر بعضهم خيار الغبن وقالوا: جعل النبي ﷺ الخيار لحبان بن منقذ لا من أجل الغبن، بل من أجل ضعف عقله، وقال بعضهم: إن الخيار في هذا الحديث إنما جعل لأجل العيب الذي يكون في السلعة مع كتمانه.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد