شعار الموقع
شعار الموقع

شرح كتاب البيوع من صحيح البخاري (34-5) من باب مَا ذُكِرَ فِي الأَْسْوَاقِ - إلى باب مَنْ رَأَى إِذَا اشْتَرَى طَعَامًا جِزَافًا أَنْ لاَ يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْوِيَهُ إِلَى رَحْلِهِ وَالأَْدَبِ فِي ذَلِكَ

00:00

00:00

تحميل
53

المتن:

باب مَا ذُكِرَ فِي الأَْسْوَاقِ

وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قُلْتُ: هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعَ.

وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ.

وَقَالَ عُمَرُ: أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَْسْوَاقِ.

2118 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: حَدَّثتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الأَْرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.

2119 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: صَلاَةُ أَحَدِكُمْ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي سُوقِهِ وَبَيْتِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ، لاَ يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، وَالْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ، مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، وَقَالَ: أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَتْ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ.

2120 حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي السُّوقِ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي.

2121 حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ دَعَا رَجُلٌ بِالبَقِيعِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: لَمْ أَعْنِكَ، قَالَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي.

2122 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيِّ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ لاَ يُكَلِّمُنِي وَلاَ أُكَلِّمُهُ حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: أَثَمَّ لُكَعُ أَثَمَّ لُكَعُ فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ.

قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَأَى نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ.

2123 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى عَنْ نَافِعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ، حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ.

2124 قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُبَاعَ الطَّعَامُ إِذَا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ.

الشرح:

هذه الترجمة ذكرها المؤلف رحمه الله لبيان ما يتعلق بالأسواق التي يبيع فيها الناس ويشترون، وأنه لا حرج في دخول السوق والبيع والشراء فيه، وأن النبي ﷺ أقر ذلك، وما جاء في بعض الأحاديث: أن أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق [(95)]، لا يمنع من دخولها، فقد يكون فيها شر لما يكون فيها من الأيمان الكاذبة ومن الغش، ولهذا كانت شر البقاع، لكن فيها خيرًا ومنافع، ولا حرج في كون الفضلاء يدخلون الأسواق، فالنبي ﷺ دخل السوق والصحابة دخلوا الأسواق، وإنما الممنوع ما يحصل فيها من اللغو، فلا حرج في دخول السوق لمن احتاج إلى ذلك بشرط أنه إذا رأى شيئًا منكرًا فإنه ينكره.

قوله: «وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قُلْتُ: هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟» قاله عبدالرحمن لما قال له أخوه سعد بن الربيع ـ وقد عقد بينهما الأخوة النبي ﷺ كما عقد بين المهاجرين والأنصار ـ أعطيك نصف مالي، ولي زوجتان انظر: أيتهما أعجبتك أطلقها فإذا اعتدت وخرجت من العدة تزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك دلوني على السوق، فدخل السوق وجعل يبيع ويشتري فرزقه الله.

قوله: «وَقَالَ عُمَرُ: أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَْسْوَاقِ» ، يعني: البيع والشراء.

وفيه: أنه لا حرج في دخول الأسواق، وأن البيع المبرور من أحل المكاسب، ولا حرج في بيع الكبير لأنه يمنعه من ذل السؤال.

2118 ذكر المؤلف رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الأَْرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.

والشاهد قوله: وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، والمراد بأسواقهم: الذين يتبعون الجيش من الباعة حيث يبيعون عليهم ما يحتاجون من السمن والدهن ونحوه.

وفيه: شؤم جليس السوء، وأنه يؤثر على صاحبه فتصيبه العقوبة في الدنيا، فالذين يتبعون الجيش الذي يغزو الكعبة في آخر الزمان يخسف بهم، ويشمل العذاب الباعة الذين يتبعونهم، وكذلك الخدم تصيبهم العقوبة معهم، لكن في الآخرة يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ؛ وهذا إذا لم يكن عالمًا بمقصد الجيش، أما إذا علم فلا يجوز له البيع لهم والمشي معهم وهو يعلم أنهم سيهدمون الكعبة؛ لأن في هذا إعانة لهم على الإثم والعدوان.

وفيه: دليل على أن العقوبات إذا وقعت تعم الصالح والطالح، قال الله : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً [الأنفَال: 25]، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ استيقظ فزعًا مرة وقال: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ، وَمأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا، وحلق بأصبعه السبابة والتي تليها، فقالت زينب: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ [(96)]. والخبث هي المعاصي؛ فإذا كثرت المعاصي جاءت العقوبات وعمت الصالح والطالح.

وفي الحديث يقول النبي ﷺ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ لَا يُغَيِّرُونَهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ [(97)].

2119 في حديث أبي هريرة : أن النبي ﷺ قال: صَلاَةُ أَحَدِكُمْ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي سُوقِهِ وَبَيْتِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، والشاهد فيه قوله: فِي سُوقِهِ. فذكره للسوق وللصلاة فيها دليل على أنه لا بأس بدخول الأسواق مع مراعاة آدابها.

قوله: لاَ يَنْهَزُهُ، يعني: لا يبعثه من مكانه.

قوله: وَالْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ، مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، وَقَالَ: أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَتْ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ فيه: فضل انتظار الصلاة.

وفيه: فضل صلاة الجماعة، وأنها تضاعف على صلاة الفذ بخمس وعشرين[(98)].

وفي الحديث الآخر: بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ [(99)].

وفيه: فضل الخطوات إلى المسجد، وأن الإنسان إذا كان ينتظر الصلاة فهو في صلاة، أي: في حكم المصلي، والصلاة من الملائكة الدعاء.

2120 في حديث أنس: أن النبي ﷺ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي السُّوقِ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ» ، والشاهد قوله: «فِي السُّوقِ» ففعل النبي ﷺ دال على أنه لا حرج في دخول السوق.

2121 في حديث أنس الثاني، قال: «دَعَا رَجُلٌ بِالبَقِيعِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ» وهذا هو الشاهد حيث إن المراد بالبقيع هو سوق البقيع.

قوله: «فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: لَمْ أَعْنِكَ، قَالَ: سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي، هذا النهي إنما هو في حياته ﷺ، وقد جاء أن النبي ﷺ أذن بالتكني بكنيته بعد وفاته[(100)]، فالتكني ممنوع في حياته؛ لأنه يشتبه مع النبي ﷺ، لكن بعد وفاته زال المحذور.

2122 في حديث أبي هريرة : «خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ لاَ يُكَلِّمُنِي وَلاَ أُكَلِّمُهُ حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ» وهذا هو الشاهد وفيه جواز دخول السوق وأنه لا حرج فيه.

قوله: «فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: أَثَمَّ لُكَعُ، أَثَمَّ لُكَعُ ولكع تطلق على الصغير وتطلق على اللئيم، والمراد هنا الصبي وهو الحسن بن علي رضي الله عنهما.

قوله: «فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ» السخاب: خرز يجعل في رقبة الصبي.

قوله: «قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَأَى نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ» والمراد بهذه الزيادة: إثبات سماع عبيدالله لنافع، ولهذا رآه أوتر بركعة.

2123 في حديث ابن عمر: «أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ، حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ» ، وفي لفظ: «حتى يحولوه» [(101)]، يعني: إذا اشترى الإنسان طعامًا، فإذا كان مكيلاً فلابد أن يكيله إذا ابتاعه، ثم يكيله مرة أخرى عند بيعه، وإن كان صبرة ينقلها ثم يبيعها ولا يتركها في مكانها.

والشاهد في الحديث قوله: «كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ» والركبان: القافلة الجالبة للطعام وهم في طريقهم إلى الأسواق ولم يعرفوا الأسعار بعد.

وفيه: جواز الشراء من الركبان والنهي عن تلقيهم.

2124 وقوله: «نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُبَاعَ الطَّعَامُ إِذَا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» فيه: أنه إذا اشترى الإنسان الطعام فلا يبعه حتى يستوفيه، يعني: حتى يقبضه ثم يبيعه.

المتن:

باب كَرَاهِيَةِ السَّخَبِ فِي السُّوقِ

2125 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِوابنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلأُْمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَْسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا.

تَابَعَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلاَلٍ.

وَقَالَ سَعِيدٌ: عَنْ هِلاَلٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ سَلاَمٍ.

غُلْفٌ كُلُّ شَيْءٍ فِي غِلاَفٍ سَيْفٌ أَغْلَفُ وَقَوْسٌ غَلْفَاءُ وَرَجُلٌ أَغْلَفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُونًا.

الشرح:

هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان «كَرَاهِيَةِ السَّخَبِ فِي السُّوقِ» ، والسخب: الصوت المرتفع، يقال: سخب بالسين المهملة وصخب بالصاد المهملة أيضًا، فالسخب في الأسواق منهي عنه، أما دخول الأسواق فلا بأس به.

2125 في الحديث: أن صفات النبي ﷺ في القرآن وبعضها موجود في التوراة، وكان عبدالله بن عمرو بن العاص يقرأ شيئًا من كتب الأوائل، وكان عنده كتب أصابها يوم اليرموك يحدث بها عن بني إسرائيل، وقد سأله عطاء بن يسار فقال: «أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزَاب: 45]» أي: مبشرًا لمن أطاعه بالجنة ونذيرًا لمن عصاه بالنار.

قوله: «وَحِرْزًا لِلأُْمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ» . حرزًا يعني: حفظًا وحماية، والأميين: العرب، وغيرهم تبع لهم.

قوله: «لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَْسْوَاقِ» . هو: الشاهد للترجمة، فوصفه ﷺ كما قال الله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عِمرَان: 159]، «وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ» أي: أنه ﷺ حيي كريم، وهذه الأوصاف التي في التوراة موجودة في القرآن.

قوله: «وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» ، المراد بالملة العوجاء: ملة العرب ووصفها بالعوج لما دخل فيها من عبادة الأصنام، وإقامتها: إخراج أهلها من الكفر إلى الإيمان، وإلى القصد والعدل والاستقامة، فملة التوحيد الملة الحنيفية هي في نفسها قيمة مستقيمة، كما قال الله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَمًا [الأنعَام: 161]، وقد يراد بالعوج: ميلها عن الشرك فهي في نفسها مستقيمة، كما في الحديث: بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ [(102)]، يعني: بالشرعة والملة المائلة عن الجور إلى القصد والاستقامة، ومنه سمي إبراهيم ﷺ حنيفًا؛ لميله ﷺ عن الشرك واستقامته على التوحيد؛ قال : ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النّحل: 123]، يعني: مائلاً عن الشرك إلى التوحيد.

قوله: «وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا» ، فهو ﷺ سبب يفتح به أعين لا ترى الحق، ولكن الله يفتح بدعوته ورسالته هذه الأعين فترى الحق وتبصره، وآذان صم لا تسمع الحق يفتحها الله فتسمعه، وقلوب عليها غلاف يمنع من الوصول إليها ولكن الله يفتحها.

قوله: «غُلْفٌ كُلُّ شَيْءٍ فِي غِلاَفٍ سَيْفٌ أَغْلَفُ وَقَوْسٌ غَلْفَاءُ وَرَجُلٌ أَغْلَفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُونًا» تفسير من المؤلف لكلمة «غلف» . فمادة غلف تدل على الغطاء، فيقال: سيف أغلف إذا كان عليه غطاء، وقوس غلفاء كذلك، ورجل أغلف إذا لم يكن مختونًا؛ لأن الختان هو قطع الجلدة التي تغطي حشفة الذكر.

ومنه قوله تعالى عن الكفار: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البَقَرَة: 88] يعني: بينهم وبين الحق حجاب.

ولا يجوز القراءة في التوراة ولا في الإنجيل، إلا لمن أراد أن يرد على اليهود والنصارى ويرد على باطلهم؛ ولهذا غضب النبي ﷺ لما رأى ورقة من التوراة مع عمر بن الخطاب وقال: أَمُتَهوك يا ابن الخطاب، لقد جئت بها بيضاء نقية، والله لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي [(103)]، فلا يجوز القراءة إلا للعالم الكبير الذي يرد على أباطيل اليهود والنصارى، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد قرأ في كتبهم وألف كتاب «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» ، أما عامة الناس فليس لهم ذلك.

وارتفاع الصوت في الأسواق بالحق مطلوب؛ فقد تدعو الحاجة إلى هذا أحيانًا فيكون هذا مستثنى، لكن الأصل أن إنكار المنكر يكون باللين والرفق، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النّحل: 125]، فإذا لم يُجْدِ طريق اللين سلكت طرق أخرى .

ولا بأس بالمزايدة، ومعلوم أن فيها رفع للصوت، وقد ثبت ـ كما سيأتي ـ أن النبي ﷺ باع سلعة لبعض الصحابة وقال: مَنْ يَزِيدُ [(104)]، ومعلوم أنه يرفع صوته حتى يسمع الناس فيزيدوا.

المتن:

باب الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ يَعْنِي كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ.

كَقَوْلِهِ: يَسْمَعُونَكُمْ يَسْمَعُونَ لَكُمْ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا.

وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُ: إِذَا بِعْتَ فَكِلْ وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَل.

2126 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ.

2127 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَاسْتَعَنْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَضَعُوا مِنْ دَيْنِهِ فَطَلَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ: اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا، الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، وَعَذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَيَّ، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَجَاءَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلاَهُ أَوْ فِي وَسَطِهِ، ثُمَّ قَالَ: كِلْ لِلْقَوْمِ، فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمْ الَّذِي لَهُمْ، وَبَقِيَ تَمْرِي كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ.

وَقَالَ فِرَاسٌ: عَنْ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ، فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّاهُ.

وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: جُذَّ لَهُ فَأَوْفِ لَهُ.

الشرح:

قال المؤلف: «بَابُ الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِي» يعني: إذا كان البيع كيلاً فإنه يكال على البائع والمعطي، أما إذا كان البيع جزافًا ـ كبيع كومة من الطعام ـ فلا يكال على الصحيح، لكن إذا باعه بالكيل فاشترى منه مائة صاع من التمر أو من البر فلابد أن يكيله، ولو اشتراها بالوزن لابد أن يزنها ويسلمها للمشتري، ولا يبيعها المشتري حتى ينقلها إلى مكانه أو إلى أعلى السوق، فإذا نقلها وأراد أن يبيعها فإنه لا يكتفى بالكيل ولا بالوزن الذي كال له البائع، بل عليه أن يكيل مرة أخرى ويزن مرة أخرى للمشتري الثاني.

وذكر المؤلف الآية، فقال: « وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطفّفِين: 3] يَعْنِي كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ».

وفيه: ذم لمن ينقص المكيال والميزان، وهو التطفيف الذي توعد الله فاعله بالويل، أي: شدة العذاب والهلاك، قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطفّفِين: 1-2] أي: إذا اكتال لنفسه يأخذ الكيل وافيًا، وإذا كال لغيره يعطيه ناقصًا، وإذا كان هذا الوعيد في الكيل بمكيال الدنيا فمكيال الآخرة أشد، فالذي يطفف في مكيال الدين في الصلاة، أو في الزكاة أعظم وأعظم.

وقول النبي ﷺ: اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا. والاستيفاء يكون بالقبض، فلابد أن يكون القبض بالكيل إذا كان مكيلاً، أو الوزن إذا كان موزونًا.

قوله: «وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُ: إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَل يعني: إذا بعت على غيرك فكل للمشتري، وإذا ابتعت ـ أي: اشتريت ـ فاكتل، فيكون البيع مرتين والكيل مرتين.

وقد أتى المؤلف رحمه الله هنا بصيغة التمريض؛ لأن الحديث فيه ضعف، لكنه أتى به تأييدًا للترجمة.

2126 قوله: مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ ، يعني: حتى يقبضه، وقبضه إذا كان مكيلاً يكون بالكيل، وإذا كان موزونًا يكون بالوزن، ثم ينقله إلى مكانه؛ وكذلك إذا كان جزافًا أو كان لا يكال ولا يوزن فإنه ينقله أيضًا.

2127 قوله: «تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ» ، هو والد جابر، وعبدالله بن حرام قتل شهيدًا في غزوة أحد «فَاسْتَعَنْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَضَعُوا مِنْ دَيْنِهِ» . والغرماء هم أصحاب الديون، «فَطَلَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا» ، أي: طلب النبي ﷺ منهم أن يضعوا من الدين، لكن لم يقبلوا، وقالوا: لابد أن يكيل لنا ويعطينا الدين، وكان الدين آصعًا معروفة، فلما أبوا أن يضعوا من الدين، قال النبي ﷺ لجابر: اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافًا، الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، وَعَذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، يعني: اعزل كل صنف على حدة؛ لأن التمر أصناف، ذكر منها العجوة وعذق زيد.

والمدينة فيها أنواع من التمور، فالتمر الأسود ذكر بعضهم فيه ما يقرب من ستين نوعًا، والتمر الأحمر أكثر من ستين، مثل ما هو موجود الآن، فالتمر السكري نوع، ونبتة السيف نوع، والخضري، والسلَّج نوع وهكذا.

والعجوة نوع من أفضل تمر المدينة، والذي جاء فيها الحديث: من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يصبه في ذلك اليوم سم ولا سحر [(108)].

قوله: «وَعَذْقَ» بفتح العين نوع من النخل ينسب إلى ابن زيد، أما عِذق بالكسر فهو القنو والعرجون.

قوله: «ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَيَّ»، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَجَاءَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلاَهُ أَوْ فِي وَسَطِهِ» ، يعني: جاء النبي ﷺ بعدما عزله أصنافًا فبرَّك ودعا، ثم قال: كِلْ لِلْقَوْمِ، فدعا اليهود وجعل يكيل لهم، قال: «فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمْ الَّذِي لَهُمْ» ، أي: جعل يكيل لهم حتى استوفوا حقهم وقال: «وَبَقِيَ تَمْرِي كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ» ، وهذه من دلائل النبوة ـ أي: تكثير التمر حينما دعا وبرَّك ـ وهي من دلائل قدرة الله، وأن الله على كل شيء قدير، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82].

قوله: «فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّاهُ» ؛ لأن التمر صار فيه البركة لما جعل الله في رسوله ﷺ من البركة فهو مبارك.

قوله: جُذَّ لَهُ فَأَوْفِ لَه ، جُدَّ أمر من الجداد، وهو قطع العرجون وهو العِذق.

ومن الفوائد في الحديث جواز طلب الشفاعة ممن يظن أنه يشفع، كما طلب جابر من النبي ﷺ أن يشفع له عند اليهود فشفع له، ولا يلزم قبول الشفاعة من المشفوع عنده، وقد شفع النبي ﷺ لبريرة أن ترجع إلى زوجها مغيث، فلم تقبل شفاعته وهي أمة، قالت: يا رسول الله تأمرني أو تشفع؟ قال: لا بل أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه[(109)]؛ لأنها ترى أن في بقائها معه مشقة عليها.

المتن:

باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْكَيْلِ

2128 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ ثَوْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ الْمِقْدَامِ، بْنِ مَعْدِي كَرِبَ ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها بيان فضل الكيل، فقوله: «بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْكَيْلِ» ، يعني: في المبايعات، وأن الكيل في المبايعات وإن كان أمرًا واجبًا إلا أنه مع ذلك فيه أسباب البركة، أما ما أعده للنفقة فلا يكله، فإن كاله ذهبت البركة، كما جاء أن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان عندي شطر شعير آكل منه حتى طال علي فكلته ففني» [(110)]. فلما كالته ونظرت كم بقي انتهى، وكانت تأخذ منه ولا ينقص، فالذي يعد للنفقة لا ينبغي أن يكال بل يترك، وما أعد للبيع فإنه يكال.

2128 قوله ﷺ: كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ يعني: إذا أردتم بيعه وكان البيع مكيلاً لا جزافًا، فكيلوه، ثم إذا ادخره فلا يكله بعد ذلك ليرى الباقي ويعلم مقداره حتى يبارك له فيه.

قال الحافظ ابن حجر: «قوله: يُبَارَكْ لَكُمْ، كذا في جميع روايات البخاري، ورواه أكثر من تقدم ذكره فزادوا في آخره فيه [(111)]، قال ابن بطال: الكيل مندوب إليه فيما ينفقه المرء على عياله، ومعنى الحديث: أخرجوا بكيل معلوم يبلغكم إلى المدة التي قدرتم، مع ما وضع الله من البركة في مد أهل المدينة بدعوته ﷺ.

وقال ابن الجوزي: يشبه أن تكون هذه البركة للتسمية عليه عند الكيل. وقال المهلب: ليس بين هذا الحديث وحديث عائشة: «كان عندي شطر شعير آكل منه حتى طال عليَّ فكلته ففني» [(112)]. يعني: الحديث الآتي ذكره في الرقاق معارضة؛ لأن معنى حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تخرج قوتها وهو شيء يسير بغير كيل فبورك لها فيه مع بركة النبي ﷺ، فلما كالته علمت المدة التي يبلغ إليها عند انقضائها اهـ. وهو صرف لما يتبادر إلى الذهن من معنى البركة، وقد وقع في حديث عائشة المذكور عند ابن حبان: «فما زلنا نأكل منه حتى كالته الجارية، فلم نلبث أن فني، ولو لم تكله لرجوت أن يبقى أكثر» [(113)].

وقال المحب الطبري: لما أمرت عائشة بكيل الطعام، ناظرة إلى مقتضى العادة، غافلة عن طلب البركة في تلك الحالة، رُدت إلى مقتضى العادة اهـ. والذي يظهر لي أن حديث المقدام محمول على الطعام الذي يشترى، فالبركة تحصل فيه بالكيل لامتثال أمر الشارع، وإذا لم يمتثل الأمر فيه بالاكتيال نزعت منه لشؤم العصيان، وحديث عائشة محمول على أنها كالته للاختبار فلذلك دخله النقص، وهو شبيه بقول أبي رافع لما قال له النبي ﷺ في الثالثة: نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ قال: وهل للشاة إلا ذراعان؟ فقال: لو لم تقل هذا لناولتني ما دمت أطلب منك [(114)]، فخرج من شؤم المعارضة انتزاع البركة، ويشهد لما قلته حديث: لاَ تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ [(115)] الآتي.

والحاصل أن الكيل بمجرده لا تحصل به البركة ما لم ينضم إليه أمر آخر وهو امتثال الأمر فيما يشرع فيه الكيل، ولا تنزع البركة من المكيل بمجرد الكيل ما لم ينضم إليه أمر آخر كالمعارضة والاختبار، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون معنى قوله: كِيلُوا طَعَامَكُمْ أي: إذا ادخرتموه طالبين من الله البركة واثقين بالإجابة، فكان من كاله بعد ذلك إنما يكيله ليتعرف مقداره، فيكون ذلك شكًّا في الإجابة، فيعاقب بسرعة نفاده، قاله المحب الطبري، ويحتمل أن تكون البركة التي تحصل بالكيل بسبب السلامة من سوء الظن بالخادم؛ لأنه إذا أخرج بغير حساب قد يفرغ ما يخرجه وهو لا يشعر، فيتهم من يتولى أمره بالأخذ منه وقد يكون بريئًا، وإذا كاله أمن من ذلك والله أعلم، وقد قيل: إن في «مسند البزار» أن المراد بكيل الطعام تصغير الأرغفة ولم أتحقق ذلك ولا خلافه» اهـ.

المتن:

باب بَرَكَةِ صَاعِ النَّبِيِّ ﷺ وَمُدِّهِمْ

فِيهِ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.

2129 حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ الأَْنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ.

2130 حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان بركة صاع النبي ﷺ ومده، ذكر الشارح رحمه الله أن إيراد المصنف الترجمة عقب التي قبلها يشعر بأن البركة المذكورة في الحديث السابق ـ حديث المقدام ـ مقيدة بما إذا وقع الكيل بمد النبي ﷺ وصاعه، وقالوا: ويحتمل أن يتعدى ذلك إلى ما كان موافقًا لهما لا إلى ما يخالفهما.

2129 في الحديث: أن النبي ﷺ دعا لأهل المدينة كما دعا إبراهيم لأهل مكة.

وقوله: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، يعني: أظهر تحريمها، وإلا فالمحرِّم هو الله، كما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [(117)] فالله تعالى هو الذي حرم، لكن إبراهيم أظهر تحريمها.

قوله: وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ، يعني: أظهرت تحريمها بأمر الله .

قوله: وَدَعَوْتُ لَهَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ، وفي رواية: بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ [(118)] وقد سبق بعض هذا في فضائل المدينة.

وهذا الفضل الخاص للمدينة لا يدل على أنها أفضل من مكة، وقد احتج بعضهم بهذا الحديث وأمثاله على أن المدينة أفضل من مكة، والصواب الذي عليه الجمهور أن مكة أفضل من المدينة، والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة.

وقوله: «فِيهِ عَائِشَةُ رضي الله عنها» يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها الذي ذكره المصنف رحمه الله في آخر الحج.

وفيه: أن أبا بكر وبلالاً أصابهما وعك، وأن النبي ﷺ دعا لهم فقال: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا [(116)].

2130 في حديث أنس: أن النبي ﷺ دعا لأهل المدينة، قال: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ، وهذا فيه: دليل على فضل المدينة.

وفيه: دليل على مشروعية البيع والشراء في المدينة وفي مكة وفي غيرها، وأن المكيل والموزون يباع بالكيل وبالوزن، وأن الله تعالى يبارك في مكيال أهل المدينة كما يبارك في مكيال أهل مكة.

المتن:

باب مَا يُذْكَرُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ وَالْحُكْرَةِ

2131 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الأَْوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ.

الشرح:

قوله: «بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ وَالْحُكْرَةِ» الحكرة: حبس السلع عن البيع إلى وقت الغلاء مع حاجة الناس إليها، ويقال لها: حكرة أو: احتكار، وقد جاءت أحاديث في ذلك وليست على شرط المؤلف، ويأتي ذكرها في كلام الحافظ.

والاحتكار لا يجوز، ولكن هل هو خاص بالطعام أو يتعداه إلى غيره؟

من العلماء من خص الاحتكار بالطعام، ومنهم من عداه إلى غيره.

وقال العلماء: إن كان شراء السلعة في وقت السعة وكثرة السلعة فلا بأس به، لكن إذا اشترى في وقت الضيق ثم حبسها إلى وقت الغلاء وباعها بثمن مرتفع، فهذا من الاحتكار.

وإذا ثبت الاحتكار يعزر صاحبه؛ لكونه يشتري السلعة ثم يحبسها حتى يأتي وقت الغلاء فيضر الناس، أما إذا اشتراها في وقت السعة وباعها في وقت الحاجة فلا حرج، كما أنه ليس له أن يشتري جميع السلعة، فإنه يضيق على الناس.

2131 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً».

وفيه: دليل على جواز بيع الطعام مجازفة، أي: جزافًا بدون كيل، فالطعام إن بيع جزافًا فلا يجب الكيل والوزن.

وقوله: «يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَبِيعُوهُ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ» فيه: دليل على أنه لا يجوز بيع السلعة في المكان الذي اشتراها فيه حتى ينقلها إلى بيته، أو إلى دكانه، أو على الأقل ينقلها إلى أعلى السوق؛ وروي في حديث آخر: «حتى يحولوه أو ينقلوه» [(124)]. فالسيارة مثلاً إذا اشتراها من المعرض ينقلها إلى بيته ثم يبيعها، أما أن يشتريها في المعرض ويبيعها في المعرض فلا؛ لأن المعرض هذا مكان البائع.

وإذا كان الباعة يضربون على عهد النبي ﷺ ليتأدبوا بآداب البيع فلأن يضربوا الآن من باب أولى، فمن آداب البيع أن ينقل السلعة من مكان الشراء إلى مكان آخر، ثم يبيعها في المكان الآخر، والذي يبيعها في مكان شرائها يضرب حتى ينقلها إلى مكان آخر.

وفيه: دليل على أن ولي الأمر له أن يؤدب من يخل بالآداب الشرعية ولو بالضرب، وهذا من أدلة عقوبة التعزير، وهي عقوبة المعاصي التي ليس فيها حد، حيث يجتهد القاضي ويعزر من فعل معصية ليس فيها حد بما يراه رادعًا، فمثلاً يعزره بأربعين جلدة، أو خمسين أو ستين، وقد يصل التعزير إلى القتل إذا لم يتق شره إلا بالقتل فيقتل تعزيرًا.

والحديث فيه: دليل على عدم جواز ما يتساهل فيه كثير من الناس الآن فيجعل السلعة في مكانها، أو يشتري السلعة من الدكان ويبيعها على صاحبه، ومثل ذلك الذين يستعملون المداينات فيداين مثلاً شخصًا ويقول: دايني مثلاً عشرة آلاف ريال، فيذهب معه إلى الدكان، ويعد عليه أكياس السكر والأرز فإذا عدها قال: قبضتَ؟ قال: قبضتُ، ثم يسلمها إياه، ثم يبيعها الثاني على صاحب الدكان، وهذا غلط؛ لأن الذي اشتراها منه لابد أن ينقلها من الدكان إلى مكان آخر، ثم يبيعها المشتري على شخص آخر، أما أن يبيعها في مكانها الذي اشتراها منه فهذا لا يصح عند جمع من أهل العلم.

المتن:

2132 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ طَعَامًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، قُلْتُ: لاِبْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: ذَاكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ.

قال أبو عبدالله: مُرْجَوْنَ: مؤخرون

الشرح:

2132 قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ طَعَامًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» أي: حتى يقبضه بالكيل إن كان مكيلاً، أو بالوزن إن كان موزونًا، وبالنقل إن كان منقولاً.

قوله: «قُلْتُ: لاِبْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ ذَاكَ؟» ، أي: كيف يبيع طعامًا ولم يستوفه؟

قوله: «قَالَ: ذَاكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ» أي: مؤخر، والمعنى أنه إذا اشترى طعامًا بألف ريال، ثم أبقاه عند البائع، ثم باعه على شخص آخر بألف ومائتين، فقد باع دراهم بدراهم، فباع ألفًا بألف ومائتين والطعام مرجى.

قوله: «قال أبو عبدالله: مرجون: مؤخرون» . استدل على أن الإرجاء معناه التأخير بقوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَِمْرِ اللَّهِ [التّوبَة: 106] وفي قراءة: مرجئون يعني: مؤخرون، فدل هذا على أنه يجب نقل الطعام، وكذلك غير الطعام من مكان البائع إلى بيته أو دكانه أو معرضه ثم يبيعها.

وقد ورد التعزير بالمال، فعنه ﷺ قال: إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا [(125)]، وهذا يرجع إلى الحاكم الشرعي.

المتن

2133 حَدَّثَنِي أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ.

الشرح:

2133 قوله: مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ يعني: حتى ينقله من مكان البائع إلى بيته، أو إلى دكانه، أو إلى أعلى السوق، فهذا هو القبض، وما لا ينقل مثل البساتين والدور فيكون قبضها بالتخلية، فإن كانت دارًا تسلم المفاتيح، وكذلك الأشياء الثقيلة التي يصعب نقلها تقبض بالتخلية.

وفي الحديث: نهي، والنهي للتحريم، فهو دليل على أنه يحرم عليه أن يبيعه حتى يقبضه.

وهل يفسد البيع إذا باع المشتري المبيع قبل قبضه أو لا يفسد؟ فيه خلاف، والأقرب أنه لا يصح البيع، فتمام البيع أن يقبضه، ولا يبيعه في المكان الذي اشتراه فيه.

المتن:

2134 حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ كَانَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يُحَدِّثُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عِنْدَهُ صَرْفٌ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا حَتَّى يَجِيءَ خَازِنُنَا مِنْ الْغَابَةِ.

قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ

الشرح:

2134 قوله: «حَتَّى يَجِيءَ خَازِنُنَا مِنْ الْغَابَةِ» ، يعني: أعطني الدراهم وأعطيك صرفها إذا جاء خادمنا من الغابة، قال: لا بل يدًا بيد.

ثم ذكر حديث عمر سمعت النبي ﷺ يقول: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ. هَاءَ وَهَاءَ يعني: خذ وأعط، فهاء الأولى الأخذ وهاء الثانية الإعطاء، ويكون هذا أيضًا فيما إذا بيع ذهب جديد بذهب قديم، فلابد أن يكون يدًا بيد، ويكون مع ذلك التماثل بالوزن، سواء في ذلك المصوغ أو غير المصوغ، فلابد من شرطين: يدًا بيد، والتماثل بالميزان، وكذلك بر ببر لابد من تقابض يد بيد وتماثل صاع بصاع، ولو كان أحدهما رديئًا والآخر جيدًا، وكذا تمر بتمر، ولو كان تمرًا جيدًا وتمرًا رديئًا، لكن إذا أردت المخرج: تبيع التمر الرديء بدراهم، ثم تشتري بالدراهم تمرًا جيدًا، أو تبيع البر الرديء بدراهم، ثم تشتري بالدراهم برًّا جيدًا، أما التمر بالتمر والشعير بشعير والذهب بذهب والفضة بفضة بزيادة فلا، وقد قال النبي ﷺ لبلال لما جاءه بتمر برني جيد: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنبيع الصاع بالصاعين فقال النبي ﷺ: أوه أوه، لا تفعل، عين الربا عين الربا، بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم الجيد [(127)].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ وَالْحُكْرَةِ» أي: بضم المهملة وسكون الكاف: حبس السلع عن البيع، وهذا مقتضى اللغة، وليس في أحاديث الباب للحكرة ذكر كما قال الإسماعيلي، وكأن المصنف استنبط ذلك من الأمر بنقل الطعام إلى الرحال، ومنع بيع الطعام قبل استيفائه، فلو كان الاحتكار حرامًا لم يأمر بما يئول إليه، وكأنه لم يثبت عنده حديث معمر بن عبدالله مرفوعًا: لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ. أخرجه مسلم[(119)]، لكن مجرد إيواء الطعام إلى الرحال لا يستلزم الاحتكار الشرعي؛ لأن الاحتكار الشرعي إمساك الطعام عن البيع وانتظار الغلاء مع الاستغناء عنه وحاجة الناس إليه، وبهذا فسَّره مالك عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب.

وقال مالك فيمن رفع طعامًا من ضيعته إلى بيته: ليست هذه بحكرة، وعن أحمد: إنما يحرم احتكار الطعام المقتات دون غيره من الأشياء، ويحتمل أن يكون البخاري أراد بالترجمة بيان تعريف الحكرة التي نهي عنها في غير هذا الحديث، وأن المراد بها قدر زائد على ما يفسّره أهل اللغة، فساق الأحاديث التي فيها تمكين الناس من شراء الطعام ونقله، ولو كان الاحتكار ممنوعًا لمنعوا من نقله، أو لبين لهم عند نقله الأمد الذي ينتهون إليه، أو لأخذ على أيديهم من شراء الشيء الكثير الذي هو مظنة الاحتكار، وكل ذلك مشعر بأن الاحتكار إنما يمنع في حالة مخصوصة بشروط مخصوصة، وقد ورد في ذم الاحتكار أحاديث، منها حديث معمر المذكور أولاً، وحديث عمر مرفوعًا: مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ، ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ . رواه ابن ماجه[(120)]، وإسناده حسن، وعنه مرفوعًا قال: الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ. أخرجه ابن ماجه، والحاكم[(121)]، وإسناده ضعيف؛ وعن ابن عمر مرفوعًا: من احتكر طعامًا أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ منه أخرجه أحمد والحاكم[(122)] وفي إسناده مقال، وعن أبي هريرة مرفوعًا: من احتكر حكرة يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو خاطئ. أخرجه أحمد[(123)].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقول طاوس: «قُلْتُ: لاِبْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: ذَاكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ» معناه أنه استفهم عن سبب هذا النهي، فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم: «قال طاوس: قلت لابن عباس: لم؟ قال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ» [(126)]، أي: فإذا اشترى طعاما بمائة دينار مثلاً ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارًا وقبضها والطعام في يد البائع، فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارًا، وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام» اهـ.

المتن:

باب بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ

2135 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: سَمِعَ طَاوُسًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلاَ أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ مِثْلَهُ.

2136 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِيعُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ.

زَادَ إِسْمَاعِيلُ: مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان حكم بيع الطعام قبل أن يقبض، وأنه لا يجوز، وكذلك بيع ما ليس عندك، فلا يجوز للإنسان أن يبيع سلعة لا يملكها.

2135 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس قال: «أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ» يعني: حتى ينقل، «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلاَ أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ مِثْلَهُ» يعني: أحسب كل سلعة مثل الطعام فلا يجوز بيعها حتى تنقل، وهذا الذي حسبه ابن عباس جاء في الأحاديث، كما في حديث زيد بن ثابت: «نهى رسول الله ﷺ أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» [(128)].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلاَ أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ مِثْلَهُ» ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه: «وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام» [(129)]، وهذا من تفقه ابن عباس، ومال ابن المنذر إلى اختصاص ذلك بالطعام، واحتج باتفاقهم على أن من اشترى عبدًا فأعتقه قبل قبضه أن عتقه جائز، قال: فالبيع كذلك، وتعقب بالفارق وهو تَشَوُّف الشارع إلى العتق، وقول طاوس في الباب قبله قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: «ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ» معناه أنه استفهم عن سبب هذا النهي، فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع، فكأنه باعه دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم، قال طاوس قلت لابن عباس: لم؟ قال: «ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ» أي: فإذا اشترى طعامًا بمائة دينار مثلاً ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارًا وقبضها والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارًا، وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام، ولذلك قال ابن عباس: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلاَ أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ مِثْلَهُ» ، ويؤيده حديث زيد بن ثابت «نهى رسول الله ﷺ أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» [(130)] أخرجه أبو داود وصححه الحاكم.

قال القرطبي: هذه الأحاديث حجة على عثمان الليثي، حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه، وقد أخذ بظاهرها مالك، فحمل الطعام على عمومه وألحق بالشراء جميع المعاوضات، وألحق الشافعي وابن حبيب وسحنون بالطعام كل ما فيه حق توفية، وزاد أبو حنيفة والشافعي فعدياه إلى كل مشترى إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل، واحتج الشافعي بحديث عبدالله بن عمرو، قال: «نهى النبي ﷺ عن ربح ما لم يضمن» أخرجه الترمذي[(131)]. قلت: وفي معناه حديث حكيم بن حزام المذكور في صدر الترجمة، وفي صفة القبض عن الشافعي تفصيل، فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول، وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به.

وفيه: قول أنه يكفي فيه التخلية» اهـ.

المتن:

باب مَنْ رَأَى إِذَا اشْتَرَى طَعَامًا جِزَافًا أَنْ لاَ يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْوِيَهُ إِلَى رَحْلِهِ وَالأَْدَبِ فِي ذَلِكَ

2137 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍحَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَبْتَاعُونَ جِزَافًا يَعْنِي الطَّعَامَ يُضْرَبُونَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان حكم شراء الطعام جزافًا ـ بكسر الجيم ـ يعني: غير مكيل ولا موزون.

قوله: «بَابُ مَنْ رَأَى إِذَا اشْتَرَى طَعَامًا جِزَافًا أَنْ لاَ يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْوِيَهُ إِلَى رَحْلِهِ» يعني: حتى ينقله إلى مكان خاص به.

2137 ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر قال: «لَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَبْتَاعُونَ جِزَافًا يَعْنِي الطَّعَامَ يُضْرَبُونَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ» . وهذا الحديث أصل في التعزير والتأديب على المعاصي التي لا حدود فيها؛ لقوله: «يُضْرَبُونَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ» .

وفيه: دليل على أنه لا يجوز بيع الطعام حتى ينقل، وغير الطعام مثله، كما سبق في حديث حكيم بن حزام، وكما سبق في حديث زيد بن ثابت: «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» [(138)] فهذا عام، فلا يجوز للإنسان أن يبيع السلعة حتى ينقلها ثم يبيعها، أما أن يبيعها في مكان البائع فهذا لا يجوز.

وإن تم البيع ففيه خلاف، فقال جمع من أهل العلم: لا يصح؛ لأنه لم ينقله؛ لقول ابن عباس: «ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجًى» [(139)].

ودليله: أنه يشبه الربا، فلو باع سلعة لم يقبضها يكون كمن باع دراهم بدراهم فظاهر الأمر أن البيع فاسد لأنه لم ينقله، وقال آخرون: إنه يصح. فالمسألة فيها خلاف فينبغي للمسلم أن يحتاط.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَابُ مَنْ رَأَى إِذَا اشْتَرَى طَعَامًا جِزَافًا أَنْ لاَ يَبِيعَهُ حَتَّى يُؤْوِيَهُ إِلَى رَحْلِهِ وَالأَْدَبِ فِي ذَلِكَ» . أي: تعزير من يبيعه قبل أن يؤويه إلى رحله»

«ذكر فيه حديث ابن عمر، وهو ظاهر فيما ترجم له، وبه قال الجمهور لكنهم لم يخصوه بالجزاف ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال، أما الأول؛ فلما ثبت من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، فدخل فيه المكيل، وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعًا، أخرجه أبو داود[(132)]، وأما الثاني؛ فلأن الإيواء إلى الرحال خرج مخرج الغالب، وفي بعض طرق مسلم عن ابن عمر: «كنا نبتاع الطعام، فيبعث إلينا رسول الله ﷺ من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه» [(133)].

وفرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف والمكيل، فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، واحتج لهم بأن الجزاف مرئي فتكفي فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون.

وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعًا: مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ [(134)].

ورواه أبو داود ـ كما أشرنا ـ والنسائي بلفظ: «نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه» [(135)]، والدارقطني من حديث جابر: «نهى رسول الله ﷺ عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع والمشتري» [(136)]، ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة[(137)] بإسناد حسن.

وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل وفي الموزون بالوزن، فمن اشترى شيئًا مكايلة أو موازنة فقبضه جزافًا فقبضه فاسد، وكذا لو اشترى مكايلة فقبضه موازنة وبالعكس، ومن اشترى مكايلة وقبضه ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا» اهـ. يعني: يكيله مرتين، إذا اشتراه يكيله، وإذا باعه يكيله مرة ثانية على المشتري الثاني.

ثم قال الحافظ رحمه الله: «وبذلك كله قال الجمهور، وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقًا. وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول، وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول، والأحاديث المذكورة ترد عليه.

وفيه: مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة، وإقامة الإمام على الناس من يراعي أحوالهم في ذلك، والله أعلم.

وقوله: «جِزَافًا» مثلثة الجيم والكسر أفصح.

وفي الحديث: جواز بيع الصبرة جزافًا، سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم، وعن مالك التفرقة، فلو علم لم يصح، وقال ابن قدامة: يجوز بيع الصبرة جزافًا لا نعلم فيه خلافًا إذا جهل البائع والمشتري قدرها، فإن اشتراها جزافًا ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن أحمد، ونقلها: قبضها» اهـ.

وقد ذكرنا فيما تقدم كلام العلماء على هذه الأحاديث؛ لأن عمليات البيع والشراء ـ إلى الآن ـ تشكل على كثير من الناس، ويتساهلون فيها.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد