المتن:
(37)كِتَاب الشُّفْعَةِ
باب الشُّفْعَةُ مَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ
2257 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ.
الشرح:
هذا كتاب الشفعة، والشفعة في اللغة مشتقة من الشفع، وهو الزوج؛ وذلك لأن الشافع يضم صوته إلى المشفوع له فيكون شفعًا بعد أن كان وترًا، وقيل من الزيادة؛ لأن الشافع زيادة على طالب الحاجة، وقيل من الإعانة؛ لأن الشفعة إعانة، وهذا من النحت من ناحية الاشتقاق اللغوي.
أما الشفعة في الشرع فمعناها: انتقال حصة شريك إلى شريكه بعد أن انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى، أو هي انتزاع الشريك حصة شريكه ممن باعه عليه؛ فإذا كان بين شخصين أرضٌ لكل واحد منهما نصف وكانت الأرض مثلاً تساوي مائة ألف وباع أحد الشريكين قبل أن يعلم صاحبه فله أن ينتزع هذا النصيب الذي باعه، ويعطيه خمسين ألفًا بدون اختياره؛ دفعًا للضرر؛ لأن الشريك تضرر بشريكه، فهو أولى وأحق بالشفعة.
واختلف العلماء في الشفعة هل هي خاصة بالثابت أم هي عامة في المنقول والثابت؟ والجمهور على أنها خاصة بالأشياء الثابتة كالعقار والدور والبساتين، واستدلوا بحديث جابر الآتي.
قوله: «بَاب الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ» يعني: إذا اقتسم الشريكان، وكل منها أخذ حقه وبينت الحدود والمراسيم، ثم باع الجار فليس لجاره أن يشفع.
2257 قوله: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ، وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ» ، أي: الشفعة تكون للشريك على شريكه إذا باع نصيبه قبل أن تقسم الشركة، أما إذا قسمت الأرض وأخذ كل شريك نصيبه وحددت المراسيم فإن الشفعة تنتهي؛ لأن الشركة زالت بالقسمة، كما أن الشفعة إنما شرعت لإزالة الضرر عن الشريك، وقد زال الضرر، أما إذا لم تقع الحدود أو كان الطريق واحدًا فالشفعة باقية.
وقد احتج بهذا الحديث الجمهور على أن الشفعة إنما تكون في الأشياء الثابتة دون المنقولة؛ فتكون في الأراضي والدور والعقار والبساتين، واستدلوا أيضًا برواية مسلم رحمه الله: الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ، فِي أَرْضٍ، أَوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ، فَيَأْخُذَ أَوْ يَدَعَ، فَإِنْ أَبَى، فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ [(289)] فقوله: ربع أي: دور، وقوله: حائط أي: بستان.
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن الشفعة تكون في الثابت والمنقول أيضًا، واستدلوا برواية الطحاوي رحمه الله: الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ [(290)]، ورواته ثقات، إلا أنه أُعِلَّ بالإرسال.
فإذا كانت هناك سيارة بين اثنين شركة، ثم باع أحد الشريكين نصيبه في السيارة فلشريكه أن يشفع إذا لم يعلم؛ فينتزعها ممن باع عليه بمثل الثمن دفعًا للضرر، ولأن الضرر كما يحصل في الثابت يحصل في المنقول.
وهناك قول ثالث في المسألة للإمام أبي حنيفة رحمه الله[(291)]، وهو أن الجار يشفع، واستدل بحديث أنس : جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ [(292)] وبحديث جابر : الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا [(293)].
والصواب: أن الجار لا يشفع إلا إذا كان بينه وبين جاره شركة في الطريق، وحديث أنس هذا عام يفسره حديث جابر .
وأعدل الأقوال أن الشفعة تكون في الثابت؛ لحديث جابر ، وحديث الإمام مسلم ، وتكون في المنقول كما في الحديث الذي رواه الطحاوي رحمه الله، وتكون للجار إذا كان بينه وبين جاره شركة في الطريق؛ وبهذا تجتمع الأدلة.
المتن:
باب عَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ
وَقَالَ الْحَكَمُ: إِذَا أَذِنَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ وَهْوَ شَاهِدٌ لاَ يُغَيِّرُهَا فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ.
2258 حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَجَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى إِحْدَى مَنْكِبَيَّ، إِذْ جَاءَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ، ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ فِي دَارِكَ فَقَالَ سَعْد: وَاللَّهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا؛ فَقَالَ الْمِسْوَرُ: وَاللَّهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا؛ فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ، لاَ أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مُنَجَّمَةً أَوْ مُقَطَّعَةً قَالَ أَبُو رَافِعٍ: لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ، وَلَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ، وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ.
الشرح:
قوله: «بَاب عَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ الْبَيْعِ» يعني: أن الشريك إذا باع فعليه أن يعرض نصيبه على شريكه قبل أن يبيعه؛ ولهذا جاء في الحديث في رواية مسلم رحمه الله: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ [(294)] أي: يخبره بأنه سيبيع نصيبه حتى يشتريه إذا رغب فهو أولى، أما أن يبيعه ولا يعلم شريكه فإنه في هذه الحالة يشفع وينتزعه ممن باعه عليه؛ دفعًا للضرر.
قوله: «وَقَالَ الْحَكَمُ: إِذَا أَذِنَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ» ، كأن يقول له: ليس لي رغبة، فإذا جاء بعد ذلك يشفع فليس له ذلك؛ لأنه أسقط حقه.
قوله: «وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ وَهْوَ شَاهِدٌ لاَ يُغَيِّرُهَا فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ» ؛ لأنه أسقط حقه.
2258 ثم ذكر المؤلف رحمه الله القصة التي حصلت بين المسور بن مخرمة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما.
قال ابن بطال رحمه الله: «استدل به أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه على إثبات الشفعة للجار، وأوله غيرهم على أن المراد به الشريك بناء على أن أبا رافع كان شريك سعد في البيتين؛ ولذلك دعاه إلى الشراء منه» . اهـ.
المتن:
باب أَيُّ الْجِوَارِ أَقْرَبُ
2259 حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح و حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا.
الشرح:
2259 في الحديث: بيان من أحق الجيران بالهدية، وأن الأحق هو الأقرب بابًا، وهذا دليل على أن العبرة بقرب الباب لا بالجدار، فإذا كان عند أحدهم هدية يريد أن يهديها ولا يمكن أن تقسم على الجارين أو الثلاثة ـ كالفاكهة أو غيرها ـ فإنه يعطي الهدية لمن هو أقرب بابًا من الجيران، أما إذا كانت الهدية يمكن قسمتها على الجيران كلهم فهذا حسن.
لكن هذا في الهدية، فما مناسبته للشفعة؟
يقول ابن بطال رحمه الله: «لا حجة في هذا الحديث لمن أوجب الشفعة بالجوار لأن عائشة رضي الله عنها إنما سألت عمن تبدأ به من جيرانها بالهدية فأخبرها بأن الأقرب أولى، وأجيب بأن وجه دخوله في الشفعة أن حديث أبي رافع يثبت شفعة الجوار فاستنبط من حديث عائشة رضي الله عنها تقديم الأقرب على الأبعد للعلة في مشروعية الشفعة لما يحصل من الضرر بمشاركة الغير الأجنبي بخلاف الشريك في نفس الدار» . اهـ.
ويستفاد من هذا الحديث أنه إذا كان هناك مثلا ثلاثة جيران اشتركوا في طريق غير نافذ، ثم باع أحد الجيران بيته فأيهما يشفع من الجارين؟ يشفع الجار الأقرب منه بابًا؛ عملا بما في حديث عائشة رضي الله عنها في الهدية.
وهذا من دقة استنباط الإمام البخاري رحمه الله؛ حيث استنبط من أمر النبي ﷺ أن تعطى الهدية إلى الجار الأقرب بابًا أنه إذا كان هناك جاران أو ثلاثة جيران طريقهم واحد، ثم باع أحد الجيران يشفع الأقرب منه بابًا؛ لأنه أشد ضررًا من غيره فتكون الشفعة له.
وإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق وكان الجار غائبًا فإنه على الشفعة إذا جاء ولو بعد مدة، وكذا إذا لم يعلم بالبيع؛ لحديث جابر : الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا [(295)]، فإذا علم أو قدم وسكت ولم يطالب بالشفعة سقط حقه.
والشفعة شرعت لإزالة الضرر بقطع النظر عن الغنى والفقر.