المتن:
(38)كِتَاب الإجَارَةِ
باب اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القَصَص: 26] وَالْخَازِنُ الأَْمِينُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ.
2260 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جَدِّي أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الْخَازِنُ الأَْمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ.
2261 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ: أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَمَعِي رَجُلاَنِ مِنْ الأَْشْعَرِيِّينَ، فَقُلْتُ: مَا عَلمتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ، فَقَالَ: لَنْ أَوْ لاَ نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ.
الشرح:
الإجارة في اللغة: بمعنى الإثابة، يقال: آجرته إذا أثبته، واصطلاحًا: هو تمليك المنفعة بعوض، كأن تقول: أجّرتك منافع هذه الدار أو هذا البستان أو هذه الأرض لمدة سنة، أو لمدة سنتين بكذا، أو أجّرتك هذه السيارة مدة شهر بكذا وكذا، فأنت ملكته المنفعة مدة محددة بعوض.
وبوب المؤلف رحمه الله قال: «بَاب اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ» ، يعني: ينبغي للإنسان أن يختار رجلاً صالحًا يستأجره؛ لأن الصالح هو المؤتمن، واستأنس بقوله تعالى في قصة موسى على لسان إحدى الفتاتين: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القَصَص: 26].
وهذا كان موجودًا في شرع من قبلنا، وشرعنا لا يخالفه بل جاء موافقًا له.
فهناك صفتان للأجير إذا توفرتا فلا بأس به:
الصفة الأولى: القوة على العمل؛ فيستحب استئجار القوي الذي عنده قوة على العمل.
الصفة الثانية: الأمانة، وهي الورع وعدم الخيانة، وهاتان الصفتان توفرتا في موسى فهو قوي؛ لأنه سقى للمرأتين، ومن قوته أنه أزال الحجر الذي يرفعه الجماعة من الناس من على فم البئر، وأما أمانته فقد أشارت إليها بعض الآثار أنهما لما جاءت إحداهما تدعوه وقالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القَصَص: 25] طلب موسى أن تسير خلفه ويسير هو أمامها، وهذا من ورعه وأمانته؛ حتى لا ينظر إليها، وأخبرها وهما في الطريق أن تقول: يمينًا أو يسارًا؛ حتى لا يلتفت .
قوله: «وَالْخَازِنُ الأَْمِينُ» ، أي: الخادم أو مستأجر الخزانة إذا كان أمينًا فإنه يحصل المقصود.
2260 في الحديث: قال النبي ﷺ : الْخَازِنُ الأَْمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ المتصدِقين بالجمع، وفي لفظ: أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَينَ [(297)] بالتثنية؛ والمعنى أن الخازن الذي يوكَّل في حفظ المال أو الخزانة سواء كان مستأجرًا أو خادمًا، إذا كان أمينًا يؤدي ما أمر به صاحب المال برضا نفس وطواعية وعدم مماطلة يعتبر متصدقًا في الأجر؛ لأن البعض لما يأمره صاحب المال ويقول: أعطوا الفقير كذا وكذا من الخزانة أو من الطعام أو كذا، كأن يقول مثلاً أعطوه مائة، ينقصه فيعطيه ثمانين، أو يماطل فيقول: أنا مشغول الآن ائتني بعد أسبوع، وإذا جاءه قال: ائتني بعد أسبوع، فإذا جاءه قال: ائتني بعد أسبوع آخر فهذا مماطل ومؤذٍ.
والشاهد قوله: الْخَازِنُ الأَْمِينُ فينبغي للإنسان إذا كان تاجرًا وعنده خزانة أن يستأجر خازنًا أمينًا لا يزيد ولا ينقص، ولا يؤذي من يأمر رب المال بإعطائه، ولا يتبرم ولا يماطل.
2261 قوله: «أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَمَعِي رَجُلاَنِ مِنْ الأَْشْعَرِيِّينَ» ، يعني: من قومه، والأشعريون قبيلة من اليمن.
قوله: «فَقُلْتُ: مَا عَمِلْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ» . هذا الحديث فيه اختصار.
وفي الحديث الآخر أن أبا موسى قدم ومعه رجلان من قومه، فدخلوا على النبي ﷺ فقال كل واحد: أَمِّرْنَا يا رسول الله[(298)]، يعني: أعطني عملاً، يريد وظيفة، وأبو موسى قد تأثر وتحرّج من ذلك؛ لأنهما لم يخبراه أنهما سيسألان النبي ﷺ عملاً، وما ظن أنهما سيسألانه؛ وحتى يُعلِم النبيَ ﷺ أنه غير عالم بحالهما؛ خوفًا أن يقول له: كيف تأتيني برجال يطلبون العمل؟! بادر قائلاً للنبي ﷺ: «مَا عَمِلْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ» ، يعني: ما أخبراني أنهما جاءا لهذا.
قوله: لَنْ أَوْ لاَ نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ، يعني: لا نولي على العمل أو الوظيفة الشخص الذي يطلبه؛ لأن الذي يطلب العمل والوظيفة الغالب أنه يكون متساهلاً وليس عنده ورع، لكن إذا كان يَكْرَه العمل غير راغب فيه فهذا يكون أدعى إلى أداء العمل، وهو أقرب إلى الورع في الغالب؛ لأنه يستعين بالله والله يعينه، ولذلك جاء في الحديث الآخر أن النبي ﷺ قال: إنا لا نولي هذا العمل أحدًا طلبه وحرص عليه [(299)].
وقال العلماء: إلا إذا تعين عليه، فلا بأس أن يطلبه إذا كان يرى نفسه أكفأ الموجودين، أو أنه ليس أحد يقوم بهذا العمل أحسن منه، فلا بأس في هذه الحالة؛ لقول الله تعالى في قصة يوسف: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُف: 55] فكان يوسف يرى في نفسه الكفاية، فطلب أن يكون على خزائن الأرض بمثابة وزير المالية، وكذلك في الحديث الآخر قال عثمان بن أبي العاص: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، قال: أَنْتَ إِمَامُهُمْ وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا [(300)] فهذا الصحابي طلب الإمامة؛ لأنه يرى من نفسه الكفاءة، فإذا كان الشخص يرى من نفسه الكفاءة، وأن له قدرة على العمل، وأنه أحسن الموجودين فلا بأس أن يطلب هذا العمل، أما إذا كان هذا العمل له كثير غيره، ولا يتوقف العمل عليه فلا ينبغي له أن يطلب العمل؛ لقول النبي ﷺ في حديث أبي موسى : لَنْ أَوْ لاَ نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ، وفي حديث عبدالرحمن بن أبي سبرة: إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله أو حرص عليه [(301)].
ومناسبة ذكر الخازن للترجمة وهي: «باب اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ» أن الخازن الأمين رجل صالح، وهو الذي يؤدي ما أُمر به كما في قوله ﷺ في حديث أبي موسى الأشعري: «وَالْخَازِنُ الأَْمِينُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ» ، فهذا ينبغي استئجاره، فينبغي للتجار والأغنياء أن يختاروا لخزانتهم خازنًا أمينًا، وكذلك قوله ﷺ في الحديث: لَنْ أَوْ لاَ نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ، وهذا يناسب الترجمة من جهة أن الذي يحرص على العمل أو يطلبه في الغالب لا يكون عنده ورع، أما الذي يُلزم بالعمل ففي الغالب أنه يكون عنده ورع وأمانة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الإسماعيلي: ليس في الحديثين جميعًا معنى الإجارة. وقال الداودي: ليس حديث الخازن الأمين من هذا الباب؛ لأنه لا ذكر للإجارة فيه.
وقال ابن التين: وإنما أراد البخاري أن الخازن لا شيء له في المال، وإنما هو أجير.
وقال ابن بطال: إنما أدخله في هذا الباب؛ لأن من استؤجر على شيء فهو أمين فيه، وليس عليه في شيء منه ضمان إن فسد أو تلف إلا إذا كان ذلك بتضييعه.
وقال الكرماني: دخول هذا الحديث في باب الإجارة للإشارة إلى أن خازن مال الغير كالأجير لصاحب المال، أما دخول الحديث الثاني في الإجارة فظاهر من جهة أن الذي يطلب العمل إنما يطلبه غالبًا لتحصيل الأجرة التي شرعت للعامل، والعمل المطلوب يشمل العمل على الصدقة في جمعها وتفرقتها في وجهها وله سهم منها كما قال الله تعالى: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التّوبَة: 60] فدخوله في الترجمة من جهة طلب الرجلين أن يستعملهما النبي ﷺ على الصدقة أو غيرها، ويكون لهما على ذلك أجرة معلومة» . اهـ.
ويقال هذا في الأجير الخاص والعام، حتى ولايات الدولة ينبغي لولي الأمر أن يختار الأمناء؛ فيختار الأمثل فالأمثل على حسب الطاقة والوسع، وعلى حسب حال الناس؛ فالناس يختلفون، وقد لا يوجد أمين، والأعمال لابد لها من ولايات، والولايات لابد لها من يقوم بها، فيختارون الأمثل فالأمثل، والأحسن فالأحسن، وليتقوا الله ما استطاعوا.
فينبغي للإمام أن لا يولي أحدًا إلا من كانت سمته الأمانة، ولا يولي الوظائف لمن يطلبها ويحرص عليها، ويستثنى من هذا إذا وجد الإنسان من نفسه الكفاءة، أو لم يوجد من يقوم بها غيره، كما في قصة يوسف، وكما في قصة الإمام الذي طلب من النبي ﷺ، وقال: اجعلني إمام قومي[(296)].
فمن طلب العمل، ثم عين فلا بأس إذا كان أهلاً لذلك، لكن الأولى أن يعين الإمام من يختاره هو.
المتن:
باب رَعْيِ الْغَنَمِ عَلَى قَرَارِيطَ
2262 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَِهْلِ مَكَّةَ.
الشرح:
قوله: قَرَارِيطَ: جمع قيراط، وهو جزء من الدينار أو الدرهم، وهو سدس الدرهم أو نصف السدس، وكان النبي ﷺ يرعى الغنم على قراريط، يعني: بأجرة قدرها قراريط، وهذا هو مناسبة الباب لكتاب الإجارة أن النبي ﷺ رعى الغنم بأجرة.
وقال بعضهم: المراد بقراريط: اسم موضع بمكة، ولا يراد بالقراريط الفضة، ورجح الأول بعض العلماء؛ لأن أهل مكة لا يعرفون مكانًا يسمى القراريط، وهو الأقرب.
2262 قوله: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَِهْلِ مَكَّةَ في الحديث: صحة الإجارة لرعي الغنم على شيء معلوم من عين أو منفعة، كما رعى موسى الغنم مهرًا لزوجته ثمان سنين، فالأجرة هنا منفعة، وكما رعى النبي ﷺ الغنم على قراريط فالأجرة هنا عين.
وفيه: أن الأنبياء رعوا الغنم قال العلماء: الحكمة في رعي الأنبياء الغنم قبل النبوة هو أنهم ينتقلون من رعي الغنم إلى سياسة الأمم، فينتقلون من الأدنى إلى الأعلى؛ وذلك أنهم في الأول يتدربون ويتهيؤون للحلم والصبر؛ لأن الغنم تكون متفرقة، فتحتاج إلى مراعاتها والقيام بشؤونها؛ ولهذا فإن الله تعالى هيأ الأنبياء وألهمهم رعي الغنم؛ حتى يحصل لهم التمرين برعيها والتدرب والحلم والصبر عليها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحِلْم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها؛ فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة؛ لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادًا من غيرها.
وفي ذكر النبي ﷺ لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه، والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء» . اهـ.
المتن:
باب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِْسْلاَمِ
وَعَامَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَهُودَ خَيْبَرَ.
2263 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا الْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلاَثٍ فَارْتَحَلاَ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ فَأَخَذَ بِهِمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ وَهُوَ طَرِيقُ السَّاحِلِ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان هل يجوز استئجار المشركين أوْ لا يجوز؟ والمؤلف هنا قيدها بالضرورة، فقال: «بَاب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِْسْلاَمِ» ، وتقييد المؤلف بالضرورة وجيه.
2263 ذكر المؤلف قصة هجرة النبي ﷺ لما تمالأت قريش على قتل النبي ﷺ قُبيل الهجرة، واتفقوا على أن يأتي شباب من القبائل؛ ليقفوا عند باب النبي ﷺ، فإذا خرج ضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد؛ حتى يتفرق دمه في القبائل، عند ذلك أذن الله له بالهجرة فأتى أبا بكر وقال: أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ؟، فقال: الصحبة يا رسول الله، ثم نام النبي ﷺ في بيته، وخرج في الصباح وقد ألقى الله النوم على المشركين لما ذرَّ النبي ﷺ التراب على رءوسهم وخرج ذاهبًا إلى غار ثور ومعه صاحبه أبو بكر [(304)].
قوله: «وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا» ، وفي لفظ: «هاديًا خريتًا» [(305)] والخريت: الماهر بالهداية، وكان هذا الهادي رجلاً مشركًا يقال له: عبدالله بن أريقط استأجراه على أن يدلهم الطريق، «فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا» .
وسبق في القصة أن أبا بكر لما قال له النبي ﷺ: إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ؟. قال: الصحبة يا رسول الله ثم قال: إن لي راحلتين قد أعددتهما لذلك؛ فخذ واحدة يا رسول الله، فقال: بِالثَّمَنِ [(306)] فهو وإن كان صاحبه الخاص، إلا أن الصاحب الخاص لا يأخذ من صاحبه كل شيء بدون مقابل، فكان للنبي ﷺ راحلة ولأبي بكر راحلة.
وأعطيا راحلتيهما هذا الرجل الخريت الذي استأجراه، وقد كان على دين قومه لكنه أمين ـ والكافر قد يكون أكثر أمانة من بعض المسلمين ـ فائتمناه ودفعا إليه راحلتيهما، على أن يأتي بهما بعد عدة أيام؛ فيكون الطلب قد هدأ.
ومكث النبي ﷺ وصاحبه في الغار ثلاثة أيام ـ وكان النبي ﷺ قد خرج وجعل عليًّا في مكانه؛ ليوزع الأمانات لأصحابها ـ وقريش تبحث عنهما تجول وتدور، والرسل بكل مكان يبحثون عن النبي ﷺ، حتى إنهم قالوا: من أتى بمحمد وصاحبه فله مائة ناقة جائزة[(307)] ـ وهذا معروف الآن؛ فالمشركون إذا طلبوا أحدًا تجدهم يقولون: له كذا وكذا ـ فصار الرسل في كل مكان؛ يريدون الجائزة، من الجنوب ومن الشرق ومن الشمال ومن الغرب، حتى جاءوا إلى جبل ثور وإلى الغار، حتى قال أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، لكن الله أعماهم، وجاءت عنكبوت نسجت خيوطها على باب الغار، وجاءت حمامة فباضت، فلما وصلوا إلى الغار قالوا: لو كان فيه أحد ما باضت الحمامة ولا نسجت العنكبوت ـ وهذه قصة مشهورة، ذكرها أهل السير[(308)] ولما هدأ الطلب جاء الديلي الخريت بالراحلتين، فخرجوا إلى أسفل، فسلك بهم طريق الساحل، وكان معهم عامر بن فهيرة الذي كان يرعى الراحلتين للنبي ﷺ، فصاروا أربعة: النبي ﷺ وأبو بكر والديلي وعامر بن فهيرة.
والشاهد من هذه القصة للترجمة أن النبي ﷺ استأجر الديلي هذا وهو مشرك، لكن للضرورة؛ فهو في حاجة إلى هذا، علاوة على أنه أمين؛ ولهذا قيد المؤلف فقال: «بَاب اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الإِْسْلاَمِ» .
قوله: «وَعَامَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَهُودَ خَيْبَرَ» ، يعني: للضرورة؛ وذلك أنه لما فتح خيبر كان الصحابة مشغولين بالجهاد في سبيل الله، وأهل خيبر ـ اليهود ـ كانوا على معرفة بالنخل؛ فدفع إليهم النبي ﷺ نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها، وأبقاهم على ذلك حتى مات ﷺ، وظلوا كذلك في عهد الصديق حتى جاء عمر وأجلاهم[(303)].
وسار النبي ﷺ وصاحبه فلما كانوا في الطريق لحقهم سراقة بن مالك، وكان على شركه قبل أن يسلم، ففرح وقال: هذه غنيمة، الآن وجدت بغيتي فسوف أحصل على الجائزة ـ جائزة قريش ـ ولكن الله أراد به خيرا من الذي أراد، فقد دعا عليه النبي ﷺ فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في الأرض، فقال: يا محمد، هذا بسببك ادعُ الله أن يخرج فرسي ولك عليَّ أن أرد عنك، فدعا الله فخرج فكان في أول الأمر طالبًا وصار في آخره مدافعًا؛ فكان كل من جاء باحثًا عنهما من هذا الطريق قال له: كفيتكم هذا الطريق، وليس فيه أحد[(309)]. وهذا من حماية الله تعالى وحفظه لنبيه ﷺ وصاحبه.
والذي يظهر من الأدلة أنه ليس للمسلم أن يكون أجيرًا خاصًّا للكافر؛ لما فيه من الذلة، كأن يكون مثلاً سائقًا للكافر، أو يكون طباخًا للكافر، أو يغسل ثيابه، لكن إن كان العمل في شركة أو نحوها؛ فهذا لا بأس به إذا احتاج إليه؛ لأن هذا ليس فيه ذلة.
المتن:
باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ
أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ جَازَ وَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذِي اشْتَرَطَاهُ إِذَا جَاءَ الأَْجَلُ
2264 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاَثٍ.
الشرح:
2264 هذه هي القصة التي سبقت في الترجمة السابقة أعادها المصنف رحمه الله لاستنباط الأحكام.
قوله: «بَاب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ بَعْدَ سَنَةٍ جَازَ وَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا الَّذِي اشْتَرَطَاهُ إِذَا جَاءَ الأَْجَلُ» هذه الترجمة من دقائق استنباط الإمام البخاري رحمه الله وتعني أنه إذا استأجر شخصًا ليعمل له عملاً بعد مدة معينة- بعد ثلاثة أيام أو شهر أو سنة أو أقل أو أكثر - أو يقول: أجرتك مثلاً هذا البيت بعد سنة، أو بعد شهر، فلا بأس.
والبخاري رحمه الله استنبط هذا من قول عائشة رضي الله عنها: «فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ» ، فالنبي ﷺ استأجره على أن يدلهم الطريق، لكن بدأ العمل بعد ثلاثة أيام؛ فاستنبط البخاري رحمه الله من هذا أنه لا بأس أن تكون الأجرة بعد مدة معينة، بعد ثلاثة أيام أو بعد شهر أو بعد سنة أو أقل أو أكثر.
المتن:
باب الأَْجِيرِ فِي الْغَزْوِ
2265 حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي، فَكَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا إِصْبَعَ صَاحِبِهِ؛ فَانْتَزَعَ إِصْبَعَهُ؛ فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ؛ فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، وَقَالَ: أَفَيَدَعُ إِصْبَعَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا؟، قَالَ: أَحْسِبُهُ، قَالَ: كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ.
2266 قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ جَدِّهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ رَجُلاً عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَأَهْدَرَهَا أَبُو بَكْرٍ .
الشرح:
هذه الترجمة معقودة للأجير في الغزو.
2265، 2266 ذكر المؤلف في هذا الحديث قصة يعلى بن أمية، واستدل بها على جواز استئجار الأجير في الغزو؛ ليكفيه مئونة العمل الذي يتعاطاه بنفسه، وأن الاستعانة بمن يخدمه لا ينافي قصد المجاهد من تحصيل الأجر، ولا يؤثر على نيته.
ولهذا قال يعلى بن أمية: «غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ جَيْشَ الْعُسْرَةِ» وهي غزوة تبوك، «فَكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي» يعني: كان هذا العمل من الأعمال التي أرجو ثوابها عند الله؛ لأنه من أفضل الأعمال ومن أحسنها؛ لأنه جهاد وغزو في سبيل الله، ورغم أنه كان له أجير استأجره في الغزو يخدمه ويكفيه مئونة العمل إلا أن ذلك كان من أوثق أعماله في نفسه؛ فدل على أن استئجار المجاهد أجيرًا يخدمه ويكفيه مئونة العمل لا يؤثر في نيته وفي إخلاصه وفي جهاده.
قوله: «فَقَاتَلَ إِنْسَانًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا إِصْبَعَ صَاحِبِهِ؛ فَانْتَزَعَ إِصْبَعَهُ؛ فَأَنْدَرَ ثَنِيَّتَهُ فَسَقَطَتْ؛ فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، وَقَالَ: أَفَيَدَعُ إِصْبَعَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا؟، قَالَ: أَحْسِبُهُ، قَالَ: كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ والفحل: الذكَر من الإبل.
وفيه: دليل على أن الظالم إذا اعتدى على شخص فتخلص المظلوم منه فأصابه فهذا هدر، ولا دية له؛ لأن الظالم معتدٍ، والمظلوم معذور في التخلص منه، فإذا عض إنسان يده فأراد أن يتخلص، فانتزع يده فسقطت أسنان العاض فأسنانه هدر، وليس له أن يقول: خلعت أسناني، أعطني عن كل سن عشرًا من الإبل!.
ومثله لو أمسك ظالم بإنسان يريد أن يؤذيه، فنزع نفسه منه يريد أن يتخلص، فزلت رجل المعتدي فسقط على جدار أو على حجر فجرح فجرحه هدر، ولو سقط المعتدي ومات فلا دية له؛ لأنه معتدٍ، والمظلوم مضطر إلى أن يخلص نفسه منه ولا يسكت؛ ولهذا قال النبي ﷺ: أَفَيَدَعُ إِصْبَعَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا؟ يعني: أيتركك تعض أصابعه ويسكت؟! هو مضطر إلى أن ينزع يده حتى يتخلص من ظلمه، فما وقع بعد ذلك على الظالم فهو هدر.
والأجير إذا قتل في المعركة، فظاهر النصوص أنه جاء للخدمة، وأنه ليس في حكم المجاهد، لكنه إن كان قد خرج من أجل الجهاد ومع ذلك يريد أن يخدم صاحبه فيعتبر مجاهدًا، أما إذا خرج من أجل الأجرة فقط لا للجهاد فهو أجير.
المتن:
باب مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الأَْجَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْعَمَلَ
لِقَوْلِهِ: قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القَصَص: 27- 28].
يَأْجُرُ فُلاَنًا يُعْطِيهِ أَجْرًا وَمِنْهُ فِي التَّعْزِيَةِ أَجَرَكَ اللَّهُ.
الشرح:
قال البخاري رحمه الله في هذا الباب: «بَاب مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الأَْجَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْعَمَلَ» ولم يقطع في المسألة بحكم؛ فما قال: تصح الإجارة، أو لا تصح، والواقع أن هذا ليس بوجيه؛ لأن الأجرة لابد فيها من بيان العمل، وقصة موسى والرجل الصالح ـ شعيب أو غيره ـ فيها بيان العمل، وهو رعي الغنم، وبيان الأجل.
والقصة فيها مشروعية الإجارة.
وفيها دليل على جواز أن يكون الصداق منفعة، وهو رعي الغنم، ولكن هذه القصة إنما هي في شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يأتِ شرعنا بما يخالفه، وقد جاء شرعنا بما يوافق هذا، كقصة الرجل الذي طلب من النبي ﷺ أن يزوجه امرأة، فقال له: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فالتمس فلم يجد خاتمًا من حديد، فعند ذلك قال له النبي ﷺ: أتحفظ شيئًا من القرآن؟ قال: نعم، قال: زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ [(310)] فهذا منفعة.
والمنفعة قد يستوفيها عاجلاً، وقد تكون بعد ذلك، المهم أن تكون معلومة، وفي قصة الرجل الذي قال له النبي ﷺ: زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ أنه تزوجها، والمنفعة تأتي بعد ذلك؛ بأن يُحفظها السور من القرآن.
ويكون المهر بالمنفعة إذا لم يجد الزوج مالاً؛ فالأصل أن يكون المهر مالا؛ فقد قال الله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النِّسَاء: 24]، والرجل الذي زوجه النبي ﷺ بما معه من القرآن قال له: الْتَمِسْ، فما وجد شيئًا، فقال: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، قال: والله يا رسول الله، ولا خاتمًا من حديد، فعند ذلك قال: أتحفظ شيئًا من القرآن؟، قال: أحفظ سورة كذا وكذا وكذا، قال: زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، فكانت المنفعة عند عدم وجود المال.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَلَمْ يُبَيِّنْ الْعَمَلَ» أي: هل يصح ذلك أم لا؟ وقد مال البخاري رحمه الله إلى الجواز؛ لأنه احتج لذلك فقال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ [القَصَص: 27]، ولم يفصح مع ذلك بالجواز لأجل الاحتمال، ووجه الدلالة منه أنه لم يقع في سياق القصة المذكورة بيان العمل، وإنما فيه أن موسى أجَّر نفسه من والد المرأتين» . اهـ.
والصواب: أن العمل مبين؛ لأن الرجل قال لموسى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ [القَصَص: 27]، يعني: على رعي الغنم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ثم إنما تتم الدلالة بذلك إذا قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد شرعنا بتقريره، وقد احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على مشروعية الإجارة فقال: ذَكَرَ الله أن نبيًّا من أنبيائه أجَّر نفسه حججًا مسماة ملَك بها بضع امرأة، وقيل: استأجره على أن يرعى له.
قال المهلب: ليس في الآية دليل على جهالة العمل في الإجارة؛ لأن ذلك كان معلومًا بينهم، وإنما حُذف ذكره للعلم به، وتعقبه ابن المنير بأن البخاري لم يُرد جواز أن يكون العمل مجهولاً، وإنما أراد أن التنصيص على العمل باللفظ ليس مشروطًا، وأن المتبع المقاصد لا الألفاظ» . اهـ.
على كل حال، فالمؤلف رحمه الله قال: «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الأَْجَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْعَمَلَ» ، فأراد أن يُتأمل هل تصح الإجارة إذا لم يبين العمل أو لا تصح؟ ومن فقهه رحمه الله أنه يعرض المسألة الفقهية، ويذكر ما عنده من الأدلة، ويترك الحكم لطالب العلم.