المتن:
باب هَلْ يُؤَاجِرُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ مِنْ مُشْرِكٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ؟
2275 حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَنَا خَبَّابٌ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً قَيْنًا فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، فَاجْتَمَعَ لِي عِنْدَه؛ُ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ؛ فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ، لاَ أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ! فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ حَتَّى تَمُوتَ، ثُمَّ تُبْعَثَ فَلاَ! قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ، ثُمَّ مَبْعُوثٌ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأَقْضِيكَ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأَُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا [مَريَم: 77].
الشرح:
2275 هذه القصة فيها أن الكافر ـ وهو العاص بن وائل ـ استأجر مسلمًا ـ وهو خباب ـ فهل يجوز أن يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب؟
البخاري رحمه الله لم يجزم بالحكم، والصواب أنه يجوز للمسلم أن يبيع لمصلحة المشرك أو يعمل له نجارة أو حدادة أو أي: عمل ليس فيه ذلة، أما أن يخدمه في بيته أو أن يكون له قائد سيارة أو خادمًا يغسل ثيابه فلا؛ لأن هذا فيه ذلة، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب هَلْ يُؤَاجِرُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ مِنْ مُشْرِكٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ؟» . أورد فيه حديث خباب ، وهو إذ ذاك مسلم في عمله للعاص بن وائل وهو مشرك، وكان ذلك بمكة وهي إذ ذاك دار حرب، واطلع النبي ﷺ على ذلك وأقره، ولم يجزم المصنف رحمه الله بالحكم؛ لاحتمال أن يكون الجواز مقيدًا بالضرورة، أو أن جواز ذلك كان قبل الإذن في قتال المشركين ومنابذتهم، وقبل الأمر بعدم إذلال المؤمن نفسه.
وقال المهلب: كره أهل العلم ذلك إلا لضرورة بشرطين:
أحدهما: أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله.
ثانيهما: أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين.
وقال ابن المنير: استقرت المذاهب على أن الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمة ولا يعد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منزله وبطريق التبعية له والله أعلم» . اهـ.
المتن:
باب مَا يُعْطَى فِي الرُّقْيَةِ عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لاَ يَشْتَرِطُ الْمُعَلِّمُ إِلاَّ أَنْ يُعْطَى شَيْئًا فَلْيَقْبَلْهُ.
وَقَالَ الْحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ الْمُعَلِّمِ.
وَأَعْطَى الْحَسَنُ دَرَاهِمَ عَشَرَةً.
وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ بِأَجْرِ الْقَسَّامِ بَأْسًا.
وَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَكَانُوا يُعْطَوْنَ عَلَى الْخَرْصِ.
2276 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍمِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفَاتِحَة: 2]، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي، وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ ﷺ، فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا؛ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
قَالَ: أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ سَمِعْتُ أَبَا الْمُتَوَكِّلِ بِهَذاَ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَا يُعْطَى فِي الرُّقْيَةِ عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان الأجرة على الرقية.
والرقية: هي القراءة على المريض بآيات من القرآن أو تعوذات شرعية، ويقال لها: العوذة.
وقد انتقد بعضهم على البخاري في قوله: «أَحْيَاءِ الْعَرَبِ» ؛ لأن التقييد بأحياء من العرب لا يؤثر، فإذا رقى أحياءً من العرب أو أحياء من العجم أو غيرهم فالكل يقال لها رقية.
والرقية الشرعية هل يؤخذ عليها أجرة، أو لا يؤخذ عليها؟
استدل البخاري بحديث ابن عباس: أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ على أنه لا بأس بأخذ الأجرة على الرقية أو التعليم.
وفيه: أن الصحابي رقى هذا اللديغ بفاتحة الكتاب فقط؛ وعليه فيجوز الاقتصار على الفاتحة في الرقية، وأنها كافية وحدها، والرقية على ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: أن ينفث على المريض ـ وهذا أحسن ـ بأن يقرأ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفَاتِحَة: 2] وينفث، والنفث: هو النفخ مع ريق خفيف، وهو فوق النفخ ودون التفل، والتفل: ريق كثير، والنفخ: هواء بدون ريق.
الحال الثانية: أن يقرأ في ماء ثم يشربه المريض أو يصب عليه، كما ورد عن جماعة من السلف.
الحال الثالثة: أن يكتب في إناء، ثم يغسل، ويشربه المريض، وقد فعل هذا بعض أصحاب الإمام أحمد، ذكره ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» [(325)].
قوله: «وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لاَ يَشْتَرِطُ الْمُعَلِّمُ إِلاَّ أَنْ يُعْطَى شَيْئًا فَلْيَقْبَلْهُ» والصواب: أنه لا بأس أن يشترط المعلم؛ لأنه قد يحتاج إلى تفرغ، وقد لا يجد الوقت لكسب رزق أولاده.
قوله: «وَقَالَ الْحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ الْمُعَلِّمِ» وهو كما قال.
قوله: «وَأَعْطَى الْحَسَنُ دَرَاهِمَ عَشَرَةً» يعني: أعطى المعلم.
قوله: «وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ بِأَجْرِ الْقَسَّامِ بَأْسًا» والقسام: هو الذي يقسم الأموال بين الناس؛ فإذا كان القسام لا بأس أن يعطى مقابل أجرته فمثله الراقي.
قوله: «كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ» يعني: الذي يرشي القاضي ويعطيه أجرة فهذا هو السحت، أما الذي يأخذ أجرة على تعليم القرآن أو على القسمة فلا بأس.
قوله: «وَكَانُوا يُعْطَوْنَ عَلَى الْخَرْصِ» يعني: يعطون الخارص وهو: الحازر والمقدِّر ولا بأس بذلك فكذلك الرقية.
2276 في هذه القصة أن الصحابة استضافوا أحياء من العرب فلم يضيفوهم، والضيافة واجبة، ولكن هؤلاء أخلوا بالواجب، ثم لدغ سيدهم فطلبوا منهم أن يرقوه، فلم يقبلوا إلا بأجرة؛ لأنهم أخلوا بواجب الضيافة، واشترطوا عليهم قطيعًا من الغنم، فانطلق أحدهم وظل يتفل ويقرأ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفَاتِحَة: 2] فقام الملدوغ كأنما نشط من عقال؛ لأنه لما تفل بالفاتحة جعل السم يسري ويخرج، حتى قام كأنما نشط من عقال، فالرقية لها تأثير عظيم، لكن يشترط أن تتوفر لها همة من القارئ، ولابد أن تكون نفس المريض منفعلة مع الدواء والعلاج، أما إذا لم تكن هناك همة من الراقي فلا تؤثر، مثل السيف إذا كانت اليد الممسكة به ترتعش فإنه يسقط، فلابد أن يكون الساعد قويًّا، ولابد أن يكون الانفعال من المريض حاضرًا مثل المكان الذي يضرب فيه السيف، إذا كان لينًا أثر فيه السيف، وإذا كان جامدًا فإنه ينكسر ولا يؤثر فيه.
ولما قام سيد الحيّ أَوْفوهم جعلهم الذي تصالحوا عليه، وكان قطيعًا من الغنم، فقدموا على النبي ﷺ فقال: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ وفيه: أن النبي ﷺ صوبه على هذا الفعل، وبه احتُج على جواز أخذ الأجرة على الرقية، وعلى التطبب.
وهل تعليم القرآن من هذا الباب؟ قال البعض: إن هذا ليس تعليمًا للقرآن، وإنما هذا رقية، وهي نوع من الطب، لكن في الحديث الآخر: إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ [(324)] فلا حرج من أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
المتن:
باب ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ وَتَعَاهُدِ ضَرَائِبِ الإِْمَاءِ
2277 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ النَّبِيَّ ﷺ؛ فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفَ عَنْ غَلَّتِهِ أَوْ ضَرِيبَتِهِ.
الشرح:
قوله: «بَاب ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ وَتَعَاهُدِ ضَرَائِبِ الإِْمَاءِ» . ضريبة العبد: خراجه، وهو ما يجعله السيد على العبد من النقود التي يوظفها عليه كل يوم من مكسبه بعد أن يأذن له، والباقي هو مكسب العبد الذي يكون له ويتوسع فيه وينفق منه على أهله إن كان له أهل.
والإماء: جمع أمة، وهي: المملوكة. وتعاهد ضرائب الإماء يعني: يتعاهد كسبها؛ لما يخشى من كسبها بفرجها؛ حتى يعلم من أين هو؟
2277 قوله: «فَخَفَّفَ عَنْ غَلَّتِهِ أَوْ ضَرِيبَتِهِ» ، وهذا هو الشاهد يعني: أنه لا بأس أن يجعل السيد على العبد ضريبة أو غلة يدفعها كل يوم والباقي له.
المتن:
باب خَرَاجِ الْحَجَّامِ
2278 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَعْطَى الْحَجَّامَ.
2279 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ عَلِمَ كَرَاهِيَةً لَمْ يُعْطِهِ.
2280 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا ، يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَحْتَجِمُ وَلَمْ يَكُنْ يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ.
الشرح:
قوله: «بَاب خَرَاجِ الْحَجَّامِ» هذه الترجمة معقودة لأجرة الحجام، وأنه جائز أن يعطى الحجام أجرته، وأنها حلال وليست حرامًا، وإن كانت مكروهة كراهة تنزيه؛ ولهذا احتج بأن النبي ﷺ احتجم وأعطى الحجام أجره، ولو كانت أجرة الحجام حرامًا ما أعطاه النبي ﷺ ليأكل حراما.
2278 قوله: «احْتَجَمَ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَعْطَى الْحَجَّامَ» استدل به البخاري على جواز إعطاء الحجام أجرة على عمله وأنها ليست حرامًا.
2279 هذا الحديث استدل به عبدالله بن عباس رضي الله عنهما على عدم كراهة أجرة الحجام بقوله في الحديث: «وَلَوْ عَلِمَ كَرَاهِيَةً لَمْ يُعْطِهِ» يعني: لو علم كراهية التحريم لم يعطه أجرة، وإن كان مكروهًا كراهة تنزيه؛ للحديث الآخر: كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ [(326)] فالمراد بالخبث الكراهة، وذلك مثل قول النبي ﷺ: «من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا فلا يقربنا في المسجد» ، فقال الناس: حرمت، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: أيها الناس، إنه ليس بي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها [(327)] فأراد بالخبث الكراهة وليس التحريم.
2280 قوله: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَحْتَجِمُ وَلَمْ يَكُنْ يَظْلِمُ أَحَدًا أَجْرَهُ» ، يعني: يعطيه أجرة مقابل قيامه بأمر الحجامة، ولو كان حرامًا لما أعطاه أجرة، وهذا واضح، وهو الصواب الذي عليه جمهور العلماء أن أجرة الحجام جائزة، لكنها مكروهة؛ لأنها كسب رديء فينبغي أن تُجعل علفًا للدواب أو في الوقود، لا في الطعام والشراب.
المتن:
باب مَنْ كَلَّمَ مَوَالِيَ الْعَبْدِ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ
2281 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ ﷺ غُلاَمًا حَجَّامًا، فَحَجَمَهُ وَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ وَكَلَّمَ فِيهِ؛ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ كَلَّمَ مَوَالِيَ الْعَبْدِ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ» الخراج والضريبة واحد، وهي الأجرة التي يوظفها السيد على عبده كل يوم يدفعها له، والباقي للعبد.
2281 قوله: «فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ» ، دليل على أنه لا بأس أن يجعل السيد على عبده ضريبة كل يوم يدفعها له والباقي للعبد، وهذا الحديث يدل على أن المراد بالخبث المذكور في قوله: كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ [(328)] الرداءة، وأن الكراهة تنزيهية لا تحريمية، وأن كسبه جائز وحلال، لكن ينبغي أن يجعل علفًا للدواب أو في الوقود، لا في الطعام والشراب.
المتن:
باب كَسْبِ الْبَغِيِّ وَالإِْمَاءِ
وَكَرِهَ إِبْرَاهِيمُ أَجْرَ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ.
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النُّور: 33].
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَتَيَاتِكُمُ إِمَاؤُكُمْ.
2282 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ.
2283 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ كَسْبِ الإِْمَاءِ.
الشرح:
قوله: «بَاب كَسْبِ الْبَغِيِّ وَالإِْمَاءِ» هذه الترجمة معقودة لكسب البغي والإماء، والبغي هي الزانية، والإماء معطوفة عليها؛ فالأمة قد يكون كسبها من الزنا؛ فتكون داخلة في البغي، وقد يكون من غيره.
قوله: «وَكَرِهَ إِبْرَاهِيمُ أَجْرَ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ» . والمراد بالكراهة كراهة التحريم، يعني: حرم إبراهيم أجر النائحة؛ لأنه محرم أن تنوح على الميت، وأجر المغنية؛ لأن الغناء حرام.
قوله: «وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ » ، البغاء: المراد به الزنا «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» . وهذا خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أنها تريد التحصن، ووليها هو الذي يكرهها، وإلا فلا يجوز إكراهها على البغاء، حتى ولو لم ترد تحصناً.
2283 قوله: «نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ كَسْبِ الإِْمَاءِ» هذا النهي محمول على ما إذا كانت الحرفة ممنوعة، أو تجر إلى أمر ممنوع شرعًا، مثل كسب الأمة عن طريق الزنا، أو أي: كسب محرم، أما إذا كان كسبًا لا محظور فيه فلا حرج.
2282 قوله: «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ» . فيه: تحريم هذه الثلاثة المنصوص عليها، لكن التحريم متفاوت، فثمن الكلب حرام ولو كان كلب صيد أو ماشية أو حرث، ومن أجاز بيعه فقوله ضعيف، لكن إن أعطاه شيئًا بدون شرط فلا بأس، فإذا أهدى لك شخص كلب صيد أو كلب ماشية فأعطيت له شيئًا بدون شرط فلا بأس، لكن ترك أخذه أولى؛ لئلا تكون حيلة.
قوله: «وَمَهْرِ الْبَغِيِّ» : أي: أجرتها على الزنا، ومعاوضتها عليه وهذا حرام.
قوله: «وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ» حرام، وهو أجرته على الكهانة، وسُمي حلوانًا؛ لكون الكاهن يأخذه سهلاً حلوًا بدون تعب.
وأجرة البغي أو أجرة الكاهن لا ترد على الزاني ولا على الكاهن، ولكن تنفق في المصالح العامة للمسلمين.
ولا يجوز إتيان الكاهن، فإن أتى إليه وسأله لم تقبل له صلاة أربعين يومًا كما ثبت في «صحيح مسلم» أن النبي ﷺ قال: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [(329)] ومعنى أنه لا تقبل صلاته، أي: لا يثاب عليها، وإن كانت صلاته مجزئة، ونقل بعضهم الإجماع على أنها مجزئة كابن المنذر وغيره.
وفي الحديث الآخر: من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ [(330)] وهذا كفر أكبر مخرج من الملة؛ لأنه مكذب لله في قوله : قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ [النَّمل: 65]، وإن صدقه في غير علم الغيب فهذا كفر أصغر لا يخرج من الملة.
المتن:
باب عَسْبِ الْفَحْلِ
2284 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ.
الشرح:
2284 قوله: «نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ» ؛ فيه: دليل على تحريم عسب الفحل، والمراد بعسب الفحل: ماء الفحل الذي يريقه في رحم الأنثى، والفحل: هو الذكر من الإبل أو البقر أو الغنم.
فعسب الجمل أو الثور أو التيس لا يؤخذ عليه أجرة؛ لأن ضراب الفحل يبذل كرمًا ومروءة، ولكن لو أعطاه شيئًا بدون مشارطة فلا بأس، فإذا أعطيته التيس فأعطاك حزمة علف بدون مشارطة، أو أعطاك نقودًا مكافأة على المعروف بدون مشارطة فلا حرج، ولكن ترك أخذها أولى؛ لئلا تكون حيلة على الأجرة.
المتن:
باب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَيْسَ لأَِهْلِهِ أَنْ يُخْرِجُوهُ إِلَى تَمَامِ الأَْجَلِ.
وَقَالَ الْحَكَمُ وَالْحَسَنُ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: تُمْضَى الإِْجَارَةُ إِلَى أَجَلِهَا.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطَى النَّبِيُّ ﷺ خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جَدَّدَا الإِْجَارَةَ بَعْدَمَا قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ.
2285 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ الْمَزَارِعَ كَانَتْ تُكْرَى عَلَى شَيْءٍ سَمَّاهُ نَافِعٌ، لاَ أَحْفَظُهُ.
2286 وَأَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ حَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ.
الشرح:
قوله: «بَاب إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا» . هذه الترجمة معقودة لبيان حكم ما إذا استأجر أرضًا أو دارًا فمات المؤجر أو المستأجر، هل تنفسخ الإجارة أو لا تنفسخ؟
والصواب: أنها لا تنفسخ؛ لأن الإجارة حق لازم، فإذا استأجر شخص أرضا أو بستانا أو بيتا، ثم مات المؤجر أو مات المستأجر فالإجارة باقية على حالها، والورثة يحلون محل الميت، ويقومون مقامه، سواء في ذلك المؤجر والمستأجر.
وإذا اتفق الطرفان على فسخ الإجارة فلا بأس، أما إذا لم يتفقوا فهي عقد لازم لا ينفسخ بالموت.
واستدل البخاري على هذا بما ذكره من آثار:
الأول: قوله: «وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَيْسَ لأَِهْلِهِ أَنْ يُخْرِجُوهُ إِلَى تَمَامِ الأَْجَلِ» يعني: ليس لأهل الميت أن يخرجوا المستأجر إلى تمام الأجل.
الثاني: قوله: «وَقَالَ الْحَكَمُ وَالْحَسَنُ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: تُمْضَى الإِْجَارَةُ إِلَى أَجَلِهَا» ، وهذا هو الصواب؛ لأن الإجارة عقد لازم فلا تنفسخ بالموت ويحل الورثة محل المؤجر أو المستأجر، وإذا اتفقا على الفسخ تنفسخ، أما المساقاة والمزارعة فهما عقدان لازمان عند الجمهور، وعند الإمام أحمد[(331)] هما عقدان جائزان، وهو الصواب؛ لأن النبي ﷺ قال لأهل خيبر: نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا [(332)] ولو شاء الصديق أو عمر لفسخه، لكن لو حدد المدة لخمس سنين مثلاً فينبغي الالتزام؛ لأنها صارت عقدًا لازمًا في هذه الحالة في تلك المدة، بخلاف ما إذا لم يحدد مدة.
2285 قوله: «أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَيْبَرَ الْيَهُودَ أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا» وهذه مساقاة ومزارعة؛ فقد أعطاهم النبي ﷺ الأرض يعملون فيها ولهم نصف الثمرة وللنبي ﷺ نصف الثمرة، والنبي ﷺ قد عامل اليهود على خيبر؛ لأن المسلمين كانوا مشغولين بالجهاد، وكان لليهود خبرة بأرضهم.
2286 قوله: «حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ» ، وقد أجلاهم عمر عملاً بقول النبي ﷺ: أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب [(333)] وقوله: «لا يبقى في جزيرة العرب دينان» [(334)] أما الصديق فلم يجلهم؛ لأن مدته كانت قصيرة، وكان مشغولاً بحروب المرتدين، وأما عمر فقد طالت مدته واستقرت الأحوال في عهده؛ فلذلك أجلاهم.
وعليه فلا يجوز للمسلم أن يستقدم في جزيرة العرب إلا مسلمًا ملتزمًا ـ لأنه قد يدعي الإسلام ولا يكون مسلمًا ـ فلابد من العناية بهذا الأمر؛ لأن عمر أجلاهم، والنبي ﷺ قال: نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا [(335)]؛ لأنه ﷺ كان عازمًا على إجلائهم.