المتن:
(39)كِتَاب الْحَوَالاتِ
باب الْحَوَالَةِ وَهَلْ يَرْجِعُ فِي الْحَوَالَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِذَا كَانَ يَوْمَ أَحَالَ عَلَيْهِ مَلِيًّا جَازَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ وَأَهْلُ الْمِيرَاثِ فَيَأْخُذُ هَذَا عَيْنًا وَهَذَا دَيْنًا فَإِنْ تَوِيَ لأَِحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ.
باب إِذا أَحَالَ عَلَى مَلِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ رَدٌّ
2287 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ.
2288 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَمَنْ أُتْبِعَ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتَّبِعْ.
الشرح:
قوله: «كتاب الْحَوَالاتِ» مفردها الحوالة بفتح الحاء وتكسر، مشتقة من التحويل أو من الحؤول، وهي: نقل دين من ذمة إلى ذمة، وأركانها ثلاثة: محيل، ومحتال، ومحال عليه.
والمحيل: هو الشخص الذي عليه الدين.
والمحتال: الشخص الذي له الدين.
والمحال عليه: المدين الثاني.
وشرطها: رضا المحيل بالحوالة، وأما المحال عليه فقيل: لا يشترط رضاه، وقال بعضهم: يشترط رضاه، والصواب أنه لا يشترط رضاه؛ لأنه يسدد الدين.
وشرط المحال عليه أن يكون مليئًا، والمليء هو ما اجتمع فيه شرطان:
أحدهما: أن يكون قادرًا على الوفاء بكونه ذا مال.
الثاني: ألا يكون مماطلاً، بل يدفع الحق متى ما طلب منه.
فإذا وجد هذان الشرطان في المليء وجب على المحتال أن يقبل الحوالة على المحال عليه.
وقوله: «بَابٌ الْحَوَالَةِ وَهَلْ يَرْجِعُ فِي الْحَوَالَةِ» ، اختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال: له أن يرجع، والجمهور على أنه لا يرجع إلا إذا مات المحال عليه؛ وأما إذا أفلس ففيه خلاف أيضًا؛ فمن العلماء من قال: يرجع، ومنهم ءمن قال: لا يرجع، والأصل في هذا قول النبي ﷺ: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ. فاشترط النبي ﷺ في المحال عليه أن يكون مليئًا مجتمعة فيه الشروط المتقدمة.
وقوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِذَا كَانَ يَوْمَ أَحَالَ عَلَيْهِ مَلِيًّا جَازَ» . مليًّا يعني: قادرًا على الوفاء وغير مماطل.
وقوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ وَأَهْلُ الْمِيرَاثِ فَيَأْخُذُ هَذَا عَيْنًا وَهَذَا دَيْنًا» ، يعني: إذا كانت بين أهل الميراث أو الشركاء أموال يتخارجون، أي: أن كل واحد منهما يحاسب صاحبه ويوفيه حقه حتى وإن صار في ذمته، فإن أفلس أو مات أو جحد بعد ذلك فليس للمحتال أن يرجع إلى المحيل؛ لأنه حين قبل الحوالة كان مليئًا.
2287، 2288 قوله: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ. المماطلة هي التأخير في قضاء الدين.
وفي الحديث الآخر: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ، وَعُقُوبَتَهُ [(336)] عرضه: شكايته للقاضي، وعقوبته: حبسه وضربه إذا ثبتت مماطلته.
قوله: فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ. أتبع يعني: أحيل، وملي يعني: قادر على الوفاء وغير مماطل، فليتبع يعني: فليقبل الحوالة.
والأمر في قوله: فَلْيَتْبَعْ للاستحباب عند الجمهور، وقيل: للوجوب وهو الصواب؛ لأن الأصل في الأوامر الوجوب إلا لصارف، ولا صارف يصرفه.
وقد اختلف أهل العلم في رضا المحتال فقال بعضهم: لابد من رضاه.
وقال بعضهم: لا يشترط رضاه؛ لأن في قول النبي ﷺ فَلْيَتْبَعْ أمرًا له فظاهر الحديث أنه يجب عليه القبول، إلا إذا كان المحال عليه مماطلاً أو فقيرًا فلا يلزمه القبول.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال أبو حنيفة: يرجع بالفلس مطلقاً سواء عاش أو مات، ولا يرجع بغير الفلس، وقال مالك: لا يرجع إلا إن غره كأن علم فلس المحال عليه ولم يعلمه بذلك، وقال الحسن وشريح وزفر: الحوالة كالكفالة فيرجع على أيهما شاء، وبه يشعر إدخال البخاري أبواب الكفالة في كتاب الحوالة، وذهب الجمهور إلى عدم الرجوع مطلقًا، واحتج الشافعي بأن معنى قول الرجل: أحلته وأبرأني: حولت حقه عني وأثبته على غيري، وذكر أن محمد بن الحسن احتج لقوله بحديث عثمان أنه قال في الحوالة أو الكفالة: يرجع صاحبها لا توى ـ أي: لا هلاك ـ على مسلم» اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «واختلفوا هل هي بيع دين بدين رخص فيه فاستثني من النهي عن بيع الدين بالدين، أو هي استيفاء؟ وقيل: هي عقد إرفاق مستقل، ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف، والمحتال عند الأكثر، والمحال عليه عند بعض من شذ، ويشترط أيضًا تماثل الحقين في الصفات، وأن يكون في شيء معلوم، ومنهم من خصها بالنقدين ومنعها في الطعام؛ لأنه بيع طعام قبل أن يستوفى» . اهـ.
المتن:
باب إِنْ أَحَالَ دَيْنَ الْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ
2289 - حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟، قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟، قَالُوا: لاَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟، قَالُوا: ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟، قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟، قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ
الشرح:
قوله: «بَاب إِنْ أَحَالَ دَيْنَ الْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ» فيه: بيان أنه إذا أحال دين الميت على رجل جاز وانتقل من ذمة الميت إلى ذمته، والمراد بالمليء: الغني غير المماطل، فإن كان غنيًّا لكنه لا يؤدي الحق فليس بمليء، أو كان غير غني فإن الحوالة غير لازمة، لكن إذا كان غنيًّا وغير مماطل لزمت الحوالة وليس له ردها، وظاهر صنيع البخاري أنه اختار القول القائل بأن الأمر في قوله ﷺ: فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ [(337)] للوجوب وليس للاستحباب، أو أن المراد بقوله: «فليس له رد» يعني: فليس له أن يرجع بعد ذلك، وأنها عقد لازم؛ فعلى هذا يكون موافقًا للجمهور؛ لقول النبي ﷺ: مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَمَنْ أُتْبِعَ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتَّبِعْ [(338)].
فظاهر الحديث: أنه ليس له رد الحوالة بل يجب عليه قبولها.
2289 هذا الحديث من ثلاثيات البخاري، والثلاثيات هي الأحاديث التي يرويها البخاري ويكون بينه وبين النبي ﷺ ثلاثة رجال: شيخ البخاري، والتابعي، والصحابي.
وكذا مسلم له ثلاثيات شرحها السفاريني، ثم شرح ثلاثيات «المسند» للإمام أحمد.
قوله: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ؛ فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى؛ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟، قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَلَيْهَا» ، لأنه عنده وفاء فيُقضى دينه من الدنانير قبل قسم التركة.
قوله: «ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ؛ فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ» .
الشاهد من الحديث: أن أبا قتادة كفل الميت وتحمل الدين عنه للحي، والكفالة بمعنى الحوالة.
فالبخاري له دقائق في استنباطاته وفقهه في تراجمه ـ كما هنا ـ حيث قاس الحوالة على الكفالة فلما كفل أبو قتادة الميت وتحمل الدين عنه للحي دل على جواز الحوالة بدين الميت؛ لأن الحوالة بمعنى الكفالة.
وجاء في اللفظ الآخر في غير الصحيح: أن دينه ديناران، فقال: يا رسول الله علي الديناران، فقال النبي ﷺ: برئ الغريم؟ قال: نعم، فصلى عليه النبي ﷺ، ثم بعد ذلك من الغد لقي أبا قتادة فقال النبي ﷺ: ما فعلت الديناران؟ قال: يا رسول الله، ما مات إلا بالأمس ـ يعني: ما مضى مدة ـ فسكت النبي ﷺ، ثم لقيه من الغد فقال: ما فعلت الديناران؟ قال: قضيتهما يا رسول الله، فقال: الآن بردت عليه جلدته [(339)]، وكان النبي ﷺ في أول الإسلام يترك الصلاة على من عليه دين؛ تنفيرًا للأحياء من تحمل الدين، وحثًّا لهم على قضاء الدين قبل الموت، ثم لما وسع الله عليه، وكان يأتيه شيء من المال كان يتحمل الدين عن الميت، ويصلي عليه، ويقول: مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، ومن ترك دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ [(340)] فأخذ العلماء من هذا أنه ينبغي لولي الأمر إذا كان في بيت المال سعة أن يتحمل الدين عن الأموات الذين ليس لهم وفاء من تركة ونحوها؛ اقتداءً بالنبي ﷺ، فإن النبي ﷺ لما وسع الله عليه صار يقضي ديون الأموات الذين ليس لهم وفاء ويصلي عليهم.
وفي الحديث: جواز إحالة دين الميت على الحي، وأنه بذلك تبرأ ذمة الميت، وهذا هو الشاهد للترجمة، فهذه وإن كانت كفالة؛ لأن أبا قتادة كفل الميت وتحمل الدين عنه فإنها تسمى حوالة لأن الدين أحيل من ذمة الميت إلى الحي.
قال ابن بطال: «إنما ترجم بالحوالة وقال: إن أحال دين الميت، ثم أدخل حديث سلمة وهو في الضمان؛ لأن الحوالة والضمان عند بعض العلماء متقاربان؛ لأنهما ينتظمان في كون كل منهما نقل ذمة رجل إلى ذمة رجل آخر، والضمان في هذا الحديث نقل ما في ذمة الميت إلى ذمة الضامن فصار كالحوالة، بل قد يقال حوالة» . اهـ.