المتن:
(40)كَتَاب الْكَفَالَةِ
باب الْكَفَالَةِ فِي الْقَرْضِ وَالدُّيُونِ بِالأَْبْدَانِ وَغَيْرِهَا
2290 وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَْسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ : بَعَثَهُ مُصَدِّقًا فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنْ الرَّجُلِ كَفِيلاً حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ فَصَدَّقَهُمْ وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ.
وَقَالَ جَرِيرٌ وَالأَْشْعَثُ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُرْتَدِّينَ اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ.
وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمَاتَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَكَمُ: يَضْمَنُ.
2291 قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ: ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً قَالَ: صَدَقْتَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَْجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلاَ، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلاً فَرَضِيَ بِكَ وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لأَِهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالأَْلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآِتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ! قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالأَْلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا.
الشرح:
قوله: «بَاب الْكَفَالَةِ فِي الْقَرْضِ وَالدُّيُونِ بِالأَْبْدَانِ وَغَيْرِهَا» أشار المؤلف في هذه الترجمة إلى أنواع الكفالة، وهي نوعان:
النوع الأول: كفالة بالمال.
النوع الثاني: كفالة بالبدن، فالكفالة بالمال أن يكفله فيما عليه من المال؛ فإن لم يؤد أدى عنه، والكفالة بالبدن أن يحضره.
وقد يجتمع النوعان فيكفله بالأمرين جميعًا قائلاً: أنا كفلته بالبدن وبالمال؛ فأكفله بالبدن بأن أحضره متى ما طلب، وأكفله بالدين أو بالمال الذي عليه وقد تكون كفالة بالمال وحده، أو بالبدن وحده.
والكفالة بالمال تسمى الضمان أيضًا ـ وهذا هو الأصل ـ فإذا كفله بالمال فإنه يضمن ما عليه.
2290 قوله: «وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَْسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ : بَعَثَهُ مُصَدِّقًا فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ» المعنى: أن رجلا له امرأة، وامرأته لها جارية، فوقع زوج المرأة على الجارية، وكان حمزة مُصَدِّقًا مجمع الزكاة «فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنْ الرَّجُلِ كَفِيلاً حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ فَصَدَّقَهُمْ وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ» ، لأن جماع الرجل جارية امرأته فيه شبهة.
وفي هذه القصة: مشروعية الكفالة بالأبدان؛ لأن حمزة بن عمرو الأسلمي فعله ـ وهو صحابي ـ من غير نكير من عمر ومن الصحابة فدل على مشروعيته.
أما جلد عمر للرجل وهو محصن وكان حقه الرجم؛ لأن عمر درأ عنه الرجم بالجهالة، ولأن له شبهة أن الجارية جارية امرأته، فلعل امرأته أذنت له في وطئها وهذه شبهة تدرأ عنه الرجم؛ فخفف عمر عنه الحد بأن جلده مائة ولم يرجمه، أو أنه جلده من باب التعزير فيكون في هذا دليل على أن التعزير يتجاوز به الحد على هذا القول، وأما حديث: لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله [(341)] فهذا في حق الآدمي، أما في حق الله فلا بأس أن يزاد.
وقوله: «وَقَالَ جَرِيرٌ وَالأَْشْعَثُ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُرْتَدِّينَ اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ» فيه: مشروعية الكفالة بالأبدان في الحدود، وأخذ منه البخاري رحمه الله الكفالة بالأبدان في الديون، فإذا كان عبدالله بن مسعود قد أخذ الكفالة بالأبدان في الحدود دل هذا على جواز الكفالة بالأبدان في الديون بطريق الأولى، فالبخاري قاس الكفالة بالأبدان في الديون على الكفالة بالأبدان في الحدود لما استتابهم ابن مسعود، وكفلهم عشائرهم.
وقوله: «َقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمَاتَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ» ؛ هذا قول الجمهور؛ حيث قالوا: إذا تكفل بنفس ـ أي: تكفل بالبدن ـ في حد أو قصاص، ثم غاب أو مات المكفول فإنه لا شيء على الكفيل، بخلاف المكفول بدين أو مال؛ فإنه إذا مات أو غاب فعلى الكفيل أن يؤدي عنه المال.
والفرق بينهما أن الكفيل في المال إذا أدى المال وجب له على صاحب المال مثله، لكن في الحد والقصاص إذا كفله ثم مات أو غاب لا يقام الحد على الكفيل ولا يقتص منه.
وبعض العلماء يفصل بين الدين الحال والمؤجل، فإذا كان الدين حالًّا يغرم الكفيل في الحال، وإذا كان الدين مؤجلاً ينتظر بحيث إذا قدم المكفول عنه فلا يغرم وإلا يغرم.
2291 قوله: «وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ...» ثم ساق القصة، كذا أوردها معلقة ولكنها مسندة في مواضع أخرى من الصحيح.
وهذه القصة فيها من الفوائد: أنه لا بأس أن يكون القرض إلى أجل مسمًّى؛ لقوله فيها: فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، يعني: محدد.
وفيه: مشروعية الكفالة وطلب الكفيل في المال؛ لأن النبي ﷺ أخبر بذلك مقررًا، وإنما ذكره ليتأسى به، وإلا لم يكن لذكره فائدة.
وفيه: أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا جاء شرعنا بتقريره، أو سكت عنه شرعنا ولم يأت بما ينسخه أو ينافيه، لكن لا ينبغي للإنسان أن يجعل مثل ذلك بل ينتظر حتى يأتي صاحبه ويدفعه إليه، أو يرسل به إليه بالوسائل الحديثة.
وفيه: مشروعية طلب الشهود في الدين.
وفيه: فضل التوكل على الله، وأن من صح توكله تكفل الله بنصره وعونه، وهو شاهد لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطّلاَق: 2].
وفيه: جواز أخذ ما لفظه البحر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، في رواية أبي سلمة: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُسْلِفُ النَّاسَ إِذَا أَتَاهُ الرَّجُلُ بِكَفِيلٍ [(342)] ولم أقف على اسم هذا الرجل، لكن رأيت في مسند الصحابة الذين نزلوا مصر لمحمد بن الربيع الجيزي بإسناد له فيه مجهول، عن عبد الله بن عمرو بن العاص يرفعه: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَالَ لَهُ أَسْلِفْنِي أَلْفَ دِينَارٍ إِلَى أَجَلٍ فَقَالَ مَنِ الْحَمِيلُ بِكَ قَالَ اللَّهُ فَأَعْطَاهُ الْأَلْفَ فَضَرَبَ بِهَا الرَّجُلُ أَيْ سَافَرَ بِهَا فِي تِجَارَةٍ فَلَمَّا بَلَغَ الْأَجَلَ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِ فَحَبَسَتْهُ الرِّيحُ فَعَمِلَ تَابُوتًا... [(343)] فذكر الحديث نحو حديث أبي هريرة، واستفدنا منه أن الذي أقرض هو النجاشي؛ فيجوز أن تكون نسبته إلى بني إسرائيل بطريق الاتباع لهم لا أنه من نسلهم» . اهـ.
وهذا عجيب من الحافظ رحمه الله وهو له اليد الطولى في معرفة الأسانيد ومع ذلك يسوق القصة بإسناد فيه مجهول ثم يقول: «واستفدنا منه أن الذي أقرض هو النجاشي» ، ثم لو صح السند احتمل أن تكون قصة أخرى.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله أيضًا: «وفي الحديث جواز الأجل في القرض، ووجوب الوفاء به، وقيل: لا يجب بل هو من باب المعروف.
وفيه: التحدث عما كان في بني إسرائيل وغيرهم من العجائب للاتعاظ والائتساء.
وفيه: التجارة في البحر وجواز ركوبه.
وفيه: بداءة الكاتب بنفسه.
وفيه: طلب الشهود في الدين وطلب الكفيل به.
وفيه: فضل التوكل على الله، وأن من صح توكله تكفل الله بنصره وعونه» . اهـ.
المتن:
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النِّسَاء: 33]
2292 - حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِدْرِيسَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء: 33]، قَالَ: «وَرَثَةً»: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) قَالَ: " كَانَ المُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ، يَرِثُ المُهَاجِرُ الأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ، لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء: 33] نَسَخَتْ "، ثُمَّ قَالَ: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) «إِلَّا النَّصْرَ، وَالرِّفَادَةَ، وَالنَّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ المِيرَاثُ، وَيُوصِي لَهُ»
2293 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيع.
2294 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، قَالَ: قُلْتُ: لأَِنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لاَ حِلْفَ فِي الإِْسْلاَمِ؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَْنْصَارِ فِي دَارِي.
الشرح:
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النِّسَاء: 33]» فيه بيان أن الحلف والمؤاخاة على التوارث بين المهاجرين والأنصار الذي كان في أول الهجرة قد نسخ، وبقي الحلف على النصرة والرفادة والنصيحة والإخاء.
2292 والجمع بين حديث ابن عباس وحديث أنس الأول أنه نسخ الميراث من الإخاء المذكور في أول الأمر، وبقي التعاون على الحق والنصرة والأخذ على يد الظالم، كما قال ابن عباس: «إِلاَّ النَّصْرَ وَالرِّفَادَةَ وَالنَّصِيحَةَ وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِي لَهُ» .
ولما قدم النبي ﷺ المدينة عقد الإخوة بين المهاجرين والأنصار، وصاروا يتوارثون بينهم، فإذا مات الأنصاري ورثه أخوه المهاجري دون ذوي رحمه، ثم نسخ هذا بعد ذلك وأنزل الله تعالى: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفَال: 75] فنسخ التوارث بالمؤاخاة وصار التوارث بالقرابة، وبقي الحلف للنصرة والرفادة والنصيحة، وكل حلف في الجاهلية على ذلك لم يزده الإسلام إلا شدة وقوة، فإذا كان في الجاهلية التحالف على نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم والتعاون على البر والتقوى والنصيحة والرفادة فهذا يقره الإسلام، أما الحلف على التوارث فهذا نُسِخ.
2293 قوله: «فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيع» آخى النبي ﷺ بين عبدالرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع، فقال: هذا أخوك. فقال له سعد بن الربيع: أنت أخي الآن وأنا أريد أن أقسم مالي بيني وبينك نصفين، لي النصف ولك النصف، ولي زوجتان فانظر: أيتهما أعجب إليك فأطلقها ثم تعتد فتتزوجها، فقال عبدالرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فذهب إلى السوق وجعل يبيع ويشتري حتى رزقه الله مالاً[(344)]، ولم يأخذ من أخيه الأنصاري شيئًا من المال، ثم تزوج بعد ذلك امرأة وترك لأخيه امرأتيه.
2294 قوله: «أَبَلَغَكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لاَ حِلْفَ فِي الإِْسْلاَمِ؟ فَقَالَ: قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَْنْصَارِ فِي دَارِي» يعني: المحالفة التي كانت في أول الهجرة.
ووجه إدخال هذا الباب في الكفالة أنه لما لزم استحقاق المال بعقد الحلف تطوعًا قيس عليه الكفالة لأنها التزام مال بغير عوض تطوعًا.
وحديثا أنس فإن المقصود بهما الإشارة إلى أن الكفالة التزام مال بغير عوض تطوعًا، فكما يلزم استحقاق المال بعقد الحلف تطوعًا فإنه يلزم المال في الكفالة تطوعًا بغير عوض، وهذه من دقائق فقه البخاري رحمه الله.
المتن:
باب مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ.
2295 حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ؛ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: لاَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ؛ قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.
2296 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَلَمْ يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِي: كَذَا وَكَذَا، فَحَثَى لِي حَثْيَةً، فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِيَ خَمْسُ مِائَةٍ، وَقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ» هذه الترجمة معقودة لبيان أنه إذا تكفل الحي الدين عن الميت فإنه يستقر في ذمته، وليس له أن يرجع عن الكفالة، بل هي لازمة له، وبهذا قال الحسن.
2295 يستفاد من الحديث: أن الدين انتقل من ذمة الميت إلى ذمة الحي مستقرًا فيها، وليس له الرجوع في كفالته؛ ولهذا صلى عليه النبي ﷺ، فلو كان له الرجوع ما صلى عليه؛ لأنه قد يرجع بعد الصلاة.
2296 في الحديث: دليل على أن الوفاء بالوعد لازم، إلا عند العجز فيسقط الواجب، كما تسقط الواجبات الأخرى عند العجز ـ كصلاة الجماعة والقيام في الصلاة فإنهما يسقطان عن المريض العاجز ـ وخلُف الوعد من صفات المنافق وفي الحديث: آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ [(345)] وقد ذم الله المنافقين على إخلاف العهد والوعد، فقال : ومِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التّوبَة: 75-77] فتوعدهم سبحانه بأن يعقبهم بالنفاق لإخلافهم الوعد، وهذا يدل على أن الوفاء به واجب إلا عند العجز.
وقال بعض العلماء: إنه مستحب، لكن البخاري رحمه الله ذهب إلى أنه واجب واستدل به على لزوم الكفالة فكما أن الوعد يلزم فكذلك الكفالة تلزم، فإذا تكفل الإنسان بالمال عن حي أو ميت لزمه؛ لأن أبا بكر لما قام مقام النبي ﷺ تكفل بما كان عليه من واجب أو تطوع، فلما التزم ذلك لزمه أن يوفي بجميع ما عليه من دين أو عدة.
المتن:
باب الدَّيْنِ
2298 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلاً؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى، وَإِلاَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ.
الشرح:
2298 في الحديث: كفالة الميت بتحمل دَيْنه؛ لأن الميت لا يكفل ببدنه وإنما تكون الكفالة بدَيْنه، وهذا الحديث ليس فيه الكفالة عن الميت، لكن جاء في حديث أبي قتادة أن النبي ﷺ لما أراد أن يصلي على رجل سأل: هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ فقالوا: عليه ديناران، فتأخر وقال: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ؛ فتكفل أبو قتادة بالدين فقال: علي الديناران، فصلى عليه النبي ﷺ[(348)].
وفيه: إشارة إلى أن كفالة الميت إنما تكون بتحمل دينه، ولا تأتي الكفالة له بالبدن؛ لأنه فارق الحياة.
وفي هذا الحديث: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلاً؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى، وَإِلاَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ. فيه: بيان أن النبي ﷺ كان في بادئ الأمر، حيث كان ﷺ يتأخر فلا يصلي على من عليه دين؛ لأجل حث الأحياء على عدم تحمل الدين، وعلى الوفاء بالديون، فلما وسع الله عليه وجاءه المال صار ﷺ يصلي على من عليه دين ويقضي عنه دينه، وأما من ترك مالاً فهو لورثته.
وهكذا ينبغي لولاة الأمور أن يقضوا ديون أموات المسلمين، وأن يعولوا أسرهم، وينفقوا عليهم ـ إذا كانوا محتاجين ـ من بيت المال، ما دام فيه سعة.
المتن:
باب جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وَعَقْدِهِ
2297 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَرَفَيِ النَّهَارِ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ، فَأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ، فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ، فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَِبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ، وَلاَ القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَِبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً، لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ القُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَِبِي بَكْرٍ الاِسْتِعْلاَنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ العَرَبُ، أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ، وَهُمَا الحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَرَجَعَ إِلَى المَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
الشرح:
قوله: «بَاب جِوَارِ أَبِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وَعَقْدِهِ» وجه دخول هذا في الكفالة أن الإجارة منع من الظلم؛ تقول: فلان بجواري، يعني: في حمايتي وحفظي، أمنعه من الظلم، فهي كفالة بنفس المجار، كأنه كفل نفسه أن لا يضار فهي شبيهة بكفالة البدن، وهذا وجه استشهاد المؤلف بالحديث على الكفالة بالبدن.
2297 قوله: «لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ» يعني: إلا وقد أسلما ودخلا في الدين، فعائشة رضي الله عنها كانت صغيرة في السن حين أسلم أبواها، فتقول: منذ أن عقلت وأبوأي: مسلمان يدينان دين الإسلام.
وهذا فيه: فضل لأبي بكر.
قوله: «فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ» ؛ لأن المشركين آذوه فهو يريد أن يهاجر إلى الحبشة حتى يعبد ربه، «حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ» ، وهو موضع بأطراف اليمن في اليمامة «لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ» ، وكان رجلاً مشركًا، «وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ» في قريش، «فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ، فَأَعْبُدَ رَبِّي» . السياحة معناها العبادة.
قوله: «قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ» ؛ يعني: أنت رجل فيك خير، ونفعك يتعدى؛ «فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ» ؛ هذه صفات أبي بكر، وهي أيضًا من صفات الرسول الكريم ﷺ كما قالت خديجة رضي الله عنها: «كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتصل المعدوم، وتعين على نوائب الحق» [(346)].
ثم قال ابن الدغنة: «وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ» ؛ أي: أنا أجيرك وأمنعك من أي: أحد يؤذيك، فاذهب واعبد ربك في مكة ولا تخرج.
قوله: «فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ» يعني: الثكل، وقيل: اليتيم «وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ» أي: ما ينزل بالإنسان من النوائب والملمات، يعني: هذه صفات عظيمة ينتفع الناس بها فكيف تخرجونه؟! «فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ» . فقالوا ما دمت تجيره لا نمسه بسوء، ونقبل جوارك، وأمنوا أبا بكر بعد أن كانوا يؤذوه.
قوله: «وَقَالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ، فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ» ؛ يعني: لا يعلن صلاته «فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَِبِي بَكْرٍ» ؛ وذلك لأن أبا بكر بنى مسجدًا في فناء داره ـ والفناء ما امتد من جوار الدار خارجًا عنها ـ يعبد فيه ربه، حتى قيل: إن هذا هو أول مسجد بني في الإسلام.
وفيه: جواز الجوار من الكافر، وأن الكافر يجير المسلم، وإذا خشي المؤمن على نفسه من ظالم جاز له أن يستجير بمن يمنعه من الظلم ولو كان كافرًا، كما أجار أبو طالب وهو على دين قومه النبي ﷺ.
وهو عندما أجاره ابن الدغنة جعل يقرأ القرآن في هذا المسجد، وكان يبكي ، فصار النساء والأطفال والصبيان يأتون فيتسمعون ويعجبون به، فقال كفار قريش: نخشى أن يفتن أبناءنا ونساءنا، وجاءوا إلى ابن الدغنة فقالوا: يا ابن الدغنة، مر أبا بكر إما أن يدخل في داره ولا يعلن صلاته حتى لا يفتن أبناءنا ونساءنا، أو رد عليه جواره.
فأتاه ابن الدغنة وقال له: «قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ العَرَبُ، أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ» ، يعني: إني لا أحب أن ينقض عهدي ـ فأنت الآن بين أحد أمرين: إما أن تدخل داخل البيت ولا تعلن صلاتك، وإما أن ترد علي جواري.
«قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ، وَهُمَا الحَرَّتَانِ» ، وهي المدينة، «فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ» قبل النبي ﷺ، «وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَلَى رِسْلِكَ يعني: على مهلك، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، «فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» ، وفي الحديث الآخر أنه قال: يا رسول الله لك راحلة ولي راحلة، فقال رسول الله ﷺ: بِالثَّمَنِ [(347)] يعني: آخذها بالثمن.
وفيه: دليل على ما استدل به المؤلف رحمه الله من أن الإجارة هي منع من الظلم، فهي كفالة بالنفس ألا يضار المكفول؛ فدل هذا على جواز الكفالة بالبدن.