المتن:
(44) كِتَاب في الاِسْتِقْرَاضِ وَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَالْحَجْرِ وَالتَّفْلِيسِ
باب مَنْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ أَوْ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ
2385 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْمُغِيرَةِ عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ؟ أَتَبِيعُنِيهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْبَعِيرِ؛ فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ.
2386 حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ، فَقَالَ: حَدَّثنِي الأَْسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ.
الشرح:
قوله: «كتاب الاستقراض» . هذا الكتاب عقده المؤلف رحمه الله لبيان حكم من يقترض شيئًا أو يطلب القرض ـ كأن يقترض مالاً أو حيوانًا ـ فما حكم القرض؟
قوله: «وَأَدَاءِ الدُّيُونِ» أي: كيف تؤدى الديون؟
قوله: «وَالْحَجْرِ» ، وهو منع الإنسان عن التصرف.
قوله: «وَالتَّفْلِيسِ» . والمفلس هو من زادت ديونه على أمواله، وطالبه الغرماء.
قوله: «بَاب مَنْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ أَوْ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ» ؛ يعني: فهو جائز، فلا بأس أن يشتري بالدين ثم يوفي بعد ذلك.
ومثال ذلك رجل يريد أن يشتري سيارة فقال لمالكها: أريد أن أشتري منك هذه السيارة ولكن المال ليس بحاضر معي الآن، وسأوفيك إياه عندما أرجع إلى بلدتي، أو بعد مدة، فلا بأس بهذه الصورة من البيوع، وأصبح هذا البيع بالدين بيعًا صحيحًا على الرغم من أنه ليس عنده ثمن أو ليس بحضرته.
2385 حديث جابر في بيع البعير ذكره البخاري رحمه الله في مواضع كثيرة مطولاً ومختصرًا، وقد ذكره هنا مختصرًا.
قوله: «غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ» اختلف في تعيين هذه الغزوة، فقيل: تبوك، وقيل غيرها[(411)].
قوله: كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ؟ أَتَبِيعُنِيهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْبَعِيرِ؛ فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ» كان جابر بن عبد الله قد تأخر عن الركب بسبب أن بعيره ثَفال ـ أي: بطيء ـ فقال له النبي ﷺ: أتبيعه؟ فقال: هو لك يا رسول الله ـ أي: خذه بدون ثمن ـ قال: لا، ثم قال له: بعنيه، فباعه للنبي ﷺ واشترط أن يركبه حتى يصل إلى المدينة، فنخسه النبي ﷺ فسار سيرًا قويًّا، فلما قدم المدينة قال النبي ﷺ لبلال : أعطه ثمنه، فأعطاه ووزن له وأرجح، ثم ذهب جابر ومعه الثمن، فلما ولى جابر دعاه فقال: تعال، فأعطاه الجمل، وأعطاه الثمن، وقال: أتُراني ماكستك لآخذ جملك؟! خذ الجمل والدراهم [(412)] لأن النبي ﷺ ليس بحاجة إليه، ولكن فعل ذلك لتعليم الأمة البيع والشراء.
وفيه: أنه يستحب للإنسان أن يعطي الثمن ويرجح فيه.
وفيه جواز شراء وبيع الإمام من أحد الرعية إذا لم يكن في ذلك ضرر على البائع أو المشتري، فلا بأس أن يكون الإنسان مثلاً قاضيًا، أو مديرًا، أو رئيسًا، أو إمام المسلمين ثم يتبايع مع شخص، إلا إذا كان هناك ضرر على الذي يبيع للإمام بأن يحكم بأقل من الثمن أو غير ذلك فلا يجوز، وهنا لا يتولى الصفقة بنفسه بل يجعل له وكيلاً.
والشاهد منه: أن النبي ﷺ اشترى البعير والثمن عنده ولكن ليس حاضرًا؛ لأنه في السفر والثمن في البلد، فلا حرج أن يشتري الإنسان سلعة وليس ثمنها حاضرًا، فله أن يشتري بالدين.
2386 قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ» الشاهد منه: أن النبي ﷺ اشترى طعامًا ولم يكن ثمنه حاضرًا عنده، لكنه اشتراه بالدين، وهو ينوي أداءه.
استُدِل بهذا الحديث والذي قبله على جواز الشراء والبيع بالدين، ولا حرج في ذلك، لكن لابد من قبض أحد العوضين ـ أي: يتم قبض السلعة والثمن مؤجل، أو يقبض الثمن والسلعة مؤجلة ـ أما أن تكون السلعة دينًا والثمن دينًا فهذا لا يجوز؛ لأن هذا بيع الدين بالدين يعني: الكالئ بالكالئ، وهو لا يجوز إجماعًا.
وفيه: جواز الرهن في الحضر؛ لأن النبي ﷺ رهن درعه وهو في البلد، وأما قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البَقَرَة: 283] فهذا لبيان الأغلب، وهو أن الإنسان يحتاج إلى الرهن إن كان مسافرًا، أما كونه في البلد فلا يحتاج غالبًا للرهن.
وفيه: جواز الرهن في السلم أيضًا.
وفيه: جواز معاملة اليهود والمشركين بالبيع والشراء والإجارة وغير ذلك من أنواع البيوع، ولا يعد ذلك من الموالاة في شيء؛ لأن الموالاة معاشرتهم ومصادقتهم والتودد لهم والركون إليهم، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، وأما المعاملات مثل البيوع فلا تدخل في هذا الباب؛ ولهذا عامل النبي ﷺ اليهود، واشترى طعامًا من يهودي[(413)]، واشترى غنمًا من مشرك[(414)]، ولو كانت هذه المعاملات محرمة ما فعلها النبي ﷺ وما أقرها الشرع.
المتن:
باب مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَوْ إِتْلاَفَهَا
2387 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُْوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَوْ إِتْلاَفَهَا» . هذه الترجمة ذكر فيها المؤلف رحمه الله الشرط أولاً ثم الجواب والجزاء ثانيًا، والتقدير: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله.
2387 قوله: مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ في الحديث: دليل على أنه ينبغي لمن يأخذ أموال الناس استدانةً أن ينوي أداءها حتى يعان على الأداء.
وفيه: بشارة لمن نوى قضاء الدين أن الله يؤدي عنه في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فييسر الله له قضاء الدين، وفي الآخرة يتحمله عنه بسبب حسن نيته.
وفيه: التحذير والوعيد الشديد لمن يأخذ أموال الناس يريد إتلافها وأن الله يتلفه في الدنيا وفي الآخرة، ويتلفه في نفسه وماله وسمعته.
وفيه: دليل على أن إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى [(415)] فمن نوى الأداء أدى الله عنه، ومن أخذها ينوي إتلافها أتلفه الله.
ونرى في هذه الأيام ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ بعض الناس يتساهلون في هذا الجانب، فيكذب على الناس بأنه سيؤدي لهم أموالهم وهو لا يريد أداءها، فيأخذ من الناس الديون الكثيرة، ويريد أن يكون تاجرًا كبيرًا، ويفتح مؤسسات وشركات، ويشتري أراضي وأشياء كثيرة، وما عنده ثمن كل هذا، فهذا نوع من المخاطرة والسفه والحماقة، فيستدين ويريد أن يماطل الناس ولا يوفيهم ديونهم، ويتلف أموال الناس بالباطل، فهذا له وعيد شديد بسوء قصده وسوء نيته.
فينبغي للإنسان ألا يتوسع في الديون، ولا يخاطر، ولا يأخذ أموال الناس يضيعها ويتلفها عليهم، وإذا اضطر أن يستدين فعليه أن يستدين على قدر حاجته فقط.
المتن:
باب أَدَاءِ الدَّيْنِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النِّسَاء: 58]
2388 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَلَمَّا أَبْصَرَ -يَعْنِي أُحُدًا-، قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ تَحَوَّلَ لِي ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ دِينَارًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الأَْكْثَرِينَ هُمْ الأَْقَلُّونَ إِلاَّ مَنْ قَالَ بِالْمَالِ: هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ أَبُو شِهَابٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَقَالَ: مَكَانَكَ، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا، فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ: مَكَانَكَ حَتَّى آتِيَكَ فَلَمَّا جَاءَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي سَمِعْتُ أَوْ قَالَ: الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعْتُ؟ قَالَ: وَهَلْ سَمِعْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ؛ قَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ قُلْتُ: وَإِنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
2389 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا يَسُرُّنِي أَنْ لاَ يَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاَثٌ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ شَيْءٌ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ.
رَوَاهُ صَالِحٌ وَعُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
الشرح:
قوله: «بَاب أَدَاءِ الدَّيْنِ» . هذه الترجمة معقودة لبيان أهمية أداء الديون لأهلها؛ لعموم «وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النِّسَاء: 58]» فهذه الآية عامة، تشمل كل الأمانات، ومن الأمانات: قضاء الديون وأداؤها لأصحابها.
2388 قوله: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ تَحَوَّلَ لِي ذَهَبًا يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ دِينَارًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ، يعني: لو تحول جبل أحد ـ وهو جبل عظيم معروف ـ ذهبًا لوزعته كله في الحال، فلا أبقي منه دينارًا، إلا دينارًا أرصده لقضاء دين، وهذا هو الشاهد في الحديث.
وفيه: اهتمام الشرع بأداء الدين.
قوله: إِنَّ الأَْكْثَرِينَ هُمْ الأَْقَلُّونَ أي: الأكثرون أموالاً في الدنيا هم الأقلون يوم القيامة من الحسنات؛ لأنهم يوقفون يوم القيامة ويحاسبون عن أموالهم مرتين؛ مرة مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ من طريق مشروع أم من طريق محرم؟ ثم يسأل مرة ثانية وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ [(416)] في وجوه مشروعة أم في وجوه محرمة؟ ولهذا جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله ﷺ: فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ [(417)] فالفقراء يسبقون الأغنياء يوم القيامة في دخول الجنة بخمسمائة عام؛ لأن الأغنياء يحاسبون على أموالهم، أما الفقراء فهم خفيفون ليس عندهم شيء، فهذا بيان للسبب الذي جعل الأكثرين أموالاً هم الأقلون يوم القيامة من الحسنات.
قوله: إِلاَّ مَنْ قَالَ بِالْمَالِ: هَكَذَا وَهَكَذَا، استثناء من قوله: هُمْ الأَْقَلُّونَ، والمعنى: إلا من أنفق هذا المال فيما أمره الله.
قوله: «وَأَشَارَ أَبُو شِهَابٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ» ، يعني: ينفقها في حقها، وفي أبواب الخير، وعلى الفقراء والمحتاجين والمساكين وذوي القرابة، فهذا هو الغني الشاكر، وهناك خلاف مشهور في أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟
والأقرب أن الغني الشاكر أفضل؛ لأن الغني الشاكر نفعه يتعدى إلى الآخرين، بينما الفقير الصابر صبره مقتصر على نفسه، والقاعدة أن النفع المتعدي مقدم على النفع القاصر، ولما جاء في قصة فقراء المهاجرين لما جاءوا إلى النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله، إن إخواننا المهاجرين سبقونا؛ يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم لكن يتصدقون ويعتقون، ولا نستطيع أن نلحقهم. فقال النبي ﷺ: ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم غيركم، ولا يلحقكم أحد إلا إذا فعل مثل ما فعلتم. قالوا: نعم يا رسول الله. قال: تسبحون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين [(418)] ثم سمع به الأغنياء فصاروا يسبحون ويهللون، فرجع الفقراء فقالوا: يا رسول الله، سمع به إخواننا الأغنياء، فصاروا يسبحون ويهللون وزادوا علينا في الصدقات والعتق والإحسان. فقال النبي ﷺ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [(419)] فهذا دليل على أن الغني الشاكر أفضل.
قوله: مَكَانَكَ يعني: الزم مكانك.
قوله: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ قُلْتُ: وَإِنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وفيه: بشارة بالجنة لأهل التوحيد، فمن مات على التوحيد سالمًا من الكبائر والمعاصي، ولم يصر على كبيرة دخل الجنة من أول يوم، وإن كان أصر على كبيرة فهذا قد يعفو الله عنه، وقد يمحص؛ فيدخله النار ويعاقبه على ذلك، ثم يخرجه منها ويدخله الجنة، فمن مات من أهل التوحيد دخل الجنة عاجلاً أو آجلاً، وأما حديث معاذ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا [(420)] فالمراد ألا يعذبهم عذابًا مؤبدًا كالكفار والمشركين، أو المراد من لا يشرك بالله شيئًا وحقق التوحيد فنقاه وصفاه وخلصه من شوائب الشرك والبدع، فهذا يدخل الجنة من أول وهلة؛ فقوله: أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا يعني: ممن حققوا التوحيد، أو أنه لا يعذبه عذابًا مقيمًا كالكفار، بل يعذبه عذاب العصاة ثم يخرجه إلى الجنة؛ فالمعاصي نوع من الشرك؛ لأنها من اتباع الهوى.
ويمكن الجمع بين حديث الباب ـ حديث أبي ذر ـ وحديث وصية النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص الذي قال فيه: كان رسول الله ﷺ يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي؛ أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، فقلت: بالشطر؟ فقال: لا، ثم قال: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ [(421)].
يجمع بينهما بأنه لا منافاة بينهما؛ لأن النبي ﷺ يفعل الأفضل، فنهى عن أن ينفق الإنسان أمواله كلها إذا كان سيترك أهله فقراء يتكففون الناس، أما إذا كان يستطيع أن يكسب كسبا يوميًّا لعائلته وأولاده فله أن ينفق أمواله كلها، كما في حديث عمر بن الخطاب أنه قال: أمر رسول الله ﷺ يومًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله ﷺ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله ﷺ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا[(422)].
فما دام الإنسان يستطيع أن يكسب كسبًا يوميًّا، ويستطيع أهله أن يصبروا فبها ونعمت، أما إذا كانوا لا يصبرون، أو لا يستطيع الكسب فليس له أن يتصدق بماله كله ويترك أولاده يتكففون الناس، أو يسألون الناس.
2389 قوله: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا يَسُرُّنِي أَنْ لاَ يَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاَثٌ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ شَيْءٌ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ. فيه: دليل على أهمية أداء الدين، وفي التقييد بثلاثة أيام مبالغة في سرعة الإنفاق.
قوله: «رَوَاهُ صَالِحٌ وَعُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ» ، يعني: عن عبيدالله عن أبي هريرة، وطريقهما موصول في الزهريات لمحمد بن يحيى الذهلي، كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله.
المتن:
باب اسْتِقْرَاضِ الإِْبِلِ
2390 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بِمِنًى يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَغْلَظَ لَهُ؛ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ؛ فَقَالَ: دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً، وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، وَقَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلاَّ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً.
الشرح:
قوله: «بَاب اسْتِقْرَاضِ الإِْبِلِ» . هذه الترجمة معقودة لبيان جواز استقراض الإبل، فيجوز للإنسان أن يطلب إبلاً على سبيل القرض، ويعطى البعير قرضًا، ويقول: أرده عليك بعد سنة، أو بعد سنتين، ويجب أن يسدد الدين من نفس جنس ما استقرضه، سواء أكان دراهم أو ريالات أو بعيرًا أو سيارة.
2390 قوله: «أَنَّ رَجُلاً تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ» فيه: مشروعية الاستدانة.
قوله: «فَأَغْلَظَ لَهُ» . المراد بالإغلاظ الشدة في المطالبة، ويقال: إن الرجل صاحب الدين كان كافرًا، ويقال: كان يهوديًّا.
قوله: «فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ» : أراد الصحابة أن يعاقبوه؛ لأنه لم يتأدب مع النبي ﷺ.
قوله: دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً، وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ هذا هو الشاهد من الحديث: أن الرسول ﷺ استقرضه بعيرًا، وأمر بسداد هذا الدين من جنسه أي: بعيرًا مثله.
وفيه: حلمه وتواضعه ﷺ، وجواز المطالبة بالدين إذا حل أجله.
قوله: «وَقَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلاَّ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً أمرهم ﷺ أن يعطوه أفضل من بعيره، من باب الإحسان في قضاء الدين.
وفيه: التعليم بالقول والفعل بأن خير المسلمين الذي يحسن في قضاء ديونه.
المتن:
باب حُسْنِ التَّقَاضِي
2391 حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: مَاتَ رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ، قَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَأَتَجَوَّزُ عَنْ الْمُوسِرِ، وَأُخَفِّفُ عَنْ الْمُعْسِرِ؛ فَغُفِرَ لَهُ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
قوله: «بَاب حُسْنِ التَّقَاضِي» هذه الترجمة معقودة لحث مَن يطالب بدينه أن يحسن في المطالبة ولا يشدد.
2391 قوله: مَاتَ رَجُلٌ وفي بعض طرقه: إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَتَاهُ المَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ [(423)].
قوله: فَقِيلَ لَهُ، قَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَأَتَجَوَّزُ عَنْ الْمُوسِرِ، وَأُخَفِّفُ عَنْ الْمُعْسِرِ؛ فَغُفِرَ لَهُ. يعني: كان يحسن المطالبة، ولا يشدد على المدينين، ويرفق بهم عند إعسارهم ويتجوز عنهم، فعامله الله من جنس عمله؛ فعفا عنه وتجاوز عن سيئاته وغفر له.
قوله: فَغُفِرَ لَهُ، وفي لفظ آخر: قال: كنت آمر فتياني أن يتجاوزوا عن الموسر، وينظروا المعسر فغفر الله له [(424)] فدل هذا على أن التجاوز عن الموسرين والتخفيف عن المعسرين من أسباب المغفرة.
المتن:
باب هَلْ يُعْطَى أَكْبَرَ مِنْ سِنِّهِ؟
2392 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ ﷺ تَقَاضَاهُ بَعِيرًا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَعْطُوهُ، فَقَالُوا: مَا نَجِدُ إِلاَّ سِنًّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَعْطُوهُ؛ فَإِنَّ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَحْسَنَهُمْ قَضَاءً.
الشرح:
قوله: «بَاب هَلْ يُعْطَى أَكْبَرَ مِنْ سِنِّهِ؟» ، أي: هل يجوز أن يُعطى صاحب الدين أكثر من حقه.
2392 كرر المصنف رحمه الله هذا الحديث ليستنبط الأحكام منه، فقد ذكره قريبًا في «اسْتِقْرَاضِ الإِْبِلِ» ، وهو واضح الدلالة على أنه لا بأس أن يقترض الإنسان بعيرًا.
وذكره هنا؛ لأن فيه: دلالة على أنه لا بأس أن يعطي المدين الدائن خيرًا من الذي استقرضه منه، فلا بأس بهذه الزيادة ما لم يتواطأ أو يتفقا عليها مسبقًا، فإن تواطأ عليها فهذا محرم، وهو ربا.
المتن:
باب حُسْنِ الْقَضَاءِ
2393 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سِنٌّ مِنْ الإِْبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ؛ فَقَالَ ﷺ: أَعْطُوهُ؛ فَطَلَبُوا سِنَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلاَّ سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ: أَعْطُوهُ؛ فَقَالَ: أَوْفَيْتَنِي وَفَى اللَّهُ بِكَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً.
2394 حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهُ قَالَ: ضُحًى فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي.
الشرح:
قوله: «بَاب حُسْنِ الْقَضَاءِ» هذه الترجمة معقودة لبيان استحباب حسن أداء الدين.
2393 كرر المصنف رحمه الله الحديث؛ لأنه فيه: دليل واضح على حسن أداء الدين، فكما أنه ينبغي للإنسان أن يكون حسن المطالبة ينبغي له أيضًا أن يحسن في أداء الدين، فهذا الرجل جاء إلى النبي ﷺ وأغلظ له ولم يحسن المطالبة بالدين؛ لأنه كافر أو يهودي، ولكن النبي ﷺ قضاه دينه، وأحسن له في الأداء بأن أعطاه سنًّا فوق سنه.
2394 قوله: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهُ قَالَ: ضُحًى فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ فيه: تأكيد صلاة ركعتين لمن دخل المسجد وهو على وضوء، أما إذا كان على غير وضوء فلا يصلي؛ لحديث: لَا صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ [(425)] ويحتمل أنهما ركعتا الضحى، فإن صلى الداخل إلى المسجد ركعتين بنية الضحى أو سنة الوضوء أجزأه ذلك عن ركعتي تحية المسجد، وهل يجوز له أن يجمع في الركعتين بين أكثر من نية؟ فيه خلاف بين العلماء.
قوله: «وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي» هذا موضع الشاهد، فالزيادة من حسن أداء الدين، فينبغي للإنسان أن يحسن أداء الدين كأن يزيده في الكمية أو في العدد.
والزيادة في سداد الدين بقصد الإشارة إلى أنه إذا أقرضه مرة أخرى فسوف يزيده لا تجوز، وأما إن كانت من حسن الأداء فهذا مستحب.
وإذا كان إنسان ماله مختلط من حرام وحلال فلا بأس أن يُقترض منه ويتعامل معه بالبيع والشراء وغير ذلك؛ لأن المال الحرام لا يعرف بعينه، وأما لو سرق إنسان سلعة من شخص، وأنت ترى ذلك بعينك، ثم أراد أن يبيعها لك فلا يجوز أن تشتريها، فإن سرقها وأدخلها في ماله فاختلطت به، ثم بعت واشتريت معه وأنت لا تعلم فلا حرج.
المتن:
باب إِذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أَوْ حَلَّلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ
2395 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ؛ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي، وَيُحَلِّلُوا أَبِي فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمْ النَّبِيُّ ﷺ حَائِطِي، وَقَالَ: سَنَغْدُو عَلَيْكَ، فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْلِ، وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ، وَبَقِيَ لَنَا مِنْ تَمْرِهَا.
الشرح:
قوله: «بَاب إِذَا قَضَى دُونَ حَقِّهِ أَوْ حَلَّلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ» . هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان أن المدين إذا أعطى دون ما عليه من حق وحلَّله الدائن فلا بأس، فإذا كان لإنسان دين على شخص ألف كيلو من التمر مثلاً فقال المدين: خذ تمر حائطي جزافًا وحلِّلني، فلا بأس بذلك، ولو كان دون حقه، وكذلك إذا قضى دون حقه فأعطاه ثمانمائة بدل ألف ورضي الدائن.
2395 قوله: «أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ» ، وهو عبدالله بن حرام، قُتل شهيدًا يوم أحد، وكان قد أخذ دينًا من اليهود لحائطه، وكان له بستان وينوي أن يقضيهم الدين من تمره، فلما قتل عبدالله بن حرام يوم أحد شهيدًا قام ابنه جابر مقامه، فلما قرب جذاذ التمر جاء الغرماء يطلبون حقهم.
قوله: «فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ» ، أي: ألحوا إلحاحًا شديدًا على جابر ليوفيهم دينهم، فسأل جابر النبي ﷺ أن يشفع له عند اليهود.
قوله: «أَنْ يَقْبَلُوا تَمْرَ حَائِطِي، وَيُحَلِّلُوا أَبِي فَأَبَوْا» كان هؤلاء اليهود يتوقعون أن ثمر الحائط أقل من ديونهم فأبوا وفيه: لؤم اليهود حيث أبوا أن يقبلوا شفاعة النبي ﷺ، وقالوا: لا نقبل حتى يزن لنا ونأخذ حقنا كاملاً، وثمر النخل لا يكفي سداد ديننا.
قوله: «فَلَمْ يُعْطِهِمْ النَّبِيُّ ﷺ حَائِطِي» . في اللفظ الآخر: «ولم يكسره لهم» [(426)] «وَقَالَ: سَنَغْدُو عَلَيْكَ، فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ» هذا لا يعتبر من المماطلة، بل من باب تأخير المدين غريمه لشيء عارض ـ كأن يكون مشغولاً الآن بشيء مثل جنازة، أو ضيف، أو أنه لا يريد أن يخسر ماله ـ وهذا لا يعتبر من المماطلة.
قوله: «فَطَافَ فِي النَّخْلِ، وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ» . في اللفظ الآخر: أن النبي ﷺ أمره أن يصنف تمره كل صنف على حدة، ثم طاف به النبي ﷺ ودعا له بالبركة، فبارك الله فيه، ثم قال لجابر: ادْعُ غُرَمَاءَكَ، فَأَوْفِهِمْ [(427)].
قوله: «فَجَدَدْتُهَا فَقَضَيْتُهُمْ، وَبَقِيَ لَنَا مِنْ تَمْرِهَا» ؛ يعني: فجعل يجدُّ ويقضي حتى أوفاهم جميع ما لهم، وبقي تمر كثير، وفي لفظ آخر: «أنه بقي كما هو» [(428)].
وفيه: عَلَم من أعلام النبوة؛ حيث بارك الله في هذا التمر ببركة دعاء النبي ﷺ.
والشاهد من الحديث أنهم لو أخذوه وهم يظنون أنه أقل من حقهم وحلَّلوه لجاز ذلك، فلا بأس أن يأخذ الدائن أقل من حقه، أو يأخذ شيئًا جزافًا ويحلِّل المدين.
المتن:
باب إِذَا قَاصَّ أَوْ جَازَفَهُ فِي الدَّيْنِ تَمْرًا بِتَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ
2396 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ ثَلاَثِينَ وَسْقًا لِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَاسْتَنْظَرَهُ جَابِرٌ؛ فَأَبَى أَنْ يُنْظِرَهُ؛ فَكَلَّمَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِيَشْفَعَ لَهُ إِلَيْهِ؛ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ لِيَأْخُذَ ثَمَرَ نَخْلِهِ بِالَّذِي لَهُ فَأَبَى، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّخْلَ فَمَشَى فِيهَا، ثُمَّ قَالَ لِجَابِرٍ: جُدَّ لَهُ، فَأَوْفِ لَهُ الَّذِي لَهُ، فَجَدَّهُ بَعْدَمَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأَوْفَاهُ ثَلاَثِينَ وَسْقًا، وَفَضَلَتْ لَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَجَاءَ جَابِرٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِيُخْبِرَهُ بِالَّذِي كَانَ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُ بِالْفَضْلِ؛ فَقَالَ: أَخْبِرْ ذَلِكَ ابْنَ الْخَطَّابِ؛ فَذَهَبَ جَابِرٌ إِلَى عُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ؛ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ عَلِمْتُ حِينَ مَشَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيُبَارَكَنَّ فِيهَا.
الشرح:
قوله: «إِذَا قَاصَّ أَوْ جَازَفَهُ فِي الدَّيْنِ تَمْرًا بِتَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ» . هذه الترجمة عقدها البخاري رحمه الله لبيان جواز المقاصة في الدين، وذلك بأن يعطي الذي عليه دين للدائن شيئًا جزافًا سدادًا عن دينه، ويحلل كل واحد صاحبه، ومثال ذلك: إذا كان لإنسان مائة كيلو تمرًا عند آخر، فأعطى المدين للدائن صُبرة ـ أي: كومة ـ من التمر أو صبرة من الطعام غير معلومة العدد وتحاللا صح، وحديث جابر في الباب دليل على جواز المقاصة بهذه الصورة، وسواء كان تمرًا بتمر أو تمرًا ببر أو بأرز أو غير ذلك.
2396 كرر البخاري هذا الحديث؛ لاستنباط الأحكام، واستدل به على جواز المقاصة في الدَّين، وذلك بأن يعطيه شيئًا جزافًا عن دينه ويحلل كل واحد صاحبه.
وفي الحديث من الفوائد: أن النبي ﷺ شفع لجابر عند اليهودي، وهو رسول الله ﷺ ورئيس الدولة، فإن طُلب منك أن تشفع فلك أسوة برسول الله ﷺ، وهذا فيه عبرة لنا ولمن قبلنا ولمن يأتي بعدنا ممن يبلغه هذا الحديث أن الشفاعة مشروعة، ولو كان الشافع شخصًا عظيمًا.
وفيه: أن من ردت شفاعته لا يضره ذلك، وأن الشافع له أجره سواء قبلت الشفاعة أم لم تقبل؛ فالنبي ﷺ شفع عند اليهودي وردت شفاعته، وشفع عند بريرة التي أعتقتها عائشة رضي الله عنها بعد أن اشترتها من أهلها، وكان زوجها عبدًا اسمه مغيث، فلما أعتقت صار لها الخيار ـ يعني: تبقى مع زوجها العبد أو تفسخ ـ ففسخت نكاحها ولم تقبله، وكان زوجها مغيث يحبها حتى إنه كان يدور في أسواق المدينة ودموعه تجري على خديه لفراقها، فَرَقَّ له النبي ﷺ وشفع له عند بريرة؛ فقال لها: لَوْ رَاجَعْتِهِ، فقالت: يا رسول الله، أتأمرني أو تشفع؟ أي: إن كان أمرًا فلا مناص لي من طاعة الله ورسوله ﷺ فقال لها: إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ [(429)] فقالت: لا حاجة لي فيه، فتركته ولم تقبل شفاعة النبي ﷺ وهو رسول الله ﷺ، فلا يضر الإنسان كون شفاعته لم تقبل، بل يحصل له الأجر؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الآخر: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ [(430)] وقال الله تعالى في كتابه العظيم: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النِّسَاء: 85].
وفيه: خسة اليهودي ولؤمه؛ حيث لم يقبل شفاعة النبي ﷺ.
وفيه: أن صاحب الدين لا يلزمه أن يسقط شيئًا من دينه؛ ولهذا لما طلب النبي ﷺ من اليهودي أن يسقط شيئًا من الدين أو يسامحه أو يحلله أو يقاصه أبى وتمسك بحقه.
وفيه: أن عاقبة الشفاعة خير؛ فإن عدم قبول اليهودي للشفاعة صار خيرًا لجابر وأهله؛ حيث بقي له تمر كثير، ولو قبل اليهودي الشفاعة لأخذ تمر البستان كله، ولم يبق لجابر شيء من التمر.
وفيه: معجزة من معجزات الرسول ﷺ وعلامة من علامات نبوته؛ حيث بارك الله في هذا التمر ببركة دعائه ﷺ.
المتن:
باب مَنْ اسْتَعَاذَ مِنْ الدَّيْنِ
2397 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ؛ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ الْمَغْرَمِ! قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ اسْتَعَاذَ مِنْ الدَّيْنِ» هذه الترجمة معقودة لبيان جواز الاستعاذة من الدين.
2267 ذكر: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ» يقال: إن هذا الدعاء يكون قبل التسليم، وقد بوب عليه البخاري رحمه الله: «باب الدعاء قبل السلام» .
قوله: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. المأثم: مصدر ميمي بمعنى الإثم، والمغرم: مصدر ميمي بمعنى الغرم وهو الدَّين.
وفي الحديث: دليل على مشروعية الإكثار من الاستعاذة من الدين.
وفيه أيضًا: دليل على جواز الدعاء في الصلاة بما شاء لنفسه، أو لوالديه من أمور الدنيا والآخرة، كأن يطلب زوجة صالحة، ومالاً حلالاً، ومسكنًا واسعًا؛ لأن المغرم من أمور الدنيا، وقد يقال: إن له صلة بالآخرة.
قوله: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ فيه: بيان سبب الإكثار من الاستعاذة من المغرم، وهو أن الدين غالبًا ما يكون سببًا في الكذب وخلف الوعد؛ كأن يقول المدين مثلاً لصاحب الدين: سوف أعطيك غدًا، أو سيأتيني بعد يومين نقود، وهو كاذب؛ حتى يتخلص من مطالبة غريمه إياه بسداد الدين، فيكون السبب في الكذب وخلف الوعد هو الدَّين.
المتن:
باب الصَّلاَةِ عَلَى مَنْ تَرَكَ دَيْنًا
2398 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا.
2399 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ هِلاَلِ ابْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ؛ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ.
الشرح:
في هذه الترجمة قال المؤلف رحمه الله: «بَاب الصَّلاَةِ عَلَى مَنْ تَرَكَ دَيْنًا» ، ولم يقل: تَرْك الصلاة، وذلك أنه ﷺ كان في أول الأمر لا يصلي على من ترك دينًا، فإذا قُدِّمَت إليه جنازة ليصلي عليها سأل: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ فإن قيل: نعم ـ تأخر، وقال: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ [(431)]، وإلا صلى عليه ثم بعد أن وسع الله على نبيه ﷺ أصبح يصلي على المدين ويتحمل عنه دينه.
2398 في قصة أبي قتادة لما قُدِّم رجل ليصلي عليه النبي ﷺ سأل النبي ﷺ: «هل عليه دين؟» قالوا: عليه ديناران، فتأخر وقال: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فكان ذلك تحذيرًا للأحياء من الاستدانة؛ خشية ألا يصلي عليهم النبي ﷺ، فقال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله، وعلي الديناران، فقال النبي ﷺ: برئ الغريم؟، قال: نعم يا رسول الله، فصلى عليه، ثم لقي أبا قتادة من الغد، فقال له النبي ﷺ: ما صنعت في الدينارين؟ قال: يا رسول الله، ما مات إلا بالأمس ـ يعني: ما مضى على موته إلا مدة يسيرة ـ ثم لقيه من اليوم الآخر فقال: مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟، قال: قضيتهما يا رسول الله، قال: الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ [(432)] ثم لما فتح الله على نبيه ﷺ الفتوح، وجرى بين يديه شيء من المال من الخراج والجزية وغيرهما ـ كان ﷺ يقضي الديون من بيت المال، ويصلي على من عليه دين، وقال: مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإِلَيْنَا والكَلُّ: هو الشيء الثقيل كالعيال، والديون، والحقوق.
2399 قوله: فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ، يعني: فليأتني فأنا أقضي الحق عنه، والضياع: العيال.
واختلف العلماء في قضاء دين الميت من بيت المال؛ هل هو خاص بالنبي ﷺ، أو يشمل ولاة الأمور بعده؛ لكونهم خلفاءه؟ على قولين:
أحدهما: أنه خاص بالنبي ﷺ.
والثاني: أنه يشمل الولاة بعده، فيجب عليهم إذا كان في بيت المال سعة قضاء دين الميت والنفقة على الأيتام والفقراء والمحاويج والمرضى والعاجزين.
والقول الثاني هو القول الراجح، وهو الصواب عند النظر والتأمل، وأقرب إلى مقتضى النصوص وحكمة الشرع المطهر؛ لأن ولاة الأمور هم الخلفاء بعد النبي ﷺ، ولأن من صفة الكرماء أنهم يتحملون الكَلَّ من الحقوق والديون والضيوف كما وصفت خديجة لرسول الله ﷺ في أول البعثة؛ حيث قالت: «كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتحمل الكلَّ، وتصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق» [(433)].
المتن:
باب مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ
2400 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَْعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ جزم المؤلف رحمه الله بالحكم بأن مَطْل الغني ظلم، وأخذه من صريح لفظ الحديث.
2400 قوله: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ. المطل: هو المماطلة والتأخير في سداد الدين، وعدم وفائه مع القدرة، وعدم الوفاء به من غير سبب، كأن يكون المدين غنيًّا عنده سداد الدين ولكنه يماطل ويؤخر ويؤذي الدائن ولا يعطيه حقه، فهذا من الظلم والعدوان، وفي اللفظ الآخر: مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ، وَعُقُوبَتَهُ [(434)] عرضه: يعني: شكايته عند الحاكم؛ بأن يقول الدائن للحاكم: فلان ظلمني، فلان ماطلني في حقي، ولا يعتبر هذا غيبة، بل هذا مستثنًى من الغيبة.
وعقوبته: هي حبسه وضربه، فللحاكم أن يحبسه، ويؤدبه بالضرب؛ حتى يؤدي الحق الذي عليه، أما إذا كان فقيرًا ليس عنده شيء فلا يجوز سجنه ولا ضربه، وليُمَكَّن من العمل حتى يؤدي الحق الذي عليه، والدائن عليه أن ينتظر ويصبر؛ فإنه لا حيلة له والله يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البَقَرَة: 280] يعني: فانظروه إلى أن ييسر الله عليه.
المتن:
باب لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ
وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ.
قَالَ سُفْيَانُ: عِرْضُهُ يَقُولُ: مَطَلْتَنِي، وَعُقُوبَتُهُ الْحَبْسُ.
2401 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَتَى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ يَتَقَاضَاهُ، فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ؛ فَقَالَ: دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً.
الشرح:
قوله: «بَاب لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالٌ» ، أي: إن صاحب الدَّين له مقال على مدينه في طلب حقه، ولو شدد عليه فعليه أن يصبر ويتحمل.
قوله: «وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ:» قاله بصيغة التمريض، وقد علقه البخاري ووصله أبو داود وغيره[(435)] وحسنه الحافظ.
قوله: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ. الواجد: هو الغني الذي يجد ما يسدد به الدين، وهو بليه أو بمماطلته يحل عقوبته وعرضه.
قوله: عِرْضُهُ يَقُولُ: مَطَلْتَنِي، وَعُقُوبَتُهُ الْحَبْسُ» . فللدائن أن يقول: ماطلني، أو: ظلمني، فهذا المراد بقوله: يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ، وأما عقوبته فهي حبسه وضربه.
2401 قوله: دعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً أي: صاحب الحق له مقال على المدين؛ فعلى المدين أن يتحمله ويصبر على كلامه، وورد أن هذا الرجل الذي جاء يطالب النبي ﷺ كان يهوديًّا ثم أسلم بعد ذلك، وأنه أراد أن يختبر حلم النبي ﷺ أولاً؛ فأغلظ له في طلب حقه منه وشدد عليه، وقال: أنتم مطل يا بني عبد المطلب. يقصد بذلك النبي ﷺ، ومُطل: أي: تماطلون بالدَّين، فقال النبي ﷺ: اذهب به يا عمر وأعطه حقه وزده عشرين صاعًا من تمر مكان ما رعته [(436)] ثم أسلم اليهودي بعد ذلك، وقال: إنما أردت أن أختبر صبرك؛ فإن الأنبياء لا يزيدهم الجهل إلا حلمًا، وكذلك كان النبي ﷺ قد استسلف من أحدهم بكرًا، فقالوا: لا نجد إلا فوق سنه، فقال ﷺ: أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً [(437)].
المتن:
باب إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فِي الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَفْلَسَ وَتَبَيَّنَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ وَلاَ بَيْعُهُ وَلاَ شِرَاؤُهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَضَى عُثْمَانُ مَنْ اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ فَهُوَ لَهُ وَمَنْ عَرَفَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ.
2402 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَوْ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
الشرح:
قوله: «بَاب إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فِي الْبَيْعِ، وَالْقَرْضِ، وَالْوَدِيعَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» هذه الترجمة معقودة للمفلس والفلس، والمفلس شرعًا: من تزيد ديونه على أمواله، والفَلَس: هو العجز عن سداد الدَّين، بأن يكون عليه ديون وعنده مال، ولكن الديون أكثر من المال، فيطلب الغرماء حقوقهم والحجر عليه، فيحجر الحاكم عليه لمصلحة الغرماء، ويقول: لا ينفذ تصرف فلان لا بيعًا ولا شراءً ويعلن ذلك، فإذا باع بعد ذلك فلا ينفذ، ثم يحصي الحاكم أمواله ويوزعها على غرمائه بالنسبة المناسبة لدينه، ومثال ذلك: إنسان عليه ديون تساوي مليونًا، ولكن ليس عنده إلا مائة ألف، فالحاكم يعلن أن فلانًا لا ينفذ تصرفه، ثم يحصي الحاكم أمواله ويقسمها على غرمائه بما يناسب ديونهم؛ فإذا كان لواحد منهم مثلاً خمسمائة ألف، ولآخر مائتا ألف، ولثالث مائة ألف، ولرابع مائتا ألف، فإن القاضي يعطيهم ما يتناسب مع حق كل واحد منهم؛ فالذي له خمسمائة ألف يعطيه خمسين ألفا، والذي له مائتا ألف يعطيه عشرين ألفا، والذي له مائة ألف يعطيه عشرة آلاف، وهكذا حتى تنتهي، فإن تبقى شيء يعطيه بالنسبة.
والحجر نوعان:
الأول: الحجر لحظ النفس، كالحجر على الصغير، والحجر على المعتوه والسفيه والمجنون، فهؤلاء يحجر عليهم ويمنعون من التصرف، بل يتصرف أولياؤهم نيابة عنهم؛ لأنهم لا يحسنون التصرف.
الثاني: الحجر لحظ الغير، كالحجر على المدين الذي لا يستطيع الوفاء، وكثرت ديونه حتى زادت على أمواله، فهذا يحجر عليه لحظ غرمائه حتى يسدد الدين، وإذا كان من أصحاب الديون من وجد متاعه عنده لم يتغير حاله فإنه يأخذه، ويقدم على بقية الغرماء؛ فإذا كان بعض الدائنين - مثلاً - قد باع له سيارة، وعند استيفاء الحقوق وجد تلك السيارة بحالتها لم تتغير، فهو أولى من غيره في أخذها، وقد اشترط بعضهم بأن يكون البائع لم يأخذ من ثمن هذه السيارة شيئًا، وجاء في ذلك حديث مرسل عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن رسول الله ﷺ قال: أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به [(438)] فمفهومه أنه إذا قبض من ثمنه شيئًا لم يختص به، وكان أسوة الغرماء؛ أي: خاص بالغرماء كلهم.
ولابن أبي شيبة، عن عمر بن عبدالعزيز أنه قال: «قضى رسول الله ﷺ أنه أحق به من الغرماء إلا أن يكون اقتضى من ماله شيئًا فهو أسوة الغرماء» [(439)].
وكأن البخاري يرى هذا؛ ولهذا استشهد بأثر الحسن وأثر عثمان، حيث قال: «وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَفْلَسَ وَتَبَيَّنَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ وَلاَ بَيْعُهُ وَلاَ شِرَاؤُهُ» يعني: إذا تبين إفلاسه ثم أعتق عبدًا له لا ينفذ العتق ويرد العبد إليه، وإذا باع لا ينفذ البيع ويرد عليه المبيع، وإذا اشترى لا ينفذ الشراء ويرد الشيء المشترى على من اشتراه منه.
قوله: «وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَضَى عُثْمَانُ مَنْ اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ فَهُوَ لَهُ وَمَنْ عَرَفَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . يعني: إذا قضى المدين من حق أحد الغرماء شيئا قبل أن يفلس فهو له، ولا يقال له: رده على الغرماء، وكذلك إذا عرف متاعه بعينه ـ بشرط ألا يكون قد تغيّر ـ فهو أحق به، أما إذا زاد أو نقص فلا، ومثال ذلك: إذا باع له دابة، ثم زادت الدابة كأن سمنت، أو حملت أو ولدت فلا يكون أحق بها، أما إذا كانت بنفس حالها ولم يقبض من ثمنها شيئًا فإنه يختص بأخذها دون الغرماء.
2402 ثم ذكر البخاري حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. أي: يأخذه بعينه، لا يزيد ولا ينقص، أما إذا تغير فإنه يكون أسوة الغرماء، وفيما تقدم من الأمثلة والبيان كفاية.