المتن:
باب مَنْ أَخَّرَ الْغَرِيمَ إِلَى الْغَدِ أَوْ نَحْوِهِ وَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَطْلاً
وَقَالَ جَابِرٌ: اشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ فِي دَيْنِ أَبِي؛ فَسَأَلَهُمْ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي، فَأَبَوْا فَلَمْ يُعْطِهِمْ الْحَائِطَ، وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ، وَقَالَ: سَأَغْدُو عَلَيْكَ غَدًا فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ فَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَقَضَيْتُهُمْ
الشرح:
هذا الحديث في قصة جابر السابقة، كرره المؤلف مرة ثالثة؛ لاستنباط الأحكام، ومنها أن تأخير الغريم إلى الغد لا يعدُّ مطلاً.
وفي هذا الحديث: ذكر أنهم غرماء.
وفي الحديث الأول ذكر أنه يهودي؛ فيحتمل أن اليهودي ناب عن الغرماء، أو أنه جاء أولاً ثم جاءوا هم بعده.
قوله: «وَقَالَ جَابِرٌ: اشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ» يعني: أصحاب الديون.
قوله: «فِي حُقُوقِهِمْ فِي دَيْنِ أَبِي» يعني: بعد وفاته، فلما قرب جداد التمر جاءوا واشتدوا وشددوا على جابر، ولم يقبلوا شفاعة النبي ﷺ.
قوله: «فَسَأَلَهُمْ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي، فَأَبَوْا» يعني: سألهم أن يقبلوا ثمرة الحائط كله عن الدين ويحللوه، فقالوا: لا نقبل؛ فديننا أكبر من تمر الحائط.
قوله: «فَلَمْ يُعْطِهِمْ الْحَائِطَ، وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ، وَقَالَ: سَأَغْدُو عَلَيْكَ. وهذا هو الشاهد من الحديث: أن النبي ﷺ أخرهم إلى الغد، ولا يعتبر هذا مطلاً بالتأخّر في سداد الدين إذا كان التأخير لمصلحة، فإذا جاء الغريم وليس عند المدين ما يسدده فقال: مُرّ عليّ غدًا، أو بعد غدٍ، فلا يعتبر هذا مماطلة، وكذا إذا كان مشغولا بصلاة أو جنازة أو عنده ضيف، أو لا يريد أن يبخس ثمن السلعة، بأن تكون عنده سيارة مثلاً ومقدار دينه أربعون ألفا، وهو أقل من ثمنها؛ فيقول له: اصبر علي يوما أو يومين؛ فالسيارة ثمنها ثمانون ألفا، فكيف أبيعها بأربعين ألفًا؟! فلا يعتبر هذا من المماطلة؛ ولهذا فإن النبي ﷺ ما كسر تمر حائط جابر، ولا قال لهم: خذوه مقابل ما لكم، بل انتظر حتى جاء من الغد، ثم طاف ودعا له بالبركة، فقضى لهم جابر التمر الذي لهم وبقي له فضل كثير.
المتن:
باب مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِسِ أَوْ الْمُعْدِمِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ
2403 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ غُلاَمًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَخَذَ ثَمَنَهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِسِ أَوْ الْمُعْدِمِ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ» . هذه الترجمة معقودة لبيع مال المفلس أو المعدم، فالمفلس يبيع الحاكم ماله ويقسمه على الغرماء، والفقير المعدم يبيع الحاكم أيضًا ماله ويسلمه إياه؛ حتى ينفق على نفسه وعلى أولاده، فالترجمة فيها لف ونشر كما قال الحافظ؛ فقوله: «فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ» راجع إلى المفلس، وقوله: «أَوْ أَعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ» راجع إلى المعدم، والمعنى: باب من باع مال المفلس فقسمه بين الغرماء ومن باع مال المعدم فأعطاه حتى ينفق على نفسه.
فالترجمة معقودة لشيئين: بيع مال المفلس، وهو الذي كثرت ديونه وصارت أكثر من ماله فيبيع الحاكم ماله، ثم يقسمه على الغرماء، وبيع مال المعدم وهو من اشتد فقره فيبيع الحاكم ماله ويعطيه إياه حتى ينفق على نفسه وعلى أولاده.
2403 ذكر المؤلف رحمه الله حديث جابر بن عبدالله قال: «أَعْتَقَ رَجُلٌ غُلاَمًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ» . غلام يعني: عبد، عن دبر يعني: مدبر، كأن يقول: هو حر بعد موتي، وسمي مدبرًا؛ لأن عِتْقه إنما ينفذ دبر الحياة بعد موت المعتق، والنبي ﷺ لم يمض العتق بل باعه؛ لأن المعتِق فقير ما عنده طعام، فباعه النبي ﷺ وأعطاه ثمنه حتى ينفق على نفسه.
وفيه: دليل على أن المدبر ـ وهو المعلق عتقه بالموت ـ يجوز بيعه والتصرف فيه؛ لأن حكمه حكم الوصية، وكذلك المعلق وقفه على الموت يجوز بيعه؛ لأن حكمه حكم الوصية، فإذا قال شخص: فلان حر بعد موتي؛ فله أن يتصرف فيه قبل الموت ببيعه، أو قال: بيتي وقف بعد موتي؛ فله أن يبيعه قبل الموت؛ فحكمه حكم الوصية، وإذا مات المعتق أو الواقف فلا ينفذ إلا من الثلث، فينظر إلى العبد أو البيت فإذا كان من الثلث ينفذ، وإذا كان أكثر من الثلث فلا ينفذ إلا بإذن الورثة؛ ولهذا فإن هذا الرجل الذي دبر غلامه لم ينفذ النبي ﷺ عتقه بل باعه.
قوله: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَخَذَ ثَمَنَهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ» ؛ لأنه معدم فقير ما عنده طعام، فهل يعتق عبده ويبقى فقيرًا؟!
المتن:
باب إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَوْ أَجَّلَهُ فِي الْبَيْعِ
قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْقَرْضِ إِلَى أَجَلٍ: لاَ بَأْسَ بِهِ وَإِنْ أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ إِلَى أَجَلِهِ فِي الْقَرْضِ.
2404 وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
الشرح:
قوله: «بَاب إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَوْ أَجَّلَهُ فِي الْبَيْعِ» هذه الترجمة معقودة للقرض المؤجل، وأنه إذا أقرضه وحدد الأجل فليس له أن يطالب بحقه قبل حلول الأجل، قياسًا على البيع إلى أجل؛ فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ [البَقَرَة: 282] فالبيع المؤجل ـ الذي أُجِّل ثمنه سواء كان الأجل واحدًا أو مقسطًا أقساطًا شهرية أو سنوية ـ لا بأس به، وقاس المؤلف رحمه الله عليه القرض فجعل القرض كذلك، فإذا قال شخص لآخر: أقرضني عشرة آلاف وأوفيك إياها بعد سنة مؤجلاً؛ فليس له أن يطالبه قبل سنة؛ ولهذا ترجم بقوله: «بَاب إِذَا أَقْرَضَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَوْ أَجَّلَهُ فِي الْبَيْعِ» . يعني: فهو جائز، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو الصواب خلافًا للشافعي رحمه الله[(440)].
وهو على أجله في القرض، وفي البيع، وله أن يصطلح معه في الدين؛ فيضع بعضه ويقدم الأجل، مثال ذلك: شخص عليه عشرة آلاف مؤجلة إلى سنة، ولما مضت ستة أشهر قال المدين: بقي الآن ستة أشهر على دينك، فما رأيك أن أعطيك الآن ثمانية آلاف وتسقط عني ألفين، فاتفقا على ذلك، فهذا لا بأس به كما وقع في قصة ابن أبي حدرد عندما طالبه كعب بن مالك بدين كان له عليه، فأمر النبي ﷺ بوضع نصف الدين لما ارتفعت أصواتهما في المسجد؛ حيث أشار النبي ﷺ لكعب بيده أن ضع النصف ـ أي: أسقط النصف ـ فقال: قد فعلت، فقال ﷺ لابن أبي حدرد: قم فاقضه حاجته [(441)] فهذه المسألة تسمى مسألة: ضع وتعجل؛ وهو أن يقدم الدين قبل الأجل ويسقط عنه بعضه، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم؛ حيث منع من ذلك الجمهور وقالوا: إن هذا نظير الزيادة في الدين مقابل الزيادة في الأجل، والصواب الجواز؛ لأن هذا ليس فيه زيادة، بل فيه مصلحة للطرفين.
قوله: «قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْقَرْضِ إِلَى أَجَلٍ: لاَ بَأْسَ بِهِ وَإِنْ أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ» يعني: إذا أقرضه ألفًا، ثم بعد سنة قضاها المدين ألفا ومائتين بدون شرط فلا بأس، أما إذا اشترط الدائن أن يردها عليه ألفًا ومائتين فهذا ربا.
قوله: «وَقَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: هُوَ إِلَى أَجَلِهِ فِي الْقَرْضِ» يعني: إذا أقرضه إلى أجل مسمى فهذا لا بأس به، وهو إلى أجله في القرض.
2404 ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة .
وفيه: قصة الرجل الإسرائيلي الذي سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه، فدفعه إليه إلى أجل مسمى، فالنبي ﷺ ساق هذه القصة مساق التقريب، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يأت شرعنا بخلافه، فإذا أقرضه إلى أجل أو باعه إلى أجل فليس له أن يطالبه قبل حلول الأجل.
المتن:
باب الشَّفَاعَةِ فِي وَضْعِ الدَّيْنِ
2405 حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْنًا فَطَلَبْتُ إِلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَنْ يَضَعُوا بَعْضًا مِنْ دَيْنِهِ فَأَبَوْا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَاسْتَشْفَعْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا فَقَالَ: صَنِّفْ تَمْرَكَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ، عِذْقَ ابْنِ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَاللِّينَ عَلَى حِدَةٍ، وَالْعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أَحْضِرْهُمْ حَتَّى آتِيَكَ فَفَعَلْتُ ثُمَّ جَاءَ ﷺ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَكَالَ لِكُلِّ رَجُلٍ حَتَّى اسْتَوْفَى، وَبَقِيَ التَّمْرُ كَمَا هُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ.
2406 وَغَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى نَاضِحٍ لَنَا، فَأَزْحَفَ الْجَمَلُ فَتَخَلَّفَ عَلَيَّ فَوَكَزَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ خَلْفِهِ، قَالَ: بِعْنِيهِ، وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا دَنَوْنَا اسْتَأْذَنْتُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ ﷺ: فَمَا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ قُلْتُ: ثَيِّبًا، أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ، وَتَرَكَ جَوَارِيَ صِغَارًا، فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا تُعَلِّمُهُنَّ وَتُؤَدِّبُهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: ائْتِ أَهْلَكَ، فَقَدِمْتُ فَأَخْبَرْتُ خَالِي بِبَيْعِ الْجَمَلِ؛ فَلاَمَنِي؛ فَأَخْبَرْتُهُ بِإِعْيَاءِ الْجَمَلِ وَبِالَّذِي كَانَ مِنْ النَّبِيِّ ﷺ وَوَكْزِهِ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ غَدَوْتُ إِلَيْهِ بِالْجَمَلِ، فَأَعْطَانِي ثَمَنَ الْجَمَلِ وَالْجَمَلَ وَسَهْمِي مَعَ الْقَوْمِ.
الشرح:
قوله: «بَاب الشَّفَاعَةِ فِي وَضْعِ الدَّيْنِ» هذه الترجمة عقدها المؤلف للشفاعة في وضع الدين، وأعاد فيها حديث قصة جابر في قضاء دين أبيه مرة رابعة؛ لاستنباط الأحكام، ومنها الشفاعة في وضع الدين.
2405 قوله: «عِذْقَ» العَذق: بالفتح النخلة، والعِذق: بالكسر القنو الذي فيه الشماريخ والتمر، وكان هناك نوع من النخل يسمى عذق ابن زيد في ذلك الوقت.
قوله: «وَاللِّينَ» : نوع من العجوة أو نوع من التمر.
ومن فوائد هذا الحديث:
مشروعية الشفاعة ولو كان الشافع كبيرًا أو رئيسًا.
وفيه: لؤم اليهود وخبثهم؛ حيث لم يقبلوا شفاعة النبي ﷺ، وكان ذلك خيرًا لجابر وأهله.
وفيه أيضًا: بيان قدرة الله العظيمة حيث بارك في التمر، فقضاهم دينه وبقي كما هو كأنه لم يمس.
وفيه: معجزة للرسول ﷺ فبدعائه وتبريكه بارك الله في التمر.
وفيه: معجزة أخرى وهي وكز النبي ﷺ للجمل فأسرع وتقدم وكان قد أعيا وتأخر عن الجيش.
وفيه: جواز بيع وشرط؛ ففي الحديث أن جابرًا اشترى الجمل واشترط ظهره إلى المدينة، وأما حديث: «نهى عن بيع وشرط» [(442)] فهو حديث ضعيف عند أهل العلم، وأما حديث: لَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ [(443)] فهو حديث ثابت.
والمؤلف في هذا جمع بين قصتين: قصة الشفاعة في دين أبي جابر رضي الله عنهما، وقصة الجمل وبيعه إلى النبي ﷺ.
فأما القصة الأولى في قضاء دين أبيه؛ فإنه لما قتل عبدالله والد جابر ترك عيالاً ودينًا فطلب جابر إلى أصحاب الدين أن يضعوا بعضًا من الدين فأبوا، فأتى النبيَّ ﷺ فاستشفع به عليهم فأبوا أيضًا.
قوله: «فَقَالَ: صَنِّفْ تَمْرَكَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ، يعني: اجعل أنواع التمر كلاً على حدة.
قوله: ثُمَّ أَحْضِرْهُمْ حَتَّى آتِيَكَ فَفَعَلْتُ ثُمَّ جَاءَ ﷺ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ» ودعا له وبرك.
قوله: «وَكَالَ لِكُلِّ رَجُلٍ حَتَّى اسْتَوْفَى، وَبَقِيَ التَّمْرُ كَمَا هُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ» . هذا فيه: بيان قدرة الله العظيمة؛ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82].
وفيه: معجزة للنبي ﷺ.
2406 وأما القصة الثانية فقال فيها: «وَغَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى نَاضِحٍ لَنَا، فَأَزْحَفَ الْجَمَلُ» يعني: أعيا وتعب وتأخر عن الجيش، وأتعب جابرًا فتخلف، وكان النبي ﷺ تخلف وراء الجيش.
وفيه: أنه ينبغي للقائد أو الرئيس أن يتخلف وراء الجيش ليسند الضعيف ويعين المتخلف.
قوله: «فَوَكَزَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ خَلْفِهِ» يعني: من وراء ظهره؛ فأسرع السير وزال عنه الإعياء، حتى كان يكفه من السرعة ويأخذ بخطامه.
ثم قال النبي ﷺ: بِعْنِيهِ، وَلَكَ ظَهْرُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ يعني: لك ركوبه إلى المدينة، فدل على جواز البيع والشرط، وفي لفظ آخر أنه قال: هو لك يا رسول الله ﷺ قال: بِعْنِيهِ، قال: هو لك يا رسول الله، قال ﷺ: لا، بعنيه، قال: هو لك يا رسول الله، ثم باعه له[(444)].
قوله: «فَلَمَّا دَنَوْنَا اسْتَأْذَنْتُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ» ، فأذن له؛ وهذا يدل على أنه لا بأس لمن يكون حديث عهد بالزواج أن يتقدم ويستأذن.
ثم سأله النبي ﷺ بحسن خلقه: فَمَا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟، فقال: «ثيبًا» ، وفي اللفظ الآخر: هَلَّا بِكْرًا تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ [(445)] فذكر له السبب، فقال: يا رسول الله، إن أبي مات وترك جواري صغارًا، فتزوجت ثيبا تعلمهن وتؤدبهن، وفي اللفظ الآخر: كرهت أن آخذ جارية مثلهن، ولكن ثيبًا حضرت الأمور وجربت تؤدبهن وتمشطهن، فقال ﷺ: أحسنت [(446)].
وفيه: دليل على استحباب تزوج البكر إلا لمصلحة، كما فعل جابر .
وفيه فضل جابر؛ حيث قدم مصلحة أخواته على مصلحة نفسه، فتزوج الثيب لأجل أن تصلحهن وتمشطهن وتقوم عليهن، بخلاف البكر؛ فإنها لا تعرف شيئًا من هذه الأمور، فلو تزوج البكر لصارت تلعب معهن ـ غالبا ـ.
ثم بعد ذلك لما قدم النبي ﷺ غدا إليه بالجمل، فأعطاه ثمن الجمل وأمر بلالا أن يزن له ويرجح في الميزان ويزيده، وفي لفظ: «وزادني قيراطًا» [(447)].
وفيه: جواز إعطاء البائع أكثر من الثمن، وكذلك المقترض يجوز أن يقضي أكثر من قرضه إذا كان بغير شرط.
ثم بعد ذلك لما أعطاه ثمن الجمل، وأرجح له في الميزان وزاده ولى جابر، فدعاه ﷺ فقال له كما في اللفظ الآخر: أتظن أني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ الجمل والدراهم [(448)] فأعطاه ﷺ الجمل والدراهم معًا؛ فالنبي ﷺ ليس له حاجة في البيع، لكن أراد أن يعلِّم أمته البيع والشراء والكرم والجود.
قوله: «فَأَعْطَانِي ثَمَنَ الْجَمَلِ وَالْجَمَلَ وَسَهْمِي مَعَ الْقَوْمِ» ، يعني: سهمه في الغنيمة.
المتن:
باب مَا يُنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ [البَقَرَة: 205] وَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يُونس: 81].
وَقَالَ: فِي قَوْلِهِ: أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هُود: 87].
وَقَالَ: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النِّسَاء: 5] وَالْحَجْرِ فِي ذَلِكَ وَمَا يُنْهَى عَنْ الْخِدَاعِ.
2407 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنِّي أُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ؟ فَقَالَ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ؛ فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ.
2408 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُْمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَا يُنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ» هذه الترجمة عقدها المؤلف للنهي عن إضاعة المال.
قوله: «وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ [البَقَرَة: 205].
قوله: «وَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يُونس: 81].
واستدل المؤلف رحمه الله بالآيات كقوله تعالى: وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ [البَقَرَة: 205] إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يُونس: 81]؛ لأن فيها النهي عن إضاعة المال، وأن إضاعته من الفساد ومن السفه، ومن ذلك قول الله تعالى حكاية لقول قوم شعيب لشعيب: أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هُود: 87]، يعني: قالوا له: نحن أحرار في أموالنا نتصرف فيها كما نشاء، إن شئنا حفظناها، وإن شئنا ضيعناها؛ وهذا باطل، فنهاهم الله عن الشرك وعن إضاعة المال.
وقال تعالى: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النِّسَاء: 5]، فدل على أن إضاعة المال من السفه، وهذه النصوص تدل على تحريم إضاعة المال؛ لأن المال عصب الحياة جعله الله قيامًا تدار به أحوال الناس، فلا يعطى المال للصغير والمجنون، والسفيه، الذين لا يحسنون التصرف.
قوله: «وَمَا يُنْهَى عَنْ الْخِدَاعِ» يعني: من يسيء التصرف في ماله لا يجوز خداعه وإن لم يحجر عليه.
2407 ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عمر قال: « «قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنِّي أُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ؟ فَقَالَ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ، يعني: لا خديعة، «فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ» هذا الرجل اسمه حبان بن منقذ، وكان يبيع ويشتري، وأصابته ضربة في رأسه فصار لا يحسن التصرف، ولا يقدر على البيع، فجاء إلى النبي ﷺ وقال: إني أخدع في البيوع، فقال له: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ ؛ أي: قل: لا خديعة، فكان يقول: «لا خيابة» أو «لا خذابة» ؛ لأنه كان لا يفصح باللام للثغة لسانه بسبب الضربة التي حدثت له، وقد طالت حياته إلى زمان عثمان ؛ فبلغ من العمر مائة وعشرين أو مائة وثلاثين سنة، وكان إذا خدع قال: خدعت، ويذهب إلى صاحبه، ويجد من يشهد له أن النبي ﷺ قال له: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ، فيرد البيع.
2408 ثم ذكر حديث المغيرة وفيه: «قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُْمَّهَاتِ وعقوق الأمهات من كبائر الذنوب، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، أي: دفنهن وهن أحياء كما كان يفعله أهل الجاهلية خشية العار، وَمَنَعَ وَهَاتِ. منع بالنصب على حذف المضاف إليه، وفي رواية: وَمَنْعًا وَهَاتِ [(449)] بالتنوين، يعني: يمنع الواجب الذي عليه، مثل: النفقة على الأولاد، والزكاة، وحق الضيف، وهات أي: يأخذ ما لا يستحق، فهذا حرام عليه.
قوله: وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ. الكراهة هنا للتحريم، وهي تعني: حرم عليكم قيل وقال؛ لأنها توقع في الكذب.
وفي الحديث الآخر: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ [(450)] فالإنسان يتخير مما يسمع، فليس كل ما يسمعه يتكلم به، فالذي يقول قالوا كذا وقالوا كذا لابد أن يقع في الكذب.
وقوله: وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. المراد كثرة السؤال من المال؛ فيسأل من المال وعنده ما يغنيه ويكفيه، وقد يكون المراد كثرة السؤال من العلم، يعني: يسأل أسئلة محرجة يقصد بها التعنت أو تعجيز المسئول واضطراره إلى أن يجيب بغير الصواب، ويقصد بذلك الرياء والخيلاء، أما السؤال باقتصاد وقصد الفائدة من غير إحراج فهذا مأمور به.
قوله: وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ، يعني: كره الله لكم إضاعة المال بأي: نوع من أنواع الإضاعة: بأن تنفقه في جهة غير مشروعة ـ كإنفاقه في المحرمات ـ أو الإسراف في إنفاقه في المباحات.
المتن:
باب الْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَلاَ يَعْمَلُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
2409 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالإِْمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. قَالَ: فَسَمِعْتُ هَؤُلاَءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَحْسِبُ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.
الشرح:
2409 في الحديث: خطورة المسئولية وعظمها، وأنها تعم كل أحد، وأعظمها وأخطرها مسئولية الإمام، فإمام المسلمين أعظم الناس مسئولية، وهو من أفضل الناس إذا كان عادلا؛ ولهذا جاء في الحديث: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ [(451)] وبدأ بالإمام العادل؛ لأن الإمام العادل يؤدي الحقوق إلى أصحابها، وينصر المظلوم من الظالم، وتأمن به السبل، وعلق الله به تحقيق مصالح عظيمة إذا كان عادلا، وكان النبي ﷺ هو الحاكم والقاضي والإمام، وكذلك داود وسليمان آتاهما الله الملك والحكمة والعدل بين الناس، فالإمام العادل له فضل عظيم، وكذلك الأمراء من بعده والوزراء والرؤساء ومديرو المدارس والأقسام كلهم مسئولون، حتى تأتي المسئولية للرجل في أهل بيته، فهو مسئول عن أولاده وعن زوجته وعن خدمه وعن الأجراء والعبيد الذين عنده، ومسئول حتى عن البهائم، ثم المرأة راعية في بيت زوجها فهي مسئولة عن أولادها، ثم الخادم ـ وهو يشمل الأجير والعبد المملوك ـ راع في مال سيده يحفظ المال ولا يضيعه، وينفذ ما أمره به سيده، وإذا فعل ذلك فله من الله أجر عظيم؛ ولهذا جاء في الحديث أنه: أَحَدُ المُتَصَدِّقِينَ [(452)] فإذا أمره سيده بأن يتصدق على فلان فأرسل إليه ونفذ أمر سيده فهو أحد المتصدقين، ولكن بعض الأجراء وبعض الوكالاء الذين توكل إليهم الأمور لا ينفذون ما يؤمرون به؛ فيحرمون أنفسهم من الأجر والثواب.
والشاهد من الحديث للترجمة أن العبد لا يعمل في مال سيده بدين أو إقراض أو بيع أو هبة إلا بإذن سيده؛ لأن هذه الأبواب والتراجم إنما هي في الدين والإقراض والهبة، فالخادم مؤتمن في مال سيده لا يعمل في مال سيده إلا بإذنه، فإذا التزم فله أجر عظيم، وإن ضيع فعليه الوزر الجسيم.