المتن:
(46)كِتَاب في اللُّقَطَةِ
باب إِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلاَمَةِ دَفَعَ إِلَيْهِ
2426 حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: لَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ: أَخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً؛ فَعَرَّفْتُهَا، حَوْلاً فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً؛ فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا، فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا، فَاسْتَمْتَعْتُ. فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: لاَ أَدْرِي ثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلاً وَاحِدًا.
الشرح:
وقوله: «اللُّقَطَةِ» : هي المال الضائع الذي يجده الإنسان وليس له أحد، واللقطة فيها لغات: يقال: لُقَطَة ولُقْطَة ولُقَاطَة ولَقْطَة.
وقد نوّه على هذه الأربعة ابن مالك كما ذكر الشارح:
لُقَاطَةٌ وَلُقْطَةٌ وَلُقَطَهْ | ولَقْطَةٌ ما لاَقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ |
وقوله: «إِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلاَمَةِ دَفَعَ إِلَيْهِ» ، يعني: الإنسان الذي يجد مالاً ضائعًا يُعَرّفه سنة، ولابد أن يعرف وعاءه ـ وهو الكيس ـ الذي فيه اللقطة، ويعرف عددها سواء كانت مائة أو ألفًا أو ألفين، وكذلك يعرف فئاتها: فئة مائة، وفئة خمسمائة، وفئة مائتين، ويعرف وكاءها وهو الرباط الذي تربط به، ثم يعرفها سنة في مجامع الناس، وعند أبواب الجوامع، مرة في الأسبوع أو مرتين، فإذا جاء صاحبها سأله: ما علامتها؟ ما رباطها؟ ما عددها؟ فإذا عرفها بالعلامة دفعها إليه.
2426 قوله: «أَخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينَارٍ» ، يعني: وجد صرة لقطة فيها مائة دينار، «فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً؛ فَعَرَّفْتُهَا، حَوْلاً فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً؛ فَعَرَّفْتُهَا، فَلَمْ أَجِدْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا» أي: سنين، «فَقَالَ: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا، فَاسْتَمْتَعْتُ» ، وهذا كان في أول الأمر، يعرفها ثلاثة أحوال، ثم استقر الأمر فأصبح التعريف حولاً واحدًا، وبعد الحول يتملكها، وتكون وديعة عنده، فإن جاء صاحبها يومًا من الدهر دفعها إليه، فإن أكلها وجاء ربها يطلبها وكان معسرًا كانت دينًا في ذمته، يمهل حتى يقضيها، لقول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البَقَرَة: 280].
المتن:
باب ضَالَّةِ الإِْبِلِ
2427 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ رَبِيعَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ ﷺ فَسَأَلَهُ عَمَّا يَلْتَقِطُهُ؛ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْهَا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: لَكَ أَوْ لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: ضَالَّةُ الإِْبِلِ؟ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ.
الشرح:
2427 قوله: عَرِّفْهَا سَنَةً، دل على أن اللقطة تُعرَّف حولاً كاملاً، وأما الحديث السابق: أنها تعرف ثلاثة أحوال فكان في أول الإسلام ثم نسخ.
وقوله: عِفَاصَهَا : أي: الوعاء.
وقوله: وَوِكَاءَهَا: أي: الرباط، والعدد كما في الحديث الآخر.
وقوله: فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِهَا أي: إذا جاء صاحبها بعلاماتها فادفعها إليه.
وقوله: وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْهَا، يعني: تكون من مالك، لكنها تكون وديعة عندك ودينًا في ذمتك، تؤديها إلى صاحبها لو جاء يومًا من الدهر كما في الحديث الآخر، فإن أَعْسَرت فنظرة إلى ميسرة.
وقوله: «فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟» ، يعني: ما الحكم إذا وجدتُ شاة ضالة؟ لَكَ أَوْ لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، يعني: إما أن تأخذها أو يأخذها أخوك أو يأكلها الذئب.
وقوله: «ضَالَّةُ الإِْبِلِ؟ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ» أي: تغير؛ إنكارًا عليه في ضالة الإبل.
وقوله: فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا أي: لا تأخذها.
وقوله: مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حذاؤها: يعني: خفها، فهو قوي؛ فهي تمشي وتقطع المسافات، وسقاؤها: جوفها، فهي تخزن الماء في جوفها مدة طويلة.
وقوله: تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، أي: إلى أن يجدها ربها لفترة طويلة، فليس هناك داع أن تأخذها، ويستثنى من هذا ـ أخذًا من قواعد الشريعة ـ ما إذا وجدها في مسبعة أو مهلكة، أو عند قوم يأخذونها ولا يبالون، فإنه ينقلها إلى مكان آمن، فيكون بذلك محسنًا، وإلا فإنه لا يأخذها؛ لأنها تمتنع من السباع، وتأكل وتخزن الماء في جوفها فلا حاجة إلى أخذها، بخلاف الشاة؛ فإنها ضعيفة لا تمتنع من السباع؛ فتؤخذ.
وإذا أخذ الشاة فإنه بالخيار، إن شاء أن يبقيها مع غنمه إذا كان له غنم، وإن شاء أن يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يأكلها ويقدر ثمنها، فإذا أتى صاحبها دفعها إليه.
المتن:
باب ضَالَّةِ الْغَنَمِ
2428 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ يَقُولُ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ اللُّقَطَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً يَقُولُ يَزِيدُ: إِنْ لَمْ تُعْرَفْ اسْتَنْفَقَ بِهَا صَاحِبُهَا، وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، قَالَ يَحْيَى: فَهَذَا الَّذِي لاَ أَدْرِي أَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هُوَ أَمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ؟ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ يَزِيدُ: وَهِيَ تُعَرَّفُ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الإِْبِلِ؟ قَالَ فَقَالَ: دَعْهَا؛ فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا.
الشرح:
2428 هذا هو الحديث السابق، أعاده المؤلف لاستنباط الأحكام، فاستدل به في الترجمة الأولى التي ترجمها على ضالة الإبل، وهنا استدل به على ضالة الغنم.
وفيه: أن ضالة الغنم تؤخذ؛ لأنها لا تمتنع من السباع، فإما أن تأخذها أو يأخذها أخوك أو يأكلها الذئب، وتعرف لمدة سنة، وأما ضالة الإبل فلا تؤخذ؛ لأنها تمتنع من السباع، وتخزن الماء في بطونها، ولها حذاء أي: خف قوي، ورقبة طويلة فتأكل الشجر، فلا حاجة إلى أخذها، وأما النقود، فإن الإنسان يعرف وكاءها ورباطها وتُعرَّف، فإن جاء طالبها دفعها إليه، وإن لم يأتِ بقيت عنده؛ ولهذا قال: وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ.
قوله: «قَالَ يَحْيَى: فَهَذَا الَّذِي لاَ أَدْرِي أَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هُوَ أَمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِهِ؟» يعني: قوله: وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، والصواب: أنها ثابتة من قول النبي ﷺ، وتكون وديعة عنده مدى الدهر، إن جاء صاحبها يومًا دفعها إليه، وإلا فهي له.
المتن:
باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا
2429 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا، قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الإِْبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا.
الشرح:
قوله: «بَاب إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا» ، يعني: تكون له فيملكها، وظاهر هذا أنه لا يلزم غرامتها لصاحبها بعد السنة، والجمهور على أنه يلزم الغرامة لصاحبها ولو بعد السنة؛ لقوله في الحديث: وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ [(472)] وهذا هو الصواب.
2429 هذا الحديث تكرر مرة ثالثة لاستنباط الأحكام.
وقوله: فَشَأْنَكَ بِهَا يعني: تصرف فيها، لكن إذا جاء صاحبها وجب ردها إليه؛ لقول الجمهور.
أما نماء اللقطة كالشاة تلد ولدًا، فتكون لصاحبها في السنة الأولى، وبعد السنة الأولى يكون النماء للملتقط.
المتن:
باب إِذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي الْبَحْرِ أَوْ سَوْطًا أَوْ نَحْوَهُ
2430 وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ: فَخَرَجَ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا هُوَ بِالْخَشَبَةِ، فَأَخَذَهَا لأَِهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ.
الشرح:
قوله: «باب إذا وجد خشبة في البحر أو سوطًا أو نحوه» . هذه الترجمة معقودة لبيان أن الشيء القليل الذي ليس له قيمة كبيرة، ولا تتبعه همة أوساط الناس يؤخذ ولا يعرف، كأن يجد الإنسان سوطًا أو حبلاً أو بيضة فهذه أشياء يملكها الإنسان ولا تحتاج إلى تعريف.
2430 وفي هذا الحديث أن الإسرائيلي لما أقرض رجلاً دراهم قال: هاتني بشهيد، قال: كفى بالله شهيدًا، قال: ائتني بكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، فأقرضه المال، وركب المستقرض البحر، وواعده في يوم معين وقال: في اليوم الفلاني إن شاء الله سآتي وأعطيك مالك، وانتظر الرجل صاحبه في الموعد لعله يأتي، لكن صاحبه لم يجد مركبًا في البحر، فأخذ خشبة ونقرها ووضع فيها الألف درهم التي استقرضها، ووضع فيها خطابًا: بسم الله الرحمن الرحيم، إني وعدتك بأن ديني كذا ولم أجد مركبًا ثم زجّجها ووضع فيها النقود وهذا الخطاب، وقال: اللهم يسر، ودفعها في البحر، وجعلت الخشبة تمشي في الأمواج حتى وصلت إلى الساحل.
وكان الرجل الدائن يذهب إلى الساحل كل يوم ويقول: لعل صاحبي يأتي، فإذا ارتفعت الشمس رجع، ثم وجد خشبة فقال: سآخذ الخشبة هذه حطبًا لأهلي فأخذها، فلما وصل بيته كسرها، فوجد الدراهم والخطاب.
ثم جاء الرجل الإسرائيلي بعد مدة لما وجد المركب، فسلمه الدراهم وقال: خذ يا أخي وأعتذر والله منك، فإني لم أجد مركبًا، قال: هل أرسلت شيئًا؟ قال: يا أخي، أقول لك ما وجدت مركبًا، فقال: إن الدراهم التي أرسلتها في الخشبة قد أداها الله عنك.
وما فعله صاحب الدين حيث نقر في الخشبة الدنانير ثم وضعها في البحر، فأوصلها الله إلى صاحبها، هل يجوز في شرعنا؟ نقول: لا يجوز ذلك في شرعنا؛ للأدلة التي تدل على الأمر بحفظ المال وعدم إضاعته، وإذا حصل للإنسان مثل هذه الحالة فإنه ينتظر حتى يجد مركبًا أو طائرة أو قطارًا، ويكون معذورًا في التأخير، أما سكوت النبي ﷺ عن هذه القصة، فلعل ذلك لما فيها من العبرة؛ ولأن الأدلة على المنع من إضاعة المال والأمر بحفظه معروفة عند الصحابة.
والشاهد: أن هذا الرجل التقط الخشبة ولم يعتبرها لقطة، ولم يعرفها؛ لأن قيمتها قليلة، فدل هذا على أن القليل لا يعرف، ويدل على ذلك حديث التمرة ـ الذي سيأتي ـ أن النبي ﷺ وجد تمرة، وقال: لَوْلَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ يعني: زكاة لَأَكَلْتُهَا [(473)] لأن النبي ﷺ محرم عليه الصدقة، فدل هذا على أن الشيء اليسير مثل البيضة والحبل وما أشبه ذلك لا يعرف بين أوساط الناس، وضابطها أن الشيء الذي لا تتبعه همة أوساط الناس ولا يلتفتون إليه يؤخذ ولا يُعَّرف، وأما ما تتبعه همة أوساط الناس فلابد أن يعرف.
المتن:
باب إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ
2431 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ؛ قَالَ: لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا.
2432 وَقَالَ يَحْيَى: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ.
وَقَالَ زَائِدَةُ: عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لآِكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا.
الشرح:
قوله: «بَاب إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ» هذه الترجمة معقودة لبيان أن المحقرات والأشياء اليسيرة تلتقط ولا تحتاج إلى تعريف، كما إذا وجد تمرة أو بيضة أو حبلاً فهذه تملك بدون تعريف.
أما ما كان له ثمن فإنه يلتقط ويعرف سنة كما سبق في الأحاديث؛ ولهذا بوب المؤلف رحمه الله فقال: «بَاب إِذَا وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ» ، وترك الحكم؛ لأنه معروف، فإنه يجوز له أخذها وأكلها، وكذا نحوها من المحقرات.
2431 قوله: «مر النبي ﷺ بتمرة في الطريق، فقال: لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا، يعني: بالصدقة: الصدقة الواجبة أو صدقة الفريضة؛ وذلك لأن النبي ﷺ لا تحل له الزكاة ولا لآله من بني هاشم وبني عبد المطلب ولذلك قال: لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد [(474)] لأنها أوساخ الناس، وعوضهم الله تعالى بخمس الغنيمة، فإذا جاهد المسلمون الكفار وغنموا منهم فإنهم يأخذون الخمس من رأس الغنيمة، ويقسم الأربعة الأخماس على الغانمين، يقول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفَال: 41].
وهذا الحديث أصل في الورع؛ فإن النبي ﷺ خشي أن تكون هذه التمرة سقطت من تمر الصدقة؛ فتركها وفيه ورع النبي ﷺ العظيم، فهو أورع الناس وأتقاهم وأخشاهم لله وأعبدهم وأزهدهم وأكملهم في جميع الصفات ﷺ.
2432 قوله: إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لآِكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا. هذا ورع عظيم.
والشاهد: أن التمرة وأشباهها تؤخذ ولا تحتاج إلى تعريف؛ فالنبي ﷺ لم يمنعه من الأكل إلا التورع؛ خشية أن تكون من الصدقة، ولم يذكر أنها تعرف، فدل على أن الشيء الحقير يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف.
وقد استشكل بعض الشراح ترك النبي ﷺ التمرة في الطريق، مع أن الإمام يأخذ المال الضائع للحفظ، فلم لم يأخذها للحفظ؟
وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون أخذها للحفظ؛ لأنه ليس في الحديث ما ينفيه، أو أنه تركها عمدًا لينتفع بها من يجدها ممن تحل له الصدقة.
المتن:
باب كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ
وَقَالَ طَاوُسٌ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا.
وَقَالَ خَالِدٌ: عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ.
2433 وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا زكَرِيَّاءُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ يُعْضَدُ عِضَاهُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا؛ فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ؟ فَقَالَ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ.
2434 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّلِ أَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَِحَدٍ بَعْدِي، فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ؛ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ، فَقَامَ أَبُو شَاهٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اكْتُبُوا لأَِبِي شَاهٍ.
قُلْتُ: لِلأَْوْزَاعِيِّ مَا قَوْلُهُ اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذِهِ الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة للقطة التي تكون في مكة وما حكمها؟ والمؤلف ترجم وقال: «بَاب كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ» ، فذهب إلى إثبات اللقطة في الحرم، وكأنه أشار إلى ضعف الحديث الوارد بالنهي عن لقطة الحاج.
وبين في الحديث أن اللقطة في مكة لا تلتقط للتمليك، وإنما تلتقط للتعريف أبد الدهر، لقول النبي ﷺ: لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وفي الحديث: لاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، فمكة لها خصوصية، في أن اللقطة لا تملك، وأما ما عداها فإنها تلتقط وتعرف لمدة سنة في مجامع الناس، وذلك بعد أن يعرف عفاصها والوعاء التي فيه ورباطها، فإذا مرت سنة ولم يأتِ لها طالب فإنه يملكها على أنها وديعة عنده ـ كما سبق ـ فإن جاء طالبها يومًا من الدهر وعرف الأوصاف دفعها إليه، ولقطة المدينة النبوية كذلك، واللقطة في عرفة كذلك، وقال البعض: إن اللقطة في عرفة تلحق بلقطة الحرم.
وقال شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله[(475)]: إن لقطة حرم المدينة كذلك، لا تلتقط إلا لمنشد؛ لقول النبي ﷺ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ [(476)].
وعندي في ذلك نظر لأمرين:
الأمر الأول: أن هذا الحديث عام: إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ، ولم يتعرض للقطة.
الأمر الثاني: أن النبي ﷺ قال: لاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وهذا يفيد خصوص مكة؛ ولأن حرمة الحرم المكي أغلظ من حرمة حرم المدينة؛ ولهذا فإن الصيد في حرم مكة فيه جزاء، والصيد في حرم المدينة ليس فيه جزاء.
قوله: لاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ يعني: أن اللقطة في مكة لا تلتقط للتمليك، وإنما تلتقط للتعريف أبد الدهر، بخلاف غيرها من البلدان.
2433 قوله: لاَ يُعْضَدُ عِضَاهُهَا يعني: لا يقطع شجرها، وكذلك شوكها الأخضر.
وقوله: وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ أي: لمُعَرّف.
وقوله: وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا يعني: لا يحش حشيشها الرطب، أما اليابس فلا بأس بحشه.
وقوله: «فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ؟» فاستثناه النبي ﷺ، فقال: إِلاَّ الإِْذْخِرَ.
جاء في الحديث الآخر أن العباس قال: «يا رسول الله، إلا الإذخر؛ فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا» [(477)]، وفي لفظ: «لصاغتنا» [(478)]. والإذخر: نبت طيب الرائحة، طلب العباس من النبي ﷺ أن يستثنيه لحاجتهم إليه في البيوت وفي القبور وفي الصاغة.
أما في البيوت فإنه يجعل في الخلل الذي بين الخشب عندما تسقف البيوت.
وكذلك أيضًا يجعل أهل مكة الإذخر للقبور، يعني: يوضع في الخلل الذي بين اللبنات التي توضع على الميت.
وكذلك الصاغة ـ الحدادون ـ يحتاجونه لإشعال النار به؛ فلهذا استثني.
2434 قوله: «لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ. وفي غير رواية أبي ذر: حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ القَتْلَ [(479)] يعني: فيل أبرهة لما جاء إلى مكة ليهدم الكعبة حبسه الله، فكان إذا وجه إلى مكة تراجع، وإذا وجه إلى أي: جهة مشى، ثم بعد ذلك أهلك الله أصحاب الفيل وأرسل عليهم طيرًا أبابيل، كما أخبر الله تعالى في كتابه العظيم، وكان ذلك في العام الذي ولد فيه النبي ﷺ، وسمي العام عام الفيل، وهذا من حماية الله تعالى لبيته، وهو من الإرهاصات لبعثة النبي ﷺ.
قوله: وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، أي: سلطهم عليها يوم الفتح.
قوله: وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وفي اللفظ الآخر: وإنها لم تحل لي إلا ساعة من نهار [(480)]، فسلط الله عليها رسوله والمؤمنين حتى يتم الفتح، وتزال معالم الشرك، ويدخل الناس في الإسلام، وهذه الساعة المراد بها جزء من النهار، وليست الساعة المعروفة، وكانت هذه الساعة من الضحى إلى العصر، فأحل للنبي ﷺ القتال فيها، إلا من دخل بيته وأغلق عليه بابه، أو دخل المسجد، أو ألقى السلاح فإنه آمن، وأما من لم يلقِ السلاح فإنه يقتل؛ حتى يتم الفتح، فلما تم الفتح قال النبي ﷺ: رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس [(481)].
وقوله: وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَِحَدٍ بَعْدِي، فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا أي: لا يزجر صيدها ولا يروع ولا يصاد.
وقوله: وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا يعني: لا يقطع شوكها الرطب.
وقوله: وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، أي: أن لقطتها تعرف أبد الدهر.
وإذا كان الطير يَأْمن ولا ينفر، والحشيش لا يقطع؛ فالآدمي والمسلم يُؤَمَّن أكثر من غيره؛ لأنه أعظم حرمة.
وقوله: وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ. إما أن يفدى: يعني: يقبل الدية، وإما أن يقيد: من القود وهو القصاص، يعني: وإما أن يقتص، فإذا قتل قتيل ظلمًا فولي القتيل مخير: إما أن يقتص ممن قتل فيقتله، وإما أن يُعطى فدية، وإما أن يعفو.
قوله: «فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ، قاله بوحي من الله، فيحتمل أن الوحي جاءه في الحال.
وقوله: «فَقَامَ أَبُو شَاهٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اكْتُبُوا لأَِبِي شَاهٍ.
وفي هذا: دليل على جواز كتابة الحديث، وأن النهي عن كتابة الحديث كان في أول الإسلام وقد نسخ، فالنبي ﷺ في أول الأمر قال: لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني شيئًا فليمحه [(482)] وذلك خشية أن يختلط القرآن بما ليس منه، ثم بعد ذلك أباح النبي ﷺ الكتابة، فكان بعض الصحابة يكتب، مثل عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره، ثم بعد ذلك أجمع العلماء على كتابة الحديث، وقالوا: لو لم يكتب الحديث لضاعت السنة.
المتن:
باب لاَ تُحْتَلَبُ مَاشِيَةُ أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِ
2435 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؟ فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
الشرح:
هذه الترجمة على لفظ الحديث، والماشية: يعني: بهيمة الأنعام، من الإبل أو البقر أو الغنم.
ومناسبة هذه الترجمة لكتاب اللقطة أن الماشية التي يجدها الإنسان ليس عندها أهلها ـ ويحلبها ـ تشبه اللقطة، فكأن اللبن في حكم الضائع؛ ولهذا أدخلها في كتاب اللقطة.
2435 قوله: لاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِ، فيه: تحريم حلب الماشية بغير إذن صاحبها؛ لأن النهي للتحريم.
وقوله: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؟ فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ. بيَّن النبي ﷺ أن ضرع الماشية حرز للبن مثل الخزانة التي فيها الطعام؛ فلو جاء إنسان إلى غرفة وكسرها وأخرج ما فيها من الطعام لاعتُبر ذلك عدوانًا، فكذلك أيضًا إذا حلب ماشية أحد بغير إذنه فهذا عدوان؛ لأن المشربة وهذه الغرفة خزانة للطعام، وضروع الماشية خزانة للبن.
وهذا عام فلا يجوز لمسلم أن يأخذ من مسلم شيئًا لكن خص اللبن بالذكر؛ لأن الناس قد يتساهلون فيه، لكن إذا علم طيب نفس صاحب الماشية وأنه يأذن أو كان معها راع وكان هناك إذن عام أو إذن خاص من قبل الراعي أو هناك عرف بأن من مر عليها يحلب كالضيف وغيره فلا بأس.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال النووي في شرح المهذب: اختلف العلماء فيمن مر ببستان أو زرع أو ماشية، قال الجمهور: لا يجوز أن يأخذ منه شيئًا إلا في حال الضرورة فيأخذ ويغرم عند الشافعي والجمهور، وقال بعض السلف: لا يلزمه شيء، وقال أحمد: إذا لم يكن على البستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة في أصح الروايتين ولو لم يحتج لذلك، وفي الأخرى: إذا احتاج ولا ضمان عليه في الحالين، وعلق الشافعي القول بذلك على صحة الحديث. قال البيهقي: يعني: حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ، وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً [(483)] أخرجه الترمذي واستغربه، قال البيهقي: لم يصح وجاء من أوجه أخر غير قوية[(484)]. قلت: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها، وقد بينت ذلك في كتابي «المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة» ، وفي الحديث: ضرب الأمثال للتقريب للأفهام وتمثيل ما قد يخفى بما هو أوضح منه، واستعمال القياس في النظائر» .
واستُدِل بهذا الحديث: على جواز شراء الطعام وجعله عنده لمدة سنة أو أقل وأنه لا بأس بادخار الطعام فقد كان النبي ﷺ يدخر قوت سنة لكن تأتي عليه النوائب فينتهي ثم يستدين ﷺ.
ويرد هذا الحديث على البعض الذين يزعمون أنهم زهاد فيمنعون ادخار الطعام وأنه لا يجوز للإنسان أن يدخر لمدة وإنما يقتصر على قوت يومه.
المتن:
باب إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ لأَِنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ
2436 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ اللُّقَطَةِ؛ قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الإِْبِلِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا.
الشرح:
2436 هذا الحديث كرره المؤلف رحمه الله لاستنباط الأحكام وسبق أنه كرره ثلاث مرات وهذه الرابعة وسيعيده مرة خامسة أيضًا، وسبق الكلام عليه وأن اللقطة تعرف لمدة سنة، ولابد للملتقط أن يعرف وكاءها ـ وهو الرباط الذي تربط به ـ وعفاصها ـ وهو الوعاء أو الكيس الذي تكون فيه اللقطة ـ ويعرف العدد أيضًا، ثم يعرفها سنة، ثم ينفقها ويتمتع بها وتكون كسائر ماله، فإن جاء ربها يومًا من الدهر أداها إليه،؛ لقوله ﷺ: فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ وهذا هو شاهد الترجمة.
أما النماء المنفصل الذي يكون للقطة ـ كما لو كانت اللقطة شاة ثم ولدت أولادًا ـ فإنه يكون لرب المال في السنة الأولى أما في السنة الثانية والثالثة والرابعة وغيرها يكون النماء لواجد اللقطة لأنها بعد السنة كسائر ماله.
وفيه: أن ضالة الغنم تلتقط لقوله: فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ؛ لأنها لا تمتنع من السباع فإما أن تلتقطها أنت أو يلتقطها أخوك أو يأكلها الذئب، وليس معنى ذلك أنه لا يعرف ضالة الغنم؛ فقد ورد أن من التقطها فهو ضال إلا من عرفها.
وأما ضالة الإبل فإنها لا تلتقط ولهذا غضب النبي ﷺ واحمر وجهه لما سئل عنها وقال: مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حذاؤها: أي: خفها، وسقاؤها: بطونها تخزن فيها الماء مدة طويلة حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا وفي لفظ آخر: تَرِدُ المَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ [(485)] فهي تتحمل الجوع والعطش وتمتنع من السباع وتمشي على الشوك ولها رقبة طويلة فتأكل الشجر فلا حاجة إلى التقاطها، اللهم إلا إن كانت في أرض مسبعة تسبع عليها السباع فينقلها من هذه الأرض المسبعة إلى مكان آخر أو كانت عند قوم يعرف أنهم قطاع طريق وأنهم يسرقونها فينقلها من مكانها إلى مكان آمن وهذا معروف من قواعد الشريعة وأصولها.
المتن:
باب هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلاَ يَدَعُهَا تَضِيعُ حَتَّى لاَ يَأْخُذَهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ
2437 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فِي غَزَاةٍ فَوَجَدْتُ سَوْطًا؛ فَقَالاَ لِي: أَلْقِهِ، قُلْتُ: لاَ، وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ وَإِلاَّ اسْتَمْتَعْتُ بِهِ، فَلَمَّا رَجَعْنَا حَجَجْنَا، فَمَرَرْتُ بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ؛ فَقَالَ: وَجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً؛ فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، ثُمَّ أَتَيْتُ فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً؛ فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا.
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ بِهَذَا قَالَ فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي أَثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلاً وَاحِدًا.
الشرح:
قوله: «بَاب هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلاَ يَدَعُهَا تَضِيعُ حَتَّى لاَ يَأْخُذَهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ» . هذه ترجمة معقودة لبيان هل الأفضل أن يأخذ اللقطة أو يتركها؟
وفي المسألة ثلاثة مذاهب للعلماء ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله:
المذهب الأول: أنه يستحب التقاط اللقطة؛ لئلا تضيع.
المذهب الثاني: أنه يكره التقاطها.
المذهب الثالث: أنه يختلف باختلاف أحوال الناس.
والمؤلف رحمه الله أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من كره اللقطة ومن حجتهم ما رُوي مرفوعًا: ضَالَّةُ المُسْلِمِ حَرَقُ النَّارِ [(486)] والجمهور حملوا ذلك على من لم يعرفها، وحجتهم حديث زيد بن خالد عند مسلم: مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ، مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا [(487)] واحتجوا كذلك بحديث الباب؛ فالنبي ﷺ لم ينكر على أُبي أخذه الصرة ولم يقل له لم أخذتها فدل على أنه جائز شرعًا، فأخذ اللقطة ليس مكروهًا إذا كان الإنسان يريد أن يعرفها.
ومنهم من قال: إن هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فمتى رجح أخذُها فإنه يكون إما واجبًا أو مستحبًا ومتى رجح تركُها حرم أو كره، وإلا فهو جائز والأقرب أنه لا بأس بأخذها إذا كان الإنسان يريد أن يعرفها أما إذا كان لا يريد أن يعرفها فإنه يتركها إلا إذا خشي أن تضيع أو أن يأخذها من لا يبالي لضعف دينه وأمانته.
2437 في الحديث: أن سويد بن غفلة وجد سوطًا وكان مع سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان في غزاة فقالا له: «أَلْقِهِ» ، أي: ألق السوط، فقال سويد: «قُلْتُ: لاَ، وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ وَإِلاَّ اسْتَمْتَعْتُ بِهِ» ؛ وما فعله سويد هو الصواب، والسوط هنا له قيمة لأن ما لا قيمة له لا يستمتع به، ثم بعد ذلك سأل سويد أُبي بن كعب فأخبر أنه وجد صرة فيها مائة دينار فأخذها ولم ينكر عليه النبي ﷺ وأمره أن يعرفها ثلاثة أحوال، وقال بعض العلماء: إنه منسوخ بالأمر بالتعريف حولاً واحدًا في حديث زيد بن خالد الجهني أو أنه محمول على الاستحباب، وحمله على الاستحباب أولى من القول بالنسخ.
وفيه: أنه لابد من التعريف لقوله: عَرِّفْهَا، وفيه: أنه لابد أن يعرف الملتقط أوصافها ولهذا قال: اعْرِفْ عِدَّتَهَا يعني: عدد الدراهم ونوع الفئة مثلاً، وَوِكَاءَهَا، وهو الرباط، وَوِعَاءَهَا، وهو الغلاف والكيس الذي فيه اللقطة.
قوله: «فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي أَثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلاً وَاحِدًا»
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ» القائل شعبة والذي قال: «لا أدري» هو شيخه سلمة بن كهيل، وقد بينه مسلم من رواية بهز بن أسد عن شعبة أخبرني سلمة بن كهيل واختصر الحديث، قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: «عرفها عاما واحدًا» . وقد بينه أبو داود الطيالسي في مسنده أيضا فقال في آخر الحديث «قال شعبة فلقيت سلمة بعد ذلك فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولاً واحدًا» . وأغرب ابن بطال فقال: الذي شك فيه هو أبي بن كعب، والقائل هو سويد بن غفلة انتهى. ولم يصب في ذلك وإن تبعه جماعة منهم المنذري، بل الشك فيه من أحد رواته وهو سلمة لما استثبته فيه شعبة، وقد رواه عن سلمة بن كهيل بغير شك جماعة غير شعبة» .
المتن:
باب مَنْ عَرَّفَ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى السُّلْطَانِ
2438 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ اللُّقَطَةِ قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا وَإِلاَّ فَاسْتَنْفِقْ بِهَا، وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِْبِلِ؛ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، دَعْهَا حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا، وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ؛ فَقَالَ: هِيَ لَكَ أَوْ لأَِخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ.
الشرح:
2438 هذا الحديث أعاده المؤلف رحمه الله لاستنباط الأحكام وفيه أنه تُعرف اللقطة ولا تُدفع للسلطان.
وفيه: أن تعريف اللقطة واجب لمن التقطها؛ لقوله: «عَرِّفْهَا» ؛ لأنه أمر والأمر للوجوب، فيعرفها وإلا فليدفعها إلى من يعرفها أو إلى جهة مأمونة كهيئة مخصصة للقطة أو للمحكمة وإلا فلا يأخذها ولا يلتقطها.
وفيه: أنه بعد سنة لا يدفعها للسلطان بل يستنفقها؛ لقوله: فَاسْتَنْفِقْ بِهَا يعني: ينفقها في حاجاته ويتملكها، وفي لفظ: وَإِلَّا فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ [(488)] لكنها وديعة عنده لابد أن يعرف عفاصها ـ وهو الوعاء ـ ووكاءها ـ وهو الرباط الذي ربطت به ـ ولابد أن يعرف عددها وفئتها، ولابد أن يكتبها حتى لا ينساها ويشهد عليها شاهدين ـ لأن النفس خوانة فقد يطغى على الإنسان ضعف ويتساهل ـ فإذا جاء من عرف صفاتها يومًا من الدهر دفعها إليه؛ لأنها وديعة وأمانة عنده والله تعالى قد أمر برد الأمانات إلى أهلها فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النِّسَاء: 58]، ونهى عن الخيانة فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ [الأنفَال: 27].
وقد يكون أخذ اللقطة واجبا كأن تكون شاة في أرض مسبعة إذا تركها أُكلت وهذا ضياع للمال، أو تكون اللقطة عند من يخشى منه إضاعتها وأخذها طمعًا فيها؛ وإنما تجب اللقطة في هذه الحالة لأن المسلم أخو المسلم ينصح له، والدين النصيحة.
ونماء اللقطة المنفصل ـ كالشاة التي تلد ـ فإنه في السنة الأولى يكون تبعًا للقطة، وما بعدها من السنين يكون لواجد اللقطة.
والبخاري رحمه الله أشار بالترجمة إلى رد قول الأوزاعي في التفرقة بين القليل والكثير حيث قال: «إن كان قليلاً عرفه وإن كان مالاً كثيرًا رفعه إلى بيت المال» . والجمهور على خلافه فذهبوا إلى أنه يعرفه ولا يرفعه إلى بيت المال، وبعضهم فرق بين اللقطة والضوال.
وبعض المالكية فرق بين المؤتمن وغيره، فقال: يأخذها المؤتمن ويعرفها، وأما غير المؤتمن فلا يأخذها، وإن أخذها يدفعها إلى السلطان ليعطيها المؤتمن ليعرفها[(489)].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال بعض المالكية إن كانت اللقطة بين قوم مأمونين والسلطان جائر فالأفضل أن لا يلتقطها، فإن التقطها لا يدفعها له وإن كان عادلاً فكذلك ويخير في دفعها له، وإن كانت بين قوم غير مأمونين والإمام جائر تخير الملتقط وعمل بما يترجح عنده وإن كان عادلا فكذلك» ، وهذه اجتهادات من العلماء.
المتن:
باب
2439 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْبَرَاءُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما ح.
وحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَ: انْطَلَقْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنْ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالأُْخْرَى فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ.
الشرح:
2439 هذه الحادثة في قصة هجرة النبي ﷺ وأبي بكر للمدينة، وشراح الحديث يتأملون في المناسبة بين هذا الحديث وسياقة البخاري له في كتاب اللقطة.
فقال بعضهم: ليست هناك مناسبة.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن المنير: مناسبة هذا الحديث لأبواب اللقطة الإشارة إلى أن المبيح للبن أنه في حكم الضائع؛ إذ ليس مع الغنم في الصحراء سوى راع واحد، فالفاضل عن شربه مستهلك، فهو كالسوط الذي اغتفر التقاطه، وأعلى أحواله أن يكون كالشاة الملتقطة في الضيعة؛ وقد قال فيها النبي ﷺ: هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ.
فهذا كلام ابن المنير وتعقبه الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله: «ولا يخفى ما فيه من تكلف، ومع ذلك فلم تظهر مناسبته للترجمة بخصوصها» .
والأقرب والذي يظهر والله أعلم أن الراعي وكيل للمالك؛ لأنه حافظ للغنم فهو نائب عن المالك، وقد قال له أبو بكر: «هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ» ؛ فقد استأذن أبو بكر الراعي في أن يحلب له، فأجاب وأذن له، وإذن الراعي معتبر.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله حاكيًا تكلف بعض الشراح: «إن أبا بكر استجاز أخذ ذلك اللبن لأنه مال حربي فكان حلالاً له، وتعقبه المهلب بأن الجهاد وحل الغنيمة إنما وقع بعد الهجرة بالمدينة، ولو كان أبو بكر أخذه على أنه مال حربي لما استفهم الراعي هل تحلب أم لا، ولكان ساق الغنيمة وقتل الراعي أو أسره» .
والذي يظهر ـ كما سبق ـ أن الراعي وكيل للمالك وهو نائب عنه واستأذنه أبو بكر فأذن له.
كما أنه معروف عند العرب أنهم يبيحون ذلك للضيف، وأنه من مر بماشية يشرب منها.