شعار الموقع

شرح كتاب المظالم والغضب صحيح البخاري (46-1) من بداية كتاب المظالم - إلى باب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلاَ رُجُوعَ فِيهِ

00:00
00:00
تحميل
141

المتن:

(47) كِتَاب الْمَظَالِم وَالْغَصْب

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ۝ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 42-43] رَافِعِي الْمُقْنِعُ وَالْمُقْمِحُ وَاحِدٌ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُهْطِعِينَ مُدِيمِي النَّظَرِ وَيُقَالُ مُسْرِعِينَ. لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 43] يَعْنِي جُوفًا لاَ عُقُولَ لَهُمْ. وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ۝ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ۝ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ۝ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [إبراهيم: 44-47]

الشرح:

هذا الكتاب عقده المؤلف رحمه الله لبيان الظلم وأنواعه، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.

وهو ثلاثة أنواع:

النوع الأول: وهو أعظمها وأخطرها وأشدها وهو ظلم الشرك؛ قال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمَان: 13]؛ لأن المشرك وضع العبادة في غير موضعها، وفي غير أهلها، وفي غير مستحقها؛ فالله تعالى هو الخالق، والرازق، وهو المدبر، وهو المنعم، وهو المتصرف، وهو الذي بيده الأمور، وهو الذي له الصفات العظيمة، وهو الذي أوجد الإنسان ورباه بالنعم، ثم يأتي الإنسان بعد ذلك ويصرف العبادة إلى مخلوق ضعيف ناقص، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ويعدل بالعبادة عن مستحقها وهو الله تعالى، فهذا أعظم الظلم.

النوع الثاني: ظلم بني آدم في أبدانهم أو أموالهم أو أعراضهم، وهذا مبني على المشاحة؛ فحقوق الناس لابد من أدائها.

النوع الثالث: ظلم النفس بالمعاصي التي دون الشرك فيما بين العبد وبين الله وهذا أخف أنواع الظلم.

قوله: «المظالم والغصب» الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والغصب أخذ حق الغير بغير حق.

قوله: «وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إلى قوله: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ۝ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ۝ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ۝ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ۝ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ۝ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [إبراهيم: 42-47].

والآيات فيها الوعيد الشديد على الظلم؛ فقد قال الله تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ يعني: مديمي النظر شاخصة أبصارهم وهذا قول مجاهد، وقال غيره: مسرعين.

وقوله: «الْمُقْنِعُ وَالْمُقْمِحُ وَاحِدٌ» أي: يقال: مقنع ومقمح.

قوله: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام يعني: لا قوة في قلوبهم ولا جرأة، وقال ابن عرفة: «نزعت أفئدتهم من أجوافهم» أي: لا عقول لهم من شدة الهول.

ثم قال : وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم: 44]. هكذا حال الظلمة يتمنون التأخير والتأجيل، فأجيبوا وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ۝ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ۝ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ۝ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [إبراهيم: 44-47] وهذا فيه الوعيد الشديد على الظلم كما قال : وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفُرقان: 19].

المتن:

باب قِصَاصُ المَظَالِمِ

2440حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ.

الشرح:

2440 يستفاد من الحديث أن المظالم لابد من أدائها لأصحابها حتى بين المؤمنين، وحتى بين أهل الجنة أنفسهم، فلا يدخلون الجنة حتى يقتص بعضهم من بعض، فكلٌّ يؤدي إلى الآخر حقه، فالناس يمرون على الصراط ومن تجاوز الصراط فإنه يصل إلى الجنة وقبل وصولهم للجنة يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار ـ قيل: إنه صراط خاص بالمؤمنين ـ فيقتص لبعضهم من بعض المظالم التي كانت بينهم في الدنيا وكذلك الذين يخرجون من النار.

قوله: إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ، أي: عبروا الصراط وتجاوزوه أو من دخل النار من أهل التوحيد من العصاة فقضى بها فترة ثم خرج منها فإنه لا يدخل الجنة حتى يؤدي الحقوق التي عليه فإذا كان اعتدى على أحد أو ظلم أحدًا في ماله أو بدنه أو عرضه يقتص منه، فكل واحد يؤدي الحق الذي عليه بالحسنات والسيئات كما في الحديث: أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قالوا: يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال ﷺ: «المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أخذ من سيئات صاحبه، فطرحت عليه، ثم طرح في النار» [(490)].

قوله: حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا، أي: انتهت المظالم ونزع ما في صدورهم من الغل «أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ» ، فيدخلون الجنة على قلوب صافية ليس فيها غل ولا حقد ولا حسد، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحِجر: 47].

وقوله: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا، يعني: أن الله تعالى يهديهم إلى منازلهم الهداية الخاصة؛ فالهداية أنواع:

النوع الأول: الهداية العامة، وهي هداية الإلهام، وهي عامة لجميع المخلوقات، ومنها هداية الطيور إلى أوكارها، وهداية الطفل إلى ثدي أمه؛ قال سبحانه: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50].

النوع الثاني: الهداية الخاصة ببني آدم، وهي هداية الدلالة والإرشاد والوعظ للمؤمن والكافر، وهذه يملكها الرسول ﷺ والدعاة؛ قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ [الشّورى: 52] والله تعالى بين طريق الخير وطريق الشر، فقال سبحانه: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فُصّلَت: 17]، يعني: دللناهم.

النوع الثالث: هداية خاصة بالمؤمنين وهي هداية التوفيق والتسديد، وهداية قبول الحق، وهذه لا يملكها إلا الله، ونفاها الله عن نبيه بقوله: إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القَصَص: 56].

النوع الرابع: هداية أهل الجنة وأهل النار إلى مساكنهم فأهل الجنة يهديهم الله إلى بيوتهم، فكل واحد يُدَلُّ مسكنَه في الجنة كما في هذا الحديث: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا. والكافر كذلك له هدايته إلى النار؛ قال : فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصَّافات: 23].

المتن:

بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18]

2441 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ: رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَْشْهَادُ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُود: 18]».

الشرح:

2441 الشاهد من الحديث للترجمة: هو قول الله تعالى للكافر والمنافق: أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُود: 18]. فالظالمون لهم اللعنة ـ وهي الطرد والإبعاد من رحمة الله ـ والمراد بالظلم هنا الظلم الأكبر، وهو ظلم الشرك والكفر، فالمشركون لهم اللعنة والطرد الكامل والإبعاد عن رحمة الله ـ نعوذ بالله ـ والعاصي المرتكب الكبيرة يلعن على العموم. قال ﷺ: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ [(491)] و لعن الله شارب الخمر[(492)]، لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا [(493)].

وفي الحديث: لطف الله تعالى بعبده المؤمن، وأن الله يدنيه ويضع عليه كنفه ويقرره بذنوبه حتى إذا ظن أنه هلك غفرها الله له ويقول: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ.

والنجوى والكنف من صفات الله تمر كما جاءت كسائر صفات الله وتثبت لله كما يليق بجلاله من غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشّورى: 11]. وأما تفسير الكنف بأنه الستر فهذا تأويل والله أعلم بكيفيته.

المتن:

باب لاَ يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلاَ يُسْلِمُهُ

2442حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

الشرح:

قوله: «بَاب لاَ يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلاَ يُسْلِمُهُ» هذه الترجمة معقودة لبيان أنه لا يجوز للمسلم أن يظلم أخاه ولا أن يسلمه.

وقوله: «يُسْلِمُهُ» أخص من أن يظلمه؛ فالظلم هو الاعتداء عليه في بدنه أو ماله أو عرضه، أما معنى وَلاَ يُسْلِمُهُ يعني: لا يخذله ويتركه مع من يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه؛ ومن إسلامه عدم أداء الشهادة التي له إذا ترتب عليها أداء حقه، فإذا كان الإنسان له شهادة عند أخيه يترتب عليها أداء حق له ولم تكن الشهادة عند غيره ثم كتمها فإن ذلك من ظلمه وإسلامه، فلابد أن يؤدي الشهادة.

2442 قوله: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، أي: لا يظلمه في بدنه وماله وعرضه، ولا يسلمه لعدوه، بل ينصره.

وقوله: وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. تفريج الكربة: كدين قضاه عنه أو سجن خلصه منه بنفسه أو بشفاعته أو ظالم دفعه عنه فكل هذا من تفريج الكربات.

وقوله: وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يستر عليه مطلقًا فيما فيه حد أو فيما ليس فيه حد من المعاصي ـ لحديث هَلَّا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي [(494)] فيمن شفع لمن كان عليه حد بعد بلوغه النبي ﷺ ـ ولاسيما فيمن لم يتكرر منه الذنب ولم تكن له عادة فإنه يُستر عليه، ولا مانع أن يؤدَّب فيؤدبه أهل الحي ويسترون عليه، أما المجاهر والمؤذي ومن له سوابق فهذا لا ينبغي الستر عليه بل يرفع ليقام عليه الحد.

المتن:

باب أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا

2443 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا.

2444 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ.

الشرح:

2443 في الحديث: الأمر بنصرة المسلم أخاه ظالمًا أو مظلومًا وأنه إذا كان مظلومًا ينصره حتى يأخذ الحق الذي له، وإن كان ظالمًا فإنه يحجزه ويمنعه من الظلم.

2444 قوله: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ. بيان كيفية نصرة الظالم بأن تكفه عن الظلم بالفعل إن لم يَكُفّ بالقول، وعبر بالفوقية إشارة إلى الأخذ والاستعلاء والقوة.

وكان أهل الجاهلية ينصرون من يندبهم من قبائلهم وأقاربهم سواء كان ظالمًا أو مظلومًا، كما قال الشاعر:

لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حينَ يَنْدُبُهُمْ في النَّائِبَاتِ على ما قال بُرْهَانَا

وهذا من عصبية الجاهلية، وجاء الإسلام بنصر المسلم ظالمًا أو مظلومًا، لكن النصر يفسره ما جاء في الحديث بأن المظلوم ينصر حتى يأخذ حقه والظالم ينصر بحجزه ومنعه من الظلم.

المتن:

باب نَصْرِ الْمَظْلُومِ

2445 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَْشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدٍ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، فَذَكَرَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ، وَرَدَّ السَّلاَمِ، وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةَ الدَّاعِي، وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ.

2446 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.

الشرح:

قوله: «بَاب نَصْرِ الْمَظْلُومِ» . هذه الترجمة معقودة لنصرة المظلوم، وهو حق من حقوق المسلم على أخيه.

2445 في الحديث ذكر أن النبي ﷺ أمرهم بسبعة أمور ونهاهم عن سبعة فذكر المأمورات فقال: «عِيَادَةَ الْمَرِيضِ» ، وهي مستحبة وفيها أجر عظيم وفضل كبير، لما فيها من مواساة أخيه وجبر خاطره، ومشاركة أهله في آلامهم وآمالهم، وقد يحتاج المريض إلى من يوصيه على أولاده، ولهذا جاء في الحديث فضل عظيم لزيارة المريض فقال ﷺ: مَنْ عَادَ مَرِيضًا، لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ [(495)] وجاء في الحديث الآخر: من عاد مريضًا في الصباح صلى عليه كذا من الملائكة من الآلاف، ومن زاره في المساء فكذلك» [(496)].

قوله: «وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ» ، وفيه: فضل عظيم؛ لقول النبي ﷺ: من اتبع جنازة حتى تدفن فله قيراطان[(497)].

قوله: «وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ» أي: إذا حمد العاطس الله نقول له: يرحمك الله، وذهب بعض العلماء إلى أن تشميت العاطس واجب، ومن ذلك ما روي أن أبا داود صاحب «السنن» سمع عاطسًا وهو على ساحل البحر فركب قاربًا حتى وصل إليه وشمته.

قوله: «وَرَدَّ السَّلاَمِ» وابتداء السلام سنة ورده واجب؛ قال الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النِّسَاء: 86].

قوله: «وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ» . هذا هو الشاهد فيجب نصر المظلوم حتى يأخذ حقه.

قوله: «وَإِجَابَةَ الدَّاعِي» ، أي: إذا دعا الإنسان أخاه فيجب أن يجيب دعوته؛ لأن هذا فيه جبر لخاطره وزيادة الألفة والمحبة، وقد خصَّ بعض العلماء ذلك بدعوة العرس، والصواب أنه عام، لكن إذا كان الإنسان مشغولاً أو يشق عليه فإنه يعتدز لأخيه.

قوله: «وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ» إذا حلف المسلم على أخيه المسلم وجب عليه أن يبر قسمه، إلا إذا كان هناك مانع أو كانت عليه مشقة؛ حتى لا يحوجه إلى أن يكفر عن يمينه.

2446 قوله: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، أي: المسلمون في ترابطهم وتعاونهم كالبنيان يشد بعضهم بعضًا، ومن ترابطهم وشد بعضهم بعضًا نصر المظلوم، وكذلك الصفات السابقة من اتباع الجنائز، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم؛ فكل هذه الصفات تدل على أن المؤمنين كالجسد الواحد.

المتن:

باب الاِنْتِصَارِ مِنْ الظَّالِمِ

لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النِّسَاء: 148] وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشّورى: 39]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا.

الشرح:

قوله: «بَاب الاِنْتِصَارِ مِنْ الظَّالِمِ» هذه الترجمة عقدها البخاري رحمه الله لبيان جواز انتصار المظلوم من الظالم، وأن له أن يأخذ بحقه، لكن إذا عفا فهو أفضل كما قال الله : فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشّورى: 40] واستشهد بقول الله تعالى: لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ [النِّسَاء: 148]. ومثال الجهر بالسوء لمن ظلم أن يقول مثلاً عند الحاكم: فلان ظلمني، فلان جحد حقي فهذا من الجهر بالسوء وهو مباح للمظلوم حتى يطالب بحقه لكن لو لم يكن ذلك الشخص ظالمًا فليس له أن يقول ذلك، فالمظلوم مستثنى من عموم الآية فله أن ينتصر ممن ظلمه وأن يطالب بحقه ولو تكلم بعرضه، ولكن لا يجوز له أن يزيد على ذلك.

واستشهد أيضًا بقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشّورى: 39] فهذه الآية فيها بيان أن من بغي عليه له أن ينتصر ممن ظلمه، لكن لا يتجاوز الحد، فمثلاً إذا دعا عليه شخص، وقال: لعنك الله، فله أن يقتص ويدعو ويقول: بل لعنك الله أنت ولا يزيد فلا يقول: لعنك الله وأخزاك أو يدعو على والديه فهذا عدوان فالسبة بسبة واحدة. وإذا قال: قبحك الله فله أن يقتص فيقول: قبحك الله أنت فهذا الانتصار، أما إذا قال قبحك الله قبحك الله قبحك الله ثلاث مرات أو قال قبحك الله وأخزاك فهذا عدوان وزيادة على حقه فلا يجوز.

كذلك إذا اعتدى إنسان عليه فقطع يده فله أن يقتص منه ويقطع يده ولا يزيد فيقطع يده ورجله فهذا عدوان، وإذا عفا فهو أفضل كما قال الله : فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشّورى: 40].

فأحوال المظلوم ثلاثة:

الحال الأولى: إذا عفا عمن ظلمه ولم ينتصر لنفسه ولم يقتص ولم يأخذ بحقه فهذا فضل منه وله الأجر والثواب من الله.

الحال الثانية: إذا أخذ بحقه فله ذلك وهو قصاص وعدل.

الحال الثالثة: إذا زاد على حقه فهذا عدوان وظلم.

وقوله: «قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا» . يعني: يكرهون أن يعتدى عليهم بدون حق، فإذا قدروا على من ظلمهم، وقدروا على الانتصار منه والأخذ بحقهم عفوا عنه، فالعفو مع القدرة مرغب فيه.

المتن:

باب عَفْوِ الْمَظْلُومِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النِّسَاء: 149] وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ۝ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ۝ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشّورى: 40-44].

الشرح:

هذه الآيات فيها بيان أن العفو عن الظلم أفضل وأنه إذا أخذ بحقه فلا بأس به وأن العدوان ظلم والظلم مرتعه وخيم؛ ولهذا استدل بقول الله تعالى: « وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النّحل: 126]. فالآيات فيها دليل على أن العفو عن السوء أفضل إذا كان العفو في محله، بأن كان المعفو عنه يرتدع عن الشر، فإن كان العفو يزيده شرًّا فالأفضل عدم العفو، « وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشّورى: 41]» فبعض الناس قد تزل به القدم وليس له سوابق، فهذا العفو أفضل في حقه، لحديث: أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ [(498)] حتى ولو أصاب حدًّا فلا مانع من أن أهل الحي يؤدبونه ويزجرونه، إما بالتوبيخ، أو بالضرب، فيما بينهم ولا يرفع إلى المحكمة؛ لأنه إذا رفع إلى المحكمة أقيم عليه الحد.

وبعض الناس معروف بالجرأة على الفواحش والمحرمات، فالعفو يزيده شرًّا، فهذا الأولى ألا يعفى عنه، بل يؤخذ ويقام عليه الحد؛ لأن العفو عنه يجرئه على الفواحش.

المتن:

باب الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

2447 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونُ أَخْبَرَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

الشرح:

ترجم المؤلف بلفظ الحديث: الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والظلم ـ كما سبق ـ يشمل ثلاثة أنواع:

فأعظمها الشرك فالمشرك له الظلمات الثلاث: ظلمات في قبره، وظلمات في المحشر، وظلمات في النار ـ نعوذ بالله ـ.

والظالم للناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم له نصيب من الظلم ويكون هذا الظلم عليه ظلمات حتى يقتص منه وتؤخذ الحقوق منه كما في الحديث: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: المفلس من يأتي بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وسفك دم هذا وأخذ مال، هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم طرح في النار [(499)] ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ.

وكذلك الظالم لنفسه فيما بينه وبين الله يكون ظلمه ظلمات عليه إن ارتكب الكبائر إلا إن عفا الله عنه.

2447 يستفاد من الحديث حرمة الظلم بأنواعه الثلاث، وأنه ظلمات على صاحبه يوم القيامة.

المتن:

باب الاِتِّقَاءِ وَالْحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ

2448 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَكِّيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.

الشرح:

2448 هذا الحديث: دليل للترجمة وهو أنه يجب على الإنسان أن يتقي ويحذر دعوة المظلوم؛ فإن دعوته مستجابة؛ ولهذا لما بعث النبي ﷺ معاذًا إلى اليمن قاضيًا ومعلمًا وداعيًا حذره من الظلم، وأمره بأن يدعو الناس إلى التوحيد أولاً، فإن استجابوا دعاهم إلى الصلاة وإقامتها، فإن استجابوا دعاهم إلى الزكاة فقال: فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم [(500)] ثم قال: وإياك وكرائم أموالهم [(501)] والكرائم جمع كريمة، والكريمة هي النفيسة من الإبل أو البقر أو الغنم، يعني: خذ الزكاة من الإبل والبقر والغنم من أوسط المال، لا من شراره ولا من خياره؛ فلا تأخذ السمينة أو ذات اللبن أو ذات الولد، كما لا تأخذ التيس أو الهزيلة وإنما يأخذ من وسط المال؛ لأنه إذا أخذ من شراره فهذا فيه إجحاف للفقير، وإذا أخذ من خياره فهذا فيه ظلم لصاحب المال وربما دعا عليه، ولهذا قال: اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، يعني: احذر أن تظلم أصحاب الأموال فتأخذ النفيس من أموالهم فيدعون عليك؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة ليس بينها وبين الله حجاب اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ؛ وفي لفظ آخر: فإن دعوة المظلوم مستجابة [(502)] حتى ولو كان المظلوم كافرًا؛ لأن الظلم شأنه عظيم؛ ولهذا يقول العلماء: إن الدولة التي فيه عدل ولو كانت كافرة يبقيها الله، والدولة الظالمة ولو كانت مسلمة يهلكها الله؛ لأن الظلم سبب في العقوبة العاجلة؛ لهذا حذر النبي ﷺ معاذًا منه، وهو تحذير للأمة كلها، وتشريع عام ليس خاصًّا بمعاذ.

المتن:

باب مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ

2449 حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَِخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْمَقْبُرِيَّ لأَِنَّهُ كَانَ نَزَلَ نَاحِيَةَ الْمَقَابِرِ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَسَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ هُوَ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ وَاسْمُ أَبِي سَعِيدٍ كَيْسَانُ.

الشرح:

قوله: «بَاب مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ» . هذه الترجمة فيها أن من كان له مظلمة عند أخيه فتحللها منه، هل يبين المظلمة أو لا يبينها، ويكفي أنه يبرئه ويحلله ولو لم يعلم المظلمة؟ وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم، وهي صحة الإبراء عن المجهول، فإذا كان الإنسان له حق أو دين يجهله على شخص، فهل يصح أن يبرئه عنه ولو كان مجهولاً أم لابد أن يُبيَّن ثم يبرئه؟

2449 قوله: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَِخِيهِ. مظلِمة بكسر اللام على المشهور وروي فتحها.

وقوله: مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، من عطف الخاص على العام، يعني: من مال أو بدن.

وقوله: فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ. يشمل ذلك ظلم الأب لابنه، فإنه يتحلله كغيره من الناس.

ولكن هل يشترط أن يبين المظلمة فيقول: حقك عندي كذا وكذا فسامحني فيه أو يكفي أن يقول: لك حق عندي فسامحني فيه ولو لم يبينه؟

اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: لابد أن يبين حد المظلمة، ومنهم من قال: يصح الإبراء عن مجهول، وكأن البخاري رحمه الله يميل إلى أن إطلاق الحديث يقوي قول من ذهب إلى صحة الإبراء من مجهول، ويؤيد ذلك قوله رحمه الله في الترجمة الآتية: «إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ» ، فكأنه يميل إلى الجواز.

والمراد بقوله: مِنْهُ الْيَوْمَ يعني: في دار الدنيا قبل الموت.

قوله: قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، وهو يوم القيامة حيث يكون القصاص بالحسنات والسيئات، أما في الدنيا فالقصاص في البدن والعوض من المال.

المتن:

باب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلاَ رُجُوعَ فِيهِ

2450 حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي هَذِهِ الآْيَةِ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا قَالَتْ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِي ذَلِكَ.

الشرح:

قوله: «بَاب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلاَ رُجُوعَ فِيهِ» . هذه الترجمة في بيان ما إذا حلله من ظلمه الماضي أو المستقبل، فهل يرجع أو لا يرجع؟

2450 هذا الحديث جاء في المرأة التي تكون عند زوجها فتخشى أن يطلقها وهي تريد أن تبقى مع أولادها فتقول له: لا تطلقني، وأنت في حل من النفقة، فلا تنفق علي فأنا عندي من ينفق علي، أو تقول: لا أريد القسم فهذا لا يكون ظلمًا في هذه الحالة كما فعلت سودة بنت زمعة زوج النبي ﷺ لما كبرت سنها وخشيت أن يطلقها النبي ﷺ قالت له: يا رسول الله أبقني معك وليلتي لعائشة؛ فكان النبي ﷺ يقسم لعائشة ليلتين ولباقي نسائه ليلة واحدة، وهذا معنى قول عائشة في تأويل الآية قالت: «الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلّ» يعني: وأبقني عندك.

والشيء الذي مضى لا خلاف أنه لا رجوع فيه إذا حُلل، فإذا قالت: أنا أحللك من النفقة والكسوة فيما مضى فلا رجوع لها، لكن هل لها الرجوع فيما يستقبل فإذا قالت: أحللتك من نفقتي وكسوتي وقسمي، وبعد مضي سنتين أو ثلاثة قالت: أريد نفقة وكسوة وقسم فهل لها الرجوع؟ فيه خلاف والراجح أن لها الرجوع في المستقبل إذا شاءت.

والكرماني تأول الآية والحديث على الخلع؛ لأن المرأة تسقط حقها من النفقة والكسوة في مقابل خلعها.

والأقرب أن هذا في المرأة تسقط حقها من النفقة والكسوة مطلقًا، ولهذا ترجم المؤلف: «بَاب إِذَا حَلَّلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فَلاَ رُجُوعَ فِيهِ» ، يعني: فيما مضى؛ أما فيما يستقبل فالأرجح أن له الرجوع.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد