تابع:
2468 في الحديث: قصة هجر النبي ﷺ نساءه والشاهد منها هو كون النبي ﷺ اعتزل في غرفة مشرفة.
والمؤلف رحمه الله ساق القصة بطولها، وعادته أن يأتي بالشاهد كما في الأحاديث الأخرى كأن يقول مثلاً: اعتزل النبي ﷺ نساءه في غرفة مشرفة، لكنه في بعض الأحيان يسوق القصة بطولها، على خلاف عادته رحمه الله.
وفي هذه القصة فضل ابن عباس رضي الله عنهما وحرصه على العلم وأخذه من مصدره، وهو عمر وكان بإمكان ابن عباس أن يسأل عائشة؛ لكنه أراد أن يسأل عمر؛ لأن عمر له عناية بهذه القصة؛ حيث إنه راجع النبي ﷺ فيها؛ لهذا قال ابن عباس: «لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ المَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التّحْريم: 4]» وجاء في اللفظ الآخر: «أن ابن عباس رضي الله عنهما جلس سنة» يريد أن يسأله ولم يتمكن من مهابته، قال: «فَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالإِْدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ حَتَّى جَاءَ، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الإِْدَاوَةِ فَتَوَضَّأَ» ، ثم وجد الفرصة سانحة الآن، لما صار وحده وصار يصب عليه الماء ـ وفي اللفظ الآخر أنه قال: «يا أمير المؤمنين جلست سنة، من الهيبة أريد أن أسألك» ، قال: «لا تفعل، ما كان عندي من علم أخبرتك به» [(523)] ـ فلما صب عليه الماء قال: «يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَنِ المَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التّحْريم: 4]، فَقَالَ: وَاعَجَبِي لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ» ؛ لأنهما اجتمعا عليه في الغيرة.
والحديث فيه: فضل عمر وفيه الحرص على طلب العلم حيث كان عمر وجار له من الأنصار، يسكنون في العوالي بعيدًا عن مسجد النبي ﷺ ولا يستطيع النزول يوميًّا، فكانوا يتناوبون، ينزل عمر يومًا وينزل الأنصاري يومًا، فإذا نزل عمر أتى جاره الأنصاري بالفائدة والخبر من الوحي الذي أنزل على النبي ﷺ، واليوم الثاني ينزل الأنصاري ويبقى عمر فيأتي له بالفائدة والخبر.
قوله: «إِنِّي كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ» . «وَجَارٌ» بالرفع معطوف على الضمير المتصل. في قوله: «كُنْتُ» وهو جائز عند الكوفيين وهو ممنوع عند البصريين؛ فهم يقولون: لا يعطف إلا إذا كان الضمير منفصلاً فيقال: «كنت أنا وجار لي» ، فعطف على «أنا» ، فهذا شاهد لمذهب الكوفيين، وورد في الرواية الأخرى: «كنت أنا وجار لي» [(524)].
وفي الحديث: بيان أن قريشًا تختلف عن الأنصار، فقريش كانوا يغلبون النساء، والنساء لا تتكلم ولا تتدخل في أمورهم، فالرجل هو المسيطر على المرأة، أما الأنصار فبالعكس فكانت النساء تسيطر على الرجال، يقول عمر : «وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ» أي: صارت نساء قريش تتعلم من نساء الأنصار، وصارت تعارض الزوج، فكانوا يستنكرون أن المرأة تتدخل في شئونه أو تعارضه، يقول عمر: «فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي» ، على عادتهم في ذلك «فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ» ، وفي اللفظ الآخر: «عجبًا لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تُراجع أنت؟!» [(525)] «فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ» ، أي: تقول زوجة عمر: أنت لا تريد أن أراجعك، والرسول ﷺ تراجعه أزواجه، والواحدة تهجره إلى الليل ما تكلمه، قال عمر: «فَأَفْزَعَنِي» ذلك؛ لأن حفصة ابنته زوجة النبي ﷺ، قال: «فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ» ، يعني: تراجع الرسول ﷺ وتهجره؟! خابت وخسرت التي تفعل هذا.
قال: «ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ» ، يعني: ابنته وفيه دليل على للإنسان أن يلبس ثيابًا خفيفة في البيت لكنه إذا خرج يلبس ثيابًا للخروج ومقابلة الناس، فدخل على حفصة فقال: «أَيْ حَفْصَةُ» ، أي: حرف نداء، يعني: يا حفصة «أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ» وفيه: بيان ما كانت تفعله أزواج النبي ﷺ معه مع إيمانهن العظيم، «فقلت» ، يعني: عمر: «خَابَتْ وَخَسِرَتْ أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ ﷺ، فَتَهْلِكِينَ لاَ تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ» ينصح ابنته حفصة: إذا أشكل عليك شيء فسليني، وإذا كان عندك نقص في شيء فلا تستكثري من رسول الله ولا تراجعيه ولا تهجريه، «وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ» يعني: عائشة «هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» ، يعني: عائشة أجمل وأحب إلى رسول الله منك، فلا تنظري إليها، إنما مكانتك غير مكانتها، فعائشة يتسامح عنها الرسول؛ لأنه يحبها أكثر منك، أما أنت فلا تستكثري ولا تقتدي بعائشة في كونها تهجر النبي ﷺ.
وفيه: أنه ينبغي الصبر على الزوجة؛ فالنبي ﷺ كانت نساؤه يغاضبنه ويهجرنه إلى الليل مع عظيم منزلته وجلالة قدره، ومع أنهن أفضل الزوجات، ومع ذلك كان يصبر فكان ﷺ أسوة لغيره؛ لأن هذه طبيعة النساء، وهذا يجعل الإنسان يوطن نفسه أنه لن يجد امرأة كاملة كما ثبت في الحديث: إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا، كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا [(526)] فلابد من الصبر والتحمل؛ لأن المرأة مخلوقة من ضلع أعوج، فإذا كان الخصام بينك وبينها في أمر دنيوي لا يخل بالدين ولا يخل بالخلق، وهي امرأة دينة عفيفة متسترة، فهذا يُتحمل ولا يَضر ولا يمكن أن يجد الإنسان امرأة كاملة، وكذلك الصديق والصاحب لابد أن يغلط فإذا لم يتحمل الإنسان أصدقاءه ما بقي له صديق.
والحديث فيه: أن الصحابة كانوا في ذلك الوقت يتحدثون أن غسان تَنْعَل النعال لغزوهم، وغسان كانت تابعة لدولة الروم في الشام.
قوله: «فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَرَجَعَ عِشَاءً» ، أي: رجع في الليل، قال عمر: «فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَنَائِمٌ هُوَ؟» ، وفي رواية: «أَثَم هو» [(527)] وثم: اسم ظرف للمكان، يعني: هل هو موجود في البيت؟ قال: «فَفَزِعْتُ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ» أي: خرج عمر إلى الأنصاري، فقال له الأنصاري: «حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ» قال عمر: «مَا هُوَ؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟» ، يعني: جاءت غسان لغزونا؟ لأنها كانت تنعل النعال لغزو المدينة «قَالَ: لاَ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَطْوَلُ» قال: ما هو؟ «طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نِسَاءَهُ» ، قال عمر: «قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ» ؛ لأني حذرتها من ذلك «كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ» ، أي: يقرب أن يكون، قال: «فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَدَخَلَ مَشْرُبَةً لَهُ» . هذا هو الشاهد من القصة كلها والمشربة هي المكان المرتفع، فالمؤلف رحمه الله ذكر القصة كلها لبيان جواز الجلوس في الغرفة المشرفة المرتفعة، وأنه لا حرج من الجلوس فيها إذا لم يكن هناك ضرر على الناس ولم يطلع على أحد.
واعتزل الرسول ﷺ نساءه، وآلى منهن شهرًا؛ لأنهن اجتمعن عليه في النفقة، يقول عمر: «فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، قُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ، أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَتْ: لاَ أَدْرِي هُوَ ذَا فِي المَشْرُبَةِ» وهذا هو الشاهد قال: «فَجِئْتُ المَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ» كأن هذا الغلام الأسود بواب عند باب الغرفة حتى لا يأتي أحد إلا بإذن.
وفيه: أن عمر هنا استأذن ثلاث مرات من الغلام الأسود؛ لأنه لا بأس من الإلحاح في الاستئذان على الرؤساء إذا كان لمصلحة، وعمر يرى أن في دخوله مصلحة الآن، ولا يستطيع الصبر، فهو يريد أن يستبين الأمر، هل طلق الرسول نساءه؟ وهل يمكن إرجاعهن؟ وفيه اهتمام عمر والمسلمين بحال النبي ﷺ وبزوجاته، فأذن له في المرة الثالثة، فلما دخل على النبي ﷺ: «فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ» فهذا بيت النبي ﷺ ليس فيه سوى حصير من خوص يجلس عليه وقد أثر في جسده، وهو «مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ» ، أي: من جلد حشوها ليف، فسلم عمر عليه.
وفيه: مشروعية السلام للدخول، ثم قال عمر وهو قائم: «طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ» على حذف حرف الاستفهام، والتقدير: أطلقت نساءك؟ «فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: لاَ، وفي اللفظ الآخر أن عمر كبر فقال: «الله أكبر، الله أكبر» [(528)]، لأن هذا مهم عنده، ثم قال عمر: «أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» يعني: يستأذن النبي ﷺ هل ينبسط في الكلام ويجلس، أو أن النبي ﷺ لا يريده، فقد يكون مشغولاً أو ليس عنده استعداد للجلوس والكلام معه، فأذن له النبي ﷺ وفي رواية «قال: نعم [(529)].
والحديث فيه: فضل عمر إذ أراد أن يزيل الهم عن النبي ﷺ ويزيل ما في نفسه من التعب، فقال عمر: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ» ، يعني: الأنصار، «تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَذَكَرَهُ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ ﷺ» ثم قال مرة أخرى: «لَوْ رَأَيْتَنِي، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ ـ يُرِيدُ عَائِشَةَ ـ، فَتَبَسَّمَ أُخْرَى» فجلس عمر حين رأى النبي ﷺ تبسم.
وفيه: أن عمر لما دخل الغرفة التي فيها النبي ﷺ ما رأى فيها شيئًا يقول: «مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ البَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ» ، أي: ثلاثة جلود «فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ» يعني: يا رسول الله، أنت أشرف الخلق، أفيكون هذا مكانك؟! «فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ» ، يعني: يعبدون الأوثان، فكان النبي ﷺ متكئًا فجلس، وقال: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ أُولَئِكَ، أي: كفار فارس والروم قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ونحن أخرت لنا طيباتنا، فعند ذلك قال عمر: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي» ، يعني: إني أخطأت.
وسبب اعتزال النبي ﷺ أزواجه شهرًا أن النبي ﷺ أسر إلى حفصة حديثًًا ثم أفشته إلى عائشة، كما قال الله تعالى في سورة التحريم: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التّحْريم: 3]. فالنبي ﷺ لما أفشت حفصة الحديث إلى عائشة هجرهن وآلى وحلف ألا يدخل عليهن شهرًا.
قوله: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ» أي: من شدة غضبه عليهن، حين عاتبه الله بقوله: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التّحْريم: 1-2].
قوله: «فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ» لأن المدة التي حلف عليها انتهت «فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: عَائِشَةُ إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّا أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا» ، يعني: أنت حلفت شهرًا، وأنت الآن ما أكملت الشهر، وقوله: «أَعُدُّهَا عَدًّا» ، أي: بأصابعي، وهذا يدل على أنه حصل لهن شدة من فراقهن للنبي ﷺ، فكانت تترقب انتهاء المدة وتعد الأيام متى تنتهي.
قوله: «فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين، وهذا فيه دليل على أن الإنسان إذا حلف ألا يفعل شيئًا شهرًا، وكان بدأ ذلك من أول الشهر فإنه يكون على حسب الشهر، فإن كان الشهر ثلاثين يجلس ثلاثين وإن كان الشهر تسعًا وعشرين يجلس تسعًا وعشرين، ومثله المرأة إذا بدأت عدتها من أول الشهر، فيكون ذلك على حسب الشهر، إن كان الشهر ثلاثين تحسبه ثلاثين وإن كان الشهر تسعة وعشرين تحسبه تسعة وعشرين على حسب الرؤية، وليس على حسب التقويم، وكذلك إجار البيوت وغيرها على حسب الأشهر تمامها ونقصها، أما إذا بدأ من منتصف الشهر أو في أثناء الشهر فإنه يكمل الشهر ثلاثين.
قوله: «وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ» ، يعني: رؤي الهلال بعد تسع وعشرين؛ فلهذا دخل النبي ﷺ عليهن بعد تسع وعشرين.
قوله: «قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَتْ: آيَةُ التَّخْيِيرِ» ، أي: خيَّر النبي ﷺ أزواجه بين البقاء معه ﷺ والصبر معه، على ضيق العيش أو تختار الفراق؛ لأنهن طلبن من النبي ﷺ النفقة واجتمعن عليه فأنزل الله قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزَاب: 28-29] فهذه آية التخيير، قالت عائشة: «فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ» ، أي: أول امرأة بدأ بها في التخيير عائشة، فقال ﷺ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، وَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، أي: لا تعجلي بالجواب، لا بالمنع ولا بالقبول حتى تستأمري وتشاوري أباك وأمك، قالت: «قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِكَ» ، يعني: هذا شيء مفروغ منه، فلا يمكن لأبي بكر وأمها أن يأمراها بفراق النبي ﷺ.
قوله: «ثُمَّ قَالَ:» يعني: الرسول ﷺ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزَاب: 28- 29]» الآيات، فقالت عائشة بفقه وقوة إيمان: «أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ.» أي: هذا ما يحتاج إلى مشاورة، لا يمكن أن أشاور في هذا الأمر، هذا أمر محسوم معروف، كيف أشاور أبوي في فراق الرسول ﷺ؟! وقالت: إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قال: «ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ» ، فكل امرأة قالت مثل عائشة: إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
2469 قوله: «ابْنُ سَلاَمٍ» بالتخفيف.
وقوله: «آلَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا» . آلى بمعنى: حلف، أي: حلف النبي ﷺ ألا يدخل على نسائه شهرًا، «وَكَانَتْ انْفَكَّتْ قَدَمُهُ فَجَلَسَ فِي عُلِّيَّةٍ لَهُ» . هذا هو الشاهد للترجمة، و «عُلِّيَّةٍ» ، أي: مشرفة مرتفعة عالية.
فلا بأس بالجلوس في المشرفة العالية إذا لم يكن يطلع على عورات الناس.
المتن:
باب مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى الْبَلاَطِ أَوْ بَابِ الْمَسْجِدِ
2470 حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ، وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ، فَقُلْتُ: هَذَا جَمَلُكَ؛ فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ، قَالَ: الثَّمَنُ وَالْجَمَلُ لَكَ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ عَلَى الْبَلاَطِ أَوْ بَابِ الْمَسْجِدِ» يستفاد من هذه الترجمة جواز ذلك إذا لم يحصل به ضرر.
2470 قوله: «حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ» هو: مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وليس مسلم بن الحجاج؛ لأن مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح تلميذ للبخاري، وهذا مسلم بن إبراهيم الفراهيدي من شيوخ البخاري.
ساق المصنف رحمه الله حديث جابر في شراء النبي ﷺ منه الجمل مختصرًا هنا وساقه في مواضع أخرى مطولاً.
قال جابر : « دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَسْجِدَ» ، أي: حينما اشترى منه الجمل واشترط حملانه إلى المدينة «فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ، وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ، فَقُلْتُ: هَذَا جَمَلُكَ» ، أي: هذا جملك يا رسول الله الذي اشتريته. «فَخَرَجَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْجَمَلِ، قَالَ: الثَّمَنُ وَالْجَمَلُ لَكَ، أي: أعطاه النبي ﷺ الجمل والثمن، وأمر بلالاً فوزن له وأرجح[(530)].
فالرسول ﷺ ليس بحاجة إلى الجمل، ولكن يريد أن يعلم أمته البيع والمماكسة؛ لأن النبي ﷺ قال في لفظ آخر: بِعْنِيهِ بِوَقِيَّةٍ، قلت: لا، قال: بِعْنِيهِ، فبعته بوقية[(531)] ثم اشترط حملانه إلى المدينة، ثم لما جاء أعطاه القيمة كاملة ووزن له وأرجح وأعطاه زيادة، ثم لما قضاه وذهب قال: أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ [(532)].
وفيه: جواز بيع الرئيس والزعيم، وأنه لا بأس بتولي الإنسان شراء حوائج بيته وأهله، ولو كان رئيسًا أو أميرًا أو عالمًا أو داعية، ولا ينقص ذلك من قدره.
والشاهد قوله: «وَعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي نَاحِيَةِ الْبَلاَطِ» ، ففيه: جواز عقل البعير أو الدابة عند باب المسجد، وكذلك إيقاف السيارة، إذا لم يكن فيه مضرة على أحد ولا إيذاء للداخلين للمسجد، وأنه ليس من الظلم؛ أما إذا كان يؤذي أو يضيق الطريق فلا.
المتن:
باب الْوُقُوفِ وَالْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ
2471 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، أَوْ قَالَ: لَقَدْ أَتَى النَّبِيُّ ﷺ سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا.
الشرح:
قوله: «بَاب الْوُقُوفِ وَالْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ» . والسُباطة والكناسة واحد وهي: الموضع الذي يرمى فيه التراب والأوساخ وما يكنس من المنازل، وقيل: هي الكناسة نفسها وإضافتها إلى القوم إضافة تخصيص لا ملك؛ لأنها كانت مواتًا مباحًا، والمؤلف عقد هذا الباب لجواز الوقوف والبول عند سباطة القوم، ولا يعتبر هذا من الظلم؛ لأن الزبالة والكناسة تكون في أماكن متسعة لا يملكها أحد.
2471 قوله: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، أَوْ قَالَ: لَقَدْ أَتَى النَّبِيُّ ﷺ سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا» . فيه: دليل على جواز البول قائمًا إذا كان المحل ساترًا وأمن من رؤية الناس لعورته.
وفي بعض ألفاظه: «أن النبي ﷺ أمر حذيفة بستره» [(533)].
وقال بعض العلماء: إن النبي ﷺ بال قائمًا ولم يجلس بسبب ألم في مأبضه ـ أي: ألم في باطن الركبة ـ وقال بعضهم: إنه بال قائمًا لما جُحِش، يعني: لما سقط عن الفرس وأصابه جرح، وقالت عائشة رضي الله عنها: «ما كان رسول الله ﷺ يبول إلا جالسًا» [(534)]، وهذا قالته عائشة على حسب علمها بحاله في البيوت، وحذيفة أخبر بما رآه في خارج البيوت، والصحيح أن النبي ﷺ بال قائمًا لبيان الجواز، لا لألم في بطن ركبته، ولا لشيء منعه، وقد خفي ذلك على عائشة رضي الله عنها، ولا شك أن البول جالسًا أفضل؛ لأن النبي ﷺ ما بال قائمًا إلا مرة لبيان الجواز، ولعل وقوف النبي ﷺ له سبب وهو أنه لو جلس لارتد إليه البول، أو أنه رأى أن المكان غير مناسب للجلوس، وستره حذيفة فهو آمن من رؤية الناس لعورته، فبال قائمًا، وهذا الحديث من أصح الأحاديث عن حذيفة، ورواه مسلم أيضًا.
وبعض العامة يستعظم البول قائمًا، فينكرون على من بال قائما، ويقولون: انظر إليه يبول كالشيطان قائمًا.
المتن:
باب مَنْ أَخَذَ الْغُصْنَ وَمَا يُؤْذِي النَّاسَ فِي الطَّرِيقِ فَرَمَى بِهِ
2472 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ؛ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ؛ فَغَفَرَ لَهُ.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ أَخَذَ الْغُصْنَ وَمَا يُؤْذِي النَّاسَ فِي الطَّرِيقِ فَرَمَى بِهِ» هذه الترجمة فيها بيان أن أخذ غصن الشجرة وما يؤذي الناس من الشوك والزجاج وإبعاده عن الطريق مأمور به، وهو من الإحسان، ومن الإيمان؛ لأن إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان.
2472 قوله: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ؛ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ؛ فَغَفَرَ لَهُ. فيه: دليل على أن إزالة ما يؤذي الناس من الطرق من أسباب المغفرة، وهو من الإيمان.
المتن:
باب إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ وَهِيَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فَتُرِكَ مِنْهَا الطَّرِيقُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ
2473 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ خِرِّيتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ ﷺ إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ.
الشرح:
قوله: «بَاب إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ وَهِيَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فَتُرِكَ مِنْهَا الطَّرِيقُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ.» . هذه الترجمة في بيان الطريق الذي في الرحبة ـ يعني: في الأرض الواسعة ـ فإذا أرادوا أن يبنوا في هذه الأرض، فتشاجروا في كم يجعلوا طريقًا؟ فعليهم حينئذٍ أن يجعلوا للطريق سبعة أذرع.
2473 قوله: «قَضَى النَّبِيُّ ﷺ إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ» يعني: إذا تشاجروا يجعل سبعة أذرع للطريق، والحكمة في جعله سبعة أذرع؛ لأنها مسافة كافية لتسلكها الأحمال والأثقال خروجًا وقفولاً، وسبعة أذرع كانت كافية في الزمن السابق قبل أن توجد السيارات، أما الآن فإنه يجعل من الطريق ما يسع الناس؛ لأن العلة معروفة، فنجد الآن الشارع يكون ثلاثين مترًا أو أربعين مترًا أو خمسين مترًا لتسلكه السيارات والدواب والمارة، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأحوال، فولي الأمر له أن يجتهد في جعل الطريق كافية للناس.
والشاهد: أن هذا القدر للطريق ليس من الظلم؛ لأن الناس يحتاجون إليه.
المتن:
باب النُّهْبَى بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ
وَقَالَ عُبَادَةُ: بَايَعْنَا النَّبِيَّ ﷺ أَنْ لاَ نَنْتَهِبَ.
2474 حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الأَْنْصَارِيَّ وَهُوَ جَدُّهُ أَبُو أُمِّهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ.
2475 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
وَعَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ إِلاَّ النُّهْبَةَ.
الشرح:
قوله: «بَاب النُّهْبَى بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ» . هذه الترجمة معقودة للنهبى بغير إذن صاحبه، والنهبى ـ بضم النون ـ فُعلى من النهب، وهو أخذ الشيء جهارًا، يقال: نهب مال غيره إذا أخذه بقوة، بخلاف السرقة، فإنها أخذ المال خفية، فالنهبى من الظلم وهذا هو مناسبتها لكتاب المظالم.
قوله: «وَقَالَ عُبَادَةُ: بَايَعْنَا النَّبِيَّ ﷺ أَنْ لاَ نَنْتَهِبَ» .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هذا طرف من حديث وصله المؤلف في «وفود الأنصار» . وقد تقدمت الإشارة إليه في أوائل «كتاب الإيمان» . وكان من شأن الجاهلية انتهاب ما يحصل لهم من الغارات، فوقعت البيعة على الزجر عن ذلك» اهـ.
2474 قوله: « نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ» ، النهبى: أخذ المال جهارًا بدون إذن صاحبه، والمثلة: التمثيل بالقتيل، كقطع أنفه أو أذنه.
2475 في الحديث: بيان أن السرقة والزنا وشرب الخمر والنهبى من الكبائر وأنها تنافي الإيمان الواجب، وأن الإنسان حين يفعل هذه الكبائر ينزع منه الإيمان الواجب ويبقى معه أصل الإيمان، وقد تعلق بهذا الحديث الخوارج والمعتزلة وقالوا: بخروج مرتكب الكبيرة من الإيمان، فتعلقوا بقوله: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» ؛ وقالوا: إنه كافر؛ لأنه نزع منه الإيمان فدل على كفره، فيكفر ويخلد في النار، وهذا من جهل الخوارج والمعتزلة؛ لأنهم أخذوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد؛ فالنصوص الأخرى جاءت بإثبات الإيمان لمرتكب الكبيرة، فالقاتل مثلاً قال الله فيه: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ [البَقَرَة: 178]. والجمع بين النصوص هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة؛ فالنصوص التي فيها إثبات الإيمان تحمل على أصل الإيمان، فالذي معه أصل الإيمان مؤمن بالله وملائكته وكتبه... إلخ.
والنصوص التي فيها نفي الإيمان تحمل على نفي الإيمان الواجب أو الإيمان المستحب، فالزاني والسارق والشارب والناهب ليسوا كفارًا؛ ولكنهم ضعفاء الإيمان، فينفى عنهم الإيمان الواجب، الذي يحمل على فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، وإن كان معهم أصل الإيمان الذي يصح به إسلامهم.
جاء في بعض نسخ البخاري: قوله: «أبو عبدالله» هو البخاري رحمه الله.
وقوله: «تفسيره» يعني: تفسير نفي الإيمان في الحديث.
وقوله: «أن ينزع منه يريد الإيمان» ، يعني: الإيمان الواجب ينزع منه ويبقى معه أصل الإيمان، ولو كان الزاني والسارق كافرًا لوجب قتله ولا يرث أقاربه؛ لحديث: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ [(535)].
والسارق لا يقتل بل تقطع يده، والشارب يجلد.
المتن:
باب كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ
2476 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ.
الشرح:
قوله: «بَاب كَسْرِ الصَّلِيبِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ» هذه الترجمة معقودة لبيان جواز كسر الصليب وقتل الخنزير، وأنه ليس من الظلم؛ فلا يضمن صاحبه.
2476 قوله: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا يعني: حكمًا عدلاً، يحكم بشريعة النبي ﷺ، ويكون فردًا من أفراد الأمة المحمدية.
قوله: فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ الذي يعبده النصارى.
قوله: وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ الذي يأكلونه، وقتل الخنزير وكسر الصليب مبالغة في إغاظة النصارى، وإبطال ما هم عليه من الباطل.
وقوله: وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، أي: أنه لا يقبل من اليهود والنصارى إلا الإسلام أو السيف، وليس هذا تشريعًا من عيسى ولكنه شرع محمد ﷺ؛ فقد أخبرنا النبي ﷺ بانتهاء الجزية إذا نزل عيسى ، والآن اليهود والنصارى يخيرون بين واحدة من أمور ثلاثة: إما الإسلام أو الجزية أو السيف، فإذا نزل عيسى انتهت الجزية، ولا يكون لهم اختيار إلا بين أمرين: الإسلام أو السيف.
المتن:
باب هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ
وَأُتِيَ شُرَيْحٌ فِي طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ.
2477حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ: عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ؟ قَالُوا: عَلَى الْحُمُرِ الإِْنْسِيَّةِ قَالَ: اكْسِرُوهَا، وَأَهْرِقُوهَا قَالُوا: أَلاَ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ: اغْسِلُوا.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَانَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ: الْحُمُرِ الأَْنْسِيَّةِ بِنَصْبِ الأَْلِفِ وَالنُّونِ.
2478 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ الآْيَةَ.
2479 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ، فَكَانَتَا فِي الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لكسر الدنان التي فيها الخمر، قال المصنف رحمه الله: «بَاب هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ أَوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ فَإِنْ كَسَرَ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ» . الزقاق: أوعية الخمر إذا كانت من الجلد. والصليب هو معبود النصارى، والطنبور: آلة الملاهي، ومعنى الترجمة أن للمسلم أن يكسر الصنم أو الصليب أو آلة الملاهي إذا لم يترتب على ذلك مفسدة، أما إذا ترتب على ذلك مفسدة فلا، لكن إذا كان - مثلاً - أميرًا أو سلطانًا، أو من رجال الحسبة وله صلاحية ذلك فإنه يكسر الصنم ويكسر الصليب ويكسر آلة الملاهي أو ما لا ينتفع بخشبه ولا يضمن.
وذكر المؤلف رحمه الله أثرًا عن شريح فقال: «وَأُتِيَ شُرَيْحٌ فِي طُنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ» أي: أن شريحًا القاضي ارتفع إليه شخصان، فقال أحدهما: إنه رجل يعمل بالغناء، واشتكى الآخر بكسر طنبوره ـ أي: آلة الملاهي ـ فلم يقض شريح في ذلك بشيء ـ يعني: لم يضمنه ـ لأنه هدر؛ فآلة الملاهي ليس لها قيمة.
وهذه الترجمة وهذه الأحاديث استدل بها المؤلف على جواز التعزير بالمال، وأنه ليس من الظلم كسر الدنان التي فيها الخمر وتخريقها، وكسر آلات الملاهي؛ ومن الأدلة على التعزير بالمال أيضا قول النبي ﷺ في مانع الزكاة: إنا آخذوها وشطر ماله معها عزمة من عزمات ربنا [(536)] ومن الأدلة قوله ﷺ في حديث سلمة بن الأكوع: اكْسِرُوهَا، وَأَهْرِقُوهَا، وفي حديث ابن مسعود : «فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا» ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «فَهَتَكَهُ» أي: الستر، بمعنى شقه ونزعه، وهذا كله من التعزير بالمال، وعلى ذلك فللسلطان صلاحية تعزير الخبازين الذين يعملون الخبز في عيد النصارى، وذلك بأن يصادر هذا الخبز، فيعطى للفقراء أو يباع ويتصدق بثمنه على الفقراء.
2477 قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى نِيرَانًا تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ: عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ؟ قَالُوا: عَلَى الْحُمُرِ الإِْنْسِيَّةِ قَالَ: اكْسِرُوهَا، وَأَهْرِقُوهَا قَالُوا: أَلاَ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا قَالَ: اغْسِلُوا، فيه: دليل على أنه إذا أمكن الاستفادة منها تغسل، أما إذا لم يمكن غسلها ولا الاستفادة منها فإنها تكسر ولا حرج في ذلك.
قوله: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَانَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ: الْحُمُرِ الأَْنْسِيَّةِ» ، أي: يقرؤها لحنًا، والصواب الإِنْسِيَّة.
2478 قوله: «دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ وهذا دليل على أنه لا بأس بالتعزير بالمال وأن كسر الأصنام وآلة الملاهي ليس فيه ضمان.
2479 في الحديث: عائشة رضي الله عنها «اتَّخَذَتْ عَلَى سَهْوَةٍ لَهَا سِتْرًا فِيهِ تَمَاثِيلُ» ، والسَهْوة ـ بفتح السين وسكون الهاء: صُفَّة، وقيل: خزانة أو رف أو طاق جعلت عليه سترة.
قوله: «فَهَتَكَهُ النَّبِيُّ ﷺ» أي: شقه ونزعه.
قوله: «فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ، فَكَانَتَا فِي الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا» ، أي: شقته خِرقتين، خرقة على وسادة وخرقة على أخرى، وأزالت أثر التماثيل.
والشاهد: أن النبي ﷺ هتكه وشقه فدل على التعزير بالمال، ودل على أنه تكسر الدنان التي يُشْرَب فيها الخمر، وأيضا تكسر آلة الملاهي، ويشق الستر الذي فيه صورة، وذلك إن لم يترتب عليه مفسدة، فإن ترتب فلا يفعل جمعًا بينه وبين النصوص الأخرى.
المتن:
باب مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ
2480 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو الأَْسْوَدِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيد.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ» . هذه الترجمة معقودة لبيان أن الإنسان الذي يقاتل دون ماله فهو على حق وليس ذلك من الظلم، وهذه هي مناسبة الترجمة لكتاب المظالم، فإذا جاء رجل يريد أخذ مال شخص فقاتل هذا الشخص دون ماله فهو على حق وليس بظالم؛ ولهذا قال النبي ﷺ: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيد.
2480 قوله: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيد ، ذكر العلماء أخذًا من هذا الحديث أنه يجوز للمسلم مقاتلة من أخذ ماله بغير حق، سواءً كان مالاً قليلاً أو كثيرًا، فإن لم يندفع إلا بالقتل قتل، وبعض العلماء أوجبه، لكن الصواب الجواز، فإن أحب أن يدافع دون ماله فله ذلك، وإذا قُتل يكون شهيدا، وإن أحب ألا يدافع فلا حرج عليه، وجاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة: أن رجلا قال للنبي ﷺ: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فَلَا تُعْطِهِ. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: فَاقْتُلْهُ. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فَأَنْتَ شَهِيدٌ. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: فَهُوَ فِي النَّارِ [(537)] فالمؤلف رحمه الله أراد أن يبين أن للإنسان أن يدافع عن نفسه وماله ولا شيء عليه، فإذا جاء ظالم يعتدي على ماله أو على نفسه أو على أهله يدافع عنهم، فإن قُتل فهو شهيد، وإن قتل الظالم فلا قود عليه ولا دية.باب إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ
المتن:
2481 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا؛ فَكَسَرَتْ الْقَصْعَةَ؛ فَضَمَّهَا، وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ: كُلُوا، وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
قوله: «بَاب إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ» هذه الترجمة عقدها المؤلف لبيان أن من كسر قصعة أو شيئًا لغيره فإنه يضمن المثل إن أمكن، وإلا ضمن القيمة؛ لأنه ظالم، وهذه هي مناسبة الترجمة لكتاب المظالم.
2481 قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا؛ فَكَسَرَتْ الْقَصْعَةَ؛ فَضَمَّهَا، وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ: كُلُوا، وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ» في هذا الحديث أن إحدى أمهات المؤمنين ـ وهي زينب ـ أرسلت مع خادم لها بقصعة فيها طعام إلى النبي ﷺ، وكان النبي ﷺ عند عائشة، فلما رأت ذلك عائشة رضي الله عنهما غارت فضربت بيدها القصعة فكُسرت وانتثر الطعام، وما كان من النبي ﷺ إلا أن ضمها وجعل فيها الطعام ـ وما وبخها ولا سبها، وهذا من حسن خلقه ﷺ ـ ثم قال: كُلُوا، وَحَبَسَ الرَّسُولَ» يعني: الخادم، «وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ» يعني: ترك النبي ﷺ الإناء المكسور وأعطاه بدلا منه إناءً سليمًا، وفي اللفظ الآخر أن النبي ﷺ قال: طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ [(538)] ولعل النبي ﷺ ما عاتب عائشة؛ لأن الغيرة مما جبل عليه النساء.
وفيه: أن التي كسرت القصعة هي عائشة رضي الله عنهما وضمنت المثل؛ حيث دفعت إلى زينب قصعة مكان القصعة التي كسرتها، وإلى ضمان المثل ذهب الشافعي[(539)] والكوفيون، وقيل: يضمن القيمة مطلقا، وإلى هذا ذهب مالك[(540)]، وفي المسألة تفاصيل أخرى، والصواب أنه يضمن بالمثل إن كان له مثل، فإن لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة.
المتن:
باب إِذَا هَدَمَ حَائِطًا فَلْيَبْنِ مِثْلَهُ
2482 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ، فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي، ثُمَّ أَتَتْهُ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: لَأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ؟ فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ، فَأَنْزَلُوهُ، وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَالَ: الرَّاعِي؛ قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ! قَالَ: لاَ إِلاَّ مِنْ طِينٍ.
الشرح:
قوله: «بَاب إِذَا هَدَمَ حَائِطًا فَلْيَبْنِ مِثْلَهُ» . هذه الترجمة معقودة لبيان أن من هدم حائطًا لغيره فإنه يؤمر ويكلف ببناء حائط مثله من جنسه؛ لأنه ظالم، وهذا هو مناسبة الترجمة لكتاب المظالم.
2482 قوله: كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ يُصَلِّي؛ وجاء في اللفظ الآخر: يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ [(541)] وكان الراهب يجعل لنفسه صومعة منعزلة عن الناس في طرف البلد أو في الصحراء يتعبد فيها، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ، فَدَعَتْهُ، أي: جاءت لجريج أمّه فدعته، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا انشغالاً بالصلاة، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي، ثم اختار أن يصلي ولم يرد عليها، وهذا من جهله؛ ثُمَّ أَتَتْهُ مرة ثانية، فقال: أجيبها أو أصلي؟ فقدم الصلاة ولم يجبها، فغضبت ودعت عليه فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ يعني: الزانيات، فتقبل الله دعاءها.
وفيه: دليل على أن دعوة الوالد مستجابة، كَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: لَأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا فَتَعَرَّضَتْ لَهُ تريد أن تعرض نفسها عليه ليفعل الفاحشة، فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، وأقبل على صلاته، وما قدرت عليه، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، أي: فأتت راعي غنم، وأمكنته من نفسها عند صومعته، وفعل بها الفاحشة، وحملت منه فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فلما قيل لها: من أين هذا الغلام؟ قالت: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ؟، أي: ظلمته، فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ أي: أنهم تسرعوا وأخذوا بكلام الزانية ولم يتحققوا، فجاءوا وهدموا صومعته وأنزلوه، وفي اللفظ الآخر قال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي وجاءت بهذا الغلام [(542)].
قوله: فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى فيه: أن الوضوء كان مشروعًا في الأمم السابقة وكذلك الصلاة، ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ، وفي اللفظ الآخر: فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ [(543)]، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ فتكلم الغلام و قَالَ: الرَّاعِي، أي: قال: أبي الراعي، فعند ذلك عرفوا أنه مظلوم وأن هذه المرأة كاذبة، وهذه كرامة لهذا الراهب.
قوله: قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ!، يعني: أخطأنا في حقك، قَالَ: لاَ إِلاَّ مِنْ طِينٍ أي: ابنوها من طين.
فيه فوائد: أن دعوة الوالد مستجابة.
وفيه: أن الوالد إذا نادى ولده وهو يصلي نافلة وكان يعلم أن الوالد لا يغضب، وأنه يصبر على حاجته فإنه يُسَبّح، وإلا قطع صلاته وأجابه؛ لأن الوالد قد يكون مضطرًّا وقد يكون محتاجًا، وإجابة الوالد وبره فرض مقدم على صلاة النافلة، وكذلك إن كان في صلاة واحتاج إلى أن ينقذ معصومًا يقطع الصلاة ثم يعيدها، وإذا نادى الوالد ولده وكان في صلاة الفريضة فلا يقطع الصلاة، لكنه يُسَبّح؛ لأن هذا فرض وهذا فرض.
وفيه: كرامة الأولياء حيث تكلم الصبي ببراءة جريج.
وفيه: ظلم هؤلاء الذين كسروا صومعة جريج واتهموه بالزنا من دون تثبت.
وفيه: أن الوضوء والصلاة كانت مشروعة في شرع من قبلنا.
والشاهد من الحديث للترجمة: أن من هدم حائطًا بغير حق وجب عليه أن يبني مثله.
وقد جاء في تفسير سورة الأنفال، من حديث أبي سعيد بن المعلى أن النبي ﷺ دعاه وهو يصلي فلم يجبه، فقال له: « أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفَال: 24]؟» [(544)] فالرسول في حياته إذا نادى أحدًا يجب عليه أن يجيبه، وهو مستثنى من النهي عن الكلام في الصلاة ومستثنى من إبطالها.