المتن:
(49)كِتَاب الرَّهْنِ
باب الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البَقَرَة: 283]
2508 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ ﷺ دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ وَمَشَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا أَصْبَحَ لآِلِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِلاَّ صَاعٌ وَلاَ أَمْسَى، وَإِنَّهُمْ لَتِسْعَةُ أَبْيَاتٍ.
الشرح:
قوله: «كِتَاب الرَّهْنِ» . وقع في بعض النسخ: «كتاب الرهن في الحضر» ، وفي بعضها: «كتاب الرهن، باب الرهن في الحضر» .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والرَّهْن ـ بفتح الراء المهملة وسكون الهاء ـ في اللغة: الاحتباس، من قولهم: رُهن الشيء إذا دام وثبت، ومنه: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدَّثِّر: 38]. وفي الشرع: جعل مال وثيقة على دين» يعني: توثيق دين بعين، بأن يوثق دينه بعين يقبضها.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ويطلق أيضًا على العين المرهونة تسمية للمفعول باسم المصدر، وأما الرُّهُن ـ بضمتين ـ فالجمع، ويجمع أيضًا على رِهان ـ بكسر الراء ـ ككتب وكتاب، وقرئ بهما» اهـ.
قوله: «فِي الْحَضَرِ» ليبين أن ما ورد في الآية الكريمة في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ليس قيدًا، وإنما لبيان الأغلب.
قوله: « وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ» الآية فيها الرهن في السفر، وهذا ليس قيدًا وإنما هو لبيان الأغلب؛ لأن النبي ﷺ وقع منه الرهن في الحضر، وبعض العلماء ذهب إلى أن الرهن لا يكون إلا في السفر أخذًا من الآية وهو قول مرجوح.
2508 قوله: «رَهَنَ النَّبِيُّ ﷺ دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ» جاء في الحديث الآخر: «أن النبي ﷺ مات ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير» [(561)].
والحديث دليل: على مشروعية الرهن في الحضر وهذا مذهب الجمهور.
وخالف الظاهرية ومجاهد والضحاك، فقالوا: لا يشرع الرهن إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وهذا قول مرجوح، والصواب: أن الرهن يكون في السفر وفي الحضر فالآية دلت على الرهن في السفر، والحديث دل على الرهن في الحضر.
وفي الحديث: بيان لما أصاب النبي ﷺ وأصحابه من الحاجة والشدة، حيث احتاج ﷺ إلى أن يرهن درعه بثلاثين صاعًا من شعير لأهله.
وفيه: أن الأنبياء يبتلون بالفقر والأمراض والجراحات، والنبي ﷺ أصابه الشدة حتى احتاج إلى أن يستدين ويرهن، وأصابه المرض ﷺ حيث «كان يوعك كما يوعك الرجلان من أصحابه» [(562)] وأصابته جراحات حيث «كسرت رباعيته يوم أحد وشج وجهه» [(563)]، فالأنبياء يبتلون بالفقر والأمراض والجراحات ليكونوا قدوة للناس في الصبر والتحمل، وليعلم الناس أنهم بشر وليسوا آلهة يعبدون، فهذا نبينا ﷺ وهو أكملهم وأفضلهم ومع ذلك أصابته الجراحات، وزكريا ويحيى عليهما السلام قتلا.
وفيه: بيان خبث اليهود، حيث إن اليهودي لم يثق بالنبي ﷺ في قضاء دينه، حتى طلب منه الرهن.
وفيه: جواز معاملة الكفار في البيع والشراء والإجارة والرهن وأن ذلك ليس من موالاتهم، بل يكون هذا مع بغضهم.
واختلف العلماء في الحكمة في عدول النبي ﷺ عن معاملة الأغنياء من الصحابة مثل أبي بكر، وعثمان وعبدالرحمن بن عوف، فلماذا لم يستدن النبي ﷺ منهم حتى احتاج إلى معاملة اليهودي؟
قيل: فعل ذلك ليبين الجواز، أو لأنه لم يكن إذ ذاك عند الصحابة طعام، أي: وافق أن أغنياء الصحابة ليس عندهم في ذلك الوقت طعام زائد عن حاجتهم لغيرهم، أو خشي عليه الصلاة والسلام ألا يأخذوا منه ثمنًا أو عوضًا، فلم يرد أن يضيق عليهم، أو أن النبي ﷺ لم يطلعهم على ذلك، إنما أطلع عليه من لم يكن موسرًا، ممن نقل ذلك عنه. وكل هذا محتمل.
وفيه: مشروعية معاملة الكفار وإن كانوا يأكلون الربا ويأكلون السحت، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم.
واستنبط بعض العلماء جواز معاملة مَنْ أكثر ماله حرام، وهذا إذا كان المال مختلطًا حرامًا وحلالاً، أما إذا عرف الحرام بعينه، فلا يجوز أخذه، فإذا عرف أن هذا المال الذي بيده أخذه من الربا أو من السرقة فهذا لا يجوز إقراره عليه ولا معاملته فيه، لكن إذا أدخله في ماله واختلط فلا بأس.
وفيه: جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر الذمي ما لم يكن حربيًّا، فالكافر الحربي لا يجوز معاملته ولا البيع ولا الشراء معه بل ولا إطعامه ولا إسقاؤه بل يجب قتله.
وفيه: دليل على أن أهل الذمة يملكون ويقرون على أموالهم.
وفيه: جواز الشراء بالثمن المؤجل وهو كالإجماع من أهل العلم، سواء كان التأجيل على أقساط شهرية أو سنوية أو على قسط واحد، ويدل على ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ [البَقَرَة: 282].
المتن:
باب مَنْ رَهَنَ دِرْعَهُ
2509 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ وَالْقَبِيلَ فِي السَّلَفِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: حَدَّثَنَا الأَْسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ.
الشرح:
2509 قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» ، فيه: دليل على جواز الرهن في المنقول؛ لأن الدرع منقول.
وفيه: دليل على جواز معاملة اليهود في البيع والشراء والرهن وأن هذا ليس من الموالاة لهم، وقد كان الصحابة يعاملونهم، ومن ذلك أن عليًّا نزح ماءً من بئر ليهودي كل دلو بتمرة حتى ملأ كفه، وإنما الممنوع هو الركون إلى الكفار ومحبتهم ونصرتهم ومعونتهم، أما مجالستهم فإن كانت للمعاشرة والمصاحبة فإنها لا تجوز، وإن كانت للمعاملة فلا بأس بها.
أما الخِدْمة عند الكفار ففيها تفصيل، فإن كان فيها ذلة للمؤمن فإنها لا تجوز، مثال ذلك: أن يخدم المؤمن الكافر في بيته، كأن يغسل ثيابه أو يطبخ طعامه، أو يمسح سيارته أو ما شابه ذلك، أما الخدمة العامة كأن يكون قائد سيارة أو يكون كاتبًا في الشركات الكافرة، فلا بأس؛ لأنه عمل ليس فيه ذلة والأحوط المنع.
والعمل عند الكفار، ومعاملتهم وإبقاؤهم في بلاد المسلمين إنما يكون في غير جزيرة العرب، أما جزيرة العرب فلا يجوز؛ لما ثبت عن النبي ﷺ في «الصحيحين» وغيرهما من قوله: أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ [(564)] وقوله ﷺ: لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ [(565)] ففيها وجوب إخراج المشركين واليهود والنصارى من جزيرة العرب وعدم إبقائهم فيها.
واختلف العلماء في اليمن هل تدخل في جزيرة العرب، أم أن الجزيرة خاصة بالحجاز ونجد وما يتبعها، والأرجح: أن اليمن من الجزيرة؛ لأن سكانها كانوا من العرب في زمن النبي ﷺ.
ويجوز للكفار أن يدخلوا الجزيرة مدة يسيرة عارضة لبيع بعض السلع، كما كان الأنباط يأتون من الشام، على عهد الخلفاء الراشدين لبيع سلعهم في المدينة اليومين والثلاثة ثم يرجعون، وقد يقال بجواز استقدامهم في الحالات الضرورية للعمل فيما يعجز المسلمون عنه، كما أبقى النبي ﷺ اليهود للعمل في أرض خيبر لانشغال الصحابة والمسلمين عن العمل فيها بالجهاد في سبيل الله، فقال النبي ﷺ: نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا [(566)] ثم أجلاهم عمر في خلافته.
المتن:
باب رَهْنِ السِّلاَحِ
2510 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَْشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﷺ؛ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ، فَقَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ؛ قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ، قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ؛ قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؟ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا! وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللأَّْمَةَ، قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي السِّلاَحَ فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوْا النَّبِيَّ ﷺ فَأَخْبَرُوهُ
الشرح:
قوله: «بَاب رَهْنِ السِّلاَحِ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن المنير: إنما ترجم لرهن السلاح بعد رهن الدرع؛ لأن الدرع ليست بسلاح حقيقة، وإنما هي آلة يتقى بها السلاح، ولهذا قال بعضهم: لا تجوز تحليتها، وإن قلنا بجواز تحلية السلاح كالسيف» اهـ.
2510 قوله: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَْشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﷺ. هذا تحريض من النبي ﷺ على قتل كعب بن الأشرف وهو من العرب اليهود لأنه نقض العهد بإيذائه لله ولرسوله وسبه للرسول ﷺ وللمؤمنين.
وفيه: أن من نقض العهد من الكفار فإنه يقتل.
قوله: «فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا» ، أي: أنا أقتله، فجاء وفاوضه حتى يأمنه، وواعده أن يأتيه في وقت ومعه السلاح وجاء فقتله، وجاء في لفظ آخر: «أنه جاء ومعه بعض أصحابه في الليل وطلبه فخرج إليه، وقالت له زوجته: إني أسمع صوت السلاح فلا تخرج فقال لها: إن هذا فلان، والكريم لو طلب إلى طعنة بليل لأجاب، وكان حديث عهد بعرس، فسأله هل تأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه، ثم قال: هل لي أن أشمها مرة أخرى فلما أخذ رأسه، قال لأصحابه: دونكموه، فقتلوه» [(567)].
وفيه: دليل على أن الكافر إذا سب الله ورسوله فإنه بهذا يؤذي الله ورسوله ولا يلزم من الأذى الضرر، فالله تبارك وتعالى لا يضره أحد من خلقه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِيناً [الأحزَاب: 57].
وفيه: إثبات صفة الأذى لله وأن الكافر إذا سب الدين، أو سب الدهر فإنه بهذا يؤذي الله ويؤذي رسوله أيضًا؛ يقول الله في الحديث القدسي: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ:، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [(568)].
وفيه: دليل على رهن السلاح، واختلف الشراح في وجه الاستدلال من الحديث على رهن السلاح، فقال ابن المنير: «إنما ترجم برهن السلاح بعد رهن الدرع؛ لأن الدرع ليست بسلاح، وإنما هي آلة يتقى بها السلاح» اهـ.
وقال ابن بطال: «إن قوله: «وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللأَّْمَةَ» دلالة على جواز رهن السلاح؛ لأنه إنما كان هذا من معارض الكلام» اهـ، وقال ابن التين: «ليس فيه ما بوب له؛ لأنهم لم يقصدوا إلا الخديعة وإنما يؤخذ جواز رهن السلاح من الحديث الذي قبله» اهـ، وأحسن من هذا أن يقال: إن الدليل على جواز رهن السلاح إقرار النبي ﷺ لهم وعدم إنكاره عليهم.
وفيه: قتل من سب الله ومن سب الرسول ﷺ، وأنه ينتقض عهده بذلك إذا كان معاهدًا ويقتل، لكن الخلاف فيمن كان من المسلمين، وهل يقتل بعد الاستتابة أو بدون استتابة؟ فالمشهور عند المحققين من أهل العلم أن من سب الله ورسوله والساحر ومن تكررت ردته، لا يستتاب بل يقتل؛ لأن كفره غليظ، حتى لا يتجرأ الناس على هذا الكفر، وهذا في أحكام الدنيا، وأما في الآخرة فأمره إلى الله لكن في الدنيا يقتل حدًّا، وقال آخرون من أهل العلم: إنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
المتن:
باب الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ
وَقَالَ مُغِيرَةُ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ.
2511 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا.
2512 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة للرهن إذا كان مركوبًا ومحلوبًا كأن يكون للشخص على إنسان دين فيطلب رهنًا، فيعطيه بقرة أو ناقة، وتبقى عند المرتهن كضمان لِدَينه.
وفيها حليب، فهل يجوز للمرتهن أن يشرب الحليب ويركب الناقة أو لا يجوز؟
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الحاكم وصححه من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا[(569)]، قال الحاكم: لم يخرجاه، لأن سفيان وغيره وقفوه على الأعمش انتهى. وقد ذكر الدارقطني الاختلاف على الأعمش وغيره، ورجح الموقوف وبه جزم الترمذي، وهو مساوٍ لحديث الباب من حيث المعنى وفي حديث الباب زيادة» . اهـ.
قوله: «تُرْكَبُ الضَّالَّةُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا، وَتُحْلَبُ بِقَدْرِ عَلَفِهَا» ، ووقع في رواية الكشميهني: «بقدر عملها» والأول أصوب.
قوله: «وَالرَّهْنُ مِثْلُهُ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أي: في الحكم المذكور، وقد وصله سعيد بن منصور بالإسناد المذكور ولفظه: «الدابة إذا كانت مرهونة تركب بقدر علفها، وإذا كان لها لبن يشرب منه بقدر علفها» ؛ ورواه حماد بن سلمة في جامعه عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم بأوضح من هذا ولفظه: «إذا ارتهن شاة شرب المرتهن من لبنها بقدر ثمن علفها، فإن استفضل من اللبن بعد ثمن العلف فهو ربًا» » اهـ.
2511 قوله: «الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وكذلك «يشرب» وهو خبر بمعنى الأمر، لكن لم يتعين فيه المأمور، والمراد بالرهن المرهون، وقد أوضحه في الطريق الثانية حيث قال: الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا.
قوله: الدَّرِّ بفتح المهملة وتشديد الراء مصدر بمعنى الدّارة أي: ذات الضرع.
وقوله: لَبَنُ الدَّرِّ هو من إضافة الشيء إلى نفسه، وهو كقوله تعالى: وَحَبَّ الْحَصِيدِ [ق: 9]» اهـ.
2512 قوله: الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا يعني: الظهر المركوب كالبعير، وفي الحديث الأول: الرَّهْنُ يُرْكَبُ.
ولما كانت الترجمة معقودة لبيان حكم شرب اللبن من البقرة أو الناقة المرهونة، وحكم ركوبها بيّن بالحديثين الدليل على أن المرتهن يركب بمقدار النفقة ويشرب كذلك؛ ولهذا قال: الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا.
وفي الحديث الثاني: الرَّهْنُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ، وإلى هذا ذهب جمع من أهل العلم، وقالوا: إن المرتهن إنما ينتفع بالمرهون في الركوب وشرب اللبن فقط، مقابل نفقته عليه، وقال آخرون من أهل العلم: إن المرتهن ينتفع من المرهون بكل شيء، بالركوب وبشرب اللبن، وبغيره، حتى التأجير لو أجره، وذهب إلى هذا أحمد[(570)] وإسحاق، وذهب الجمهور إلى أن المرتهن لا ينتفع من الرهن بشيء مطلقًا، وقالوا: إن هذا الحديث على خلاف القياس من وجهين: الوجه الأول وهو التجويز للمرتهن أن يركب ويشرب بغير إذن المالك فهو خلاف القياس؛ لأن القياس أنه لا يتصرف في المال إلا صاحبه.
والوجه الثاني أنه ضمنه بالنفقة، والقياس أنه يضمن بالقيمة لا بالنفقة، فلما خالف القياس من وجهين اعتذروا عن الحديث ولم يعملوا به، والصواب مع الذين أخذوا بظاهر الحديث وقالوا: إنه يركب ويشرب اللبن بالمعروف بقدر النفقة.
قال ابن عبدالبر[(571)]: «هذا الحديث يرده أصول مجمع عليها، وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها، ويدل على نسخه حديث ابن عمر الماضي في أبواب اللقطة: لا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ [(572)].
فابن عبدالبر ـ مع جلالة قدره ـ يرى أن هذا الحديث منسوخ بحديث: لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه، وهذا عجيب؛ لأن حديث: «لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه» عام، وحديث الرهن خاص، فإذا كانت الماشية مرهونة فللمرتهن أن يشرب ويكون هذا مستثنى.
المتن:
باب الرَّهْنِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ
2513 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَْسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ.
الشرح:
2513 قوله: «وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» استدل به المؤلف رحمه الله على جواز الرهن عند اليهود وغيرهم، وهو ظاهر في معاملة غير المسلمين إلا الحربي منهم فلا يجوز معاملته.
المتن:
باب إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ وَنَحْوُهُ فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
2514 حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَكَتَبَ إِلَيَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
2515، 2516 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عِمرَان: 77] ثُمَّ إِنَّ الأَْشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: فَحَدَّثْنَاهُ قَالَ: فَقَالَ: صَدَقَ لَفِيَّ وَاللَّهِ أُنْزِلَتْ كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، قُلْتُ: إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الآْيَةَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عِمرَان: 77].
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان الحكم فيما إذا اختلف الراهن والمرتهن، والراهن: هو المدين، والمرتهن: هو صاحب الدين، فإذا اختلفا في الرهن، كأن: يطلب زيد عمرًا بعشرة آلاف ريال، فيقول زيد: أريد رهنًا، ويقول عمرو: أرهنك سيارة، ثم اختلفا، فقال عمرو: السيارة تساوي عشرة آلاف، وقال زيد: لا تساوي سوى ألفين؛ ففي هذه الحالة المدعي يُطلب منه البينة، وإذا لم يكن للمدعي بينة توجه اليمين إلى المدعى عليه؛ لعموم الحديث: البينة على المدعي واليمين على من أنكر [(573)] فالبينة هي كل ما أبان الحق وأظهره من شهود أو قرائن، فإن لم يكن بينة وجهت اليمين من قبل الحاكم الشرعي إلى المدعى عليه، فإذا حلف انتهت الخصومة، ولو كان الخصم كافرًا، فليس عليه إلا اليمين، وهذا ليس خاصًّا بالرهن، بل هو عام يشمل الخصومات والنزاعات في الأموال حتى الطلاق والنكاح، ولكن المدعى عليه متوعد بالوعيد الشديد إذا كان يحلف وهو كاذب ليأخذ مال أخيه بغير حق، فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، كما جاء في الحديث: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ [(574)] وكما في الحديث الآتي: «إن النبي ﷺ قضى أن اليمين على المدعى عليه» .
فإذا حل الدين ولم يؤدي المدين، يرفع إلى المحكمة، فيلزمه الحاكم الشرعي، بالأداء، أو يبيع الحاكم الشرعي الرهن، ويؤدي الدين ثم يرد الباقي على الراهن.
2514 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأراد المصنف منه الحمل على عمومه خلافًا لمن قال إن القول في الرهن قول المرتهن ما لم يجاوز قدر الرهن؛ لأن الرهن كالشاهد للمرتهن، قال ابن التين: جنح البخاري إلى أن الرهن لا يكون شاهدًا» اهـ.
2515، 2516 قوله: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يعني: يعلم أنه كاذب.
قوله: لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ هذا وعيد شديد يدل على أن هذا الفعل من كبائر الذنوب.
قوله: «ثُمَّ إِنَّ الأَْشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ» يعني: عبدالله بن مسعود، فكنيته أبو عبدالرحمن.
قوله: «قَالَ: فَحَدَّثْنَاهُ قَالَ: فَقَالَ: صَدَقَ لَفِيَّ وَاللَّهِ أُنْزِلَتْ» . يعني: هذه الآية.
قوله: كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ أي: يقول للأشعث: هل عندك شاهدان أن البئر لك؟ أو يحلف هو اليمين وتنتهي الخصومة؟
قوله: «إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلاَ يُبَالِي» أي: ما عندي بينة، وسيحلف لأنه لا يبالي باليمين، وجاء في غير هذه القضية لفظ آخر: «إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه» [(575)] وجاء في قصة أخرى أن الخصم كان يهوديًّا.
قوله: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالاً وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. هذا عام في جميع الخصومات والدعاوى، سواء كان الخصم مؤمنًا أو كافرًا.