(52)كِتَاب الْهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهَا;
كِتَاب الْهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهَا
}2566{ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ».
}2567{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُْوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الأَْسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنْ الأَْنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا.
هذا الكتاب «كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها» ، والهبة تطلق بالمعنى الأعم على معان: منها:
الإبراء: وهو هبة الدين ممن عليه.
والصدقة: وهي الهبة لثواب الآخرة.
والهدية: وهي ما ينقل إلى الموهوب له إكرامًا له.
وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل؛ ولهذا عرفها بعضهم بأنها تمليك بلا عوض.
والهبة نوعان:
الأول: هبة على عوض.
الثاني: هبة على غير عوض.
فالهبة التي على عوض تسمى هبة الثواب، كهبة الأدنى للأعلى، وهبة الفقير للغني، فهذه هبة يراد بها الثواب، فإن لم يثب عليها يجوز استرجاعها؛ ففي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها[(636)] وفي حديث ابن عباس ـ كما ذكر الحافظ في البلوغ ـ أن أعرابيًّا وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها، قال: «رضيت؟» قال: لا، قال: فزاده، قال: «رضيت؟» قال: لا، قال: فزاده، قال: «رضيت؟» قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي» [(637)]، وجاء في رواية أبي هريرة: أن أعرابيًّا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فعوضه منها ست بكرات فتسخطه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن فلانًا أهدى إلي ناقة فعوضته منها ست بكرات فظل ساخطًا، ولقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي» [(638)]. فهذا الرجل كان أعرابيًّا، وأعطى هبة وقصد منها الثواب، مثلما يهدي بعض الناس مثلاً لأحد الأمراء أو الملوك ناقة، فيقول: أهديتك هذه الناقة التي تساوي عشرين ألفًا، ويريد أن يعطيه هبة تساوي مائة ألف مثلاً، فهذه هي هبة الثواب، وهذه الهبة إذا لم يثب الواهب عليها جاز له أن يستردها.
أما الهبة التي لا يقصد بها الثواب فالموهوب يملكها بمجرد الهبة.
}2566{ أورد المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» . فيه: استحباب الهدية ولو بالقليل؛ لأنها قد تكون مفيدة للمهدى إليه، ولأنها تسل السخيمة، وتزيل ما في القلوب من الإحن والشحناء؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» . ومعروف أن الفرسن لا يستفاد منه ـ وهو الظلف بمثابة الحافر للفرس ـ والمعنى: ولو كان شيئًا قليلاً، وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءها وتعهد جيرانك وأصِبهم منها بالمعروف» [(639)]، يعني: في وقت الحاجة والفقر.
}2567{ في الحديث: فضل الهدية.
وفيه: أن الأنصار كانوا جيران النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لهم منائح ـ وهي الغنم ـ يحلبون من ألبانها فيهدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه: ما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم من الشدة والضيق في المعيشة، وهو أشرف الخلق على الإطلاق، ومعه الصحابة صفوة الخلق بعد الأنبياء، ومع ذلك تصيبهم الشدة، حتى تمر بهم ثلاثة أهلة وما يوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فمن أصابته شدة وضيق فليتذكر حالة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه؛ ففي ذلك تسلية له.
قوله: «ابْنَ أُخْتِي» ، تقصد عروة، وهو منصوب على النداء، والتقدير: يا ابن أختي.
قوله: «إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الأَْسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ» ؛ سميا بذلك تغليبًا لما هو أسود وهو التمر، مثل القمرين للشمس والقمر، والعمرين لأبي بكر وعمر، إلا أنه في بعض الأحيان يهدي بعض الأنصار لهم شيئًا من اللبن، فيشربونه مع التمر.
 الْقَلِيلِ مِنْ الْهِبَةِ
}2568{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ».
}2568{ في الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه.
وفيه إجابة الدعوة ولو إلى طعام قليل.
وفيه: قبول القليل من الهدية، فلو أنه أهدي إليه ذراع أو كراع لقبل، والذراع يكون في اليد، والكراع يكون في الرجل، وهو العظم ما دون الكعب، ليس عليه شيء من اللحم
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الذراع؛ لأنه ذكر أعلى الشيء وهو الذراع، وأقله وهو الكراع.
قوله: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ» فيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم على خلاف عادة المتكبرين فلا يقبلون الهدية القليلة ويردونها، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولو كانت قليلة، ولهذا بوَّب البخاري رحمه الله فقال: «بَاب الْقَلِيلِ مِنْ الْهِبَةِ» ، يعني: باب قبول القليل منها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل .
 مَنْ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا».
}2569{ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَكَانَ لَهَا غُلاَمٌ نَجَّارٌ، قَالَ لَهَا: «مُرِي عَبْدَكِ فَلْيَعْمَلْ لَنَا أَعْوَادَ الْمِنْبَرِ»؛ فَأَمَرَتْ عَبْدَهَا؛ فَذَهَبَ فَقَطَعَ مِنْ الطَّرْفَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا قَضَاهُ أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ قَدْ قَضَاهُ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَرْسِلِي بِهِ إِلَيَّ»، فَجَاءُوا بِهِ، فَاحْتَمَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ حَيْثُ تَرَوْنَ.
}2570{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَازِلٌ أَمَامَنَا وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ، وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي فَلَمْ يُؤْذِنُونِي بِهِ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ، وَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ؛ فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ، فَأَسْرَجْتُهُ، ثُمَّ رَكِبْتُ، وَنَسِيتُ السَّوْطَ، وَالرُّمْحَ؛ فَقُلْتُ: لَهُمْ نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقَالُوا: لاَ وَاللَّهِ، لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا، ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ فَرُحْنَا وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا حَتَّى نَفِدَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ.
فَحَدَّثَنِي بِهِ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قوله: «بَاب مَنْ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا» هذه الترجمة معقودة لمن استوهب من أصحابه شيئًا، يعني: مَن طلب من أصحابه أن يهبوه شيئًا ـ سواء كان عينًا أو منفعة ـ جاز ذلك بغير كراهة إذا كان يعلم طيب أنفسهم.
وعلق المؤلف رحمه الله حديثًا عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا» ، وقد وصله المؤلف في كتاب الإجارة.
وفيه: قصة الصحابة حينما رقى أحدهم اللديغ، ثم أعطي أجرة ثلاثين رأسًا من الغنم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا» ، تطييبًا لخاطرهم، لا لحاجة له، فكأنه استوهبه منهم، فأعطوه شيئًا.
}2569{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث سهل رضي الله عنه في قصة المرأة التي كانت من المهاجرين، وكان لها غلام نجار، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «مُرِي عَبْدَكِ فَلْيَعْمَلْ لَنَا أَعْوَادَ الْمِنْبَرِ» ، أي: يريد أن يكون له منبر يخطب عليه.
قوله: «فَأَمَرَتْ عَبْدَهَا؛ فَذَهَبَ فَقَطَعَ مِنْ الطَّرْفَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا قَضَاهُ أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ قَدْ قَضَاهُ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَرْسِلِي بِهِ إِلَيَّ»» .
والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم استوهب من المرأة منفعة غلامها؛ حيث إنه صنع له منبرًا يجلس عليه، فدل على أنه لا بأس أن يستوهب الإنسان من أصحابه شيئًا سواء كان منفعة أو عينًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم استوهب عينًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا» ، واستوهب منفعة الغلام.
}2570{ أورد المؤلف رحمه الله حديث أبي قتادة السَّلَمي، وهذا الحديث فيه قصة صيد المحرم، والشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟» فاستوهبهم صلى الله عليه وسلم فناولوه العضد فأكلها كلها تطييبًا لخاطرهم، فهذا داخل في قول المؤلف رحمه الله «بَاب مَنْ اسْتَوْهَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا» .
وقصة أبي قتادة كانت في صلح الحديبية؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم، وتأخر بعض الصحابة فأحرموا كلهم إلا أبا قتادة ما أحرم، ومعلوم أن المحرم يحرم عليه الصيد.
قوله: «وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ» أي: أحرموا جميعًا وأبو قتادة لم يحرم.
قوله: «فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي» أي: مر بهم صيد فأبصروه وهو لم يبصره، وفي رواية أخرى: أنهم جعلوا يضحكون فالتفت[(640)].
وفيه: دليل على أن الضحك من المحرم لا يعتبر إعانة لغيره على الصيد.
قوله: «وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ» ، أي: هم يودون أن يرى أبو قتادة ذلك الحمار، لكن لا يريدون أن يخبروه؛ لأنهم لو أخبروه فقد ساعدوه، والمحرم لا يعين على الصيد ولا يشير إليه.
قوله: «وَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ؛ فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ، فَأَسْرَجْتُهُ، ثُمَّ رَكِبْتُ، وَنَسِيتُ السَّوْطَ، وَالرُّمْحَ؛ فَقُلْتُ: لَهُمْ نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقَالُوا: لاَ وَاللَّهِ، لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ» . أي: أبصر أبو قتادة ذلك الحمار، فقام إلى الفرس، فركبه ونسي السوط والرمح، فقال لهم: ناولوني فرفضوا، وقالوا: لا والله لا نعينك بشيء، نحن محرمون، فنزل وأخذ السوط والرمح، ثم شد عليه فعقره، ثم جاء به فجعلوا يأكلون منه.
قوله: «ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ» ، فقالوا: كيف نأكل الصيد ونحن محرمون، ثم ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستفتوه، فسألهم صلى الله عليه وسلم قال: «مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟» ولم يذكر المؤلف رحمه الله باقي القصة.
وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟» قالوا: لا، قال: «فكلو ما بقي من لحمها» [(641)]؛ فدل على أن المحرم يأكل الصيد الذي صاده الحلال بهذه الشروط: أن لا يعين على صيده، ولا يشير إليه، ولا يكون صيد لأجله، كما في حديث الصعب بن جثامة؛ فإنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارًا فرده[(642)]؛ لأنه صاده من أجله، فإذا صاده من أجله فلا يأكل منه، أما إذا لم يصده من أجله ولا أعانه ولا أشار إليه فإنه يأكل.
 مَنْ اسْتَسْقَى
وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اسْقِنِي».
}2571{ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ: حَدَّثنِي أَبُو طُوَالَةَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِنَا هَذِهِ، فَاسْتَسْقَى، فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً لَنَا، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ، فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ، وَعُمَرُ تُجَاهَهُ، وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُمَرُ: هَذَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْطَى الأَْعْرَابِيَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: «الأَْيْمَنُونَ الأَْيْمَنُونَ، أَلاَ فَيَمِّنُوا». قَالَ أَنَسٌ: فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
قوله: «بَاب مَنْ اسْتَسْقَى» الألف والسين والتاء للطلب، أي: من طلب ماء أو لبنًا أو غير ذلك مما تطيب به نفس المطلوب منه، فهل يجوز للإنسان أن يقول: اسقني، وهل هذا يدخل في طلب الهبة أو في سؤال الغير؟
علق المؤلف رحمه الله حديثًا فقال: «وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اسْقِنِي» . فيه: دليل على أن قول الرجل لولده أو لأخيه أو لصاحبه: اسقني لا بأس به، بل كانوا يحبون ذلك ولا يشق عليهم، وأن ذلك ليس من السؤال المذموم، ومثله قول: أعطني نعلي، أو نحو ذلك.
وأما كراهة أبي ذر أن يسأل أحدًا أن يناوله سوطه فهذا اجتهاد منه.
وبعض الناس تجده دائمًا يقول: أعطني كذا، هات كذا فهذا مكروه، لكن الشيء القليل يعفى عنه مثل قوله: اسقني، ولهذا استسقى النبي صلى الله عليه وسلم.
}2571{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث أنس رضي الله عنه.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى.
قوله: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِنَا هَذِهِ، فَاسْتَسْقَى» ، أي: طلب أن نسقيه.
قوله: «فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً لَنَا، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ» ، يعني: حَلب له من الشاة وخلطه بالماء البارد من البئر، وهذا الخلط من أجل أن يَكْثُر أو يَبْرَد فيهديه للنبي صلى الله عليه وسلم ليشربه، أما خلط اللبن بالماء للبيع فلا يجوز؛ لأنه من الغش.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عن يساره أبو بكر، وعن يمينه أعرابي، فقال عمر لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم: «هَذَا أَبُو بَكْرٍ» يعني: أعط أبا بكر، فلم يأخذ بإشارة عمر، وأعطى الأعرابي فضله؛ لأنه عن يمينه، ثم قال: «الأَْيْمَنُونَ الأَْيْمَنُونَ» ، يعني: الأيمنون مقدمون.
قوله: «قَالَ أَنَسٌ: فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ» ، ثلاث مرات، يعني: البداءة بالأيمن هي السنة.
فالإنسان إذا شرب ماء أو لبنًا أو كان معه طيب، فيعطي مَنْ عن يمينه ولو كان صغيرًا، ولو كان من عن يساره كبيرًا أو عالمًا إلا إذا أذن الذي عن يمينه، كما في حديث ابن عباس: أنه استأذنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا غلام أتأذن لي أن أعطي الأشياخ» ، فقال: ما كنت لأوثر بنصيبي منك أحدًا يا رسول الله، فأعطاه إياه[(643)].
وأما حديث: «كبر كبر» [(644)] في قصة عبدالرحمن بن سهل لما قتل أخوه في خيبر فهو حديث عام يخصصه حديث أنس هذا.
 قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ
وَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبِي قَتَادَةَ عَضُدَ الصَّيْدِ.
}2572{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَدْرَكْتُهَا، فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا أَوْ فَخِذَيْهَا قَالَ: فَخِذَيْهَا لاَ شَكَّ فِيهِ فَقَبِلَهُ، قُلْتُ: وَأَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: بَعْدُ قَبِلَهُ.
}2573{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنهم أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالأَْبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: «أَمَا إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ».
يشير البخاري رحمه الله في هذه الترجمة إلى قصة أبي قتادة ـ السالفة ـ في صيده للحمار الوحشي وهو حلال، وكان أصحابه محرمين، فأكلوا من الصيد؛ لأنهم لم يشيروا إليه ولم يشاركوه في صيده، وكأنهم قد حصل عندهم بعض التوقف، فأهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقبل؛ ولهذا قال في الترجمة: «وَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبِي قَتَادَةَ عَضُدَ الصَّيْدِ» .
}2572{ قوله: «أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ» ؛ أنفجنا أي: أسرنا، ومر الظهران: اسم لواد على خمسة أميال من مكة إلى جهة المدينة.
قوله: «فَسَعَى الْقَوْمُ» يعني: في طلب الأرنب.
قوله: «فَلَغَبُوا» يعني: تعبوا.
قوله: «فَأَدْرَكْتُهَا، فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا أَوْ فَخِذَيْهَا قَالَ: فَخِذَيْهَا لاَ شَكَّ فِيهِ فَقَبِلَهُ» . فيه: دليل على قبول هدية الصيد، وكان من خلق النبي صلى الله عليه وسلم قبول الهدية والإثابة عليها فينبغي قبول الهدية بشرط ألا تكون ثمنًا لدينه، يعني: ليميل عن الحق أو ليقول الباطل، فلا يقبلها إذن.
هذه الترجمة ثبتت لأبي ذر هنا، وسقطت لغيره وهو الصواب.
}2573{ قوله: «أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالأَْبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّ عَلَيْهِ» . في الحديث الذي قَبْلَها أنه قَبِلَ من أبي قتاده الهدية[(645)]؛ لأن مِن خُلقه صلى الله عليه وسلم أنه يقبل الهدية، لكنه في هذا الحديث ردّها على الصعب بن جثامة رضي الله عنه؛ وذلك لأنه صِيد من أجله، واعتذر صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَمَا إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ» ، والمحرم لا يأكل من الصيد إذا صِيد من أجله أو أشار أو أعان على صيده، أما إذا لم يصد من أجله ولم يساعد في صيده ولم يعن جاز له الأكل منه.
ففي قبول هدية الصيد حديثان: أحدهما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية الصيد، والثاني فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رده لعلة.
 قَبُولِ الْهَدِيَّةِ
}2574{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ يَبْتَغُونَ بِهَا أَوْ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
}2575{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقِطًا وَسَمْنًا وَأَضُبًّا، فَأَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الأَْقِطِ وَالسَّمْنِ، وَتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
}2576{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: «أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟» فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ، قَالَ لأَِصْحَابِهِ: «كُلُوا»، وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَكَلَ مَعَهُمْ.
}2577{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَقِيلَ: تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ قَالَ: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ».
}2578{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ وَأَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا وَلاَءَهَا فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا؛ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ؛ فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ»، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ».
وَخُيِّرَتْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: زَوْجُهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ.
قَالَ شُعْبَةُ: سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنْ زَوْجِهَا قَالَ: لاَ أَدْرِي أَحُرٌّ أَمْ عَبْدٌ.
}2579{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَقَالَ: «عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» قَالَتْ: لاَ، إِلاَّ شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنْ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتَ إِلَيْهَا مِنْ الصَّدَقَةِ؛ قَالَ: «إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا».
قوله: «بَاب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ» . هذه الترجمة أعم من الترجمة السابقة: «بَاب قَبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ» فهي لهدية الصيد وغيره، وبين الترجمتين عموم وخصوص؛ فالأولى خاصة والثانية عامة.
وذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب ستة أحاديث:
}2574{ حديث عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ يَبْتَغُونَ بِهَا أَوْ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» يعني: ليقْبَلها صلى الله عليه وسلم.
وفيه: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، وكان يُهدى إليه وهو في بيت عائشة رضي الله عنها؛ لأنها أحب نسائه إليه؛ لذلك كانوا يتحرون يومها ثم يهدون إليه.
}2575{ حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقِطًا وَسَمْنًا وَأَضُبًّا» .
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له أقط وسمن وأَضُب، والأضب جمع ضب، وهو الحيوان المعروف.
قوله: «فَأَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الأَْقِطِ وَالسَّمْنِ» ، فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويأكل منها.
قوله: «وَتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا» ، يعني: كراهةً لا تحريماً له؛ لأنه لم يكن بأرض قومه.
قوله: «فَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» هذا استنباط وجيه من ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره سنة، وتقريره يعني: سكوته صلى الله عليه وسلم، فإذا رأى شيئًا ثم سكت دل على أنه سنة وأنه جائز، فكون الضب أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه حلال ولو كان حرامًا لأنكره صلى الله عليه وسلم.
وجاء في اللفظ الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة فأُتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضب يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقال خالد بن الوليد: أحرام هو؟ فقال: «لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه» ، يعني: لا يشتهيه؛ فما تعود عليه؛ لأنه لم يكن بأرض قومه. قال خالد: فاجتررته فأكلته والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر[(646)].
والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية الأقط والسمن والأضب.
}2576{ فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية، فإذا أهدي إليه طعام أكل منه، وإن كان صدقة فلا يأكل.
والصدقة يقصد بها ثواب الآخرة، والهدية يقصد بها الثواب في الدنيا من المحبة والمودة، أو العوض عنها فتكون بيعًا؛ لأن الهدية نوعان:
نوع يقصد منه المودة والمحبة، ونوع يقصد منها العوض، كهدية الفقير للغني، والهدية للملوك يريد أكثر منها؛ فهذه من جنس البيع إن أعطاه عوضًا عنها وإلا استردها.
وفي الحديث يقول أبو هريرة رضي الله عنه: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ: «أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟» فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ، قَالَ لأَِصْحَابِهِ: «كُلُوا»، وَلَمْ يَأْكُلْ» ؛ فلا يأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصدقة والزكاة لا تحل لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها أوساخ الناس، وآل محمد صلى الله عليه وسلم أكرمهم الله عز وجل فمنعهم من الأكل من الصدقة، وعوضهم عنها بالخمس من الغنيمة، قال الله عز وجل: [الأنفَال: 41]{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.
قوله: «وَإِنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَكَلَ مَعَهُمْ» ، يعني: إذا كانت هدية أكل منها.
}2577{ حديث أنس رضي الله عنه قال: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمٍ فَقِيلَ: تُصُدِّقَ عَلَى بَرِيرَةَ قَالَ: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ»» .
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلحم تصدق به على بريرة، وبريرة مولاة أعتقتها عائشة رضي الله عنها وكانت عندها في البيت، وفي اللفظ الآخر: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة تفور بلحم، فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت فقال: «ألم أر البرمة فيها لحم؟» قالوا: بلى، ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: «هو عليها صدقة ولنا هدية» [(647)]؛ لأنه تغيرت حاله.
وفيه: أن الفقير إذا تصدق عليه بطعام ثم أهدى منه للغني أو دعاه إلى طعام جاز للغني أن يأكل منه؛ لأن الصدقة لما أعطيت للفقير بلغت محلها وتغيرت حالها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» . فصارت هدية بالنسبة للغني لتغير الحالة.
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هدية بريرة التي تُصدق بها عليها؛ لأنها عليها صدقة ثم تغيرت حالها فصارت هدية.
}2578{ حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة التي أعتقتها.
وفيه: أنها لما أرادت أن تشتريها اشترط أهلها الولاء، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا؛ فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، والولاء عصوبة بها يرث من له الولاء، وتكون له ولاية عقد النكاح على العتيقة إذا لم يكن لها أقارب من النسب، وإذا حصل اعتداء من العتيق على أحد، صارت الدية على العاقلة، ومن العاقلة سيده الذي أعتقه.
قوله: «اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا» ، وفي لفظ آخر: «خذيها واشترطي لهم الولاء» [(648)]، كأنه يقول: اشترطي أوْ لا تشترطي؛ إنكارًا عليهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» ؛ لأنها كانت عند عائشة رضي الله عنها في البيت فهي عتيقتها، والظاهر أنها كان لها حجرة في البيت تكون فيها تقضي فيها حوائجها.
وفيه: أن الفقير يتصرف بصدقته ببيع أو إهداء، ولو قال الفقير لإخوانه: كلوا من صدقتي جاز لهم.
وقصة بريرة فيها ثلاث سنن واضحة كلها في الحديث:
السُّنة الأولى: أن الولاء لمن أعتق، ولو اشترط البائع أن يكون له الولاء لما كان له الولاء.
السُّنة الثانية: أنه إذا أهدي للفقير أو تصدق على الفقير بطعام ثم أهدى منه للغني جاز له ولو كان من الزكاة؛ وذلك لتغير الحالة.
السُّنة الثالثة: أن الأمة إذا عتقت تحت زوجها وكان عبدًا فلها الخيار أن تبقى معه أو تفسخ؛ لأنها صارت حرة.
وقوله: «قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: زَوْجُهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ؟ قَالَ شُعْبَةُ: سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ عَنْ زَوْجِهَا قَالَ: لاَ أَدْرِي أَحُرٌّ أَمْ عَبْدٌ» . فعبدالرحمن ـ وهو ابن القاسم ـ خفي عليه ما يدل على أنه عبد، وأن اسمه مغيث وكان عبدًا لبني مخزوم، ولما عتقت بريرة وصارت حرة، وزوجها عبد خيرّت بين البقاء معه والفسخ فاختارت الفسخ. وكان زوجها يحبها كثيرًا فكان يمشي في الأسواق ويطوف في سكك المدينة ودموعه تسيل على خده وهو يريدها وهي لا تريده، وكان يقال: العجب من كراهة بريرة لزوجها، ومن شدة حبه لها؛ حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم رق له وشفع عند بريرة، وقال: «يا بريرة لو راجعتيه» ، وكانت فقيهة، فقالت: يا رسول الله، أتأمرني أو تشفع؟ تعني: إن كان هذا أمرًا فطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وما أستطيع أن أخالف الأمر؛ لقوله تعالى: [الأحزَاب: 36]{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، إنما أنا شافع» ، قالت: لا حاجة لي فيه[(649)]، فتركته، وردت شفاعته صلى الله عليه وسلم؛ فدل على أن الإنسان إذا ردت شفاعته فليس عليه ضير ولا حرج ولا يمنعه من أن يشفع مرة أخرى.
}2579{ حديث أم عطية رضي الله عنها.
وفيه: قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا» ، يعني: زال عنها حكم الصدقة، فالتصرف فيه بالهدية من أم عطية أزال عنه حكم الصدقة، فدل على أن الفقير إذا تصدق عليه أو أعطي شيئًا من الزكاة، ثم أهدى للغني أو دعاه لطعام، فللغني أن يأكل منه؛ لأنه صار هدية بالنسبة للغني؛ لأنه قد تغيرت حاله.
 مَنْ أَهْدَى إِلَى صَاحِبِهِ وَتَحَرَّى بَعْضَ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ
}2580{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمِي، وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: إِنَّ صَوَاحِبِي اجْتَمَعْنَ، فَذَكَرَتْ لَهُ؛ فَأَعْرَضَ عَنْهَا.
}2581{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ حِزْبَيْنِ، فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ المُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَخَّرَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، بَعَثَ صَاحِبُ الهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً، فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا، فَكَلِّمِيهِ قَالَتْ: فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ، فَدَارَ إِلَيْهَا فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: «لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ، إِلاَّ عَائِشَةَ»، قَالَتْ: فَقَالَتْ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ العَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟»، قَالَتْ: بَلَى، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ، فَأَخْبَرَتْهُنَّ، فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَتَتْهُ، فَأَغْلَظَتْ، وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ العَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا، حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ، هَلْ تَكَلَّمُ، قَالَ: فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا، قَالَتْ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ: «إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ».
قَالَ البُخَارِيُّ: «الكَلاَمُ الأَخِيرُ قِصَّةُ فَاطِمَةَ»، يُذْكَرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ: كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ.
وَعَنْ هِشَامٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَجُلٍ مِنَ المَوَالِي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَأْذَنَتْ فَاطِمَةُ.
قوله: «بَاب مَنْ أَهْدَى إِلَى صَاحِبِهِ وَتَحَرَّى بَعْضَ نِسَائِهِ دُونَ بَعْضٍ» يعني: إذا كان للإنسان عدد من النساء ثم أراد شخص أن يهدي إليه فله أن يتحرى أن يكون الزوج عند بعض نسائه مرتاحًا فيهدي له ولا حرج في ذلك.
}2580{ هذا الحديث مختصر وسيأتي تفصيله في الحديث الذي بعده.
قوله: «اجْتَمَعْنَ، فَذَكَرَتْ لَهُ؛ فَأَعْرَضَ عَنْهَا» يعني: قالت أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم: قل للناس يهدوا في أي: يوم، ولا يتحروا يوم عائشة رضي الله عنها، فأعرض عنها.
}2581{ هذا الحديث فيه بيان ما يحصل من الغيرة بين الضرات من النساء، حتى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن أشرف وأفضل الزوجات.
وفيه أنه لو كان أحد يسلم من ذلك لسلم منه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان حليماً صبورًا.
قوله: «وَكَانَ المُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ» فيه: دليل على أنه لا يجب العدل في الحب والشهوة والجماع؛ لأنه غير مقدور للإنسان، وإنما يجب العدل في أربعة أمور: النفقة والكسوة والسكنى والقسم، بمعنى أن تكون النفقة بين الزوجات واحدة، والكسوة واحدة، والسكنى واحدة، والقسم في المبيت كل واحدة لها ليلة ولو كانت حائضًا أو نفساء فالمهم البيتوتة، أما المحبة القلبية وما ينشأ عنها من الجماع فهذا لا يجب العدل فيه، وإلا ما علم الناس حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، لكن كونه يحبها لا يلزم منه أن يميل، كما يفعل بعض الناس إذا أحب امرأة أعرض عن الأخرى وظلمها وآذاها ومنعها حقها، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب عائشة رضي الله عنها لكنه مع ذلك يعدل بين نسائه، ويقول صلى الله عليه وسلم: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» [(650)]، وهو حب القلب وما ينشأ عنه، فكل واحدة لها ليلة، وإن كانت عائشة رضي الله عنها أحب نسائه إليه صلى الله عليه وسلم.
قوله: «فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَخَّرَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، بَعَثَ صَاحِبُ الهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ عَائِشَةَ» . يعني: أن الناس يعلمون حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها فكانوا يتحرون بهداياهم اليوم الذي يكون فيه النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة رضي الله عنها، فحصلت غيرة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النساء جبلن على الغيرة.
قوله: «فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً، فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ» ؛ وذلك ظنًّا منهن أن ذلك يجب العدل فيه، وليس الأمر كذلك.
قوله: «فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: «لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ، إِلاَّ عَائِشَةَ» . يعني: كان ينزل عليه الوحي وهو في لحافها.
قوله: «أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» . يعني: أتوب إليك يا رسول الله من التقصير في حقك، فلك أن تقول لأحد أولادك: عندما تتوب لي عن هذا العمل سأعطيك كذا وكذا ولا بأس؛ فالتوبة إلى الله عز وجل تكون من الذنب في معصية الله عز وجل، وتكون التوبة للإنسان من التقصير في حقه.
قوله: «ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . يعني: أنهن ما وقفن عند هذا الحد وحاولن مرة أخرى مع فاطمة رضي الله عنها.
قوله: «فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ العَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ» ، أي: اعدل يا رسول الله في بنت أبي بكر رضي الله عنها، وفي اللفظ الآخر: «في بنت أبي قحافة» [(651)]، منسوبة إلى جدها، وهو صلى الله عليه وسلم صابر حليم يعذرهن ويعرف أنها الغيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: «يَا بُنَيَّةُ أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟»، قَالَتْ: بَلَى، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ، فَأَخْبَرَتْهُنَّ، فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ» ، وكانت عائشة رضي الله عنها تذكر عن زينب رضي الله عنها أنها تساميها في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت في الدرجة الثانية بعد عائشة رضي الله عنها.
قوله: «فَأَتَتْهُ، فَأَغْلَظَتْ» يعني: دخلت في بيت عائشة رضي الله عنها وأغلظت، «وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ العَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا، حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ، هَلْ تَكَلَّمُ، قَالَ: فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ» ، من باب القصاص «حَتَّى أَسْكَتَتْهَا» ؛ وفي اللفظ الآخر: أنها ردت عليها حتى يبس ريقها في فيها[(652)]، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليها وقال: «إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ» ، يعني: إنها شريفة عاقلة عارفة كأبيها رضي الله عنهما.
والشاهد من هذا: أنه لا بأس بأن يُهدي الشخص للرجل ويتحرى بعض بيوت نسائه فيهدي إليه فيه، وأنه لا يجب على الزوج أن يقول للناس: لا تهدوا إلي في بيت هذه، ولا يجب عليه أن يقول: أهدوا إليّ في أي: بيت كنت، وأن هذا لا يجب العدل فيه؛ إنما العدل يجب في النفقة والكسوة والمبيت والسكنى.
 مَا لاَ يُرَدُّ مِنْ الْهَدِيَّةِ
}2582{ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ الأَْنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَنَاوَلَنِي طِيبًا، قَالَ: كَانَ أَنَسٌ رضي الله عنه لاَ يَرُدُّ الطِّيبَ، قَالَ: وَزَعَمَ أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لاَ يَرُدُّ الطِّيبَ.
}2582{ في هذا الحديث: بيان ما لا يُرَد من الهدية، وهو الطيب، وإذا طيب إنسان إنسانًا في يده فلا شك في دخوله في الحديث، وإن أهدى له قارورة طيب فإن كانت ثمنًا لدينه ليميل عن الحق أو يقبل الباطل فإنه يردها، وإلا قبلها وأثاب عليها كما ثبت في النصوص السابقة.
وجاء في حديث رواه الترمذي رحمه الله: «ثلاث لا ترد: الوسائد والدهن واللبن» [(653)]، وقد أشار الشارح رحمه الله إلى أنه ليس على شرط البخاري رحمه الله، وأنه أتى بما هو على شرطه وهو عدم رد الطيب إلا أنه أشار بالترجمة إليه فقال: «بَاب مَا لاَ يُرَدُّ مِنْ الْهَدِيَّةِ» ، يعني: كالطيب وغيره.
قوله: «وَزَعَمَ» الزعم يطلق على الادعاء الكاذب كما في قوله تعالى: [التّغَابُن: 7]{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا}. ويطلق الزعم على القول كما في هذا الحديث، وكما في قول السائل في الحديث الآخر: وزعم رسولك أن الله عز وجل فرض علينا خمس صلوات في كل يوم وليلة[(654)]؛ فزعم هنا بمعنى قال.
 مَنْ رَأَى الْهِبَةَ الْغَائِبَةَ جَائِزَةً
}2583{، }2584{ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: ذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما وَمَرْوَانَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ قَامَ فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا»؛ فَقَالَ النَّاسُ: طَيَّبْنَا لَكَ.
هذه الترجمة فيها بيان الهبة الغائبة وأنها جائزة .
}2583{، }2584{ ذكر في هذا الحديث قصة هوازن حينما غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك أخذ ذراريهم ونساءهم وأموالهم غنيمة وانتظر بضع عشرة ليلة لعلهم يأتون تائبين فلم يأتوا، فقسم الغنائم بين الناس من الأموال والغنم والإبل والنساء والذراري، ثم جاءوا بعد ذلك تائبين، فقالوا: يا رسول الله، إنا جئنا تائبين فرد علينا أموالنا ونساءنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال» [(655)]؛ فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم غير راد عليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: نختار نساءنا وأولادنا، ولا نريد الغنم والإبل؛ فخطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس فقال: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ» يعني: نساءهم وأبناءهم، «فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ» ، يعني: من أحب أن يعطيهم ما عنده من النساء والأولاد باختياره فلا بأس، «وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا» ، يعني: من أحب أن يتمسك بحقه فليسلم النساء والأولاد الآن ونعوضه عنها من أول غنيمة، وليس المعنى أنه يبقي عليهم، بل المعنى أنه يبقى على استحقاقه ويُسَلّم ما في يده الآن؛ فسلم الناس كلهم ما في أيديهم.
والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعد وفد هوازن أنه سيهب لهم سبيهم، وهو ليس عنده فلم يكن السبي حاضرًا أمامه صلى الله عليه وسلم، بل كان غائبًا في أيدي الناس.
واستدل به المؤلف رحمه الله على جواز الهبة الغائبة، كأن يقول مثلاً: وهبتك السيارة الفلانية وليست عنده، ثم تأتي بعد يوم أو يومين فيعطيه إياها؛ ولهذا قال: «بَاب مَنْ رَأَى الْهِبَةَ الْغَائِبَةَ جَائِزَةً» ؛ المؤلف رحمه الله لم يجزم بالحكم؛ لأنها مسألة خلافية بين أهل العلم؛ فالهبة عند الجمهور من شرطها القبض فلابد أن يقبضها، والعين الغائبة لا يقبضها؛ ولهذا فإن المؤلف رحمه الله لم يجزم بجواز ذلك فقال: «بَاب مَنْ رَأَى الْهِبَةَ الْغَائِبَةَ جَائِزَةً» ، يعني: في أحد القولين، والحديث: دليل لهم.
 الْمُكَافَأَةِ فِي الْهِبَةِ
}2585{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا.
لَمْ يَذْكُرْ وَكِيعٌ وَمُحَاضِرٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ.
}2585{ قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» ، وقال في الترجمة: «الْمُكَافَأَةِ فِي الْهِبَةِ» ، إشارة إلى أن المراد بالهدية في الحديث الهبة.
وتطلق الهبة على ما يريد به صاحبها عوضًا إما في الآخرة وهو الثواب، وإما في الدنيا وهو المال، وأما الهدية فإنها تطلق في الغالب على ما يريد به صاحبها التودد والمحبة دون العوض، وإن كان يطلق أحدهما على الآخر.
وفيه: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من عادته المستمرة أنه يقبل الهدية ويثيب عليها.
 الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ
وَإِذَا أَعْطَى بَعْضَ وَلَدِهِ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَيُعْطِيَ الآْخَرِينَ مِثْلَهُ وَلاَ يُشْهَدُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ».
وَهَلْ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّتِهِ وَمَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ يَتَعَدَّى.
وَاشْتَرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُمَرَ بَعِيرًا ثُمَّ أَعْطَاهُ ابْنَ عُمَرَ وَقَالَ: اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ.
}2586{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا فَقَالَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟» قَالَ: لاَ قَالَ: «فَارْجِعْهُ».
قوله: «الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ» يعني: عطية الوالد لولده.
}2586{ حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أعطاه غلامًا ـ يعني: عبدًا ـ فأراد أن يَشهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى: أن أمه عمرة بنت رواحة قالت: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عَمْرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أُشهدك يا رسول الله؛ فقال: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟» قال: لا؛ قال: «فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم» ، قال: فرجع فرد عطيته[(656)].
وفي الحديث: دليل على أنه يجب العدل بين الأولاد الذكور والإناث في الهبة والعطية، البار منهم وغير البار، والعدل أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين كقسمة الله تعالى في الميراث في أصح قولي العلماء، وقال بعض العلماء: العدل أن يكون الذكر والأنثى على حدٍّ سواء.
وإن أبى الأب العدل فليرتجع العطية ويردها إليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَارْجِعْهُ» .
ومن العدل أن الأب إذا أعطى واحدًا سيارةً يعطي الباقين، وإلا يجعلها باسمه ولا يجعلها باسم الولد والولد يقضي حاجاته عليها، وإذا أعطى واحدًا أرضًا يعطي الثاني أرضًا مثله، ولو أعطى واحدًا دراهم يعطي الثاني دراهم قدرها، وكذلك تحلية البنات بالذهب والفضة إذا كان شيئًا كثيرًا، فقد يقال: إنه لابد من استسماح الأولاد الذكور، فإن لم يسمحوا أعطاهم مثل ذلك وإلا فليرتجع الحلي من البنات، وقد يقال: إن الحلي مما تجري به العادة وإنه من جنس النفقة، ولاسيما في البنات الصغار.
والنفقة على المحتاج واجبة صغيرًا كان أو كبيرًا، ولا يجب العدل فيها؛ فإذا كان الإنسان عنده بعض الأبناء أغنياء وبعضهم فقراء لا يستطيعون الكسب وليس عندهم شيء، فإنه ينفق على المحتاجين، ولا يجب عليه أن يعطي غير المحتاجين شيئًا؛ لأن هذه نفقة وما هي عطية.
ومن الحوائج تزويج الذكر؛ لأن هذا من أهم المهمات؛ فمن يحتاج إلى الزواج يزوجه، ولا يعطي الآخر مثله، ويخطئ بعض الناس في كتابة الوصية أنه زوج ابنه بكذا وكذا وأنه يوصي للابن الثاني بمبلغ من المال مقابل ذلك، فهذا غلط والوصية باطلة؛ فيزوج من احتاج إلى الزواج، ثم إذا بلغ الثاني الزواج زوجه، وإذا توفي فلا يجب عليه شيء؛ لأن هذا من جنس النفقة.
وجمهور العلماء يرون أن التسوية بين الأولاد في العطية مستحبة وليست واجبة، وهذا قول ضعيف، والقول الثاني: أن التسوية بين الأولاد واجبة، وهذا هو الصواب؛ لأن الأحاديث واضحة كقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» [(657)]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فَارْجِعْهُ» ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟» قال: بلى، قال: «فلا إذن» [(658)]، فالأحاديث صريحة في أنه يجب التسوية والقول بأنه مستحب قول ضعيف.
ويجب التسوية في العطية بين الزوجات فيعدل بينهن، لكن لو كانت له زوجة واحدة يعطيها ما يشاء ولو لم يعط لأولاده، فالأولاد شيء والزوجة شيء آخر، وله أن يعطي أولاده ما يشاء، ولا يساوي بينهم وبين الزوجات؛ فالأولاد حزب والزوجات حزب.
 الإِْشْهَادِ فِي الْهِبَةِ
}2587{ حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَالَ: «أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟» قَالَ: لاَ؛ قَالَ: «فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ»، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ.
قوله: «بَاب الإِْشْهَادِ فِي الْهِبَةِ» ، وفي الباب السابق قال: «وَلاَ يُشْهَدُ عَلَيْهِ» يعني: لا يشهد على الهبة إذا كانت جورًا.
}2587{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث عطية والد النعمان بن بشير رضي الله عنه، وأن زوجته عمرة بنت رواحة أمرته أن يشهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: مشروعية الإشهاد على العطية حتى تثبت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على والد النعمان رضي الله عنه الإشهاد، وإنما أنكر عليه عدم العدل بين أولاده.
وفيه: وجوب العدل بين الأولاد في العطية، وأنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين على أصح قولي العلماء ـ كما تقدم ـ كقسمة الله عز وجل لهم في الميراث.
 هِبَةِ الرَّجُلِ لاِمْرَأَتِهِ وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: جَائِزَةٌ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لاَ يَرْجِعَانِ.
وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ».
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِيمَنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: هَبِي لِي بَعْضَ صَدَاقِكِ أَوْ كُلَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى طَلَّقَهَا فَرَجَعَتْ فِيهِ قَالَ: يَرُدُّ إِلَيْهَا إِنْ كَانَ خَلَبَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ خَدِيعَةٌ جَازَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: [النِّسَاء: 4]{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا}.
}2588{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي؛ فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ الأَْرْضَ، وَكَانَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَذَكَرْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي: وَهَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
}2589{ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ».
هذه الترجمة معقودة لهبة الرجل لامرأته وهبة المرأة لزوجها، يعني: الهبة بين الزوجين.
قوله: «قَالَ إِبْرَاهِيمُ: جَائِزَةٌ» إبراهيم هو النخعي الفقيه، وجائزة: أي: لا رجوع فيها.
قوله: «لاَ يَرْجِعَانِ» يعني: لا يرجعان في الهدية، فإذا أهدى الزوج لزوجته هدية فلا يرجع فيها إذا قبضتها، والزوجة إذا أهدت لزوجها هدية لا ترجع فيها إذا قبضها؛ لعموم حديث: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» ، فالهدية لا يرجع فيها، ولا يستثنى من هذا إلا هبة الوالد لولده.
قوله: «وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ» . فالنبي صلى الله عليه وسلم استأذن نساءه في أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها؛ لأن المريض يشق عليه التنقل كل يوم لبيت، فأذنَّ له صلى الله عليه وسلم.
ووجه الدلالة للترجمة أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهبن حقهن من الأيام على رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها لما استأذنهن، فيقاس على ذلك هبتهن المال، وهذا استنباط دقيق من البخاري رحمه الله.
قوله: «وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»» وجه الدلالة: أن هذا عام يشمل هبة المرأة لزوجها، ويشمل هبة الرجل لامرأته، ولا يستثنى من هذا إلا هبة الوالد لولده.
قوله: «هَبِي لِي بَعْضَ صَدَاقِكِ أَوْ كُلَّهُ» ، يعني: أعطيني بعض الصداق أو كله إذا كان الصداق في ذمته، «ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى طَلَّقَهَا فَرَجَعَتْ فِيهِ قَالَ: يَرُدُّ إِلَيْهَا إِنْ كَانَ خَلَبَهَا» يعني: إن كان خدعها، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا بايعت فقل: لا خلابة» [(659)]، يعني: لا خديعة أو لا تخدعوني.
قوله: «وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ خَدِيعَةٌ جَازَ» ، فالزهري رحمه الله يرى أن من قال لزوجته: أعطيني الصداق هبة ثم أعطته؛ فإن كان خدعها ثم طلقها بعد ذلك فلها أن ترجع في هبتها، وإن لم يكن قد خدعها وأعطته عن طيب نفس مضت هذه الهبة، وهذا التفصيل جيد، والجمهور يرون أنه لا يجوز له مطلقًا، واستدل الزهري رحمه الله بقول الله تعالى: [النِّسَاء: 4]{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا *}.
}2588{ قوله: «فَأَذِنَّ لَهُ» ، يعني: أن زوجاته صلى الله عليه وسلم وهبن حقهن من الأيام، ويقاس عليه الهبة في المال.
قوله: «وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ» . الرجل الآخر هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
}2589{ قوله: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» . وجه الدلالة: أن هذا عام يشمل هبة المرأة لزوجها والرجل لامرأته، ولا يستثنى إلا الوالد في هبته لولده.
 هِبَةِ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَعِتْقُهَا إِذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: [النِّسَاء: 5]{وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}.
}2590{ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِيَ مَالٌ إِلاَّ مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَأَتَصَدَّقُ؟ قَالَ: «تَصَدَّقِي، وَلاَ تُوعِي، فَيُوعَى عَلَيْكِ».
}2591{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَنْفِقِي، وَلاَ تُحْصِي؛ فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ».
}2592{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُبُكَيْرٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؟ قَالَ: «أَوَفَعَلْتِ؟» قَالَتْ: نَعَمْ؛ قَالَ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَِجْرِكِ».
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ: عَنْ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ إِنَّ مَيْمُونَةَ أَعْتَقَتْ.
}2593{ حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا، وَلَيْلَتَهَا غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
هذا الباب لهبة المرأة من مالها لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فيجوز للمرأة أن تهدي من مالها لغير زوجها، ويجوز أن تعتق إذا كان عندها عبد أو أمة ولو لم يأذن الزوج إذا كانت رشيدة؛ ولهذا قال رحمه الله: «إِذَا لَمْ تَكُنْ سَفِيهَةً فَإِذَا كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ» ؛ لقول الله تعالى: [النِّسَاء: 5]{وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}؛ والسفيه هو الذي لا يحسن التصرف في المال.
}2590{، }2591{ قوله: «فَأَتَصَدَّقُ؟» على تقدير حرف الاستفهام، والتقدير: أفأتصدق؟
قوله في حديث الباب الأول: «تَصَدَّقِي، وَلاَ تُوعِي، فَيُوعَى عَلَيْكِ» ، وفي حديث الباب الثاني: «أَنْفِقِي، وَلاَ تُحْصِي؛ فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تتصدق ولم يقل: استأذني زوجك؛ فدل على أن المرأة الرشيدة تتصرف في مالها وتهب لزوجها ولغيره بغير إذنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وَلاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» أي: لا تمسكي فيمسك الله عز وجل عليك، وهذا من باب المقابلة والمجازاة بالمثل، مثل قوله تعالى: [الأنفَال: 30]{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ}.
وأسماء رضي الله عنها أخت عائشة رضي الله عنها وهي أسن منها، وكانت تحت الزبير بن العوام رضي الله عنه.
}2592{ في الحديث: أن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أعتقت وليدة ـ يعني: جارية ـ ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدل على أن المرأة الرشيدة تتصرف في مالها بالهبة والعتق والصدقة، ولا يجب عليها أن تستأذن الزوج.
قوله: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؟» ، يعني: جاريتي، فلم ينكر عليها صلى الله عليه وسلم، وإنما قال صلى الله عليه وسلم: ««أَوَفَعَلْتِ؟» قَالَتْ: نَعَمْ؛ قَالَ: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَِجْرِكِ»» ؛ فيه: دليل على أن الهبة للأقارب والصدقة عليهم أفضل من العتق؛ لما فيه من صلة الرحم والإحسان إلى الأقارب ومواساتهم فيجب أن يقدم الأقارب على غيرهم في الصدقة والهبة، إلا إذا كان البعيد محتاجًا والقريب غير محتاج فيقدم سد حاجة الفقير الأجنبي على القريب الغني.
أما حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها» [(660)]، فيجاب عنه بجوابين:
الجواب الأول: أنه شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة فحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حديث حسن لكنه إذا خالف ما هو أوثق منه يكون شاذًّا.
الجواب الثاني: أن المرأة لا يجوز لها عطية في مال زوجها إلا بإذنه، وأما في مالها فلها أن تتصرف بغير إذنه كيفما شاءت ما دامت رشيدة.
}2593{ قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ» . هذا من عدله صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها ولو تكرر.
وإذا أراد الرجل السفر بإحدى زوجاته لأداء فريضة الحج فإنه يقرع بينهن حتى لو كانت إحداهن لم تؤد الفريضة وبقيتهن قمن بأدائها.
قوله: «وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا، وَلَيْلَتَهَا غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ تَبْتَغِي بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . فمن عدله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة رضي الله عنها لما كبر سنها وخشيت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم وهبت يومها وليلتها لعائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأحب نسائه إليه، فكان صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة رضي الله عنها ليلتين ليلتها وليلة سودة رضي الله عنها.
والشاهد من الحديث: أن هبة سودة رضي الله عنها يومها وليلتها لعائشة رضي الله عنها يقاس عليه هبة المال.
وفيه: دليل على جواز هبة المرأة بغير إذن زوجها، وهذا من دقيق استنباط البخاري رحمه الله.
وإذا اصطلح الرجل مع زوجته على إسقاط بعض حقها فلا بأس طالما رضيت هي بذلك، كأن يتفقا على أن ليس لها ليلة معينة، أو على أنها ليس لها نفقة أو كسوة، كل ذلك مع ضرورة أن يكون الزواج معلنًا، ومن هنا نعلم ضوابط زواج المسيار.
 بِمَنْ يُبْدَأُ بِالْهَدِيَّةِ
}2594{ وَقَالَ بَكْرٌ: عَنْ عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا فَقَالَ لَهَا: «وَلَوْ وَصَلْتِ بَعْضَ أَخْوَالِكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَِجْرِكِ».
}2595{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: «إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا».
}2594{ قوله: «وَلَوْ وَصَلْتِ بَعْضَ أَخْوَالِكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَِجْرِكِ» فيه: دليل على أنه يبدأ في الهدية ـ عند الاستواء في صفات الاستحقاق ـ بالقريب قبل البعيد، لكن إذا كان القريب غنيًّا والبعيد فقيرًا محتاجًا فإنه تُسَدُّ حاجة الفقير.
}2595{ قوله: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: «إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا»» . فيه: أنه عند الاستواء في جميع الصفات يقدم الأقرب، وإذا كانت الهدية مما ينقسم فينبغي أن تهدي لجيرانك كلهم، وإلا تعطي الهدية لأقرب الجيران بابًا، فالعبرة بقرب الباب لا بالجدار؛ أما إذا أمكن الإهداء للقريب والبعيد أو الإهداء للجيران جميعًا فهذا هو الأولى.
 مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْهَدِيَّةَ لِعِلَّةٍ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: كَانَتْ الْهَدِيَّةُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً وَالْيَوْمَ رِشْوَةٌ.
}2596{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ بِالأَْبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَرَدَّهُ، قَالَ صَعْبٌ: فَلَمَّا عَرَفَ فِي وَجْهِي رَدَّهُ هَدِيَّتِي، قَالَ: «لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ، وَلَكِنَّا حُرُمٌ».
}2597{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ الأَْزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأُْتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي؛ قَالَ: «فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ: إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟» ثَلاَثًا.
هذه الترجمة في بيان عدم قبول الهدية لسبب.
قوله: «كَانَتْ الْهَدِيَّةُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً وَالْيَوْمَ رِشْوَةٌ» . هذا قاله عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه في آخر القرن الأول فكيف بالقرون المتأخرة، ونحن الآن في القرن الخامس عشر؟!
والمعنى أن الهدية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصد بها المودة والتحبب، أما اليوم فيقصد بها الميل عن الحق وفعل الباطل.
}2596{ ثم ذكر حديث الصعب بن جثَّامة رضي الله عنه وكان رجلاً مضيافًا سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل فصاد حمار وحش وأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فرده النبي صلى الله عليه وسلم، فظهر على وجه الصعب شيء من التكدر؛ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم العلة وقال: «لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ، وَلَكِنَّا حُرُمٌ» ، يعني: لو لم نكن محرمين لقبلنا الصيد؛ وذلك لأنه صاده لأجله، والمحرم لا يأكل الصيد إذا صيد لأجله، أو شارك في صيده، أو أشار إليه، أو أعان عليه؛ أما إذا لم يُصَد لأجله ولم يشر ولم يعن جاز له أن يأكل كما في قصة الحمار الوحشي الذي صاده أبو قتادة رضي الله عنه، حيث أكل أصحابه منه[(661)]؛ لأنهم ما أعانوه ولا أشاروا إليه ولا صاده لأجلهم، وأما هنا فإن الصعب رضي الله عنه صاده من أجل النبي صلى الله عليه وسلم فرده.
وفيه: دليل على أن المهدى إليه إذا رد الهدية فإنه يبين الأسباب التي ردها من أجلها ويعتذر إلى المهدي حتى لا تقع في نفسه حزازات عليه.
}2597{ حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في قصة الرجل من الأزد الذي يقال له: ابن الأتبية؛ حيث بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عاملاً على الصدقة، فأهدى له بعض الناس فأخذ الهدية، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب الناس وبين أن هذه الهدية لا يجوز للإنسان أن يأخذها؛ لأنه ما أهديت إليه إلا من أجل عمالته، فهي رشوة حتى يتساهل معهم في أخذ الصدقات، ومن أخذها فإنه يردها فتكون في بيت المال، ولا يأخذها لنفسه؛ لأنه لو كان في بيت أبيه وأمه ما أهدوا له، لكن لما صار عاملاً عليهم أو مديرًا أو رئيسًا أو وزيرًا صاروا يهدون له حتى يخفف عنهم، ولهذا لما قدم الرجل قال: «هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي؛ قَالَ: «فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟» ثم بين أن العامل إذا أعطي هدية وأخذها كانت من الغلول، فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ: إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ» والرغاء صوت البعير «أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ» . والخوار صوت البقرة «أَوْ شَاةً تَيْعَرُ» ، وفي اللفظ الآخر: «على رقبته رقاع تخفق» [(662)] «ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه» من شدة المبالغة، وهو يقول: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟» .
 إِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ عِدَةً
ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ
وَقَالَ عَبِيدَةُ: إِنْ مَاتَ وَكَانَتْ فُصِلَتْ الْهَدِيَّةُ وَالْمُهْدَى لَهُ حَيٌّ فَهِيَ لِوَرَثَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فُصِلَتْ فَهِيَ لِوَرَثَةِ الَّذِي أَهْدَى.
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ فَهِيَ لِوَرَثَةِ الْمُهْدَى لَهُ إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ.
}2598{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ سَمِعْتُ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا» ثَلاَثًا، فَلَمْ يَقْدَمْ حَتَّى تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا؛ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَنِي؛ فَحَثَى لِي ثَلاَثًا.
هذه الترجمة موضوعها هل يشترط في صحة الهبة القبض أم لا؟ فإذا قال: وهبت لك سيارة من غير أن يسلمها إليه، هل تلزم أو لا تلزم؟ وهي مسألة خلافية، والجمهور على أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، أما إذا لم يُقبضها ولا سلمها إياه فلا تلزم، وقيل: إنها تلزم ولا يشترط القبض، وإلى هذا جنح البخاري رحمه الله في الترجمة: «بَاب إِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ وَعَدَ عِدَةً، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ» يعني: قبل أن تصل الهدية للمهدى له، أي: قبل أن يقبضها.
قوله: «إِنْ مَاتَ» يعني: المهدي «وَكَانَتْ فُصِلَتْ الْهَدِيَّةُ» يعني: فصلها عن ماله.
قوله: «وَالْمُهْدَى لَهُ حَيٌّ» جملة حالية، والمعنى: وكانت فصلت الهدية حالة كون المهدى له حيًّا، يعني: قبل أن يموت.
يعني: إذا وهب شخص هبة ثم مات الاثنان المهدي والمهدى له فالجمهور على أنها لا تلزم إلا إذا قبضت، وتكون لورثة المهدي، والبخاري رحمه الله وجماعة يفصلون: فإذا كان فصلها من ماله قبل أن يموت وجعلها على حدة تؤخذ وتعطى لورثة المهدى له، أما إذا لم يفصلها فإنها ترجع إلى ورثة المهدي.
قوله: «أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلُ فَهِيَ لِوَرَثَةِ الْمُهْدَى لَهُ إِذَا قَبَضَهَا الرَّسُولُ» يعني: سواء مات المهدي أو المهدى له فإنها ترجع إلى ورثة المهدى له إذا قبضها الرسول صلى الله عليه وسلم.
}2598{ قوله: ««لَوْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا» ثَلاَثًا» هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه ووعده بأن يعطيه من مال البحرين، «فَلَمْ يَقْدَمْ» أي: مال البحرين «حَتَّى تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا» ، فجاء جابر رضي الله عنه فقال: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَدَنِي» ، أي: وعدني أن يعطيني من مال البحرين؛ فأعطاه ثلاث حثيات وفاء بِعَدِةِ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذه هبة لم يقبضها.
 كَيْفَ يُقْبَضُ الْعَبْدُ وَالْمَتَاعُ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ، فَاشْتَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ».
}2599{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ مِنْهَا شَيْئًا فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيَّ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَقَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا فَقَالَ: «خَبَأْنَا هَذَا لَكَ»، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ.
هذه الترجمة معقودة لقبض العبد والمتاع الموهوب، فإذا وهب له عبدٌ أو متاعٌ فكيف يقبضه؟
قوله: «كُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ، فَاشْتَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ»» ، أي: قبض البعير بالتخلية بينه وبينه؛ لأنه راكبه.
}2599{ يحكي لنا المسور رضي الله عنه في هذا الحديث قصة ذهابه مع أبيه مخرمة رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الأقبية.
قوله: «خَبَأْنَا هَذَا لَكَ» يعني: أبقينا هذا لك، فلمسه مخرمة رضي الله عنه ـ وكان ضعيف البصر ـ وقال: «رَضِيَ مَخْرَمَةُ» ، وهذا من مداراة النبي صلى الله عليه وسلم له؛ فقد كانت في مخرمة رضي الله عنه بعض حِدّة.
وفيه: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه إليه وعليه قباء وقوله: «خَبَأْنَا هَذَا لَكَ» .
والشاهد من هذا الحديث: أن إبقاء النبي صلى الله عليه وسلم القباء لمخرمة يعتبر قبضًا.
 إِذَا وَهَبَ هِبَةً فَقَبَضَهَا الآْخَرُ وَلَمْ يَقُلْ قَبِلْتُ
}2600{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَلَكْتُ، فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ بِأَهْلِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: «تَجِدُ رَقَبَةً؟» قَالَ: لاَ، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قَالَ: لاَ، قَالَ: «فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟»، قَالَ: لاَ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَْنْصَارِ بِعَرَقٍ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: «اذْهَبْ بِهَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ»، قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا، قَالَ: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».
هذه الترجمة معقودة لبيان هل يشترط في قبض الموهوب له للهبة أن يقول: قبلت؟
والصواب: أنه إذا قبضها واستقرت عنده لا يشترط أن يقول: قبلت.
وتراجم البخاري رحمه الله دقيقة جدًّا؛ فقد جمع بين صحة الأحاديث والتراجم الفقهية التي حيرت العلماء؛ ولهذا يشكل كتابه صحيح البخاري على كثير من الناس، ولا يفهمونه؛ لأن استنباطاته دقيقة جدًّا، حتى قال العلماء: فقه البخاري رحمه الله في تراجمه.
}2600{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفيه: قصة الأعرابي الذي وقع بأهله في نهار رمضان.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عليه الكفارة.
وكفارة المجامع في رمضان مثل كفارة الظهار وهي:
أولاً: عتق رقبة.
ثانيًا: إن لم يجد صام شهرين متتابعين.
ثالثًا: إن لم يجد يطعم ستين مسكينًا.
وفيه: أن هذا الرجل كان فقيرًا لا يستطيع العتق، ولا يستطيع الصيام، ولا يجد إطعام ستين مسكينًا.
قوله: «فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَْنْصَارِ بِعَرَقٍ» . العرق مكتل فيه تمر يسع ثلاثين صاعًا، ويكفي إطعام ستين مسكينًا.
والشاهد: أن هذا الرجل قبض التمر من الأنصاري ولم يقل: قبلت؛ فدل ذلك على أنه لا يشترط في قبض الهبة أن يقول: قبلت، ثم قال الرجل بعد أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة: «عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» ، وفي اللفظ الآخر: «ضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» [(663)]، وفي رواية: «حتى بدت أنيابه» [(664)].
ففي أول القصة قال الرجل: «هَلَكْتُ» ؛ لأن المعاصي هلاك، ثم ما لبث أن طمع في أخذ الصدقة وأن يطعمها أولاده.
واختلف العلماء: هل تبقى في ذمته أو تسقط عنه؟ فمن العلماء من قال: تبقى في ذمته، ومنهم من قال: تسقط عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزمه بها، والأقرب أنها تبقى في ذمته إذا أيسر.
 إِذَا وَهَبَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ
قَالَ شُعْبَةُ: عَنْ الْحَكَمِ هُوَ جَائِزٌ.
وَوَهَبَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ _ث لِرَجُلٍ دَيْنَهُ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيُعْطِهِ أَوْ لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ».
فَقَالَ جَابِرٌ: قُتِلَ أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُرَمَاءَهُ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي، وَيُحَلِّلُوا أَبِي.
}2601{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ؛ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمْتُهُ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي، فَأَبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَائِطِي، وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ، وَلَكِنْ قَالَ: «سَأَغْدُو عَلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْلِ، وَدَعَا فِي ثَمَرِهِ بِالْبَرَكَةِ فَجَدَدْتُهَا، فَقَضَيْتُهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَبَقِيَ لَنَا مِنْ ثَمَرِهَا بَقِيَّةٌ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: «اسْمَعْ وَهُوَ جَالِسٌ يَا عُمَرُ»، فَقَالَ: أَلاَّ يَكُونُ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ وَاللَّهِ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ.
هذه الترجمة قصد بها المؤلف رحمه الله أنه لا حرج في إبراء الدائن المدين، وأنه لا يحتاج إلى قبض؛ لأنه في ذمته، فإذا أبرأه منه برئت ذمته.
وإذا قال الدائن للمدين: وهبت ديني لك فهذا إبراء من الدين فلا يحتاج إلى قبض.
فهبة الدين ممن عليه الدين لا خلاف في جوازها؛ فإذا كان زيد يطلب عمرًا بألف، فقال زيد لعمرو: وهبتك الدين الذي عليك صحت الهبة ولا تحتاج إلى قبض؛ لأنه في ذمة المدين.
لكن الخلاف في هبة الدين لغير من عليه الدين، كأن يقول زيد وهو يطلب عمرًا بألف: وهبت الدين الذي عليك يا عمرو لمحمد، فالجمهور على أنه لا يصح؛ لأنه لابد أن يقبضه حتى تتم الهبة.
وذهب آخرون من أهل العلم ـ ومنهم البخاري ـ إلى أنه يصح؛ لأن الهبة عندهم لا تحتاج إلى قبض؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: «بَاب إِذَا وَهَبَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ» يعني: صح.
قوله: «لِيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ» دليل على أنه إذا تحلله من دينه فوهبه له برئت ذمته.
قوله: «وَيُحَلِّلُوا أَبِي» يعني: يبرئوه من ديونهم؛ فلو قبلوا تمر حائطه وحللوه برئت ذمته.
}2601{ ذكر المؤلف رحمه الله قصة جابر رضي الله عنه وأبيه و «أَنَّ أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حُقُوقِهِمْ» ، وجاء في الرواية الأخرى: أنهم من اليهود.
قوله: «فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمْتُهُ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي وَيُحَلِّلُوا أَبِي، فَأَبَوْا» ، لأنهم كانوا يعتقدون أن ديونهم أكثر من تمر الحائط فلم يقبلوا، قال: «فَلَمْ يُعْطِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَائِطِي، وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُمْ، وَلَكِنْ قَالَ: «سَأَغْدُو عَلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، فَغَدَا عَلَيْنَا حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْلِ، وَدَعَا فِي ثَمَرِهِ بِالْبَرَكَةِ فَجَدَدْتُهَا، فَقَضَيْتُهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَبَقِيَ لَنَا مِنْ ثَمَرِهَا بَقِيَّةٌ» فيه: ما جعله الله عز وجل من البركة في هذا التمر بسبب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وعلامة من علامات النبوة؛ حيث كثر الله عز وجل تمر الحائط بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وبارك الله عز وجل فيه، فجعل جابر رضي الله عنه يَجِدّ للغرماء حتى وفاهم حقهم وبقي له بقية خير، وفي الأول كان يطلب منهم أن يقبلوا تمر الحائط كله ويحللوه، فبارك الله عز وجل فيه وقضاهم دينهم وبقي له ما يقارب سبعة عشر وسقًا، والوسق ستون صاعًا.
قال جابر رضي الله عنه: «ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: «اسْمَعْ وَهُوَ جَالِسٌ يَا عُمَرُ»» ، وفي اللفظ الآخر: «أخبر عمر» [(665)]، فقال عمر رضي الله عنه: قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء وطاف بالنخل أن الله عز وجل سيبارك فيه، ثم قال: «أَلاَّ يَكُونُ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ وَاللَّهِ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» .
 هِبَةِ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ
وَقَالَتْ أَسْمَاءُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ: وَرِثْتُ عَنْ أُخْتِي عَائِشَةَ مَالاً بِالْغَابَةِ، وَقَدْ أَعْطَانِي بِهِ مُعَاوِيَةُ مِائَةَ أَلْفٍ، فَهُوَ لَكُمَا.
}2602{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَْشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: «إِنْ أَذِنْتَ لِي أَعْطَيْتُ هَؤُلاَءِ»، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأُِوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدًا؛ فَتَلَّهُ فِي يَدِهِ.
هذه الترجمة الغرض منها إثبات هبة المشاع وصحته، وأن الواحد إذا وهب شيئًا للجماعة جاز ذلك ولو لم يكن مقسومًا.
قوله: «وَقَالَتْ أَسْمَاءُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ: وَرِثْتُ عَنْ أُخْتِي عَائِشَةَ مَالاً بِالْغَابَةِ» ؛ والغابة تقع بخيبر، «وَقَدْ أَعْطَانِي بِهِ مُعَاوِيَةُ مِائَةَ أَلْفٍ» يعني: مائة ألف سهم «فَهُوَ لَكُمَا» فأسماء رضي الله عنها وهبت نصيبها من الغابة لابني أخيها جبرًا لخاطرهما؛ لأنهما لم يرثا.
والشاهد: أنها واحدة وهبت لاثنين: القاسم بن محمد وابن أبي عتيق رضي الله عنهما نصيبها من أرض الغابة، وهي مشاع وليست مقسومة.
}2602{ استدل المؤلف رحمه الله على ذلك بحديث سهل بن سعد رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ» . جاء في بعض الروايات أنه ابن عباس رضي الله عنهما[(666)] «وعن يساره الأشياخ» ، أي: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام: «إِنْ أَذِنْتَ لِي أَعْطَيْتُ هَؤُلاَءِ» ، فقال الغلام: «مَا كُنْتُ لأُِوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدًا» ، والسبب في كونه لم يأذن أنه يريد أن تحصل له البركة من فضل النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل الله عز وجل فيما لامس جسده من البركة.
ودل هذا على أن الأحق بالعطية من كان جالسًا على اليمين، فاليمين مقدم على اليسار، وفي اللفظ الآخر أنه قال: «الأيمنون الأيمنون» [(667)]، وفي قصة أخرى: أنه كان عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، هذا أبو بكر رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأيمن الأيمن» [(668)]، فأعطى الأعرابي؛ فدل على أن من كان على اليمين مقدم على من كان على اليسار، ولو كان من عن يمينه صغيرًا ومن عن يساره كبيرًا؛ إلا إذا استأذنه وأذن.
والشاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما لو أذن بأن يعطَى نصيبه للأشياخ الذين عن يساره لكان وهب حقه مشاعًا بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فدل على صحة هبة الواحد للجماعة وصحة هبة المشاع، وهذا هو الصواب، وعليه جمهور العلماء خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله[(669)].
 الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ وَغَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ
وَالْمَقْسُومَةِ وَغَيْرِ الْمَقْسُومَةِ
وَقَدْ وَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ.
}2603{ وقال ثَابِتٌ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ مُحَارِبٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ فَقَضَانِي وَزَادَنِي.
}2604{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَارِبٍ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: بِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا فِي سَفَرٍ فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ: «ائْتِ الْمَسْجِدَ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ»، فَوَزَنَ، قَالَ شُعْبَةُ: أُرَاهُ فَوَزَنَ لِي فَأَرْجَحَ، فَمَا زَالَ مَعِي مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى أَصَابَهَا أَهْلُ الشَّأْمِ يَوْمَ الْحَرَّةِ.
}2605{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: «أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟» فَقَالَ الْغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ، لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا فَتَلَّهُ فِي يَدِهِ.
}2606{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: «دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً»، وَقَالَ: «اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ»، فَقَالُوا: إِنَّا لاَ نَجِدُ سِنًّا إِلاَّ سِنًّا هِيَ أَفْضَلُ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: «فَاشْتَرُوهَا فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ؛ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً».
هذه الترجمة معقودة للهبة المقبوضة وغير المقبوضة والمقسومة وغير المقسومة.
والهبة إذا كانت مقبوضة فإنها تلزم عند جمهور العلماء، وأما إذا كانت غير مقبوضة فلا تلزم، وقال آخرون من أهل العلم: تلزم سواء كانت مقبوضة أو غير مقبوضة، وسواء كانت مقسومة أو غير مقسومة.
قوله: «وَقَدْ وَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِهَوَازِنَ مَا غَنِمُوا مِنْهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ» فيه: أنه لما قامت معركة بين النبي صلى الله عليه وسلم وهوازن، وأتوا بأموالهم ونسائهم وذراريهم انتصر عليهم المسلمون وساقوا النساء والذرية والغنم والإبل فصاروا غنيمة، ثم بعد ذلك جاءوا تائبين وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد سبيهم، فخطب الناس ورد إليهم سبيهم، وكون النبي صلى الله عليه وسلم رد إليهم سبيهم ونساءهم وذراريهم، فهذه هبة من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقول المؤلف رحمه الله: «وَهُوَ غَيْرُ مَقْسُومٍ» من تفقه البخاري رحمه الله؛ لأن هبة الغانمين لوفد هوازن ما غنموه كان قبل أن يقسم فيهم ويقبضوه.
}2604{ قوله: «بِعْتُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعِيرًا فِي سَفَرٍ فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ قَالَ: «ائْتِ الْمَسْجِدَ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ»» . فيه: مشروعية صلاة ركعتين للمسافر إذا قدم البلد.
قوله: «فَوَزَنَ لِي فَأَرْجَحَ» . فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً لن يعطي جابرًا رضي الله عنهحقه؛ فلما أعطاه حقه أمره بأن يزيده؛ فوزن وأرجح الميزان وزاده، وهذه الزيادة هبة من النبي صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه مقبوضة مقسومة.
قوله: «فَمَا زَالَ مَعِي مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى أَصَابَهَا أَهْلُ الشَّأْمِ يَوْمَ الْحَرَّةِ» يعني: أن جابرًا احتفظ بهذه الزيادة؛ لأنها من النبي صلى الله عليه وسلم إلى عام ثلاثة وستين من الهجرة حتى أصابها أهل الشام يوم الحرة، ويوم الحرة هذا كان حينما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، وكان أميره على المدينة ابن مطيع، فأرسل يزيد بن معاوية جيشًا إلى المدينة لإخضاعهم وإرجاعهم، وهذا الجيش حينما أخضع المدينة استحل المدينة ثلاثة أيام ونهبوا الأموال، ومن ذلك زيادة جابر رضي الله عنه، وبعض الناس يشكك في قصة الحرة ويقول: إنها لم تثبت، وهذا فيه دليل على أنها حصلت.
}2605{ في الحديث: أنه لو أذن الغلام ـ وهو ابن عباس رضي الله عنهما ـ بأن يعطَى نصيبه من الشراب للأشياخ لكان هبة منه للأشياخ غير مقسومة؛ لأنه مشاع، فدل على جواز الهبة مقسومة أو غير مقسومة، وهذا من دقائق البخاري رحمه الله، حيث يكرر الحديث في عدة تراجم لاستنباط الأحكام الفقهية؛ فقد ساق الحديث في «بَاب هِبَةِ الْوَاحِدِ لِلْجَمَاعَةِ» ، وهنا ساقه من أجل الاستدلال على أنه تصح الهبة ولو كانت غير مقسومة؛ لأن حقه من الشراب مشاع وغير مقسوم.
}2606{ في الحديث: أن هذا الرجل استسلف منه النبي صلى الله عليه وسلم بكرًا، فجاء يطالب بدينه فأغلظ على النبي صلى الله عليه وسلم حتى هم به أصحابه ـ وجاء ما يدل على أنه يهودي ـ فقال: «دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً» ، يعني: دعوه فإنه صاحب حق، ثم قال: «اشْتَرُوا لَهُ سِنًّا فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ» ، يعني: اشتروا له مثل سنه الذي استسلفه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف منه بكرًا وهو ولد الناقة، فكأنه قال: اشتروا بكرًا وأعطوه إياه، «فَقَالُوا: إِنَّا لاَ نَجِدُ سِنًّا إِلاَّ سِنًّا هِيَ أَفْضَلُ مِنْ سِنِّهِ» ، يعني: لا نجد البكر الذي له وإنما نجد أكبر منه، فقال: «فَاشْتَرُوهَا فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ» ، ولو كان أكبر من سنه؛ «فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً» ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يعطى المدين زيادة على حقه، وهذه الزيادة هبة مقسومة.
والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف ولد الناقة الذي له سنة أو سنتان، وأعطاه رباعيًّا له ثلاث أو أربع سنوات، وهذه الزيادة هبة مقسومة من النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الدين.
 إِذَا وَهَبَ جَمَاعَةٌ لِقَوْمٍ
}2607{، }2608{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الحَكَمِ، وَالمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا المَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ»، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ فِي المُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاَءِ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ، فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ»، فَقَالَ النَّاسُ: طَيَّبْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّا لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِيهِ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ»، فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ طَيَّبُوا، وَأَذِنُوا.
وَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ.
هَذَا آخِرُ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ «يَعْنِي فَهَذَا الَّذِي بَلَغَنَا».
هذه الترجمة فيها الهبة من جماعة لجماعة، وسبق أن ترجم المؤلف رحمه الله بهبة الواحد للجماعة، وهبة الواحد للواحد.
}2607{، }2608{ في الحديث: أنه جاء وفد هوازن مسلمين فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وزع الغنائم وقسمها بين الناس، فقسم الأموال من الإبل والغنم، وقسم أيضًا الذراري والنساء؛ فلما جاءوا تائبين وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم أخبرهم أنه لا يرد إليهم الأمرين بل يرد واحدًا، إما النساء والذراري وإما الأموال؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا المَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ» يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة لعلهم يأتون تائبين قبل أن يقسم الغنائم، فما أتوا إلا بعد أن قسمها فيصعب استرجاعها من الناس.
قوله: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلاَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا» ، فاختاروا الذراري وتركوا الأموال، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الناس فقال: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاَءِ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ» ، وأنتم الآن قسمت الغنائم بينكم، «فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ، فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ» ، أي: من أراد أن تطيب نفسه ويرد السبي دون مقابل فله ذلك، ومن أراد أن يتمسك بحقه ونعوضه عنه من أول غنيمة تحصل فله ذلك، «فَقَالَ النَّاسُ: طَيَّبْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ» ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِيهِ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ» ، أي: رؤساؤكم، فكل قبيلة لها رئيس، والرؤساء يرفعون الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويخبرونه عمن تحتهم من القبائل، ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا.
والشاهد: أن المسلمين وهم الجماعة وهبوا حقهم من السبي لهوازن وهم جماعة؛ فدل على جواز هبة الجماعة للجماعة، كما يجوز هبة الواحد للواحد، وهبة الواحد للجماعة، وهبة الجماعة للواحد.
 مَنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ فَهُوَ أَحَقُّ
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاءُ وَلَمْ يَصِحَّ.
}2609{ حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَخَذَ سِنًّا فَجَاءَ صَاحِبُهُ يَتَقَاضَاهُ، فَقَالُوا لَهُ، فَقَالَ: «إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً»، ثُمَّ قَضَاهُ أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ وَقَالَ: «أَفْضَلُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً».
}2610{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكَانَ عَلَى بَكْرٍ لِعُمَرَ، صَعْبٍ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ أَبُوهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِعْنِيهِ»، فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ لَكَ، فَاشْتَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ».
هذه الترجمة في الشخص الذي يُهدى له هدية وعنده جلساء فهل يشاركونه في الهدية أو يختص بها؟ الصواب: أنه يختص بها، وهو أحق بها منهم.
قوله: «وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاءُ وَلَمْ يَصِحَّ» أي: لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما، ونقله البخاري رحمه الله ليبين أنه غير صحيح؛ ولهذا قال ابن بطال رحمه الله: «لو صح عن ابن عباس رضي الله عنهما لحمل على الندب فيما خف من الهدايا وما جرت العادة بترك المشاحة فيه» . اهـ. فإذا أهدي للرجل هدية وحوله جماعة اختص بها ولا يشاركونه.
}2609{ استدل المصنف رحمه الله بقصة قضاء دين النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاء يتقاضاه فقضاه أفضل من سنه؛ لأنه استسلف منه بكرًا وأعطاه رباعيًّا، وقال: «أَفْضَلُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» .
والشاهد: أن الزيادة على سنه -وهي متصلة- هدية لصاحب الحق وليس لجلسائه منها شيء؛ فدل على أن من أهدي له هدية وحوله جلساء فإنه يختص بها دونهم.
}2610{ في الحديث: أن عمر رضي الله عنه كان له بكر صعب قد ركبه ابنه عبدالله رضي الله عنه، وكان يتقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: «لاَ يَتَقَدَّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ» ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «بِعْنِيهِ» ، يعني: بعني هذا الجمل، «فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ لَكَ، فَاشْتَرَاهُ» ، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وهبه لابنه عبدالله رضي الله عنه، ثم قال: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدَاللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ» .
وفي هذا الحديث فوائد:
فيه: أن هذا الجمل هدية من النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله رضي الله عنه، ولم يكن لعمر رضي الله عنه منه شيء وهو جليس ابنه؛ فدل على أن من أهدي له شيء وعنده جلساء فلا يكون لهم منه ولا يشاركونه.
وفيه: جواز شراء الرئيس من الرعية إذا لم يكن ذلك سببًا في الميل عن الحق ولا في النقص من ثمن السلعة، فلا بأس أن يشتري الرئيس أو القاضي أو الداعية أو طالب العلم ويبيع ولا حرج.
وفيه: أن مال الابن غير مال الأب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى البعير من عمر رضي الله عنه وأعطاه لابنه عبدالله رضي الله عنه.
وفيه: دليل على أن الراكب على الدابة إذا أهديت له وهو عليها فيعتبر هذا قبضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهب البعير لعبدالله رضي الله عنه وهو عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: «هُوَ لَكَ» ، فصار هذا قبضًا له.
 إِذَا وَهَبَ بَعِيرًا لِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ
}2611{ وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ وَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِعُمَرَ بِعْنِيهِ فَابْتَاعَهُ فَقَالَ النَّبِيُّصلى الله عليه وسلم: هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ.
}2611{ هذا هو الحديث السابق، كرره المؤلف رحمه الله لاستنباط الأحكام، فساقه في الترجمة السابقة لبيان أن من وهب له شيء وحوله جلساء فلا يشاركونه، وساقه هنا في هذه الترجمة لبيان أن من وهب له دابة وهو راكب عليها فإن هذا يعتبر قبضًا، ويكون هذا جائزًا؛ ولهذا قال: «بَاب إِذَا وَهَبَ بَعِيرًا لِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ» فالنبي صلى الله عليه وسلم اشترى البعير من عمر رضي الله عنهوكان ابنه عبدالله رضي الله عنه راكبًا على البعير فوهبه له؛ فدل هذا على جوازه، ويعتبر هذا قبضًا ما دام أنه كان راكب البعير، ومثله إذا كان راكبًا السيارة فوهبها له فيعتبر ذلك قبضًا.
وقوله: «وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ:» ، الحميدي هذا من شيوخ البخاري رحمه الله، والحديث معلق وليس مسندًا، وقد علقه بصيغة الجزم، ولم يصرح بالسماع؛ فما قال: حدثنا الحميدي، مع أنه من شيوخه الذين سمع منهم الكثير، فيحتمل أنه سمعه منه مذاكرة لا في مجلس التحديث.
 هَدِيَّةِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهَا
}2612{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ؟ قَالَ: «إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ»، ثُمَّ جَاءَتْ حُلَلٌ فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، وَقَالَ: أَكَسَوْتَنِيهَا وَقُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ! فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا»، فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا.
}2613{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِيٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ؛ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا»، فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا»، فَأَتَاهَا عَلِيٌّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا؛ فَقَالَتْ: لِيَأْمُرْنِي فِيهِ بِمَا شَاءَ، قَالَ: «تُرْسِلُ بِهِ إِلَى فُلاَنٍ أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ».
}2614{ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَهْدَى إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةَ سِيَرَاءَ، فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ؛ فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي.
هذه الترجمة معقودة لهدية ما يكره لبسها للمهدَى إليه، وهو أن يهدي شخص لشخص شيئًا يكره له أن يلبسه، وهذه الكراهة قد تكون للتحريم وقد تكون للتنزيه، كأن يهدي مثلاً سوارًا من ذهب لرجل فيكره له أن يأخذه؛ لأنه يحرم على الرجل لبس الذهب، لكن إذا أخذه لا بأس أن يبيعه ويأخذ ثمنه أو يعطيه زوجته أو إحدى محارمه ممن تلبسه، ولا حرج في هذا.
}2612{ قوله: «حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ» ، يعني: حلة حرير تباع.
قوله: «لَوْ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ؟» ، فيه: دليل على مشروعية التجمل ولبس الثياب الجميلة للجمعة ولمقابلة الوفود.
قوله: «إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ» ، يعني: من لا نصيب له في الآخرة.
وفيه: دليل على تحريم لبس الرجل للحرير.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عمر رضي الله عنه شراء حلة الحرير، أما التجمل فلم ينكره عليه؛ فدل على مشروعية التجمل ولبس الثياب الجميلة يوم الجمعة وللوفد.
قوله: «ثُمَّ جَاءَتْ حُلَلٌ» ، أي: من حرير «فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، وَقَالَ: أَكَسَوْتَنِيهَا وَقُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ!» ، يعني: يا رسول الله، كيف ترسل لي حلة حرير، وأنت قلت في حلة عطارد: «إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ» ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا» . وهذا هو الشاهد من الحديث ففيه دليل على أن الإنسان إذا أهدي له هدية لا يحل له لبسها ـ كثوب حرير ـ فلا بأس أن يأخذها ويهديها مثلاً لإحدى محارمه التي تلبس الحرير؛ ولهذا كساها عمر رضي الله عنه أخًا له من أمه بمكة مشركًا.
ومعلوم أن المشركين لا يلتزمون بأحكام الشرع؛ لأن الشرك أعظم من ذلك.
وفيه: مشروعية صلة القريب المشرك إذا لم يكن حربيًّا فيطعمه ويسقيه ويكسوه كما قال الله تعالى: [المُمتَحنَة: 8]{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *} يعني: لا ينهاكم الله عز وجل عن برهم والعدل فيهم [المُمتَحنَة: 9]{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَولَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}، فالكافر الحربي لا يهدى إليه ولا يطعم ولا يسقى وليس بيننا وبينه إلا الحرب، أما الكافر الذمي الذي لا يقاتل المسلمين ويدفع الجزية وكذلك المعاهد والمستأمن، فهذا يطعم ويسقى ويجوز إهداء الهدية له، بل يجوز الوقف له كما فعل بعض الصحابة رضي الله عنهم.
والشاهد من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى حلة حرير لعمر رضي الله عنه وهو ممنوع من لبسها؛ فدل على جواز ذلك، لكن ليس ذلك إذنًا له بأن يلبسها، بل ينتفع بها أو يهديها لمن يلبسها.
}2613{ في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بيت فاطمة رضي الله عنها فلم يدخل، فلما ذكرت فاطمة رضي الله عنها ذلك لعلي رضي الله عنه ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالسبب فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا» ـ أي: مخلوطًا بألوان ـ وهذا مكروه كراهة تنزيه، فأتى علي رضي الله عنه فذكر ذلك لها، «فَقَالَتْ: لِيَأْمُرْنِي فِيهِ بِمَا شَاءَ، قَالَ: «تُرْسِلُ بِهِ إِلَى فُلاَنٍ أَهْلِ بَيْتٍ بِهِمْ حَاجَةٌ»» .
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة رضي الله عنها أن ترسل بالستر المخلوط بألوان ـ وهو مكروه كراهة تنزيه ـ فتعطيه لأهل بيت بهم حاجة ينتفعون به؛ فدل هذا على أنه لا بأس إن يهدي الإنسان لشخص شيئًا مكروهًا كراهة تنزيه أو مكروهًا كراهة تحريم، وإذا كان مكروهًا كراهة تحريم فلا يستعمله ولكن يعطيه من يحل له، وإن كان مكروهًا كراهة تنزيه جاز له أن يستعمله.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى سترًا مخلوطًا بألوان امتنع من الدخول وقال: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا» ؛ فكيف بنا وحالنا الآن كما ترى؟! الستائر والكنبات والديكورات وما أشبه ذلك!!
}2614{ في الحديث: «أَهْدَى إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةَ سِيَرَاءَ» ـ أي: حلة حرير ـ فلبسها علي رضي الله عنه ظنًّا منه أنه جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهداها إليه.
قوله: «فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي» ، هكذا فعل علي رضي الله عنه بحلة الحرير لما رأى الغضب في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: «شققه خمرًا بين الفواطم» [(670)]، يقصد: زوجته فاطمة رضي الله عنها، وأمه فاطمة بنت أسد رضي الله عنها، وفاطمة بنت حمزة بن عبدالمطلب، وفاطمة امرأة عقيل بن أبي طالب.
فدل هذا على أنه لا بأس أن يهدي الإنسان إلى شخص شيئًا لا يجوز له لبسه، ولا يكون ذلك إذنًا له أن يستعمله ولكن له أن يبيعه ويستفيد بثمنه، أو يهديه لمن يجوز له لبسه كما فعل علي رضي الله عنه؛ فإنه شقق هذه الحلة من الحرير بين نسائه.
 قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بِسَارَةَ، فَدَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ أَوْ جَبَّارٌ فَقَالَ: أَعْطُوهَا آجَرَ».
وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ.
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ.
}2615{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسٌ رضي الله عنه قَالَ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُبَّةُ سُنْدُسٍ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الْحَرِيرِ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا».
}2616{ وَقَالَ سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ إِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}2617{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِيءَ بِهَا، فَقِيلَ: أَلاَ نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: «لاَ»، فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
}2618{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثِينَ وَمِائَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟»، فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً؟» أَوْ قَالَ: «أَمْ هِبَةً؟» قَالَ: لاَ بَلْ بَيْعٌ فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَايْمُ اللَّهِ مَا فِي الثَّلاَثِينَ وَالْمِائَةِ إِلاَّ قَدْ حَزَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَ لَهُ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ، وَشَبِعْنَا، فَفَضَلَتْ الْقَصْعَتَانِ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَعِيرِ أَوْ كَمَا قَالَ.
هذه الترجمة معقودة لقبول الهدية من المشركين، والترجمة التي بعدها
«بَاب الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ» ؛ فالمسلم يجوز له أن يهدي للمشرك، وأن يقبل هدية المشرك.
قوله: «وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بِسَارَةَ، فَدَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ أَوْ جَبَّارٌ فَقَالَ: أَعْطُوهَا آجَرَ»» فيه: أن إبراهيم عليه السلام قبل هدية المشرك؛ وذلك لأن إبراهيم عليه السلام لما سافر بزوجه سارة ومر بملك مصر في ذلك الزمان وكان جبارًا، قيل للملك: مر رجل هنا معه امرأة من أجمل النساء، لا ينبغي أن تكون إلا لك، فقال لها إبراهيم: سأقول أنت أختي فلا تكذبيني فأنت أختي في الإسلام؛ فليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك ـ يعني: في ذلك الوقت ـ فقال للجبار إنها أخته حتى لا يغار، ولما أرادها الجبار ومد يده إليها أصابه ما أصابه فسقط وجعل يركض برجله، وهذا من حماية الله عز وجل لأوليائه؛ لأنها مؤمنة صالحة دعت الله عز وجل فقامت تصلي وقالت: اللهم إني أحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط عليَّ هذا الكافر؛ فقبل الله عز وجل دعاءها؛ فلما أتي بها إليه وهو على كرسيه ومد يده إليها أغمي عليه وسقط حتى جعل يركض برجله؛ فدعت: اللهم إن يمت يقال: هي قتلته، فأفاق، ثم مد يده مرة ثانية فأصيب كالمرة الأولى فجعل يركض برجله، قالت: اللهم إن يمت يقال: هي قتلته فأفاق، ثم مد المرة الثالثة فسقط، فلما أفاق قال: أخرجوها عني، إنما أتيتموني بشيطانة، وأخدمها آجر[(671)] ويقال: هاجر، وهي أم إسماعيل عليه السلام، فأهدتها سارة إلى إبراهيم عليه السلام، فتسراها فأنجبت إسماعيل عليه السلام، وكان إبراهيم عليه السلام وسارة لما يرزقا ولدًا في ذلك الوقت، فلما ولدت هاجر غارت منها سارة، والله تعالى ـ وهو الحكيم العليم ـ أمر إبراهيم عليه السلام أن يذهب بهاجر إلى مكة، ثم بعد ذلك أنجبت سارة بعد اثنتي عشرة سنة فرزقها الله عز وجل بإسحاق عليه السلام.
والشاهد: أن إبراهيم النبي عليه السلام قبل هذه الهدية من المشرك، فإن قيل: هذا في شرع من قبلنا قلنا: إن الصواب أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يأتِ شرعنا بخلافه، ولم يأتِ شرعنا بإنكاره، ولا بخلافه، بل جاء ما يوافق هذا.
قوله: «وَأُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ» ، أهدتها له يهودية، فقَبِلَ النبي صلى الله عليه وسلم هدية اليهودية؛ فهذه هدية من مشرك للنبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «أهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء» ، وكان كافرًا «أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ» ؛ هذه كلها هدايا من المشركين قبلها النبي صلى الله عليه وسلم.
}2615{، }2616{ قوله: «أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُبَّةُ سُنْدُسٍ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الْحَرِيرِ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا» فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الحرير وكان لا يستعمله، والسندس والإستبرق نوعان من الحرير أحدهما رقيق والآخر غليظ؛ فعجب الناس من حسن هذه الجبة ومن ليونة الحرير ونعومته؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا» فهذا قسم من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: فضيلة سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو سيد الأوس، وهو الذي حكم في بني قريظة بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به فوق سبع سموات» [(672)]، ولما مات رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» [(673)] وهذه منقبة عظيمة، وكان قد أصيب في أكحله يوم الخندق فسأل ربه عز وجل أن يندمل الجرح حتى يحكم في بني قريظة؛ فلما حكم فيهم انتقض عليه جرحه بعد الحكم فمات شهيدًا رضي الله عنه.
والشاهد: أن أكيدر دومة ـ وهي دومة الجندل المعروفة الآن في الشمال ـ أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس وهو مشرك فقبل منه الهدية؛ فدل على جواز قبول هدية المشرك.
}2617{ في الحديث أيضًا: قبول النبي صلى الله عليه وسلم لهدية اليهودية، حيث أهدت له شاة مسمومة فأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعتبر من قبول هدية المشرك، وقال أنس رضي الله عنه في هذه الشاة: «فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» يعني: أثر السم.
قوله: «أَلاَ نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: «لاَ»» ، يعني: عفا عنها صلى الله عليه وسلم في حياته، لكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من آذاه لا يعفى عنه؛ فيقتل.
}2618{ في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم لما جاء هذا الرجل المشرك في غنم يسوقها أراد النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا منها فقال: «بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً؟» أَوْ قَالَ: «أَمْ هِبَةً؟» قَالَ: لاَ بَلْ بَيْعٌ» ، والشاهد: أنه لو قال: هبة لقبلها منه صلى الله عليه وسلم؛ فدل هذا على قبول هدية المشرك وهبة المشرك.
وفي هذه القصة أيضًا عَلَم من علامات ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مائة وثلاثين شخصًا وليس عندهم طعام ثم اشترى النبي صلى الله عليه وسلم شاة من هذا المشرك فصنعت، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسواد البطن ـ يعني: الكبد ـ أن يشوى، فحز صلى الله عليه وسلم حزة من هذا الكبد لكل واحد من المائة والثلاثين، إن كان حاضرًا أعطاه إياها، وإن كان غائبًا أبقاها له حتى يجيء ثم يعطيها إياه، فهذه شاة واحدة كثرها الله عز وجل ببركة النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن كل واحد أعطي قطعة من الكبد، وكبد الشاة لا تكفي إلا اثنين أو ثلاثة!!
وهذا فيه: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وعنايته بأصحابه؛ حيث حز لكل واحد قطعة، فإن كان حاضرًا دفعها له، وإن كان غائبًا أبقاها له.
فهذه الأحاديث استدل بها المؤلف رحمه الله على جواز قبول الهدية من المشركين، وهناك أحاديث أخرى بعضها ضعيف وبعضها صحيح تدل على رد هدية المشرك، وقد ساق الشارح رحمه الله منها قصة عامر بن مالك الذي يدعى: ملاعب الأسنة؛ حيث قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك فأهدى له فقال: «إني لا أقبل هدية مشرك» [(674)]، وفي هذا الحديث يقول الشارح رحمه الله: رجاله ثقات إلا أنه مرسل، وكذلك أيضًا في الباب حديث عياض بن حمار الذي ـ أخرجه أبو داود والترمذي ـ أنه قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة، فقال: «أسلمت؟» قلت: لا، قال: «إني نهيت عن زَبْد المشركين» [(675)]، يعني: رِفدهم وهديتهم؛ فكيف الجمع بين هذه الأحاديث؟
نقول: الجمع بين هذه الأحاديث يكون بأحد أمرين:
الأمر الأول: أن تحمل أحاديث المنع من قبول هدية المشركين على ما إذا كانت المصلحة في ردها وعدم قبولها، فإذا كانت المصلحة تقتضي رد هدية المشرك فإنها ترد ولا تقبل، وذلك كأن يكون الرد أقوى للمسلمين، وأخذل للمشركين، وأقرب إلى قبولهم للإسلام، فقد أخبر الله عز وجل عن النبي سليمان عليه السلام أن بلقيس لما أهدت له هدية ردها، قالت بلقيس: [النَّمل: 35-37]{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ *فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ *ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ *}، وهذا في شرع من قبلنا، لكن هذه الأحاديث توافقه.
والحاصل: أنه إذا كان رد الهدية فيه عزة للمسلمين وقوة وفيه خذلان للمشركين وفيه دعوة للإسلام فإنها ترد، أما إذا لم يكن فيه قوة للمسلمين ولا خذلان للمشركين فإنها تقبل.
الأمر الثاني: أن يسلك مسلك الترجيح إذا لم يمكن معرفة التاريخ ولا الجمع، فيكون أحدهم أصح وأقوى؛ فأحاديث القبول في الصحيح وأحاديث المنع ليست في الصحيح؛ فتكون أحاديث القبول أقوى وتكون مقدمة، لكن إذا أمكن الجمع فهو مقدم.
وذكر الشارح رحمه الله عدة أجوبة في الجمع بينها؛ منها: أن الامتناع فيما أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة والقبول فيما أهدي للمسلمين.
ومنها: أن الامتناع في حق من يريد بهديته التودد والموالاة، والقبول في حق من يرجى بذلك تأنيسه وتأليفه على الإسلام.
ومنها: أن يحمل القبول على من كان من أهل الكتاب، والرد على من كان من أهل الأوثان، وهذا ضعيف؛ لأن الرجل المشرك الذي اشترى منه النبي صلى الله عليه وسلم شاة ليس من أهل الكتاب.
ومن العلماء من قال: هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من ادعى نسخ المنع بأحاديث القبول، ومنهم من عكس.
وهذه الأجوبة كلها فيها نظر، والصواب ما سبق، وهو أحد أمرين: إما أن تحمل أحاديث المنع على ما إذا كانت المصلحة في ردها، وأحاديث القبول على ما إذا لم يكن في ردها مصلحة.
وإما أن يسلك مسلك الترجيح، ويقال: إن أحاديث الجواز أقوى وأصح من أحاديث المنع.
 الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [المُمتَحنَة: 8]{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *}
}2619{ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ: حَدَّثنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَى عُمَرُ حُلَّةً عَلَى رَجُلٍ تُبَاعُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ تَلْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الْوَفْدُ، فَقَالَ: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ»، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا بِحُلَلٍ؛ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مِنْهَا بِحُلَّةٍ؛ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟ قَالَ: «إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا»، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ.
}2620{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما: قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ».
قوله: «بَاب الْهَدِيَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ» هذه الترجمة عكس الترجمة السابقة وهي: «بَاب قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ» ، والمراد منها بيان حكم هدية المسلم للمشرك، وأن الهدية للمشرك ليست جائزة على الإطلاق، ولكن مقيدة بما إذا كان المشرك غير حربي، فلا بأس إذا كان ذميًّا يدفع الجزية، أو معاهدًا، أو مستأمنًا، أما إذا كان حربيًّا يحارب المسلمين ويقاتلهم فهذا لا يجوز إهداؤه، وليس بيننا وبينه إلا الحرب والقتال.
واستدل المؤلف رحمه الله بآية الممتحنة: [المُمتَحنَة: 8]{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *}، فالهدية للمشرك من البر، والله تعالى لا ينهى المسلمين عن بر المشركين الذين لم يقاتلوننا ولم يخرجوننا من ديارنا، [المُمتَحنَة: 9]{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَولَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}.
فمن قاتل المسلمين وأخرجهم من ديارهم وظاهر على إخراجهم لا يهدى إليه، ومن لم يقاتل ولم يظاهر ولم يعاون الكفار على المسلمين يهدى له ويتصدق عليه ويوقف عليه ويطعم ويسقى، فكل هذا من البر، ومن أسباب تأليفه ودعوته إلى الإسلام مثلما فعل عمر رضي الله عنه؛ حيث أهدى الحلة لأخيه المشرك في مكة، وكما سيذكر المؤلف رحمه الله قصة أسماء رضي الله عنها.
}2619{ هذا الحديث ساقه المؤلف رحمه الله في التراجم التي مضت، والمؤلف رحمه الله يكرر الأحاديث ليستنبط الأحكام، وتراجمه كلها أحكام وفقه عظيم، فصحيح البخاري فيه ميزتان:
الميزة الأولى: صحة الأحاديث؛ فقد أجمع العلماء على أن صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل من حيث صحة أحاديثه وجودة أسانيده، خلا بعض الأحرف اليسيرة.
الميزة الثانية: التراجم والفقه العظيم الذي في تراجمه التي حيرت العلماء، حتى قال العلماء: فقه البخاري رحمه الله في تراجمه، فصارت مثلاً، فتجده يكرر الحديث الواحد في تراجم مختلفة لاستنباط الأحكام.
وهذا الحديث ذكره في الإهداء بشيء لا يجوز له لبسه، وكرره هنا في الإهداء للمشرك؛ وفيه أن عمر رضي الله عنه أهدى لأخ له مشرك؛ فدل على جواز هدية المسلم للمشرك.
قوله: «رَأَى عُمَرُ حُلَّةً» ـ يعني: حلة حرير ـ «عَلَى رَجُلٍ تُبَاعُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ» ، يعني: اشترها؛ «تَلْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الْوَفْدُ» . فيه من الفوائد: استحباب لبس الثياب الجميلة يوم الجمعة وعند ملاقاة الوفود؛ لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، فما أنكر عليه قوله، وإنما أنكر عليه لبس حلة الحرير.
وفيه: دليل على تحريم لبس الرجل المسلم للحرير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ» .
ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بحلل، فأرسل إلى عمر رضي الله عنه منها بحلة، فقال: يا رسول الله، كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؛ فقال: «إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا» ، وفي ذلك دليل على أن الإنسان إذا أهدى لشخص شيئًا لا يحل له لبسه فليس معنى ذلك أنه يأذن له بأن يستعمله، بل يستفيد منه، إما أن يهديه لمن يجوز له لبسه من النساء أو من المشركين الحربيين، أو يبيعه وينتفع بثمنه.
}2620{ في الحديث: جواز الهدية للمشرك إذا لم يكن في ذلك تقوية له على المسلمين؛ فهذه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما هاجرت إلى المدينة فقدمت عليها أمها وهي مشركة في الهدنة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة ترغب في رفدها وصلتها، فاستفتت أسماء رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ» ، ثم قالت رضي الله عنها: «وَهِيَ رَاغِبَةٌ» ، يعني: راغبة في شيء تأخذه من ابنتها تصلها به، «أَفَأَصِلُ أُمِّي؟» قال صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ» ؛ فدل هذا على جواز هدية المسلم للمشرك.
وفيه: دليل على أنه لا بأس من صلة المشركين إذا لم يكونوا حربيين بالهدية والنفقة والوقف والعطية، ويكون هذا فيه ترغيب لهم في الإسلام ودعوتهم إليه، والصحابة رضي الله عنهم بعضهم أوقف على بعض أقاربه المشركين؛ وعمر رضي الله عنه كسا أخاه المشرك حلة حرير، وأسماء رضي الله عنها ـ كما في هذا الحديث ـ وصلت أمها، وآية الممتحنة واضحة: [المُمتَحنَة: 8]{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *}.