لاَ يَحِلُّ لأَِحَدٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وَصَدَقَتِهِ
}2621{ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَشُعْبَةُ قَالاَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ».
}2622{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ».
}2623{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ؛ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لاَ تَشْتَرِهِ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ؛ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ».
هذه الترجمة فيها دلالة على أن مَن وهب أحدًا هبة أو أعطاه عطية وقبضها فإنه يحرم عليه الرجوع فيها.
}2621{ قوله: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» ، وهذا تنفير شديد.
}2622{ قوله: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ» ، أي: ليس للإنسان أن يأكل قيئه؛ لما فيه من القبح والاستخباث والشناعة، وهذا يدل على تحريم الرجوع في الهبة بعد قبضها، وهو قول جمهور العلماء، وهو الصواب.
ويستثنى من هذا هبة الوالد لولده؛ فإنه يجوز له الرجوع فيها؛ جمعًا بين هذا الحديث وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه في رجوع والده في هبته له لما وهب له غلامًا ـ يعني: عبدًا ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أكل ولدك نحلت مثله؟» قال: لا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإرجاع الهبة واستردادها بقوله: «فارجعه» [(676)]، وفي لفظ: «أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟» ، قال: بلى، قال: «فلا إذن» [(677)]، وفي لفظ أنه قال: «أشهد على هذا غيري» [(678)]، وفي لفظ أنه قال: «فإني لا أشهد على جور» [(679)].
كل هذا يدل على أن الوالد إما أن يسوي بين أولاده في العطية، أو يرجع في العطية والهبة فهو مستثنى، وما عدا الوالد فإنه يحرم عليه أن يرجع في الهبة وأن يستردها، خلافًا للحنفية[(680)]؛ فبعضهم قال: لا بأس بالرجوع؛ لأن النهي ليس للتحريم، وبعضهم تعسف وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مثَّل بالكلب يقيء ثم يعود في قيئه، والكلب غير مكلف، فلو رجع في قيئه فلا حرج عليه.
والصواب: أنه يحرم الرجوع في الهبة بعد قبضها، إلا للوالد فإنه مستثنى؛ جمعًا بين الحديثين.
وأما القيء فنجس، فلو أصابك قيء في الثوب فإنه يغسل، إلا إذا كان غلامًا صغيرًا لم يأكل الطعام فإنه يكفي فيه النضح لتطهيره؛ فإن القيء من جنس البول.
}2623{ في الحديث: دليل على تحريم الرجوع في الصدقة.
وقوله: «حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، يعني: حملت حمل تمليك، لا حمل تحبيس، أي: ملَّك لشخص فرسًا ليجاهد به في سبيل الله عز وجل.
وقوله: «فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ» ، يعني: لم يحسن القيام عليه، وقصر في مئونته وخدمته؛ فظن عمر رضي الله عنه أنه هيّن عليه، وأنه سيبيعه برخص، فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم في شرائه؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَشْتَرِهِ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ؛ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» .
وفيه: دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يسترجع صدقته ولو بالشراء؛ لأن البائع سيسامح من أهدى له، أو يُسقط عنه بعض القيمة فيكون عائدًا في الجزء الذي سامحه فيه، وحتى لو اشتراه بالقيمة كاملة فلا يجوز له؛ لأن الإنسان حينما يتصدق بالشيء أو يعطيه لله عز وجل فلا ينبغي أن تتعلق به نفسه؛ فشيء بذلته لله عز وجل لا تسترده لا بالشراء ولا بغيره.

}2624{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ بَنِي صُهَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ جُدْعَانَ ادَّعَوْا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى ذَلِكَ صُهَيْبًا فَقَالَ مَرْوَانُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: ابْنُ عُمَرَ؛ فَدَعَاهُ فَشَهِدَ لَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صُهَيْبًا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً؛ فَقَضَى مَرْوَانُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ.
هذا الباب بغير ترجمة، فهو كالفصل من الباب السابق، وهو تابع له.
}2624{ ومناسبة الحديث للترجمة: أن الصحابة رضي الله عنهم بعد أن ثبتت عطية النبي صلى الله عليه وسلم لصهيب رضي الله عنه لم يسألوا: هل رجع النبي صلى الله عليه وسلم في عطيته لصهيب أم لا؟ فدل هذا على أنه لا يُرجع في الهبة.
وفيه: أن بني صهيب ادعوا بيتين وحجرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاهما صهيبًا رضي الله عنه؛ فقال مروان بن الحكم وكان أميرًا للمدينة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: «مَنْ يَشْهَدُ لَكُمَا عَلَى ذَلِكَ؟» . فهذه دعوى لابد لها من بينة، فقالوا: «ابْنُ عُمَرَ؛ فَدَعَاهُ فَشَهِدَ لَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صُهَيْبًا بَيْتَيْنِ وَحُجْرَةً؛ فَقَضَى مَرْوَانُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ» .
وفي الحديث من الفوائد: أن الحاكم يجوز له أن يكتفي بشهادة واحد إذا كان معروفًا بالورع والصلاح والنباهة والتقى، وكان مبرزًا في ذلك، كما اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة خزيمة رضي الله عنه في قصة الفرس؛ «وكان النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس وإلا بعته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال: «أو ليس قد ابتعته منك؟» فقال الأعرابي: لا والله ما بعتكه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بلى قد ابتعته منك» ، فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدًا، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: «بم تشهد؟» فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين» [(681)]، وكذلك هنا مروان قَبِل شهادة ابن عمر رضي الله عنهما واكتفى بها.
وقد يُقوَّى ذلك بيمين، كما جاء في الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد» [(682)].
وقد يُعمل بقرائن أخرى تدل على الحق.
فالأحوال تختلف، فأحيانًا يكون مدعٍ عنده شاهدان فيشهدا، وأحيانًا يكون عنده شاهد واحد مبرز في الصلاح والورع فيُكتفى به، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة خزيمة رضي الله عنه، وكما فعل مروان، وأحيانًا يكون القاضي عنده علم بالقضية فيشهد الشاهد ويحلف المدعِي، وقد يكون عنده قرائن أخرى تدل على الحق فيعمل بها، وقد يكون المدعِي ليس عنده شيء فيحلف المدعى عليه.
والشاهد: أن بني صهيب ادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى والدهم صهيبًا بيتين وحجرة، وصارت خصومة عند مروان بن الحكم ـ أمير المدينة لمعاوية رضي الله عنه ـ فطلب منهم البينة، فشهد لهم ابن عمر رضي الله عنهما فقضى لهم بها، ولم يسأل هل رجع النبي صلى الله عليه وسلم في عطيته أم لا؟ فلو كان الرجوع جائزًا لقال: فليثبتوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع في عطيته، فلما لم يطلب ذلك دل على أن الهبة لا يُرجع فيها.
 بسم الله الرحمن الرحيم مَا قِيلَ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى
أَعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهِيَ عُمْرَى جَعَلْتُهَا لَهُ [هُود: 61]{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} جَعَلَكُمْ عُمَّارًا.
}2625{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ.
}2626{ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: حَدَّثنِي النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ».
قَالَ عَطَاء: حَدَّثَنِي جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ
هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله للعمرى والرقبى، والعمرى: مأخوذة من العمر، وهو أن يعطيه العطية أو يمنحه المنحة ويقول: هي لك عمرك، أو لك ما عشت، أو يقول: أعمرتك هذه الدار أو هذه الشاة أو هذه النخلة أو هذه السيارة.
والرقبى: سميت رقبى لأنها مأخوذة من المراقبة، وهي أن يقول: لك هذه الدار، فإن متُّ قبلك فهي لك، وإن متَّ قبلي فهي لي، فكل واحد منهما يرقب موت الآخر، فإذا مات أحدهما صارت للآخر.
والعمرى والرقبى كانت في الجاهلية فأقرها الإسلام، إلا أنه ألغى الشرط الفاسد.
}2625{، }2626{ ثم أورد المؤلف رحمه الله تحت هذا الباب حديثين:
الأول: حديث جابر رضي الله عنه قال: «قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ» .
الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ» .
وفي الحديث: الذي رواه مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها؛ فإنه من أُعمر عمرى فهي للذي أُعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه» [(683)].
وهذان الحديثان اللذان ذكرهما المؤلف رحمه الله دليلان على أن العمرى جائزة، وأنها لمن وهبت له ولورثته من بعده، ولا ترجع إلى الأول.
وكانوا في الجاهلية يقولون: إن متُّ قبلك فهي لك، وإن متَّ قبلي رَجَعَت إليَّ؛ ولهذا سميت رقبى من المراقبة، فكل واحد منهما يرقب موت الآخر حتى يتملك العطية فأبطل الإسلام هذا الشرط؛ فتكون العطية صحيحة والشرط فاسدًا.
وقال بعض العلماء: إذا قال: هي لك ما عشت تكون عارية مؤقتة، فإذا مات رجعت إلى الواهب، وكذلك إذا قال: أعمرتكها وأطلق، لكن هذا قول ضعيف، والصواب الذي يدل عليه الحديث ـ وهو قول جمهور العلماء ـ أنها لا ترجع إلى الواهب مطلقًا، سواء قال: أعمرتك، أو قال: هي لك ولعقبك، أو قال: هي لك ما عشت، أو قال: هي لك، فإذا متَّ رَجَعَت إليَّ.
ومنهم من قال: إنما يكون التمليك للمنفعة دون الرقبة، وهو قول مالك[(684)] والشافعي في القديم[(685)]، لكنه قول مرجوح، والصواب أنها لا ترجع إلى الواهب مطلقًا؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها؛ فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أُعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه» [(686)]؛ فهذا صريح في أن الإنسان إذا أعمر عمرى خرجت من يده.
ومن العلماء من قال: إنه إذا قال: أعمرتك أو هي لك ما عشت أو قال: إذا متَّ رجعت إليَّ يكون العقد باطلاً من أصله.
فالأقوال في هذه المسألة ثلاثة:
الأول: قول الجمهور: أنها لا ترجع إلى الواهب مطلقًا، سواء قال: هي لك ولعقبك، أو هي لك عمرك، أو هي لك ما عشت فإذا متَّ رجعت إليَّ؛ فيصح العقد ويبطل الشرط.
الثاني: قال بعض العلماء: إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى الواهب، أما إذا قال: هي لك ولعقبك فإنها لا ترجع.
الثالث: قال آخرون من أهل العلم: إذا قال: أعمرتك أو قال: هي لك ما عشت فإذا مت رجعت إليَّ؛ يبطل العقد.
والصواب: القول الأول الذي عليه جمهور العلماء، أنها في جميع الأحوال تكون للموهوب ولا ترجع إلى الواهب.
 مَنْ اسْتَعَارَ مِنْ النَّاسِ الْفَرَسَ وَالدَّابَّةَ وَغَيْرَهَا
}2627{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ الْمَنْدُوبُ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: «مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا».
}2627{ قوله: «كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ الْمَنْدُوبُ، فَرَكِبَ» وسبق الناس واستثبت الخبر ثم رجع إليهم وهم يقابلونه فقال لهم: «لن تراعوا، لن تراعوا» [(687)] وهذا من شجاعته وإقدامه صلى الله عليه وسلم، فكان أول من خرج يستثبت، وكان هذا الفرس لأبي طلحة رضي الله عنهوكان يُتهم بأنه بطيء؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ««مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا» ، يعني: سريع الجري، ويقال للفرس: بحرًا إذا كان واسع الجري، أو لأن جريه لا ينفد كما لا ينفد البحر.
والشاهد من الحديث قوله: «فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ» ؛ ففيه: جواز الاستعارة، وبعض الشراح بوب على هذا الحديث: كتاب العارية.
والعارية مأخوذة من عار الشيء: إذا ذهب، وهي في الشرع: هبة المنافع دون الرقبة، ويجوز توقيتها فيقول: أعرتك هذا الكتاب لمدة شهر.
وإذا تلفت العارية في يد المستعير وكان مفرطًا فإنه يضمن، وإن لم يفرط واستعملها في الوجه المأذون فيه فإنه لا يضمن؛ لأنه أمين.
ولا ينبغي للإنسان أن يمنع العارية إذا كانت العارية لا تتأثر بالاستخدام؛ لأن الله تعالى ذم من يمنع العارية، وأخبر أنها من صفات الكفار، قال تعالى: [المَاعون: 1-7]{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ *فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ *وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ *فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ *الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ *وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ *}.
فذكر من صفات الكافر أنه يكذب بيوم الدين، وأنه ُ 1 0 ء پ! ! ِ ، يعني: يزجره ويدفعه دفعًا شديدًا، ُ / . - ، + ء ف! ! ِ أي: لا يطعم المسكين، ُ . _ ء صلى الله عليه وسلم! ! ِ وقيل: المراد بمنع الماعون منع الاستعارة.
فلا ينبغي للإنسان أن يتصف بصفات هؤلاء الكفار، وإن كان منع الماعون ليس كفرًا، لكن الله عز وجل جعله من صفاتهم.
وورد في العارية أحاديث لم يذكرها المؤلف رحمه الله؛ لأنها ليست على شرطه، وبعضها فيه ضعف، كحديث: «العارية مؤداة، والزعيم غارم» [(688)]، ويكفي فيها قول الله تعالى: [النِّسَاء: 58]{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، وحديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» [(689)]، لكن سماع الحسن عن سمرة فيه كلام لأهل العلم، والمشهور أنه لم يسمع عنه إلا حديث العقيقة.
 الاِسْتِعَارَةِ لِلْعَرُوسِ عِنْدَ الْبِنَاءِ
}2628{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ: حَدَّثنِي أَبِي قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَعَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَقَالَتْ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِي، انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِي الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ لِي مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلاَّ أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ.
}2628{ في الحديث: دليل على جواز الاستعارة، وأنها كانت معروفة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: دليل على أن العروس كانت تستعير شيئًا من الثياب وشيئًا من الحلي تتزين به لزوجها ثم ترده على أصحابه.
وفيه: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ضيق الحال؛ فالشيء المحتقر عندنا كان عظيمًا في زمانهم.
قوله: «دِرْعُ قِطْرٍ» ، درع: قميص، وقطر: قيل: من القطن، وقيل: ثياب من اليمن، وقيل: منسوب إلى قَطَر، وهي قطر المعروفة الآن، وكانت تسمى بالبحرين، فكل المنطقة الشرقية كانت تسمى في الأول بلاد البحرين، فقطر والإمارات والأحساء كلها كانت تسمى بلاد البحرين، أما الآن فصارت البحرين تطلق على جزء من هذه البلاد.
وقوله: «ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ» ، يعني: الدرع الذي كان على عائشة رضي الله عنها كان ثمنه خمسة دراهم، والدرهم لا يساوي شيئًا، ولكنه كان في الأول من أحسن الثياب، فكل امرأة تريد أن تتزوج تستعيره من عائشة رضي الله عنها وتلبسه لزوجها ثم ترده عليها.
قوله: «ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِي، انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِي الْبَيْتِ، وَقَدْ كَانَ لِي مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلاَّ أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ» يعني: أن جارية عائشة رضي الله عنها أنفت وتكبرت أن تلبس هذا الثوب ـ درع القطر ـ في البيت، وكان في أول الأمر تستعيره العروس، تتزين به لزوجها ثم ترده عليها.
والشاهد من هذا الحديث: جواز الاستعارة، وأن الاستعارة كانت معروفة؛ ولهذا كان هذا الثوب يستعار من عائشة رضي الله عنها.
وفيه: دليل على أن المرأة تُزين ليلة الزفاف لزوجها، سواء كان الثوب الذي ستتزين به اشترته وملكته أو استعارته، والاستعارة معروفة إلى الآن، فقد تستعير العروس ثيابًا، وقد تستعير حليًّا، ثم ترده على أهله.
وفيه: دليل على جواز العارية، وهي أن يهب الإنسان شيئًا ينتفع به المستعير ثم يرده على صاحبه، سواء كانت هذه الإعارة مؤقتة أو غير مؤقتة، وإذا تلف في يد المستعير من غير تفريط فلا يضمن، وإن كان مفرطًا فإنه يضمن.
 فَضْلِ الْمَنِيحَةِ
}2629{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نِعْمَ الْمَنِيحَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ».
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: «نِعْمَ الصَّدَقَةُ».
}2630{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ يَعْنِي شَيْئًا وَكَانَتْ الأَْنْصَارُ أَهْلَ الأَْرْضِ وَالْعَقَارِ فَقَاسَمَهُمْ الأَْنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ وَيَكْفُوهُمْ الْعَمَلَ وَالْمَئُونَةَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنَسٍ أُمُّ سُلَيْمٍ كَانَتْ أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِذَاقًا، فَأَعْطَاهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلاَتَهُ أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ خَيْبَرَ فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الأَْنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ: أَخْبَرَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ بِهَذَا وَقَالَ: مَكَانَهُنَّ مِنْ خَالِصِهِ.
}2631{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلاَهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ».
قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِمَاطَةِ الأَْذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً.
}2632{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثنِي عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ لِرِجَالٍ مِنَّا فُضُولُ أَرَضِينَ؛ فَقَالُوا: نُؤَاجِرُهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ».
}2633{ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنْ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: «وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا».
}2634{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: حَدَّثنِي أَعْلَمُهُمْ بِذَاكَ، يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى أَرْضٍ تَهْتَزُّ زَرْعًا، فَقَالَ: «لِمَنْ هَذِهِ؟» فَقَالُوا: اكْتَرَاهَا فُلاَنٌ؛ فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُ لَوْ مَنَحَهَا إِيَّاهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أَجْرًا مَعْلُومًا».
قوله: «فَضْلِ الْمَنِيحَةِ» المنيحة: هي الشيء الذي يُعطى للممنوح ليستفيد منه ثم يرده على صاحبه، وقد كانوا في الجاهلية يمنحون الشاة أو الناقة أو البقرة، فإذا رأى محتاجًا منحه ضرعها ووبرها، أو يمنحه جملاً يركبه مدة، ومثل ذلك أن يمنحه الآن سيارة يركبها مدة ويقضي عليها حوائجه، ثم يردها، أو يعطيه نخلة يأكل من ثمرها، ولو تلفت هذه المنيحة فلا يضمنها، إلا إذا تعدى أو فرط، وإذا شرط عليه أن تكون من ضمانه إذا تلفت فله شرطه، فإذا قال: أنا أعطيك هذه السيارة لكن إذا صدمت بها فإنك تُصلح الاصطدام مثلاً، فهذا له شرطه، أما إذا لم يشترط عليه فإنه لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.
}2629{ قوله: «نِعْمَ الْمَنِيحَةُ» ، فيه: الثناء على من أعطى المنيحة، فنِعْم تفيد مدحًا، وبئس تفيد ذمًّا، قال تعالى: [الكهف: 50]{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً *}.
وقوله: «اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ» ، اللقحة: الناقة أو الشاة ذات اللبن قريبة العهد بالولادة، والصفي: أي: الكريمة الغزيرة اللبن.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يثني على من منح أخاه اللقحة من الإبل يشرب لبنها.
قوله: «وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِإِنَاءٍ» يعني: في الصباح إناء من اللبن وفي المساء كذلك؛ وكانت العرب في الغالب عيشهم على اللبن والتمر، فإذا أُعطي الفقير منحة عاش بها مدة، وهذا موجود إلى الآن في بلاد «مالي» وغيرها، فهم يعيشون على هذا ويطلبون من يتصدق عليهم بشيء من الغنم، وبعض المؤسسات الخيرية يشترون لهم غنمًا وتوزع عليهم، كل أهل بيت يأخذون شاة، على طريقة العرب السابقين.
لكن تغيرت الآن الأحوال في المدن، فصار اللبن أو الحليب لا يكفي، فتوسع الناس في المآكل والمشارب؛ فعلى المسلم أن ينظر إلى ما يحتاجه الفقراء وما يناسبهم في أكلهم وشربهم.
وسميت منيحة لأنه يتمنحها مدة فيستفيد من اللبن أو من الوبر أو في الركوب، ثم يردها على صاحبها.
}2630{ العِذاق: النخلات، جمع عَذْق بالفتح يعني: النخلة، أما العِذْق بالكسر: فهو القنو الذي فيه شماريخ الرطب والتمر.
وفيه أيضًا: نوع من المنحة، وهي منحة ثمار النخيل.
قوله: «لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ» ، أي: تركوا أموالهم وبلادهم لله عز وجل فجاءوا إلى المدينة وليس في أيديهم شيء، والأنصار رضي الله عنهم أرادوا أن يقاسموهم أموالهم، والنبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، فكانوا في أول الهجرة يتوارثون، فيرث الأنصاري أخاه المهاجري دون أخيه من أبيه وأمه، ثم بعد ذلك نُسخ هذا بقول الله تعالى: [الأنفَال: 75]{وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *}.
ومن ذلك: أن عبدالرحمن بن عوف لما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، قال له سعد: أنت أخي الآن، أريد أن أشاطرك مالي فلك النصف ولي النصف، ولي زوجتان، انظر: أيتهما تعجبك أطلقها ثم تعتد ثم تزوجها، فقال عبدالرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق[(690)]، فدلوه على السوق فجعل يبيع ويشتري حتى رزقه الله عز وجل، ثم بعد ذلك تزوج، ولم يأخذ من أخيه شيئًا.
فالأنصار عرضوا على إخوانهم المهاجرين أن يعطوهم نصف أموالهم فرفضوا، فقالوا: نعطيكم نصف الثمار، قالوا: لا، قالوا: إذن تكفونا العمل وتشاركونا في الثمرة، قالوا: نعم، قالوا: سمعًا وطاعة؛ فصار المهاجرون يشتغلون في الأموال وفي النخيل وتكون الثمرة بينهم نصفين مقابل العمل.
وكان الأنصار قد أعطوا المهاجرين نخلات، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطي نخلات، فلما فتحت خيبر وكان فيها نخيل، وقسمها النبي صلى الله عليه وسلم رد المهاجرون على إخوانهم الأنصار النخلات التي أعطوهم؛ لأنهم استغنوا، وهذا هو معنى حديث أنس رضي الله عنه.
قوله: «فَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِذَاقًا» ، هي أم سليم رضي الله عنها، تزوجها أبو طلحة رضي الله عنه بعد وفاة والد أنس؛ فأم سليم هي أم عبدالله بن أبي طلحة وهي أم أنس؛ لأن عبدالله بن أبي طلحة أخو أنس لأمه، وقد أعطت أم أنس رضي الله عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم نخلات «فَأَعْطَاهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلاَتَهُ» ، وأم أيمن رضي الله عنها أم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهي أم أسامة بن زيد رضي الله عنهم.
قوله: «قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِ أَهْلِ خَيْبَرَ فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الأَْنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّهِ عِذَاقَهَا» ، يعني: نخلاتها «َأَعْطَى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ» ، يعني: لما فتحت خيبر وصار له نصيب من النخل أخذ صلى الله عليه وسلم النخلات التي أعطاها أم أيمن رضي الله عنها، وأعطاها أم سليم رضي الله عنها، ثم أعطى أم أيمن رضي الله عنها من نخلاته.
وقوله: «مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ» أي: من خالص ماله صلى الله عليه وسلم.
}2631{ في الحديث: أن هذه الخصال من عمل بخصلة منها بهذا القيد فإنه من أسباب دخول الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلاَهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ» . وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، فهذه أربعون خصلة أخفاهن الله عز وجل وأخفاهن النبي صلى الله عليه وسلم ليتقلبها العباد، وليبحثوا عنها، وترغيبًا في فعل خصال الخير، كما أخفيت ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، حتى يجتهد الناس في العشر الأواخر، وكما أخفيت ساعة الجمعة؛ للحث على العمل والاجتهاد والدعاء في يوم الجمعة، فكذلك هذه الخصال أخفيت حتى يطلبها العباد، فكلما حصل العبد على خصلة من الخصال قال: لعل هذه منها.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أعلاها منيحة العنز، وهي الأنثى من المعز يعطيها أخاه الفقير ليشرب من لبنها مدة؛ فإذا أعطاه إياها بهذا القيد «رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا» أدخله الله عز وجل بها الجنة.
قال حسان بن عطية من رواة الحديث: «فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِمَاطَةِ الأَْذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً» ، يقول: ما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة، وهي أربعون خصلة.
فمن عمل بواحدة منها فهذا من أسباب دخول الجنة، لكن لابد مع هذا من توحيد الله عز وجل، والإيمان به، ولابد أيضًا من اجتناب الكبائر؛ لأن الكبائر من أسباب دخول النار.
فالكافر لو منح العنز لا ينفعه؛ لأن النصوص يضم بعضها إلى بعض، فلابد من البعد عن الموانع واجتناب أسباب دخول النار، ولابد أن يكون مؤمنًا موحدًا لله عز وجل.
فكما أن يقال من أسباب الميراث: النكاح والولاء والنسب، لكن ما لم يمنع مانع، فإذا وجد مانع كالرق والقتل واختلاف الدين فإنه لا يرث، فكذلك هذه الخصال من أسباب دخول الجنة إذا لم يوجد مانع.
وكأن هذه الخصال ـ والله أعلم ـ مما يتعدى نفعه، كالمنيحة ورد السلام وتشميت العاطس وعيادة المريض واتباع الجنازة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مثَّل بمنيحة العنز مثل بخصلة نفعها متعدٍّ إلى الآخرين، أما الصلاة والقراءة والتسبيح فليست من الخصال الأربعين؛ لأن نفعها قاصر.
}2632{ قوله: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» . هذا ـ والله أعلم ـ كان في أول الإسلام؛ حيث منع النبي صلى الله عليه وسلم من تأجير الأرض للحث والترغيب في منح إخوانهم المهاجرين، ولما وسع الله عز وجل على المسلمين في الفتوحات كخيبر ونحوها أجاز النبي صلى الله عليه وسلم تأجير الأرض بالنقود، كما أباح لهم تأجيرها بجزء يخرج من الأرض مشاع معلوم كالثلث أو الربع أو النصف، ثم بعد ذلك شُرعت المزارعة واستقرت الشريعة على ذلك، وقيل: إن هذا على سبيل الندب.
ومن العلماء من جمع بينهما بأن المزارعة نوعان:
النوع الأول: المزارعة المنهي عنها، وهي أن يقول: لي ما ينبت في الأرض الشمالية ولك ما ينبت في الجنوبية، فقد تنبت هذه وقد لا تنبت هذه، أو: لي ما ينبت على السواقي وعلى الجداول، فهذه المزارعة ممنوعة.
النوع الثاني: المزارعة الجائزة، وهي المزارعة بجزء مشاع بالربع أو الثلث أو بالدراهم، فهذه لا بأس بها.
}2633{ قوله: «وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ» ؛ لأن الهجرة صعبة وشاقة، فليس كل أحد يصبر عليها؛ لما فيها من مفارقة الأهل والأولاد أو بعضهم؛ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم في أرضه وبلده ولو كان فيها كفار، إذا كان يقدر على إظهار دينه ولا يؤذَى ولا يفتن عن دينه، أما إذا كان غير قادر على إظهار دينه أو يتعرض للفتنة فإنها تجب عليه الهجرة.
قوله: «فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟» قَالَ: نَعَمْ» . وهذا هو الشاهد للترجمة؛ يعني: أنه يعطي الشاة أو الناقة لبعض الفقراء منحة يشربون من لبنها، «قَالَ: «فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا؟»» أي: إذا وردت على الماء تحلبها وتسقي من يحضر؟ وفي الحديث الآخر: «من حقها حلبها يوم وردها» [(691)]، وفي بعض روايات مسلم رحمه الله: «وإعارة دلوها» [(692)]. فمن الحق الواجب إذا وردت الإبل على الماء وحضر الفقراء أن يحلبها ويسقيهم؛ لأنهم يتشوفون إلى هذا، وإذا منع حلبها يوم وردها منع الواجب، وكذلك إذا كان الدلو مخروزًا من جلدها ومر أحد ببئر يريد أن ينزح ماءً وليس عنده شيء فإنه يجب أن يعيره الدلو متصلاً بالحبل حتى يلقيه في البئر ويستخرج الماء ويتوضأ ويشرب، فإذا منعه صار ذلك من منع الماعون، وصار مذمومًا؛ لأنه لا يضره أن يعطيه الدلو ليستخرج الماء ليشرب أو يسقي دوابه.
قوله: «قَالَ: «فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ» يعني: اعمل من وراء القرى والبلدان، ومنه الحديث السابق: «وإن وجدناه لبحرًا» [(693)]، ومنه أن ملك أيلة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بردًا: وكتب له ببحرهم[(694)].
قوله: «فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا» ، يعني: لن ينقصك من ثواب عملك شيئًا.
}2634{ هذا الحديث للحث على المنح بدون مقابل، وكان في أول الإسلام إما أن يمنح أخاه وإما أن يمسك أرضه، ثم بعد ذلك أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم لما وسع الله عز وجل عليهم وفتحت خيبر فصاروا يؤجرون الأراضي بالنقد أو بجزء مشاع.
قوله: «أَمَا إِنَّهُ لَوْ مَنَحَهَا إِيَّاهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أَجْرًا مَعْلُومًا» ، هذا هو محل الشاهد. فمن أنواع المنحة أن يمنح أرضه أخاه يزرعها فتكون المنحة أن يمنحه ناقة يشرب لبنها أو يركبها أو يأخذ وبرها وصوفها، أو يمنحه الشاة، أو يمنحه النخلات يأكل ثمارها، أو يمنحه الأرض يزرعها مدة، فكل هذا داخل في المِنحة.
 إِذَا قَالَ: أَخْدَمْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ
عَلَى مَا يَتَعَارَفُ النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ
وَقَالَ: بَعْضُ النَّاسِ هَذِهِ عَارِيَّةٌ وَإِنْ قَالَ: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ فَهُوَ هِبَةٌ.
}2635{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَأَعْطَوْهَا آجَرَ، فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ، وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً».
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ».
قوله: «أَخْدَمْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ» ؛ المراد الجارية التي تباع وتشترى، والخدم كانوا في السابق عبيدًا أرقاء، أما الآن فالذين يستخدمهم الناس أحرار ليسوا عبيدًا، وبعض الناس يظن أن أحكام الخدم الأحرار مثل أحكام العبيد في السابق، حتى قيل ـ والعياذ بالله عز وجل ـ إن هناك بعض الناس في بعض البلدان يستخدم الخادمة ويجامعها ـ وهو زنًا ـ ويظن أنه لا مانع؛ لأنها خادمة مثل الخدم الأرقاء.
وقوله: «عَلَى مَا يَتَعَارَفُ النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ» يعني: على عرف الناس؛ فإن كان عرفهم أن الإخدام تمليك حمل عليه وتكون هذه الجارية ملكًا له، وإن كان عرف الناس أنه يستخدمها مدة ثم يردها ردها عليه.
قوله: «وَقَالَ: بَعْضُ النَّاسِ هَذِهِ عَارِيَّةٌ» ، المراد بهم الحنفية[(695)]، والمؤلف رحمه الله يرد كثيرًا على الحنفية؛ ولهذا تجد بعض الشراح يتحامل على البخاري رحمه الله مثل العيني ـ عفا الله عنا وعنه ـ لأنه حنفي متعصب للحنفية؛ فيتحامل على البخاري رحمه الله، ويرد عليه بقوة، وينتصر لأبي حنيفة رحمه الله والحنفية.
والبخاري رحمه الله إذا قال: «وَقَالَ: بَعْضُ النَّاسِ» ، فإنه في الغالب يقصد الحنفية، وهم مخالفوه، ويتعقبه العيني رحمه الله في «شرحه» ويرد عليه، ويقول: هذا ليس بصحيح.
قوله: «هَذِهِ عَارِيَّةٌ» يعني: ترد إلى صاحبها، والمؤلف رحمه الله يرى أن قول الحنفية[(696)] أنها عارية غير صحيح، والصواب أنها تُجرى على العرف؛ فإن كان العرف أن هذا تمليك فهو تمليك، وإن كان عارية فهو عارية.
قوله: «وَإِنْ قَالَ: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ فَهُوَ هِبَةٌ» ، يعني: لا ترجع إلى صاحبها؛ لأن قوله: «كَسَوْتُكَ» يفيد الهبة، أما إذا قال: أعرتك الثوب فهذه إعارة فيلبسه ثم يرده.
}2635{ قوله: «هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، فَأَعْطَوْهَا آجَرَ» . يقال: آجر، ويقال: هاجر، لغتان.
قوله: «فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ:» ـ يعني: سارة عندما رجعت من عند الملك الظالم تقول لإبراهيم عليه السلام ـ: «أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ» ؛ لأن الكافر لما أدخلوا عليه سارة ومد يده إليها، أُغمي عليه حتى جعل يركض برجله، ثلاث مرات، ثم بعد ذلك قال: أخرجوها عني فإنما أتيتوني بشيطانة، وأعطاها هاجر خادمة، فلما جاءت إلى إبراهيم قال: ما أمرك؟[(697)] وجاء في بعض الروايات أن الله عز وجل كشف لإبراهيم عليه السلام عنها[(698)].
قوله: «وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً» يعني: أعطانا جارية تخدمنا، وهي هاجر.
ثم أعطتها سارة لزوجها إبراهيم عليه السلام فتسراها فأنجبت إسماعيل عليه السلام، وهو أبو العرب المستعربة.
قال ابن بطال رحمه الله: «لا أعلم خلافًا أن من قال: أخدمتك هذه الجارية أنه قد وهب له الخدمة خاصة» اهـ.
لكن هذا الذي يقوله ابن بطال رحمه الله ليس بجيد وليس بصحيح، والصواب أنه يحمل على العرف كما قال البخاري رحمه الله؛ فإن كان العرف إرادة التمليك فيكون تمليكًا؛ ولهذا تعقبه الحافظ رحمه الله فقال: «والذي يظهر أن البخاري رحمه الله لا يخالف ما ذكره عند الإطلاق، وإنما مراده أنه إن وجدت قرينة تدل على العرف حمل عليها وإلا فهو على الوضع في الموضعين» اهـ.
قوله: «فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ» يعني: أعطاها هاجر خادمًا لها، وهو ملِك مصر الظالم لما مرَّ به إبراهيم عليه السلام.
 إِذَا حَمَلَ رَجُل عَلَى فَرَسٍ
فَهُوَ كَالْعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا.
}2636{ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَسْأَلُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: «لاَ تَشْتَرِهِ وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ».
قوله: «إِذَا حَمَلَ رَجُلاً عَلَى فَرَسٍ» ، يعني: إذا حمل رجل رجلاً على فرس حمل تمليك، «فَهُوَ كَالْعُمْرَى وَالصَّدَقَةِ» ، يعني: فهو كالعمرى والصدقة في عدم جواز الرجوع فيها؛ لأنه وهبه إياه وملكه، فلا يجوز له الرجوع فيه ولو بالشراء.
قوله: «وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا» و هذا قول الحنفية[(699)] أيضًا، وقصد المؤلف رحمه الله أن يرد عليهم؛ لأنهم يرون الرجوع في الهبة والعطية، ويقولون: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» [(700)] لا يدل على المنع؛ لأن الكلب ليس بمكلف، فلو رجع في قيئه فليس عليه تكليف؛ لكن الصواب أن الرسول صلى الله عليه وسلم ساقه مساق التنفير والبشاعة.
}2636{ قوله: «حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، يعني: حملت شخصًا حمل تمليك؛ فتصدقت عليه بفرس ليجاهد عليه في سبيل الله عز وجل.
قوله: «فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ» وفي لفظ آخر: «فأضاعه الذي كان عنده» [(701)]، يعني: لم يحسن القيام به ولم يتعهده، وفي اللفظ الآخر: «ظننت أنه بائعه برخص» [(702)].
قوله: «فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» يعني: هل أشتريه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَشْتَرِهِ وَلاَ تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ» ، وفي اللفظ الآخر: «وإن أعطاكه بدرهم؛ فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه» [(703)]؛ لأنه إذا اشتراه ممن أعطاه فقد يسامحه في البيع ولا يماكسه، فيكون ذلك رجوعًا منه في بعض هبته وصدقته، فإذا كان ثمن الفرس مثلاً مائة، ثم تصدق به زيد على عمرو فأضاعه عمرو، فأراد زيد أن يشتريه من عمرو مرة ثانية، فإذا كان يساوي مائة فقد يسامحه زيد في بعض ثمنه فيقول: هو لك بثمانين؛ فيكون عودًا منه بعشرين.
ولا ينبغي له أن يعود فيه ولو كانت القيمة كاملة؛ لأنه بذله لله عز وجل فلا ينبغي له أن تتعلق نفسه به.
والشاهد من الحديث: أنه إذا حمل رجلٌ رجلاً على فرس فإنه يعتبر حمل تمليك، وتعتبر هذه صدقة ليس له الرجوع فيها، مثل لو أعطاه سيارة أو أعطاه أرضًا أو ما أشبه ذلك فلا يرجع فيها، ولو بالشراء.