(52)كِتَاب الشَّهَادَاتِ;
كِتَاب الشَّهَادَاتِ
مَا جَاءَ فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [البَقَرَة: 282]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ *}.
وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: [النِّسَاء: 94]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *}
قوله: «كِتَاب الشَّهَادَاتِ» الشهادات جمع شهادة، وهي مصدر شهد يشهد شهادة، والشهادة: هي الخبر القاطع، والمشاهدة: هي المعاينة، مأخوذة من الشهود، أي: الحضور؛ لأن الشاهد يشاهد ما غاب عن غيره، وقيل: مأخوذة من الإعلام؛ لأن الشاهد يخبر ويُعلم بالشهادة التي عنده.
وهذه الترجمة موجودة في بعض روايات البخاري رحمه الله، وبعضها سقطت منها هذه الترجمة، ومن أثبت هذه الترجمة فيوجهها بأن المدعِي لو كان القول قوله لم يحتج إلى الإشهاد، ولا إلى كتابة الحقوق وإملائها، فالأمر بذلك يدل على الحاجة إليه، وهذا يتضمن البينة على المدعِي، ولأن الله عز وجل حين أمر الذي عليه الحق بالإملاء اقتضى تصديقه فيما أقر، وإذا كان مصدقًا فالبينة على من ادعى تكذيبه.
ومن أسقط هذه الترجمة فله وجه.
وذكر المؤلف رحمه الله آية الدين، وهذه الآية هي أطول آية في القرآن الكريم: [البَقَرَة: 282]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ *}» .
قوله عز وجل: «{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}» خطاب إلى المؤمنين.
وقوله عز وجل: «{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}» هذه الآية تدل على جواز البيع المؤجل، وهو كالإجماع من أهل العلم، والآية صريحة في هذا، ومعلوم أن البيع إلى أجل ليس كالبيع الحاضر؛ فإن كانت السيارة مثلاً تساوي خمسين ألفًا في الوقت الحاضر، فإذا بعتها مؤجلة إلى سنة تبيعها بسبعين أو بستين أو بخمسة وستين، وقال بعض السلف: إنه لا يجوز البيع المؤجل؛ لأنه يبيعها بأكثر من ثمنها، ثم زال الخلاف، واستقر الإجماع على جواز البيع المؤجل.
وقوله عز وجل: «{فَاكْتُبُوهُ}» فيه: مشروعية الكتابة لما فيها من ضبط الحقوق.
قوله عز وجل: «{وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}» ، أمر الكاتب أن يكتب بالعدل، وهو ضد الجور.
وقوله عز وجل: « ُ { « » ف پ ـ لله ِ » ، فيه: نهي الكاتب عن الامتناع من الكتابة.
وقوله عز وجل: «{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}» ، يعني: يملي الذي عليه الحق على الكاتب.
وحذر الله عز وجل المؤمن من أن يبخس شيئًا من الحق فقال: ُ َ ٍ ٌ ً ي ى و ِ .
أما إذا كان الذي عليه الحق ليس أهلاً؛ لكونه سفيهًا أو ضعيف العقل أو مجنونًا فإن وليه هو الذي يملي؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: ُ ه ن م ل ك ق ف % × ' ( ! " £ $ - . ِ .
وقوله عز وجل: «{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}» هذا شاهد الترجمة.
وفيه: مشروعية إشهاد الشاهدين على الدين الذي يكتب.
وقوله عز وجل: «{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}» يعني: إن لم يوجد رجلان ووجد رجل واحد فينوب عن الرجل الثاني امرأتان.
وقوله عز وجل: «{مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}» أي: فيهم صفات العدالة، والشاهد لابد أن يكون عدلاً، والفاسق ليس بعدل.
وبين الله عز وجل الحكمة في كون المرأتين تقومان مقام الشاهد فقال عز وجل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}.
وهناك قصة في هذا ذكرها بعض القضاة أنه أراد في شهادة شهدت فيها امرأتان أن يفرق بين المرأتين فيأخذ شهادة كل امرأة وحدها، فقالت إحداهما: ليس لك هذا، قال: لمَ؟ قالت: لأن الله عز وجل يقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}، فكانت فقيهة.
وقوله عز وجل: «{وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}» فيه: نهي الشاهد عن كتمان الشهادة أو عدم أدائها.
وقوله عز وجل: «{وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}» فيه: نهي الله سبحانه وتعالى عن عدم كتابة الشيء ولو كان حقيرًا، فكل شيء يكتب.
وبين الله عز وجل الحكمة من الكتابة فقال: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}، أي: أعدل عند الله.
وقوله عز وجل: «{وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا}» ، أي: حتى لا يحدث شك ولا رِيبة ولا نزاع؛ فالكتابة فيها قطع للنزاع البين.
ثم بيَّن الله سبحانه وتعالى أن التجارة الحاضرة لا تحتاج إلى كتابة، والتجارة الحاضرة هي التي تدار في المجلس؛ لأنها غير مؤجلة؛ فالتجارة الحاضرة التي يبيعها الإنسان ويشتريها في الحال فيسلم الدراهم ويأخذ السلعة إذا ترك الكتابة فلا حرج، وإذا كتبها وسجلها فلا بأس؛ ولهذا قال سبحانه: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} أي: يكفي الإشهاد في التجارة الحاضرة، وإن كتبها فهي زيادة توثيق.
وقوله سبحانه وتعالى: «{وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}» ، أي: الكاتب لا ينبغي للإنسان أن يضاره ولا يعطَّل عن أعماله ولا يشق عليه، وكذلك الشهيد لا يؤذى فلا يطلب منه الشهادة في وقت يؤذيه.
وقوله عز وجل: «{وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}» ، يعني: أن من الفسوق عند الإنسان أن يضار الكاتب والشهيد ويؤذيه، والكاتب والشاهد كلاهما محسن؛ فلا يؤذيان ولا يضاران.
ثم قال سبحانه: «{وَاتَّقُوا اللَّهَ}» أي: احذروا مساخطه ومناهيه، وأخلصوا له العبادة، وأدوا الواجبات واتركوا المحرمات.
وقوله عز وجل: «{وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}» فيه: أن التقوى من أسباب رزق الله عز وجل العلم للعبد.
وفي الآية الثانية يقول الله جل وعلا: « [النِّسَاء: 135]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *}» ، يعني: اعدل أيها الإنسان، واشهد لله عز وجل حتى ولو كان على نفسك، أو على والديك، أو على أقاربك، ولو كان المشهود عليه فقيرًا، لا تقل: هذا فقير أنا لا أشهد عليه، أو أنا أشهد له بشيء ينفعه، فهذا لا يجوز.
وقوله عز وجل: «{تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}» ، يعني: تخالف الواقع، وتشهد بغير الواقع، وتحرف وتزيد أو تنقص.
وقوله عز وجل: «{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}» . هذا تهديد ووعيد، أي: سوف يجازيكم على ليكم وإعراضكم.
 إِذَا عَدَّلَ رَجُلٌ أَحَدًا فَقَالَ: لاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا
أَوْ قَالَ مَا عَلِمْتُ إِلاَّ خَيْرًا
}2637{ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَالنُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِْفْكِ مَا قَالُوا: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا وَأُسَامَةَ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ فَأَمَّا أُسَامَةُ فَقَالَ: أَهْلُكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا، وَقَالَتْ بَرِيرَةُ: إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا؛ فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعْذِرُنَا فِي رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْ أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا! وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا».
هذه الترجمة معقودة للتزكية والتعديل.
}2637{ هذه قصة الإفك، ذكرها رحمه الله مختصرة وفيها أن عائشة رضي الله عنها لما تخلفت في بعض الغزوات تكلم أهل الإفك ـ والإفك: هو أسوأ الكذب ـ وتأخر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا والناس يدوكون ويخوضون في الإفك، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنهما: «يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» [(704)] فجعلت تبكي حتى قالت: إني ظننت أن البكاء فالق كبدي، وكانت مظلومة رضي الله عنها، واستشار صلى الله عليه وسلم الناس على المنبر «فَأَمَّا أُسَامَةُ فَقَالَ: أَهْلُكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا» ؛ ولهذا عرفت عائشة رضي الله عنها هذا لأسامة رضي الله عنه، وأما علي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، النساء سواها كثير، ولم يضيق الله عز وجل عليك.
قوله: «إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ» . «إِنْ» نافية بمعنى ما، أغمصه أي: أنتقده «أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا؛ فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ» . وفي الرواية الأخرى أنه صلى الله عليه وسلم سأل بريرة الجارية التي أعتقتها عائشة رضي الله عنها فقالت: «والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر» [(705)]، يعني: أنها رضي الله عنها كالذهب الأحمر الصافي، إلا أنها صغيرة السن تعجن العجين وتنام عنه فتأتي الدجاج فتأكله.
وكان عبدالله بن أبيّ رأس المنافقين هو الذي أثار حديث الإفك، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: «مَنْ يَعْذِرُنَا فِي رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟» ، وهو عبدالله بن أبيّ، «فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْ أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا! وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا» ، وهو صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، الذي تأخر عن الجيش وكان أركب عائشة رضي الله عنها وجعل يقودها بالبعير.
فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال: نحن نعذرك يا رسول الله، إن كان منا ـ يعني: الأوس ـ تأمرنا فنضرب عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال: والله لا تقدر على قتله! فحصل بين الأوس والخزرج كلام، ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويسكنهم، ثم نزل الوحي ببراءة عائشة رضي الله عنها[(706)]، فأنزل الله عز وجل فيها آيات تتلى إلى يوم القيامة، وَجَلَد النبي صلى الله عليه وسلم مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت رضي الله عنهما[(707)]، ولم يجلد عبدالله بن أبيّ لأنه ما ثبت عليه شيء، فكان يجمع الحديث ويستوشيه ولا يؤخذ عليه شيء.
فالشاهد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنْ أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا! وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا» ، وقول أسامة رضي الله عنه: «أَهْلُكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا» ؛ فهل هذه تزكية أو ليست بتزكية؟
قال بعض العلماء: هذه تزكية، واحتجوا بهذا الحديث.
وقال مالك رحمه الله[(708)]: لا يكون هذا تزكية حتى يقول: إنه عدل.
وقال آخرون: إن هذا خاص بالعصر الأول فيكون هذا تزكية، وأما من بعدهم فلا، والبخاري رحمه الله لم يبت في الترجمة بالحكم لقوة الخلاف.
 شَهَادَةِ الْمُخْتَبِي
وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ: وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْكَاذِبِ الْفَاجِرِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: السَّمْعُ شَهَادَةٌ.
وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِي عَلَى شَيْءٍ وَإِنِّي سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا.
}2638{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَالِمٌ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الأَْنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ أَوْ زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لاِبْنِ صَيَّادٍ: أَيْ صَافِ، هَذَا مُحَمَّدٌ؛ فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ».
}2639{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفاعَةَ الْقُرَظِيِّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلاَقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ! فَقَالَ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ»، وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلاَ تَسْمَعُ إِلَى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان حكم شهادة المختبي والمختفي، أي: إذا كان مختفيًا وهو يسمع هل تقبل شهادته؟ وهل هناك فرق بينه وبين السامع الذي يسمع وهو حاضر؟ وكذلك ما حكم الذي يتحمل الشهادة ثم يؤديها بعد ذلك، كالصغير يتحمل الشهادة ثم يؤديها بعد البلوغ، والكافر يتحمل الشهادة ثم يؤديها بعد الإسلام؟
وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: تقبل شهادة السامع والمختبئ إذا ضبط الشهادة؛ لأنه قد تدعوه الحاجة إلى أن يختبئ ويسمع الصوت فتصح شهادته، وكذلك المُتَحَمّل الذي يَتَحَمّل الشهادة وهو صغير ثم يؤديها بعد البلوغ، وكذلك الكافر يتحمل الشهادة في حال كفره ثم يؤديها بعد إسلامه.
القول الثاني: تقبل شهادة المتحمل والسامع دون المختبئ
القول الثالث: قبول شهادة المتحمل والسامع إذا قال: سمعته يقول كذا، ولم يقل أشهد.
والراجح القول الأول، وهو اختيار الإمام البخاري رحمه الله.
واستدل رحمه الله لما ذهب إليه من جواز شهادة المختبئ والمتحمل والسامع بقوله: «وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ» ، يعني: أجاز الاختباء عند التحمل «قال: وكذلك يفعل بالكاذب الفاجر» ؛ لأن الكاذب الفاجر يُشهد عليه مع الاختباء.
قوله: «السَّمْعُ شَهَادَةٌ» يعني: إذا كان يسمع ويضبط الصوت فالسمع شهادة.
وقوله: «وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِي عَلَى شَيْءٍ وَإِنِّي سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا» ، أي: إذا أراد أن يؤدي الشهادة لا يقول: أشهد على كذا، وإنما يقول: سمعت كذا وكذا.
فهذه الآثار استدل بها المؤلف رحمه الله على قبول شهادة السامع إذا كان يسمع الصوت ـ فقد تدعو الحاجة إلى الاختفاء ـ وكذلك تقبل روايته إذا كان حاضرًا في المجلس، وقد حصلت بين النسائي رحمه الله وشيخه الحارث بن مسكين رحمه الله وحشة؛ فكان النسائي رحمه الله يسمع الحديث مختبئًا ولم يجلس معه؛ فكان النسائي رحمه الله إذا حدث عنه قال احتياطًا وتورعًا: «حدثني الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع» ، وهذا كثير في سنن النسائي رحمه الله.
}2638{ حديث ابن عمر رضي الله عنهما في قصة ابن صياد، وابن صياد هذا صبي من اليهود كان قد قارب الحُلُم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الأول يظن أنه الدجال الأكبر، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يظنون ذلك، ثم تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس الدجال الأكبر، وإنما هو دجال من الدجاجلة، ولما التبس أمره في أول الأمر استأذن عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قتله ظنًّا منه أنه الدجال؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله» [(709)] يعني: إن يكن ابن صياد هو الدجال الأكبر فلا تسلط عليه حتى يخرج ويجري الله عز وجل على يديه الخوارق التي قدرها، وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله، وحصل له قصة مع ابن عمر رضي الله عنهما فقد رآه ابن عمر في سكة من سكك المدينة فسبه ابن عمر ووقع فيه؛ فانتفخ حتى سد الطريق، فضربه ابن عمر بعصا كانت معه حتى كسرها عليه، فقالت له حفصة: ما شأنك وشأنه؟ ما يولعك به؟ أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما يخرج الدجال من غضبة يغضبها» [(710)].
واختلف العلماء لِمَ لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقيل: لأنه من اليهود له عهد، وقيل: لأنه قارب البلوغ، ولم يكن قد بلغ.
قوله: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الأَْنْصَارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ» ، يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يختفي، يريد أن يسمع كلامه، وهذا هو الشاهد للترجمة أن المختفي إذا سمع شيئًا فإن سماعه معتبر، «وَابْنُ صَيَّادٍ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْرَمَةٌ أَوْ زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ» يريد أن يسمع كلام ابن صياد، فقالت أم ابن صياد: «أَيْ صَافِ» ـ هذا اسمه ـ «هَذَا مُحَمَّدٌ؛ فَتَنَاهَى ابْنُ صَيَّادٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ»» يعني: تبين ما يقول.
فهذا دليل: على أن المختفي إذا سمع شيئًا وتأكد منه فإن سمعه معتبر، وكذلك المتحمل في حال الصغر، أو في حال الكفر، ثم يؤدي الشهادة بعد البلوغ أو بعد الإسلام.
}2639{ حديث عائشة رضي الله عنها في قصة امرأة رفاعة القرظي رضي الله عنه حيث جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلاَقِي» ، يعني: طلقني ثلاثًا، فلا تحل له إلا بعد زوج، «فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ» ، يعني: بعده.
قوله: «إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ!» ، يعني: أن ذكره لا ينتشر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟» ، أي: تريد أن يطلقها عبدالرحمن بن الزبير رضي الله عنه حتى ترجع إلى زوجها الأول رفاعة رضي الله عنه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» والمراد: الجماع.
وهذا استدل به أهل العلم على أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثًا فإنها لا تحل له حتى تتزوج زوجًا آخر، ولا يكفي العقد فلابد له أن يجامعها ليكون النكاح نكاحًا صحيحًا، أي: نكاح رغبة، وإن كان الثاني عقد عليها ولم يجامعها ليحللها للأول فلا تحل له.
قوله: «وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلاَ تَسْمَعُ إِلَى هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . هذا هو الشاهد للترجمة فخالد بن سعيد رضي الله عنه كان يسمع كلام المرأة وهو خارج الباب، وكونه نادى أبا بكر رضي الله عنه من وراء الباب ينكر ما تكلمت به المرأة مع كونه محجوبًا خارج الباب ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم دل على أن المختبئ تقبل شهادته.
 إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَوْ شُهُودٌ بِشَيْءٍ
فَقَالَ آخَرُونَ: مَا عَلِمْنَا ذَلِكَ يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ.
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ بِلاَلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ وَقَالَ الْفَضْلُ: لَمْ يُصَلِّ فَأَخَذَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ بِلاَلٍ كَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِ مِائَةٍ يُقْضَى بِالزِّيَادَةِ.
}2640{ حَدَّثَنَا حِبَّانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأَِبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ؛ فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي، وَلاَ أَخْبَرْتِنِي، فَأَرْسَلَ إِلَى آلِ أَبِي إِهَابٍ يَسْأَلُهُمْ؛ فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَا أَرْضَعَتْ صَاحِبَتَنَا، فَرَكِبَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟» فَفَارَقَهَا، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ.
هذه الترجمة معقودة لبيان حكم ما إذا اختلف الشهود فشهد بعضهم بشيء ونفاه آخرون فإنه تقبل شهادة المثبت؛ فإن المثبت مقدم على النافي؛ لأن المثبت معه زيادة علم خفيت على الناس، وهذه قاعدة عند أهل العلم: أن من أثبت يقدم على من نفى، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ؛ لأن الإنسان له حاجات وحالات قد لا يحضرها بعض أصحابه وأصدقائه ويحضرها بعضهم؛ فالذي يحضر ويسمع هو المقدم، والذي يفوته وينفي فلا يُعتبر بنفيه.
واستدل المؤلف رحمه الله على ذلك بقوله: «قَالَ الْحُمَيْدِيُّ:» ، وهو شيخ البخاري.
قوله: «هَذَا» يعني: مثال المثبت والنافي.
وقوله: «كَمَا أَخْبَرَ بِلاَلٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ وَقَالَ الْفَضْلُ: لَمْ يُصَلِّ فَأَخَذَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ بِلاَلٍ» ، أي: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل الكعبة يوم الفتح، وأخبر بلال رضي الله عنه أنه لما دخل الكعبة صلى ركعتين بين الأسطوانتين، وجعل بينه وبين الجدار الغربي ثلاثة أذرع[(711)]، وقال الفضل بن عباس رضي الله عنهما: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وكبر في نواحيها ولم يصل[(712)]، فالفضل نفى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، وبلال رضي الله عنه أثبت أنه صلى، فأخذ الناس بقول بلال رضي الله عنه؛ لأن بلالاً معه زيادة علم خفيت على الفضل رضي الله عنه، ولأن بلالاً رضي الله عنه مثبت والفضل رضي الله عنه نافٍ.
ثم تفقه البخاري رحمه الله وقال: «كَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِ مِائَةٍ يُقْضَى بِالزِّيَادَةِ» يعني: يقضى بالألف والخمسمائة؛ لأن الذي أثبت الألف والخمسمائة اطلع على شيء لم يطلع عليه من أثبت الألف؛ فيؤخذ بقول من أثبت الزيادة.
}2640{ استدل البخاري رحمه الله إلى ما ذهب إليه في الترجمة بقصة عقبة بن الحارث وزوجته رضي الله عنهما، وذلك أن عقبة بن الحارث رضي الله عنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، «فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ» وفي اللفظ الآخر: «امرأة سوداء» يعني: ليلة الزفاف «فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ» أي: جاءت إليهما وقالت: قد أرضعتكما فأنتما أخوان من الرضاع، «فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي، وَلاَ أَخْبَرْتِنِي» ، يعني: جئت تخبريني بعدما تزوجت، لِمَ لم تخبريني من أول الأمر؟! «فَأَرْسَلَ إِلَى آلِ أَبِي إِهَابٍ يَسْأَلُهُمْ؛ فَقَالُوا: مَا عَلِمْنَا أَرْضَعَتْ صَاحِبَتَنَا، فَرَكِبَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ» ، وقال له في اللفظ الآخر: «يا رسول الله زعمت أنها أرضعتني ولم تخبرني ولا أعلمتني» ؛ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟» فَفَارَقَهَا، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ» .
فالنبي صلى الله عليه وسلم قدّم شهادة المرأة؛ لأنها مثبتة وعقبة نافٍ، وكونه لا يعلم أنها أرضعته لا يدل على عدم وجوده؛ فهي مقدمة وهي صاحبة القصة.
وفي الحديث: قبول شهادة المرضعة الواحدة إذا كانت عدلاً، والشهادات منها ما لا يقبل فيه إلا شهادة الرجال كالحدود والقصاص، ومنها ما تقبل فيه شهادة النساء كالأموال حيث تقبل فيها شهادة أربع نسوة أو رجل وامرأتين، ومنها ما تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، وهي الأمور الخاصة بالنساء، مثل: الرضاع والبكارة والثيوبة وما أشبهها.
والشاهد من الحديث: أن المرأة المرضعة أثبتت الرضاع ونفاه عقبة رضي الله عنه؛ فاعتمد النبي صلى الله عليه وسلم قولها؛ فأمره بفراق امرأته وجوبًا عند من يقول به، وندبًا واحتياطًا عند من لا يقول بالوجوب.
 الشُّهَدَاءِ الْعُدُولِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الطّلاَق: 2]{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَ [البَقَرَة: 282]{مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}.
}2641{ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الآْنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ.
هذه الترجمة معقودة لاشتراط العدالة في الشهود، والعدل عند جمهور العلماء: هو المسلم المكلف البالغ العاقل الحر، الذي لا يرتكب كبيرة ولا يصر على صغيرة.
وأصح ما قيل في تعريف الكبيرة: هي كل ذنب تُوعد عليه بالنار أو اللعنة أو الغضب في الآخرة، أو وجب فيه حدٌّ في الدنيا.
ويشترط في الشاهد أن يكون عدلاً في دينه، وضابطًا في شهادته، فلا يكون ضعيف الضبط، أو عنده توهمات، ورواة الحديث يشترط فيهم هذا الشرط، فلابد أن تكون عندهم العدالة في الدين، والضبط في الرواية.
وزاد بعضهم في شروط الشاهد أن يكون ذا مروءة.
واشترط العلماء أيضًا ألا يكون الشاهد عدوًّا للمشهود عليه.
ويشترط أيضًا ألا يكون أصلاً للمشهود له كالآباء والأجداد، ولا فرعًا منه كأبنائه وأبناء أبنائه وبناته، أي: لا يكون من عمودي النسب.
والله تعالى اشترط العدالة في الشهادة في قوله: « [الطّلاَق: 2]{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} و [البَقَرَة: 282]{مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}» والعدل الرضا هو من اجتمعت فيه الشروط السابقة.
}2641{ قوله: «إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ» . مفاد قول عمر رضي الله عنه أن الوحي كان ينزل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يحصل لبس من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه إذا التبس الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم فالله تعالى ينزل عليه الوحي ويبين له الواقع، لكن لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي، وما بقي إلا العلامات؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه: «وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الآْنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ» أي: سريرته موكولة إلى الله عز وجل يحاسبه عليها، «وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ» ، فهذا كلام عظيم لعمر رضي الله عنه يؤيده حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» [(713)] فكلام عمر رضي الله عنه أخذه من النصوص واستنبطه من هذا الحديث وأمثاله؛ فدل على أنه لا تقبل شهادة الفاسق، ولا شهادة ضعيف الضبط، ولا شهادة الصبي الذي لم يبلغ، ولا الكافر، ولا من كان متهمًا، أو كان المشهود له أصلاً له أو فرعًا له، أو متهمًا في الشهادة عليه بأن يكون عدوًّا له، فلا تقبل شهادة أي: شخص إلا شهادة العدل الرضا.
 تَعْدِيلِ كَمْ يَجُوزُ
}2642{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ: «وَجَبَتْ»، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا أَوْ قَالَ: غَيْرَ ذَلِكَ فَقَالَ: «وَجَبَتْ»، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ لِهَذَا «وَجَبَتْ» وَلِهَذَا «وَجَبَتْ؟» قَالَ: «شَهَادَةُ الْقَوْمِ؛ الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَْرْض».
}2643{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِي الأَْسْوَدِ قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ وَقَدْ وَقَعَ بِهَا مَرَضٌ، وَهُمْ يَمُوتُونَ مَوْتًا ذَرِيعًا، فَجَلَسْتُ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَمَرَّتْ جَنَازَةٌ فَأُثْنِيَ خَيْرًا؛ فَقَالَ عُمَرُ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ خَيْرًا، فَقَالَ: وَجَبَتْ ثُمَّ مُرَّ بِالثَّالِثَةِ فَأُثْنِيَ شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ فَقُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قُلْتُ: كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ»، قُلْنَا وَثَلاَثَةٌ قَالَ: «وَثَلاَثَةٌ؟»، قُلْتُ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: «وَاثْنَانِ»، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنْ الْوَاحِدِ.
هذه الترجمة فرع من الترجمة السابقة؛ فإن الترجمة السابقة في تعديل الشهود، وأن الشهود لابد أن يكونوا عدولاً، وهذه الترجمة فيها بيان بكم يحصل تعديل الشاهد، يعني: هل يشترط في قبول التعديل عدد معين أم يكفي واحد؟ ولهذا جاء به المؤلف رحمه الله على صيغة الاستفهام.
}2642{ قوله: «مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ: «وَجَبَتْ»، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا أَوْ قَالَ: غَيْرَ ذَلِكَ فَقَالَ: «وَجَبَتْ»» فيه: أن الثناء يكون بالخير وبالشر، وكذلك البشارة تكون بالخير وبالشر فقوله عز وجل: [الانشقاق: 24]{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ *فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *} هذه بشارة بالشر، وقوله عز وجل: [يس: 11]{فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ *} بشارة بالخير.
وقوله: «فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ لِهَذَا «وَجَبَتْ» وَلِهَذَا «وَجَبَتْ؟» قَالَ: «شَهَادَةُ الْقَوْمِ؛ الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَْرْض»» المؤمنون مبتدأ وخبره شهداء، وفي بعض الروايات: «شَهَادَةُ الْقَوْمِ؛ الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَْرْض» فشهداء خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم؛ أي: هم شهداء.
وقوله: «فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا» مجمل، حيث لم يذكر كم الذين أثنوا عليها.
}2643{ في الحديث: أن التزكية تجوز باثنين؛ لقوله: «وَاثْنَانِ» وهل هذا يعتبر شرطًا فلا تجوز بأقل من اثنين؟
نقول: يحتمل أنهم لو سألوه عن الواحد لأجاز شهادته، ويحتمل أنه لا يجيز شهادته، فهذا يحتمل أن التعديل لابد فيه من اثنين، ويحتمل أنه يكفي فيه الواحد؛ ولهذا فإن هذه المسألة مختلف فيها عند أهل العلم، ولكن سيأتي ما يدل على أن الشهادة يكتفى فيها بالواحد، ومن ذلك قصة عقبة بن الحارث رضي الله عنهفإن المرضعة واحدة وقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادتها[(714)].
واختلف العلماء في الشهادة لأحد بعينه بالجنة، فأخذ بعض العلماء من هذا الحديث: ««أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ»، قُلْنَا وَثَلاَثَةٌ قَالَ: «وَثَلاَثَةٌ؟»، قُلْتُ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: «وَاثْنَانِ»» أي: أن من شهد له ثلاثة أو أربعة أو اثنان من الأخيار العدول بالجنة فإنه يُشهد له بالجنة، إذا ألهمهم الله عز وجل الشهادة له.
ومن ذلك أن أبا ثور رحمه الله كان يشهد للإمام أحمد رحمه الله بالجنة؛ أخذًا بهذا الحديث.
القول الثاني لأهل العلم: أنه لا يشهد إلا للأنبياء خاصة.
القول الثالث لأهل العلم، وهو قول الجمهور: أنه يشهد للأنبياء، ولمن شهدت له النصوص خاصة، كالعشرة المبشرين بالجنة، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة[(715)]، وعكاشة بن محصن رضي الله عنه حيث شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة[(716)]، وثابت بن قيس رضي الله عنه شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة[(717)]، وهذا هو الأرجح أنه لا يشهد بالجنة إلا للأنبياء ولمن شهدت له النصوص، ويشهد للأنبياء حديث: «النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة» [(718)]، وأما هذه القصة فهي قصة خاصة تدخلها الاحتمالات، ويحتمل أن هذه خاص بالصحابة رضي الله عنهم الذين زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لو فتح الباب لقلّ أن يوجد شخص لا يوجد له اثنان يشهدان له بالجنة، ولأنه لو كان يشهد بالجنة لمن شهد له اثنان لما صار هناك مزية لمن شهدت له النصوص بالجنة، ولكن يشهد للمؤمنين بالجنة على العموم، فيقال: كل مؤمن في الجنة، وكل كافر في النار على العموم، أما فلان بن فلان فلا يشهد له بالجنة، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، فإذا رأينا الشخص مستقيمًا، يعمل بطاعة الله عز وجل، نرجو له الخير، لكن ما نشهد له بعينه، وإذا رأينا الشخص يعمل المعاصي نخاف عليه من النار ولا نشهد له بالنار، إلا إذا شهدت له النصوص، كأبي لهب، وأبي جهل، ومن عُلِمَ أنه مات على الكفر.
 الشَّهَادَةِ عَلَى الأَْنْسَابِ وَالرَّضَاعِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمَوْتِ الْقَدِيمِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ».
}2644{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُرْوَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ، فَلَمْ آذَنْ لَهُ؛ فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ؟ فَقُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي؛ فَقَالَتْ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: «صَدَقَ أَفْلَحُ ائْذَنِي لَهُ».
}2645{ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فِي بِنْتِ حَمْزَةَ: «لاَ تَحِلُّ لِي؛ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ، هِيَ بِنْتُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ».
}2646{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ؟ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُرَاهُ فُلاَنًا» لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ فُلاَنٌ حَيًّا لِعَمِّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلاَدَةِ».
}2647{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي رَجُلٌ؛ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، مَنْ هَذَا؟» قُلْتُ: أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ؛ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ».
تَابَعَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ
هذه الترجمة معقودة لشهادة الاستفاضة، وهي الاشتهار، ومن ذلك الشهادة على النسب والرضاع والموت القديم، كأن يستفيض مثلاً عند الناس أن هذا ابن لفلان فنشهد بالاستفاضة والانتشار فهو معروف عند الناس كلهم أنه ولد لفلان ويعلمه الخاص والعام، وكذلك نشهد بالموت القديم إن استفاض عند الناس أن فلانًا من العلماء مثلاً مات، مثل الاستفاضة بأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله توفي، وأن الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله توفي؛ فيشهد للإنسان بالاستفاضة في الموت وإن لم يره، وكذلك الرضاعة.
واستدل المؤلف رحمه الله على ذلك بقوله: «وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ»» ، أي: ثويبة وهي مولاة لأبي لهب أرضعتهما فصارا أخوين من الرضاع، وأبو سلمة زوج أم سلمة رضي الله عنها قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ» ، هذا تابع للترجمة، يعني: أنه ينبغي التثبت في الشهادة على الأنساب والرضاع.
}2644{ واستدل المؤلف رحمه الله بحديث عروة رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ، فَلَمْ آذَنْ لَهُ» ، وأفلح رضي الله عنه هو عم عائشة رضي الله عنها من الرضاعة ـ فهو أخو زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها ـ ولم تأذن له؛ لأنها لم تعلم بالحكم، «فَقَالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ؟ فَقُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي بِلَبَنِ أَخِي؛ فَقَالَتْ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ: «صَدَقَ أَفْلَحُ ائْذَنِي لَهُ»» . وفي اللفظ الآخر أنها قالت: «يا رسول الله ما أرضعني إنما أرضعتني المرأة! فقال: ائذني له فإنه عمك تربت يمينك» [(719)]، فدل على أن لبن الفحل يحرم، وأنه إذا أرضعت امرأة شخصًا خمس رضعات في الحولين انتشرت الحرمة بالنسبة للمرضعة وأولادها، وتكون أمًّا لهذا الرضيع من الرضاع، ويكون أبناؤها وبناتها إخوة له من الرضاع، ويكون أبوها جده من الرضاع، وإخوتها أخواله من الرضاع، وكذلك ينتشر اللبن لزوج المرأة، فيكون زوج هذه المرأة أباه من الرضاع، وإخوته أعمامه من الرضاع، وهكذا أولاده من غير هذه المرأة إخوة له من الرضاع من الأب فلبن الفحل يُحَرّم، والقاعدة في الرضاع أن الحرمة تنتشر في ثلاثة أشخاص:
الشخص الأول: المرضعة؛ فتنتشر فيها الحرمة وتكون هي أمه وجميع ما يتصل بها من النسب تنتشر فيهم الحرمة، فأبوها يكون جده من الرضاع، وإخوتها أخواله من الرضاع، وأبناؤها وبناتها إخوته من الرضاع.
الشخص الثاني: الرضيع نفسه؛ فتنتشر الحرمة فيه ويكون ابنًا للمرضعة من الرضاع، وأولاده كذلك تنتشر فيهم الحرمة.
الشخص الثالث: الزوج الذي له اللبن؛ فتنتشر الحرمة فيه فيكون أبًا له من الرضاع، وإخوته أعمامًا له من الرضاع.
أما أبو الرضيع من النسب وأمه من النسب وإخوته من النسب فلا علاقة لهم بالرضاع؛ فيجوز للرضيع أن يزوج أخاه من النسب أخته من الرضاع.
}2645{ واستدل المؤلف رحمه الله بقول النبي صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: «لاَ تَحِلُّ لِي؛ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وهذه قاعدة.
وفي الحديث الآخر كانت عائشة رضي الله عنها تقول: «حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب» [(720)]؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه ارتضعا معًا، فصارت بنت حمزة تحرم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها ابنة أخيه من الرضاع.
}2646{ كما استدل المؤلف رحمه الله في هذا الحديث بقصة حفصة رضي الله عنها.
}2647{ كما استدل المؤلف رحمه الله بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي رَجُلٌ؛ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، مَنْ هَذَا؟» قُلْتُ: أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ؛ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ»» وهذا فيه: دليل على وجوب التثبت في الرضاعة.
وقوله: «فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» يعني: ما كان في الحولين، وفي اللفظ الآخر: «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» [(721)]. فلابد أن تكون الرضاعة في الحولين، فإن ارتضع بعد الحولين فلا عبرة برضاعته، ولابد أن تكون الرضاعة خمسًا؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم رحمه الله قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن» [(722)] والرضعة هي: أن يمتص الصبي الثدي ثم يتركه باختياره للعب أو لشبع فلابد من خمس رضعات ـ سواء في مجلس واحد ـ أو في عدة مجالس، ولابد أن يكون الطفل في الحولين، أما ما كان أقل من خمس رضعات أو كان بعد الحولين فلا عبرة به.
وهذه الأحاديث استدل بها المؤلف رحمه الله على الشهادة بالاستفاضة؛ لأن إرضاع امرأة أخي أفلح رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها مشتهر مستفيض، وكذلك رضاع النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه حمزة رضي الله عنه مستفيض.